اطبع هذه الصفحة


ملاهي يا دنيا

صباح نوري محمد الضامن
شبكة المسك الإسلامية النسائية


بسم الله الرحمن الرحيم

 
جلست على المقعد الخشبي تراقب حفيدها عبد الرحمن وهو ينتظر بفارغ الصبر دوره في مدينة الملاهي أمام لعبة السيارات الكهربائية ,
وأحست بنفاذ صبره فابتسمت له مشجعة فيبدو أن الإقبال على هذا النوع من الألعاب محبب لدى الصبيان الصغار والواضح أن الجميع قد قدم مثلها بأولادهم وأحفادهم ليوفروا الهدوء للكبار في وقت الامتحانات .
تنهدت الجدة وهي تقرأ في كتاب الرقائق الصغير الذي جلبته فالأصوات الكثيرة والعالية والصراخ يبعدها عن تلك الروحانية الجميلة المحلقة بحروف مضيئة في كتابها .
- لو أنها أتت بصحيفة سياسية أو قصة اجتماعية لكان أجدى لها .حدثت الجدة نفسها وهي تحاول جاهدة أن تركز قليلا في كتابها فما أن تناست جو الصخب المحيط بها وتوحدت مع السطور والرقائق حتى أعادها للعالم الضاج ضربة من بالون أحمر كبير يحمله مهرج ووراءه صغار يصيحون معه ويفصلون بينها وبين حفيدها فاضطرت للوقوف لترى رجلا ضخما يجر ولده الصغير من يده وينطلق نحو حفيدها في الممر وقد اقترب فرج الصغير فالدور الآن له ليركب . ولكن كأن الدقائق الطويلة التي انتظرها الحفيد تجبر عيونه الجميلة أن تمطر قهرا على مساحة الانتظار الطويل فقد جاء ذاك الرجل الضخم وأزاح عبد الرحمن , ذاك الطفل الصغير الرقيق ليضع ولده في السيارة الحمراء , حلم عبد الرحمن الذي سرق في لحظة ظلم , فارتد خلفا تسبقه دمعات تتلألأ في عيونه ..
وانتفضت الجدة وكأنها لا تسمع إلا دقات قلب حفيدها الصارخة الطالبة النجدة ولها ألف رجل وألف قلب وأجنحة حب وعطف وغضب انقضت على ابن ذلك الرجل وحملته من السيارة الحمراء الجميلة , حلم عبد الرحمن الذي صبر وانتظر طويلا ليتحقق , وأمسكت بحفيدها ذي العيون الجميلة البراقة بدمعات القهر ووضعته في السيارة الحمراء وانطلقت صافرة البداية لتراه يضحك فرحا يبادل الجميع اللعبة
فخورا بجدته ...
حقا كان فخورا ولكنها لم تكن كذلك
لم تعتقد أن بداخلها ذاك الذي خرج فجأة وانطلق كمارد أجبر المغتصب بالتراجع , فقد نظرت لعيون الصغير ابن المتعدي لتراه يبكي ..
كيف هان عليها أن تعاقب الأب وتذبح بسكين العقاب ذاك الصغير ؟
أتراها فكرت أن يتعلم الصغير أن لا يغتصب حق أحد ؟ لا لم يكن هذا المرجو ولا عقدت النية لهذا الأمر بل كان انتصار لحفيدها , كان غضب من سلب الحق لحفيدها , ونظرت حولها لترى بعض العيون تبسم لها ولشجاعتها , وبعضها ترفع الحاجب مستنكرة والبعض يتمتم أنه كان يجب الانتظار ..واقترب الرجل منها قائلا كيف تجرؤين على إخراج ابني من اللعبة !
لم تجبه بل بكل تحد اقتربت من الشاب المسؤول عن اللعبة وأعطته تذكرتين إضافيتين وهمست له :
-دع حفيدي في السيارة ولا تخرجه .
وتوقفت اللعبة وأومأت الجدة لعبد الرحمن بالمكوث فمكث , وصفق الحفيد فرحا ... واتسعت عينا الرجل واستشاط غضبا وهمست الجدة : انتظر ... فلم تر شيئا بعد .
الآن أنا أجدد النية , أريد أن أعلمك ألا تتعدى على حق أحد , الآن أنا أعلم ابنك أن عليه أن يحترم حقوق الاخرين ... الآن أنا أعلم حفيدي أن يكون قويا ولا يتنازل عن حقه .
الآن .. الآن .. الآن يا أيتها المربية الفاضلة أنت شريرة
هكذا في أعمق نقطة في ضميرها تلك التي تخفيها خلف ظلمات شهوة الانتصار , نقطة مضيئة بالمكاشفة أنها انتصرت لحفيدها وهو حق لها ولكنها شاركت ذاك الرجل بالأسلوب .
انتقمت للضعيف ولكن بأسلوب نال من ضعيف آخر .
وعادت مع حفيدها بعد أن حققت له أمانيه , عاد محملا بالفرح المزروع في بسمته , في قلبه وفي حلواه التي وزعها على إخوته , عاد يحكي بقفزات البهجة مغامراته .
أما الجدة فقد عادت لغرفتها صامتة , فتحت التلفاز لترى الطائرات تقصف هنا وهناك , في سوريا الطائرات الحكومية تقصف شعب سوريا , وفي مصر سيارات بلون الدم أيضا تسير بكل ساعة ودقيقة بأرجل الظالمين وأجنحة الاستبداد تقصف وتستبيح وتحجز وتأسر وتقتل وتمتهن أبسط قواعد الإنسانية لمن يقول لا .. وصحف تكذب عوضا أن تكتب في أوطان انتفضت ضد الظلم . و أيد كأنها السيوف تجرح فضاء الحرية فتسيل الدماء على رمال سارت عليها خيول النصر تبشر بدين حق ...
و كأنك يا دنيا ملاهي .. بنفس اللون والشكل


 

صباح الضامن
  • مـقـالات
  • أدبيات
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط