اطبع هذه الصفحة


فوبيا التجربة الثانية!

 أ.سحر المصري


محرقة فشل زواجها الأول..
خرجت عائشة من زواجها الأول بخُفَي حُنَيْن.. وحاولت جاهدةً أن تمحو شبح الفشل من حياتها ببرمجة عقلها الباطن أن ما مرّت به هو مجرد تجربة ستحوِّلها إلى منحة.. ولم تكن عائشة الآن كتلك الفتاة المُفعَمة بالحيوية والحرية والثورة حين أقبلت على زواجٍ كُتِبت نهايته بعد عقد القران بأيام.. فتحوّل الحلم إلى قيد وبدأت شمعة العمر بالإضمحلال..
وبعد معاناة سنوات استطاعت عائشة أن تكسر القيد وتضع حداً لألمها الذي التهَم كل أملٍ يلوح في الأفق.. وأحرَق زهرة شبابها في مجتمعٍ متخلّف ينظر إلى المطلّقة نظرة “دون” خاصّة إن كانت هي من سعَت إلى الخلع.. فقد كان لزاماً عليها أن تصبر حتى لو “طحن الملح على ظهرها” .. فهكذا تحقِّق معاني الإيمان والصبر في ترجمة مشوّهة للدِّين وموروثات عقيمة الفكر والوعي من أسلافٍ فهموا الإسلام كما يريدون وحاربوا حقيقته التي “ابتدعها” هذا الجيل على حسب زعمهم..
حين خرجَت عائشة من رحم المأساة كانت محطّمة القلب والفكر.. حاولت لملمة أشلاء روحها المتناثرة على أرصفة الحياة فما وجدت منها إلا قليلاً.. ولكنها أصرّت أن تكمل حياتها وتنفض عنها غبار القحط الذي لازمها طوال سنين في قفص لم يكن ذهبياً!

يومها كانت عائشة لا تستطيع تحمّل أي كلمة ينطق بها من حَولها عن زواج آخر.. وخاصة القاضي الصديق الذي طالما نصحها ان تستأنف حياتها من جديد.. فالعمر يمضي والأيام تمر.. ولكنها كانت تجد في الرجال نسخة مكرّرة من زوجها السابق وتشمّ رائحة الأسى الذي نشرها في بيتهما بعد أن وعد بكل جميل قبل أن يفقد وعيه ويرتميَ في جبّ حوى كلّ ما تكرهه في الرجال.. وكانت صدمة كبرى حين تكشّف القناع عن وجهه لترى عكس ما تمنّت فشُلَّت تماماً وانقطعت عن التنفس والحياة..
ومن يومها وعائشة تعيش حياتها دون أي وجود لرجل في حياتها بالرغم من محاولة الكثيرين اقتحام سور قلبها ولكنها كانت ترفض وبشدّة الارتباط “فالمؤمن لا يُلدَغ من جحرٍ مرّتين“.. حتى تقدّم بها العمُر وابتدأت تشعر بالوحدة وتخلّصت من حدّة حقدها على الرجال واستطاعت أن تقتنع بوجود رجال على مستوى من الخُلُق والدين يُكرِمون المرأة ويتحمّلون مسؤولياتهم ويتمتّعون بقدرٍ عالٍ من الثقافة وحسن التعامل مع الغير..
ولكنها كانت تخشى الخوض في تجربة ثانية إلى حد كبير.. فكانت تستنبط لكلّ خاطبٍ أموراً تجعله في مقام الإعدام عندها فترفض راضية مرضية.. قانعةً نفسها أن ما فعلته هو عين الصواب.. فهذا عنده أولاد وهي لا تريد أن تكون مربية.. وهذا كبير في السِّن وذاك يريدها زوجة ثانية وهي لا تستطيع أن تكسر قلب الزوجة الأولى.. كل هذا كان يمرّ في حياتها التي تسقط أوراقها يوماً بعد يوم من دون أنيس ولا صدر حنون.. حتى كلّموها عن أستاذٍ لها لا يُرَد.. فوقفت فارغة فاهها.. لا يوجد أي سبب ترفضه من أجله.. فلطالما كانت تحلم برجل علم يعلّمها دينها، وهو مطلّق مثلها ولا أولاد لديه.. ومشهودٌ له بالخُلُق والالتزام والأدب والدِّين.. وقد خاضت معه أكثر من مرة في حوارات أُعجِبَت بفكره ورأيه وشخصيته كأستاذ.. فكيف ترفضه؟
عاشت عائشة فترة حرجة جداً.. وتأرجحت نفسها بين الخوف من الله جلّ وعلا إن رفضت إذ يسَّر لها صاحب الخلق والدين والكفاءة، وبين مشاعرها المتلاطمة على جدار الرهبة من الخوض في تجربة جديدة..
فماذا لو لم تنسجم معه؟ وماذا لو كان داخل البيت غير خارجه؟ وماذا لو كان جافاً غليظ القلب معها؟ وماذا لو لم تستطع تسليم جسدها له إن لم يحصل التوافق بينها وبينه؟ وماذا لو عادت مشاعر الكراهية التي اجتاحتها دهراً قبله وهي في بيته؟ هل ستُعيد الخلع من جديد أم ستستمر لكي لا تكون مطلقة مرتين؟ وماذا لو؟!! أسئلة كثيرة حرمتها لذة النوم لياليَ عديدة وكانت الحيرة تتقاذفها لتتكسر أحلامها تارة على صخرة الخوف وتارة أُخرى على شاطئ الرضا..
وكانت قد استخارت الله جل وعلا مراراً.. ولكنها لم تستطع الصمود أكثر فأشهرت راية الاستسلام وتقوقعت بعد رفضها له وإحكام إغلاق باب الزواج ثانية في حياتها..
ولا تزال مشاعر الوحدة تقتات من قلبها كل يوم ما يسد رمقها ولا ترى نفسها في قابل الأيام إلا عجوزاً في زاوية دار للعجائز..
قد يقول البعض أن عائشة تبالغ في الخوف وأنَّ عليها اقتحام الحياة بإيمان وأمل والله جل وعلا كفيل بأن يُسعِدها وهو الأكرم.. وهناك المئات في مثل حالة عائشة عضّهنّ ناب الطلاق بعد حياة مؤلمة فعزفن عن فكرة الزواج بسبب خوفهنّ من إعادة التجربة المرّة.. مع أنهنّ مؤمنات ولكن درجة الخوف في هذا النطاق أكبر من بصيص الأمل عندهنّ! وقد تكتمل فصول المأساة إن لوَّح الزوج السابق بسحب حضانة الأطفال منهنّ إن هنّ تزوجنَ فيكون هذا سبباً إضافياً للعزوف عن الزواج!

وللرجال من الألم نصيب!
تسود في المجتمع فكرة خاطئة مفادها أن الرجل لا يعاني من آثار الطلاق وأنه يسارع إلى الزواج من أُخرى مباشرة حتى لا يبقى “وحيداً” خاصة إن كان يحظى بحضانة الأولاد؛ وبالرغم من أن المرأة تعاني من الآثار السلبية المترتبة عن الطلاق أكثر من الرجل إلا أنّ هذا لا يعني بتاتاً أنّ الرجل لا يعاني بعد الطلاق خاصة إن كانت الزوجة هي التي سعَت للخلع.. وقد يحدث أن يشكِّل هذا الطلاق عقدة للرجل ويعزف عن الزواج إذ يشعر بأنّه طُعِن في رجوليته فيعيش الألم بصمت بينما يُظهِر القوة والثبات.. ومع إيماني أن هذا الصنف قليل إلاّ أنه موجود ولا يمكن إنكار مشاعر الرجل السلبية جرّاء الطلاق وشكواه من الاضطرابات النفسيّة خاصة أنه لا يعبِّر عمّا يشعر به لأنه “رجل” وقد تؤدّي معاناته إلى تردّده في خوض التجربة الثانية.. كما لا يمكِن تفادي نقطة مهمة جداً وهي مواجهة الأبناء له حين سؤاله عن أسباب الطلاق أو الخلع وتكبر المشكلة حين يلقي كلّ واحد من الزوجين مسؤولية الفشل على الآخر فتهتز صورة القدوة والمثل الأعلى المتمثِّلة في الوالد وتتضخّم المعاناة..

نقطة على حرف..
ولتفادي الوقوع في فشل تجربة الزواج الثاني لا بد من مراعاة أموراً كثيرة منها النقاط الآتية:
- حسن الاختيار ودراسة الوضع جيداً ومن كل النواحي
- حسن ظن بالآخر
- العمل على تقوية الإيمان وصقل العلاقة بالله جل وعلا والإكثار من الدعاء
- حسن التوكل على الله جل وعلا بعد الاستخارة والاستشارة
- طرد فكرة أن الجميع متشابهين فهم ليسوا سواء!
- تحديد الأولويات في الزواج الثاني وعدم التنازل عن أي مبدأ كان سبباً في فشل الزواج الأول
- الواقعية مطلوبة ولسنا ملائكة فمن الضروري العمل على التغاضي عن الهفوات والزلات عند المتقدِّم للزواج وعدم استخدام المجهر لتضخيمها
- محاولة الاستفادة من تجربة الزواج الأول وتفادي الأخطاء السابقة
- الإيمان أن الزواج الثاني ليس تجربة خطيرة وإنما سنّة حياة تُطبَّق.. فقد كان الصحابة لا يتركون الأرملة ولا المطلقة بدون زواج بعد العدّة
- التفتيش عن الاستقرار النفسي أولاً في التجربة الثانية فالمرء إن فَقَدَ الاستقرار لا يمكن أن يُبدِع بل يعجز عن أي إنجاز هام
- عدم التسرع باتّخاذ القرار ثأراً أو نكاية بالشريك الأول
- اختيار مَنْ يعي ويتفهّم وضع المطلقة فالرجل الشرقي لا يستوعب إلاّ أن يكون هو الأول في حياة المرأة فإن كان ضيّق الأفق يقضي على حياته الزوجية بسبب المقارنات بينه وبين الزوج السابق!
- عدم ذكر الشريك الأول أو المقارنة بينه وبين الثاني تحت أي ظرف من الظروف

وخلاصة الكلام.. مهما كانت الأسباب الدافعة للطلاق في الزواج الأول والتي تبعث الخوف من التجربة الثانية (الكذب – الخيانة – الغيرة – الشك – عدم التكافؤ – الجفاف العاطفي – البخل – انعدام الحوار.. إلخ) فإن الحياة أقصر من أن نقضيها في غياهب الندم والحيرة والخوف.. فلتُطوَ صفحة الماضي ولتُضمَّد الجراح.. والخطوة تحتاج بعض شجاعة وكثير توكّل.. فتوكَّلوا!

 

سحر المصري
  • اجتماعية
  • أُسرية
  • دعوية
  • بوح روح
  • جراح أُمّة
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط