اطبع هذه الصفحة


قصّة أسير..

 أ.سحر المصري


يوم الجمعة المؤرّخ في 30/5/1980 أبصر النور.. وتنشّق لأول مرة هواءً مباركاً في أرضٍ طيّبة.. فانتفخت رئتَاه بعشقٍ فلسطينيٍ أصيل.. منذ الرشفة الأولى.. فثبتت محبّةٌ في القلب المنتشي!
لم تكن الأم تعلم في تلك الساعة أنها وضعت نواة ثورةٍ ستنطلق رافضةً الظلم.. وأسدٍ سيزأر غاضباً لله جل وعلا.. وقلمٍ سينبض صادحاً بالحق! وأنّ هذا الطفل سينمو لتزهر في أحشائه كرامةٌ.. وعزّةٌ.. وإباء.. ستكلّفه غالياً.. وتكلّفها معه!
في قرية رافات.. شمال غرب القدس.. جنوب رام الله.. ترعرع ساري.. تفوّق في دراسته كما في كسبه لبرّ أهله ومحبة أقرانه.. شاء الله جل وعلا أن يُتوفّى والده شاباً وساري بعدُ صغير.. فتحمّل مسؤولية بيتٍ ولم يتعدّ التاسعة من عمره.. ليُعيل والدته وأختين وأخ من ذوي الاحتياجات الخاصة.. ولم يتلكأ.. فكان نِعم الابن والأخ والمعيل.. ما زاد من نضجه وطاقته على تحمل المسؤولية.. فكبُر قبل الأوان..
لم يكن هناك من وقتٍ للّعب وعبث الشباب.. ويكأن الله جل وعلا أراد له أن يقوى عوده ويتصدّى للصِعاب.. تهيئةً لما ينتظره من مهام أكبر.. في أرضٍ مغتصَبة.. التهم لهيب الاحتلال والظلم والخيانة والعمالة فيها الأخضر واليابس.. ولا زالت المكائد تُحاك لها لإسقاط ما تبقى.. ولخنق البشر والحجر والبيارة.. ولاغتيال الوحدة والكرامة!
تعلّم ساري في مدرسة القرية.. ودرس فيها حتى الصف السادس ثم انتقل إلى مدرسة الثانوية الشرعية في مدينة البيرة..
ساءه ما يجد الأسرى من ظلم واضطهاد فشارك في فعالية للتضامن مع جرح الوطن النازف المتمثِّل بالأسرى فاعتقلته قوات الاحتلال للمرة الأولى وهو لا يزال في الخامسة عشرة من عمره.. بتهمة إلقاء الحجارة عليها.. كأني به يناصر القضية التي سيعيش ويلاتها فيما بعد.. ولتحفر على سنيّ عمره تهمة تجعله يعانق جدران المعتقل لسنوات: فلسطيني ..حرّ.. أبيّ..!
خرج ساري من المعتقل بكفالة مالية لصغر سنّه.. وأكمل دراسته حتى الثانوية العامّة.. وقبل تقديم الشهادة الرسمية كانت أولى ابتلاءاته التي نجح فيها بامتياز.. بصبره ورضاه.. فقد اعتقلته عناصر الاحتلال الصهيوني وتنقّل بين مركز تحقيق سجن عسقلان وبين معتقل مجدو العسكري حيث قدّم امتحان الثانوية العامّة فيه.. وبالرغم من تفوقه إلا أن النتيجة لم تظهر على مستوى هذا التميّز بسبب قانون وزارة التربية الذي يحدد معدّل طلاب السجن ولا يتعدّاه مهما كان الطالب متميّزاً!
خرج ساري من المعتقل.. والتحق بقسم اللغة العربية في جامعة بيرزيت.. كان مثالاً للطالب النشيط المثابر.. صاحب القضية القابض على الجرح.. المتمسّك بالثوابت.. الساعي لنشر الخير والوعي في صفوف الطلاب.. وكان أيضاً مثالاً للخطيب المفوّه الذي يحثّ أبناء الأرض على التمسك بها وعدم التفريط بحبّة رملٍ منها.. وعلى ضرورة الإياب إلى الله جل وعلا واتّباع شرعه.. وبناءً عليه تمركزت عيون الاحتلال الحمراء عليه فكان يقضي أوقاته ما بين البيت والمسجد والجامعة.. والمعتقل!
اعتقله الصهاينة في العام 2001 وأمضى عامين في السجن بين مركز التحقيق في المسكوبية في القدس ومعتقل مجدو العسكري ومعتقل النقب الصحراوي.. والتهمة نفسها: فلسطيني.. حرٌّ.. أبيّ!
لم تحطم هذه الاعتقالات مع ما يصحبها من تعذيب وإهانات من أَنَفته فكان لا بد من تكرار نفس الأسلوب بين فترة وفترة لعل عزيمة ساري تلين.. وبعد تحريره بسنة تقريباً أعاد الاحتلال اعتقاله من جديد.. ولِم لا نقول: قد حنَّت الخلوة إليه! وحقّ لها..
خرج ساري من المعتقل بعد عدة أشهر.. ليُعاد اعتقاله بعد عدّة أشهرٍ أُخَر.. ليخرج بعد أشهر.. لتحاول الأجهزة الصهيونية اعتقاله بعدها فتفشل في ذلك!
وفي 5/7/2006 كان لفلسطين موعد مع عرس الأسير المحرّر.. اختار عروساً له تحمل من اسمها نصيب “أمل”.. فرقصت الأرض على وقع القلوب في ذلك اليوم.. وسعدت أم ساري الصابرة بزواج ابنها الميمون الذي احترقت على غيابه لسنوات طوال.. فكانت فيها كلما شمّت عطر حريته عاد إلى المعتقل تاركاً حرقة في القلب لا تزول!
وبعد خمسة شهور من زواج ساري.. داهمت قوات الاحتلال بيت ساري لاعتقاله.. فلم تجده.. فقد قرر ساري أن يتخرّج من الجامعة التي لم يتخرج منها بَعد بسبب اعتقالاته المتكررة! كان يريد الحصول على شهادته الجامعية لتسهيل حصوله على وظيفة براتب يكفي إعالة أسرته! إلا أنّ حلم التخرج لم يكتمل.. فقد نجحت قوات الاحتلال في إعادة اعتقاله بعد أربعة أشهر من الملاحقة.. وقد كان في الشارع مع زوجته أمل التي لم تسعد بقربه كأي عروس تتوق للبقاء إلى جانب حبيبها! وهذه المرة كانت مدة الاعتقال عند الاحتلال ستة عشر شهراً متنقلاً من جديد بين مركز تحقيق المسكوبية ومعتقل عوفر وسجن إيشل في بئر السبع!
وبالرغم من بشاعة أساليب التعذيب في مراكز التحقيق إلا أن ساري ثبت بفضل ربه جل وعلا.. ولم يلن أمام أخَسّ خلقِ الله من الصهاينة المحتلّين.. وكان بحقّ صقراً يأبى إلا أن يعيش في أعالي جبال الهمّة والعنفوان والصمود..
لم يستطع ساري التخرج من الجامعة إلا بعد عشر سنوات! ذاق خلالها مرَّ التعذيب والترهيب.. وتعرّض لما يسمّى بالشبح والحرمان من النوم والضرب المبرح والصندوق والإهانات.. إلا أنه ثبت.. ففلسطين تستحق! وأثبت أن لها رجال.. قلوبهم شفافة مع المؤمنين.. صوّانٌ مع المحتلّين.. وأجسادهم كالحديد.. مهما عبث بها المحتل!
لم تنتهِ قصة ساري هنا.. فبعد أن انتهت –حتى الآن- حكايته مع الصهاينة.. ابتدأت رحلته مع أبناء جلدته من أبناء ما يُسمّى بالسلطة الفلسطينيّة!
فبعد تحرّره من سجون الاحتلال.. يتم اعتقاله من قِبَل جهاز المخابرات العامّة التابع للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية بتاريخ 11/7/2009.. ومن جديد يتعرّض الأسير المحرّر للتعذيب والشبح والضرب “عارياً” والإهانات والمنع من النوم لأيام ولكن هذه المرّة على يد أبناء بلده! فإن صبر وهو في قبضة المحتلين فكيف له أن يقوى على رؤية أبناء أرضه وهم ينكلون به بأقسى من الهمجية التي عاينها لدى الأعداء؟!!
وبالرغم من كونه مواطناً مدنياً إلا أن جهاز المخابرات العامة أحاله إلى المحكمة العسكرية! وهذا أمر يخالف الدستور الفلسطيني.. ولكن إلى مَن يشكو والقاضي هو الجلاّد؟! أمّا تهمته فكانت: مناهضة السياسة العامة للسلطة والمسّ بهيبتها!!
وفي محكمة عسكرية خاصة.. أعدّت له النيابة العسكرية ملف أمن دولة.. وأحكام هذه المحكمة لا تقبل الطعن أو النقض أو الاستئناف إلا لدى القائد الأعلى للقوات وهو رئيس السلطة الفلسطينية! وصدر قرار من محكمة العدل العليا بالإفراج عن ساري.. فالتزم جهاز المخابرات العامة بقرار المحكمة العليا.. وأفرج عن ساري.. وبلغت القلوب الحناجر من السعادة هذه المرة وليس من الخوف! وتراقصت نبضات قلب أم ساري وأمل وأهل بيته.. فقد حُكِم بالعدل وعاد العريس إلى الدار التي لطالما أنّت لغيابه!
ولكن لم تصل الفرحة منتهاها.. فبعد عشرين يوماً من الإفراج أمرت المحكمة العسكرية الخاصة جهاز الاستخبارات العسكرية باعتقاله لتحاكمه في جلسة واحدة فقط ودون وجود محامٍ للدفاع.. وأصدرت بحقه حكماً قاسياً ظالماً بسجنه لثلاث سنوات! الحكم الذي أكمل المسلسل الذي بدأه الاحتلال مع ساري ولكن هذه المرة بممثّلين عرب!
لم تستند هذه المحكمة لأي دليل أو بيِّنة أو اعتراف.. واكتفت بشهادة ضابط تحقيق فقط.. وكانت المحكمة صوريّة.. وأكّد ذلك قرار الحكم الذي ظهر عليه تاريخ إصداره قبل جلسة المرافعات وإصدار الحكم بشهر!! كما أن هذه المحكمة لم تحترم تعليمات رئيس السلطة الفلسطينية الذي أكد على عدم تحويل مدني إلى محاكمات عسكرية إلا على خلفية الالتحاق بميليشيات عسكرية.. كما أكّد على عدم اعتقال أي فلسطيني على خلفية التعبير عن الرأي السياسي ومعارضة السلطة بالوسائل السلمية! فأين احترام أولي أمرهم منهم؟!!
وعاد ساري إلى السجن.. وحالته الصحية كانت متدهورة حيث أن المرارة كانت ملتهبة.. فأُفرِج عنه بكفالة وأُجرِيَت له عملية جراحية لاستئصال المرارة.. وبعد فترة النقاهة أُعيد ساري إلى السجن.. ولا زالت حالته الصحية في تدهور مستمر.. فهو يعاني من خمسة انزلاقات غضروفية في رقبته وظهره الناتجة عن الاعتقالات المتواصلة والشبح الذي عانى منه في سجون الاحتلال والسلطة الفلسطينية!
واليوم.. أسرة ساري بلا معيل.. أمٌّ تبكي فراق ابنها عنها.. وزوجةٌ تقتات من ذكريات لأيام قليلة رافقت فيها عريسها.. وأختان من ذوي الاحتياجات الخاصة تحفظ إحداهما القرآن الكريم بالرغم من إعاقتها البصرية.. وأخ أنهى دراسة البكالوريوس بتفوق بالرغم من إعاقته البصرية كذلك..
وساري.. المعيل والابن والزوج والأخ.. الخطيب والداعية والباحث.. طالب العلم وحافظ القرآن الكريم.. يقبع “ظلماً” في سجون ما يسمّى بالسلطة الفلسطينية.. ليدفع ضريبة التزامه بهويته الفلسطينية.. وتمسكه بالثوابت..
بات “ساري عرابي” نموذجاً حياً للثبات والتضحية والإباء.. ففلسطين تستحق!
قصة ساري عرابي ليست من نسج الخيال.. ولكنها قصة واقعية لشابٍ عرفت وعايشت.. وكان بحق فخراً لفلسطين.. وللقضية!



 

سحر المصري
  • اجتماعية
  • أُسرية
  • دعوية
  • بوح روح
  • جراح أُمّة
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط