اطبع هذه الصفحة


ثورة المَوات

رحاب بنت محمد حسان


قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ أحيا أرضًا مَيِّتَةً، فهي له))[1].

يقول العلماء في ذلك: ولا يستثنى من ذلك أن يكون الشخص كافرًا؛ لعموم الحديث، فله أن يملكها إن أحياها[2].

تذكرت لحظة قراءتي هذه المسألة قول الإمام ابن تيميَّة - رحمه الله -: "إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة المسلمة".

إنها عمارة الأرض التي لا تنظر إلا بمنظار العدل والمساواة، إنها عجلة الحياة التي لن تنتظر التائهين ولا الغافلين ولا اللاهثين.

نعم، هي عجلة ماديَّة بحتة بمنظورها الدنيوي، لكنها أيضًا لم تنسَ جانبها المعنوي والرُّوحي في الإذعان لأوامر ربِّها في تحقيق السُّنن الكونية بلا مداهنة ولا مجاراة لأحد؛ فالكل سواسية، ولا فرق إلا بالتقوى وصلاح النيَّة ثم العمل الصالح، فإن سقطت التقوى واستحال الإيمان كظلة فوق الرأس، فالبقاء للأصلح.

لكن يا تُرى: هل قاعدة البقاء للأصلح متساوية بين مؤمن وكافر؟ أو أنها أحيانًا تكون كدَيْنٍ مُؤجَّل؟

هذا ما نحاول الإجابة عليه، لكن ليس قبل أن نطرح سؤالين:

الأول: ما حكم مَنْ أمات أرضًا حيَّة غضة بأشجار الزيتون طَريَّة، فملأها غرقدًا شائكًا يواري به شعاع الشمس وضوء القمر؟
إن أجبنا في الحياة الدنيا، فالإجابة قصيرة لا يختلف عليها اثنان.

والسؤال الآخر:
عن حكم مَن أطال نومته على أطلال تلك الأرض، ودفن ضميره تحت وسادته، رافعًا راية العجز السرمدي المستمد من واقع لا يقبل التغيير - في عُرْفِه - فعجز حتى عن تحريك جَفْنِه بعد أن ارتوت أعضاؤه كاملة من نبع الانهزاميَّة فاستقنع واستلقى، ثم رفع يديه المكبِّرَتين في الصلاة؛ استسلامًا لأعدائه، أو تشجيعًا لأوليائه، فأنى لهما أن ترتفعا ثانيةً في دعاءٍ لله ربِّ العالمين؟!

ومع هذه الراية تراه قد رفع راية أخرى وهميَّة، وأضاف عليها منظومة متكاملة أو تعويذة سحريَّة، مَنَحَتَه قوَّة خفيَّة وحسًّا متيقظًا رائقًا؛ ليمرق به كل هوًى غربي مُتَّبع، فيصحو له صحوة المزهو الفَرِح، فيستجمع لأجله قواه، ويستأثر بطاقته الفَتِيَّة تجاهه، ليندفع بتلقائيَّة للشهوة الحاضرة واللذة الآنيَّة، حتى وإن كان به ألفُ جُرْحٍ ونيف من الأمراض المعضلة؛ فإنَّ الأرواح في عُرْفه في تلك الآنيَّة المحببة تنطلق كصبيٍّ قويٍّ، ولا تفرق بين جسدٍ سقيمٍ أو سليم، ولا طَمُوح أو مُحْبَط، ولا مسلم أو كافر، ولا بَرٍّ أو فاجر؛ إنها لديه اتحاد عالمي وتنوير فكري وكأس ألمعي، واستشراف جهنمي وانسجام كوني لا مثيل له في عالمه المحبَط بدون التعويذة العالمية.

فيا لها من ثورة قد بنت نفسها على هياكل الأجساد، وحُطام هوى الأنفس، واستعباد الملذات وانتهاك الفكر، واستباحة العقائد وغزو العقول، تُقبل مشبهة بوشاح النجاح، وذكريات النصر المفتقد وجهجهات الفن، وتُدبر مُبينة بزهو العصبية، ورطن الأعجميَّة، وركام الجهل المركب، فجاءت على أريحيتها المزيفة تزهو وتتراقص أمام أنفس مهشَّمة ومجهدة، فرأتها تلك الأنفس الواهمة في تلك اللحظة دعوى استكبار وفخر، وتحضُّرٍ وتنوير، بل عُرْس بَهِيّ مُعطَّر، فحيَّت بها وهلَّلت، وأكبرت وعظمت، حتى انتشت.

وتمضى الأنفس في كلِّ مرة تهرول نحو عُرْس يليه العرس، والنفس تشتاق لعرس آنيٍّ جديد؛ لتشم عِطْره الخبيث يَسمينًا ورَيْحانًا - كما تتمنَّى، لا كما هو حقيقته - فيا لها من مفارقة عجيبة فرضتها تلك الأنفس على ذاتها بين إحساس بالعجز والقدرة، وبين شعور بالاستسلام ونشوة النصر الزائف، وما بين رفع راية وخفض أخرى.

ولكن هل - يا تُرى - كانت تلك اللائحات المستشرفات، وتلك الشبهات المقبلات المدبرات هي النصر المنتظر، أو النذير العريان؟!

فالنظرة البشرية اللحظية لزُخْرف الحياة وزهو التقدُّم الغربي، وكذلك عدم التمييز بين غَثِّهم وثَمينهم، ثم الجهل بالسُّنن الربَّانيَّة - هي التي تسوق المرء لهذه النتيجة القاصرة، فيفضي به أن يتبعهم حتى ولو دخلوا جُحر ضبٍّ، "فحينما يُخدع الناس بالفاجر الطاغي والملحد الممكَّن له في الأرض غير مأخوذ من الله - عز وجل - فيستعجلون أنهم يرون أول الطريق أو أوسطه، ولا يرون نهاية الطريق؛ لأن السُّنة الربانيَّة تستغرق وقتًا طويلاً"[3].

فحياتها – أي: حياة السُّنة الربَّانية - قد تكون أطول من حياة البشر، فلا يستطيع أن يدرك الأمر بشموليَّة، ولا أن يتصوره على حقيقته، إلا بالاستماع إلى خالق الكون العليم الخبير بأسراره، المدبِّر والمتصرِّف في أموره، فإن فاته ذلك فقد تفوته حياته القصيرة، ولا يدري عن الحق شيئًا، وهنا تأتي الإجابة عن السؤال المشكل: هل - يا تُرى - قاعدة البقاء للأصلح متساوية بين مؤمن وكافر؟ أو أنها أحيانًا تكون كدَيْن مؤجَّل؟

يقول الله - تعالى -: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ [الأنعام: 44].

فالفتح للكافر إنما يكون إمهال واستدراج لأَجَلٍ مُسمَّى، وليس استخلافًا؛ يقول - تعالى -: ﴿ فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ﴾ [الطارق: 17].

وكما جاء في حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله - عز وجل - يملي للظالم، فإذا أخذه لم يفلته)).

"ولا شك أن هذه الأبواب التي تُفْتح على الكافرين هي من تمام عدل الله الذي يقضي بأن يُعطي كلَّ عاملٍ جزاءَ عمله؛ ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ﴾ [الإسراء: 18]، فإنهم لَمَّا عرفوا القوانين المادية للتقدُّم، فُتح لهم ونالوا ثمرة جُهدهم ذلك في الحياة الدنيا، مع أن هذا الفتح وهذا الرخاء لن يكون مثل فتح الله على المؤمنين ورخائه عليهم وطمأنينة قلوبهم إليه، بل هو رخاء موبوء، كله آفات واختلاط في كلِّ شيءٍ: فساد اجتماعي وانحدار أخلاقي ومعيشة ضنكًا"[4].

وهذا هو الفارق المغيَّب عن أعين كثير من المبهورين بالحضارة الغربية، فالفيصل حقًّا في الذكاء والنماء والرواء والإحياء لتلك الأنفس الميِّتة، في الإخاء والولاء والعطاء بلا حدود لمن يستحقه، في التقوى والصلاح والإصلاح بقصد ونيَّة، وعلى الصواب والجَادة، والمرء إمَّا شاكر أو كفور.

--------------------------
[1]- الراوي: جابر بن عبدالله المحدِّث : الألباني؛ المصدر:" إرواء الغليل" ، الصفحة أو الرقم (1550)، خلاصة حكم المحدِّث: صحيح.
[2] - من "شرح عمدة الفقه".
[3] - "في ظلال القرآن"؛ سيد قطب.
[4] - "الفتح الإسلامي"؛ د. علي الصلابي

رحاب بنت محمد حسان


 

رحاب بنت محمد
  • مقالات
  • بحوث
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط