اطبع هذه الصفحة


ثمن باهظ لموعظة الأحد... !!

د. أميمة بنت أحمد الجلاهمة
أ
كاديمية سعودية .. جامعة الملك فيصل الدمام

 
استمرت الحملة على القس (ساير) عدة أشهر تعاون بريد القراء في الصحف الأمريكية الكبرى، في إشعال نيرانها عليه، إضافة إلى أقلام معروفة حاولت النيل من مصداقيته، وفي خضم هذا الحرب الإعلامية المنظمة، اكتفى ساير بإجراء علني واحد إذ صرح من خلاله أنه لن يتراجع عن أقواله

من منا لا ينتابه شعور الإحباط وهو يتابع المعطيات اليومية للفكر الغربي تجاه قضايانا وخصائصنا الإقليمية!؟ من منا يمر عليها مرور الكرام!؟ لا شك أن القلة منا من يتمتع ببرودة الأعصاب تلك!! وبالتالي نحن بحاجة إلى جرعات نفسية متكررة نستعين بها على مصابنا الجلل، نحن بحاجة لمواقف عادلة أينما كان مصدر تلك المواقف، وحبذا لو أتت من أرض الحريات والحقوق المدنية، وهي في الوقت نفسه تمتهن حماية الحرب النفسية الملتهبة والموجهة لكل ما يمت إلينا بصلة، حرب قد يتبادر إلى الأذهان أنها حديثة المنشأ حدثت كردة فعل لأحداث (11سبتمبر)، ولكن الواقع يؤكد أنها أقدم من ذلك بكثير...

واليوم أود أن تشاركوني تقديري لرجل دين مسيحي تمتع ولعقود بنفوذ عظيم في وطنه أمريكا،وعلى الصعيدين الشعبي والرسمي، إنه القس (فرانسيس ب. ساير) حفيد الرئيس الأسبق للولايات المتحدة الأمريكية (ودرو ويلسون) أما والده فكان دبلوماسيا وأستاذا للقانون عرف بتقدير رجال الدين له، أمضى العميد ساير (27) عاما في رئاسة الكاتدرائية الوطنية في واشنطن، وعندما عرضت عليه إدارة الرئيس كندي، منصباً حكومياً كان رده: (لا، شكراً، فأنا أشغل الآن أفضل منصب في واشنطن)، لقد بلغ إعجابه وتمسكه بعمله أن صرح أنه يرى عمله: (كهمزة وصل بين الكنيسة والدولة، ومنبراً للتوجه الخلقي) كما قال في هذا الشأن: (إن من يعين عميداً للكاتدرائية تصبح في يده أداة عجيبة، فإذا لم يستعملها كان جباناً)...!!‍‍‍‍
فكيف تعامل العميد( ساير) من خلال أفضل منصب في واشنطن، وكيف وجه منبره الأخلاقي، وماذا فعل بالأداة العجيبة التي وضعت في يده...هذا ما سأتوقف معكم عنده اليوم، لعلنا ندرك أن جهلنا بعدونا من الأسباب التي قد تدفعنا لتقديم كل ما نملك قربانا لهذا الجهل...
صدرت عن العميد (ساير) طوال السنوات التي قضاها رئيسا للكاتدرائية الوطنية في واشنطن، مواقف مثيرة للجدل منها ما هو يتعلق بقضايا وطنية كالحقوق المدنية للمواطنين الأفارقة، ومنها ما هو متعلق بسياسة أمريكا الخارجية كمعارضته للحرب الفيتنامية، كانت القضايا التي يثيرها سرعان ما تهدأ بمرور الزمن دون ترك آثار جانبية يعتد بها على حياته المهنية أو الشخصية، ولكن يوم الأحد السابق لعيد الفصح من عام 1972م، وقف القس (ساير) على منبره ليلقي موعظة، قال عنها (بول فندلي) ممثل الكونجرس الأمريكي السابق، إنها من أقوى ما ألقاه في حياته المهنية وأكثرها إثارة للجدل، لقد تحدث فيها عن القدس، فكان مما قال: (إن القدس كما ترمز إلى حنين الإنسان للخير... فإنها تظهر قدرته على الشر البغيض) ثم تطرق إلى موقفه من الممارسات العنصرية للكيان الصهيوني تجاه أهالي القدس العرب من مسيحيين ومسلمين، بقوله: (فالآن صار المظلومون ظالمين، العرب يبعدون يسجنون دون توجيه التهم إليهم، العرب يحرمون من أن يرثوا أراضيهم وبيوتهم، ولا يسمح لأقربائهم بأن يقيموا في القدس، وليس لهم صوت، ولا هناء في المدينة التي هي مع ذلك عاصمتهم الدينية).

ولم يكتف القس (ساير) بذلك بل تطرق للعواقب المعنوية لضم القدس إلى أراضيها، مستشهداً بالدكتور(إسرائيل شاحاك) اليهودي الديانة - والذي نجا من الاعتقال النازي - الذي وصف الضم بقوله إنه: (عمل لا أخلاقي ومجحف، فما يجري حالياً من اضطهاد فئة لفئة سيسممنا جميعاً، نحن اليهود قبل سوانا) ومع أن العميد (ساير) لم يكن الوحيد الذي تعرض لتلك الممارسات الوحشية غير الإنسانية للكيان الصهيوني، إلا أن الهجوم انصب عليه دون غيره نظراً لما يتمتع به( ساير) من مكانة مميزة في الأوساط الدينية في أمريكا...

فقد أثارت خطبته تلك استياء الهيئات الصهيونية في أمريكا،فأصدر زعيمان من أركان الجالية اليهودية في واشنطن بيانا نددا فيه بكل المواعظ التي تطرقت للكيان الصهيوني ومواقفها من سكان القدس الأصليين، مع تركيزها على التنديد بموعظة ساير، قائلين إن النصارى والمسلمين يختلطون معاً بحرية في المدينة الموحدة ويعيشون ويقومون بأعمالهم بسلام)، ثم وصفا موعظة ساير بأنها: (افتراء صارخ) !!‍‍‍‍ كما أغضبت الموعظة حكومة الكيان الصهيوني، مما دفع بإدارتها لدعوة مجلس الوزراء لعقد جلسة حول الكاهن (ساير) الذي ضل الطريق.. بزعمهم... !!

لقد استمرت الحملة على القس (ساير) عدة أشهر تعاون بريد القراء في الصحف الأمريكية الكبرى، في إشعال نيرانها عليه، إضافة إلى أقلام معروفة حاولت النيل من مصداقيته، وفي خضم هذه الحرب الإعلامية المنظمة، اكتفى ساير بإجراء علني واحد إذ صرح من خلاله أنه لن يتراجع عن أقواله.
لقد تعرضت حياته الشخصية لمضايقات لامست أفراد أسرته، حملة أراد أصحابها أن تكون مروعة، أو على الأقل مزعجة جداً، إذ استخدموا كعادتهم رسائل التهديد والمكالمات الهاتفية البذيئة،بل إن القس ساير تعرض لاحتكاك مباشر مع بعضهم أثناء وجوده خارج منزله، مما اضطره لتوزيع حرس الكاتدرائية حول منزله لفترة من الزمن،استمرت هذه الحرب قرابة الستة الأشهر.

وعندما قتل الرياضيون الصهاينة الأحد عشر،أثناء دورة الألعاب الأولمبية على أيدي الفلسطينيين،عام 1972م، شارك (ساير) رجال الدين من يهود ونصارى في واشنطن في الإعداد لإقامة قداس عن أرواحهم، لكن ما حدث بعد ثلاثة أيام، دفع ساير لمعاودة الكرة والتصريح برأيه بسياسة الكيان الصهيوني بشجاعة منقطعة النظير، إذ أغارت الطائرات الصهيونية في تلك الفترة، على مخيمات للاجئين الفلسطينيين في لبنان، تاركة خلفها (40) شهيداً، عندها بادر (ساير) بتبليغ رجال الدين اليهودي بعزمه على جعل القداس يتجاوز القتلى الصهاينة ليشمل القتلى الفلسطينيين أيضاً، وهناك ومن على منبره وأمام خمسمئة شخص،كان منهم عدد من اليهود قال عن الفلسطينيين: (إنهم الضحايا المضللون اليائسون بسبب المرارة التي أحاطت بمعيشتهم منذ ولادتهم، المرارة الناجمة عن القضايا التي تركها الضمير الدولي المتحجر من غير حل) اتهم ساير بالتطرف وحرم من أي ترقية كنسية، ليعيش بعدها شبه متقاعد، كقسيس لمستشفى محلي في جزيرة قريبة من (راس كود) ولم يتول بعدها أية مسؤوليات كنسية نظامية...

وأخيراً أود أن أطرح عليكم بعض ما جاء من حديث دار بينه وبين (بول فندلي) عام 1982م، إذ بادره فندلي بقوله: (هل أثرت موعظة الأحد تلك على عملك ؟ فأجابه من غير تردد: (نعم، بكل تأكيد... أعتقد أني أصبحت منذ ذلك الحين شيئاً خطيراً، لا يصح النظر في ترقيته إلى مطران أو منصب آخر)... ثم أعقب ذلك بقوله: (لقد أحسست بأن علي أن أفعل شيئاً) ويؤكد (فندلي) أن المجتمع الديني الأمريكي لم يشهد سوى شخصيات قليلة من طراز العميد (ساير)، تملك إرادة الكلام بصراحة وبقوة عن السلام والعدالة لجميع شعوب الشرق الأوسط...

 

أميمةالجلاهمة
  • مـقـالات
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط