اطبع هذه الصفحة


قيم تمتهن وقيم تفتقد

د. أميمة بنت أحمد الجلاهمة
@OmaimaAlJalahma
اكاديمية سعودية في جامعة الدمام


الأمير خالد الفيصل يدين بالكثير من الوفاء لمدرسته الابتدائية في الأحساء، ولم يستهن بعطاء طفل، فتعامل معه كما يتعامل مع كبار رجال الدولة، ولذا لا أستبعد أن نسمع منه تحركا تجاه المعلم الذي أهدى "عقاله" إلى طالب في موقف نبيل.


المعلم إنسان امتهن مهنة من أنبل المهن على الإطلاق، سواء أكان معلما للعلوم الشرعية أم لغيرها من العلوم الإنسانية والطبيعية والتجريبية، سواء عمل تحت مظلة التعليم النظامي أم خدم التعليم العالي، هكذا لا بد للمعلم أن ينظر لمهنته، وهكذا لا بد للمجتمع أن يفعل.

لكننا ـ مع الأسف ـ نتعايش مع فئة من المعلمين تناسوا حدود مهنتهم وسماتها الأخلاقية وأفقدوها روحها، ظنا منهم أنهم بحكم حاجة المجتمع لهم محميون من المحاسبة، وهؤلاء عليهم مراجعة أنفسهم وتعديل مسارهم قبل أن تأتي سلطة عليا لا تكتفي بالتوجيه بل تعمد لإخراجهم من الدائرة نهائيا، هؤلاء عليهم النظر في القوانين التي نظمت واعتمدت لتطبق، لا لتكون حبرا على ورق، عليهم التوقف عندها واستيعابها والتفكر فيها وعدم تجاوز حدودها بحال.. وليعلموا أنهم غير محصنين، وأن محاسبتهم على ما يقومون به من خلل أسهل بكثير مما يظنون، فمهنتهم لا بد أن تكون محصنة عن أمثالهم.

وفي المقابل، نجد صورة مشرقه لإنسان توجه لمهنة التعليم وهو يعلم علو مقامها وتعامل معها من هذا المنطلق، احترمها واحترم كافة عناصرها من إدارة وكادر تعليمي وطلبة، فأبدع وسما وعلا، وهذا يستحق منا كمجتمع التقدير والاحترام.

كثيرا ما أجد نفسي أمام أمثلة وأفعال ناصعة لأساتذة يستحقون الإشادة، سواء في التعليم العالي أم النظامي، منها ما هو معلوم ومنها ما أراد أصحابها أن تبقى طي الكتمان، فجزى الله أصحابها علوا ورفعة وتمكينا، أمثلة لو كان الأمر بيدي لعمدت لتتويجها بأوسمة تكون عنوانا للمعلم المخلص كما هو عنوان للإخلاص.

مؤخرا تناقل المجتمع سعودي مقطع "يوتيوب" نقل إلينا جزءا من حفل تخريج طلاب مدرسة "الأمير محمد بن فهد" الابتدائية، ومن خلاله شاهدنا معلما متميزا اهتم بأمور قد يعدها بعضنا من الصغائر، فقد اهتم بنفسية طالب وجد نفسه في موقف شذ فيه عن زملائه، موقف لا شك أحرجه أمام من أتى يشهد تخريجه من إدارة مدرسته وأسرته ورفقاء دربه، فقد اصطف مع زملائه لاستلام شهادة تخرجه من المرحلة الابتدائية، إلا أنه كان مختلفا عنهم، فقد ارتدى جميع الطلاب المتخرجين اللباس السعودي وظهروا أمامنا كرجال في مسيرة تخرجهم من الجامعة، أما ذلك الطالب فلم يكن مرتديا العقال مما دفعه عندما وقف أمام معلمنا - موضوع المقال اليوم - إلى الهمس إليه ببضع كلمات، يشتكي من خلالها -على ما يبدو- عدم لبسه العقال بضياعه أو بنسيانه، وهنا بادر المعلم الواقف على منصة التكريم وعلى الفور وبهدوء تام برفع عقاله من على رأسه ليضعه على رأس الطالب، وليكمل الطالب طريقه لاستلام شهادة.

هذا الطالب بحكم كونه متخرجا من المرحلة الابتدائية يفترض أنه لا يتعدى الاثني عشر ربيعا، ومع ذلك أجزم أنه لن ينسى هذا الموقف، أجزم أن تفاعل المعلم معه سيبقى في ذاكرته أكثر من استلامه للشهادة، وستكون حركة تلك اليد الحانية المربية للمعلم والأستاذ الفاضل: "علي بن عبدالواحد العبد الواحد"، المعلم بمدرسة الأمير محمد بن فهد درسا إيجابيا له في حياته.

الواقع أن هذا التصرف لفت نظري كما لفت نظر الكثيرين، وهو ما دفع مديرا للبنك السعودي للاستثمار الأستاذ مساعد بن محمد المنيفي، إلى تكريم هذا المعلم، وهو الحراك الذي أثمنه بوصفي مواطنة تعمل في مجال التعليم، وتدرك أهمية هذا المجال في رسم الخريطة الإنسانية لشباب المستقبل، الخريطة التي تحدد معالم توجهاتهم الأخلاقية والإبداعية واختياراتهم وقوة انتمائهم لدينهم ثم لوطنهم، فللبنك السعودي للاستثمار ولمديره الشكر والتقدير على هذه المبادرة.. فلمثل هذا المعلم وجد الاحترام والتقدير.

إلا أني أتطلع إلى تكريم خاص من وزير التربية التعليم ورئيس مؤسسة الفكر العربي صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل الذي أوقفه موقف طفل يمني الجنسية في المرحلة الابتدائية في محافظة الإفلاج بسبب تصدقه بمصروفه لأسبوعين على صديق له سوداني توفي غرقاً في مسبح بالأفلاج، فعل ذلك بمبادرة شخصية ودون إخبار أسرته، فاستقبله الأمير خالد في مكتبه وكرمه وقال له: "أنا فخور بوجودك هذا اليوم في مكتبي، وأفتخر بمثلك من الأبناء الذين يضربون لنا المثل الأعلى في الأخلاق الإسلامية والقيم العربية الأصيلة، وهذا مصدر افتخار وسعادة لكل إنسان مسلم، فقد أعطيت مثلاً أعلى للأخلاق والفطرة الإسلامية"، وأضاف سموه: "ما قمت به تجاه زميلك بعد وفاته يدل على هذه الروح العالية للإنسان الشهم، ونرجو الله تعالى أن يوفقك وتبقى مدى الحياة على هذا المستوى من الأخلاق والكرم والشهامة" ثم هنأ والده على حسن تربيته ورحب به في بلده.

هذه المواقف متوقعة من الأمير خالد الفيصل الذي ما زالت ذاكرته تحمل الكثير من التقدير لمدرسته الابتدائية ومدرسيها ومديرها، فقد قال خلال زيارته لمدينة الأحساء: "تعلمت القراءة والكتابة وقدَّمني قدري إلى الحرف والكلمة والفن وتسلمت مفتاح العلم والمعرفة على أيدي أساتذة فضلاء درَّسوني في مدرسة الأحساء الأولى الصف الأول وجزءاً من الصف الثاني وأتذكر المدرسة التي درست فيها ومديرها وهيبته عند الطلبة"، فإذا كان الأمير خالد يدين بالكثير من الولاء والوفاء لمدرسته الابتدائية في الأحساء ومعلميها ومديرها، وهو لم يكمل دراسته فيها، وإذا لم يستهن بطفل غض ما زال في سنواته الأولى فوقف بجانبه وصافحه وتعامل معه كما يتعامل مع كبار رجال الدولة، فلا أستبعد أن نسمع اليوم قبل الغد تحركا مماثلا تجاه هذا المعلم المتميز الذي أعلن ـ من خلال تصرف بسيط ـ علو وسمو خلقه وحبه وإخلاصه لمهنته، وقبل هذا وذاك احترامه للطالب، هذا المعلم يستحق التكريم من رجل بقامة الأمير خالد الفيصل لعله يكون مثلا لغيره، ولعله يصحح الكثير من المفاهيم والحراك السلبي عند بعض المعلمين.

 

أميمةالجلاهمة
  • مـقـالات
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط