اطبع هذه الصفحة


هل فهمت شيئا مما قلت؟

د. أميمة بنت أحمد الجلاهمة
اكاديمية سعودية في جامعة الدمام


قضايانا لا تعدو أن تكون لعبة من لعب عديدة، لعب تنتهي ليعاد تدويرها من جديد عبر لاعبين جدد، وأماكن جديدة، وأوقات جديدة، لعب يحذر العلماء من الإدمان عليها، فهي تتلف خلايا المخ وتفقد اللاعبين القدرة على التفكير


مؤتمر يعقبه مؤتمر.. يعقبه اجتماع.. يعقبه لقاء مصغر أو رباعي أو ثلاثي أو ثنائي أو بخلاف ذلك، يعقبه إعلان وتوصيات، وهكذا دواليك.. دائرة مصغرة أو مكبرة أو مزدوجة أو محددة أو هذه أو تلك...
بالله عليك أيها القارئ الفاضل هل فهمت شيئا مما قلت؟!.. أظن.. بل أجزم أنك لم تفهم، أو فهمت أنك لم تفهم، أو فهمت أن كلامي لا يصل بك إلى أمر، أو أنه من المحال أن يفعل.. أو أني تعمدت إضاعة وقتك لأني في الحقيقة، لا أملك الحقيقة لأضعها أمامك أو أصوغ زواياها التي هي ـ في الأصل ـ مبهمة وغامضة.. وبالتالي اخترت ـ بما أني ملزمة أدبيا بالحديث إليك عن أمر ذي بال ـ أن ألعب معك بالبيضة والحجر، أو أطرح ألغازا عفا عليها الزمان.. تتعلق على سبيل المثال.. بمَن خُلق أولا البيضة أم الدجاجة؟!
أتعرف؟ جميل أن أجد من يسمع لي عندما لا أجد ما أقول.. جميل أن أجد من يصبر على ما يظهر للبعض أنه تفاهات.. فنحن أصبحنا مدمنين العيش مع تفاهات متسلسلة كالمسلسلات التي لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد وبأحداث لا تمت للبداية بصلة، ولا بأس في تغيير الكاتب أو المخرج أو قتل الأبطال وتغييرهم بآخرين.. عامدين إلى محاولات مستميتة لإيهام المتابعين أنها فرع من أصل، أو أنها استكمال لبداية أو أن النهاية اقتربت.
منتجون ومخرجون يستنزفون عقولنا وصبرنا وجيوبنا، المهم أن نبقى داخل دائرة تستمر في الدوران دون توقف، فتارة تسرع بشكل نعتقد أنها على أبواب النهاية.. أو أن النهاية اقتربت.. وتارة بالكاد تتحرك لنعتقد أننا سنموت قبل الإعلان عن آخر فصولها.. فالنهاية مغيبة حتى عن الكاتب والمنتج، وإن كان الأغلبية يعتقدون أنها لا بد أن تكون بلا نهاية، إلا أن إجماع المتابعين من مثقفين وعلماء وساسة محايدين وما دونهم جعلهم قادرين على شرح صورة الواقع بالمقلوب، إذ إن الجميع لم يستوعبها بعد، ولا أعتقد أن بيننا من هو قادر على استيعابها إلا بهذا الشكل المقلوب، فأولئك يعتقدون أنهم من الذكاء بمكان بحيث يصورون لنا نشاطهم السياسي وجدالهم العقيم، كطاقة نجاة ودواء شاف، في حين يدرك حتى البسطاء منا أنهم امتهنوا الكذب والخداع والتسويف.. فهم قادرون على بيع قضايا غيرهم ما دامت تتعارض ومصالحهم، قادرون على الوقوف على جانبي الطريق وباتجاه معاكس، قادرون على التحدث بلغتين في الوقت نفسه، فهم معك ومع خصمك، لهم جلود تماثل جلود الثعابين تتغير مع فصول السنة..
وفي كل أحوالهم تبقى سامة مميتة، أياديهم تتسلل لكل جهة معك وضدك.. في الوقت نفسه، هم متفهمون لمعاناتك وعاجزون عن تفهمها.. فغايتهم التي لا تتغير قدر أنملة تتمحور في تحقيق مصلحتهم.. لا العدالة.. تتمحور في إنقاذ نفوذهم لا إنقاذ المظلوم، يربتون على ظهورنا ويضحكون على مآسينا، جثث أطفالنا دمى بين أياديهم.
قضايانا لا تعدو أن تكون لعبة من لعب عديدة تفننوا في صناعتها والترويج لها، لعب تنتهي ليعاد تدويرها من جديد عبر لاعبين جدد، وأماكن جديدة، وأوقات جديدة، لعب يحذر العلماء من الإدمان عليها، فهي تتلف خلايا المخ وتفقد اللاعبين القدرة على التفكير والتحليل والاستنتاج، وتتسبب في تصلب الأطراف وتصيبهم بالخمول والكسل، فالصانع وهو اللاعب الأساسي يدرك متاهاتها، فقد حدد مخارجها بحيث صار من الصعوبة بمكان وصولك للنهاية، إلا بعد ضمان إدمان اللاعب محاولة الولوج إلى دهاليز تصل به إلى دهاليز لتنتهي إلى أخرى.. لعب صنعت على مراحل متعددة..من الأولى إلى ما لا نهاية.. لعب تعتمد على نشر الفزع.. الموت.. الخوف.. والجريمة بكل أنواعها.. بل عمدت لإظهار أن العدالة لن تتحقق لأن الظالم أقوى.. لعب جعلت من المجرم البطل بلا منازع، جعلته المحرك الأساسي لكل خطواتها وسكناتها، وأسلحتها تمتاز بالدمار الشامل، أما روادها فمن الصغار قبل الكبار، النساء قبل الرجال..
أما المؤثرات الصوتية المصاحبة لها فحدث ولا حرج.. فهي لا تؤذي النفوس فقط، بل العقول والأبدان، وهي بالتأكيد تصيب العقول بالتلف والخرف.. والمضحك المبكي هو الثمن الباهظ الذي يدفع ثمنا لها..! هؤلاء سبق أن وعدوا وسبق أن أخلفوا، وهم إلى هذه اللحظة يستخفون بقدراتنا وتجاربنا وقادتنا ومفكرينا.
أما ذاك الجار، وذاك القابع هناك، وذاك الساكن تارة والهائج تارة أخرى.. فقد استهوته ومنذ زمن هذه اللعبة، فساسته يغيرون توجهاتهم المعلنة كما يغيرون ثيابهم. فقد تأكد لهم أن ذلك من متطلبات المرحلة.. ولكل مرحلة جنود.. لكن أهدافهم لا تتغير.. تنحصر فينا وفي مقدراتنا على اختلافها.
هؤلاء وهؤلاء شرقا أو غربا، يتلاعبون بشعب يُنحر أبناؤه يوميا ـ ومع الأسف ـ شعب تمكنوا من تفرقة صفوفه، فهذا مع السفاك وجنوده..
وهؤلاء يريدون تحقيق النصر عن بعد وبالريموت كنترول، أما أولئك فيحزنون إذا انتصر هذا المحارب عن قضيته العادلة على الأرض، والذي يتكبد معاناة الكفاح.. ويصفقون لهزيمته، مانعين ما قد يصله من سلاح ومال وما من شأنه تحقيق النصر والصمود له ولمدنيين لا ذنب لهم إلا أنهم ضعفاء.. يريدونه جسدا مزقته الأطماع فأصبحت أجزاؤه المتناثرة تقطع بعضها بعضا، وتحارب بعضها بعضا، أما اللاعبون الأساسيون في هذه الحرب فيقبعون خارج الدائرة شرقا وغربا ويمتهنون إشعال النيران وإعطاء وعود لن ترى النور إلا بعد حين.. وحتى هذا مستبعد.. فإلى متى نحقق أطماعهم على حساب أجسادنا ومقدراتنا.. الله أعلم


 

أميمةالجلاهمة
  • مـقـالات
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط