اطبع هذه الصفحة


انتقام العادل

أ.سحر عبد القادر اللبان

 
وقفت مذهولة لا أستطيع الحراك،وعيناي شاخصتان من هول الصدمة، وأنا أنظر إلى شبح رجل ممدد على سرير أبيض.
أيعقل أنه هو؟وفي هذا المكان؟كيف؟ ولماذا؟
اقتربت أكثر من غرفته ذات الباب المفتوح علني أكون مخطئة ،الا أن منظر زوجته الجاثمة أمام سريره والتي تجاهد دمعاتها التي كانت تخونها فتأخذ طريقها بالانحدار مبللة وجهها الذي أرهقته السنون.
وقفت أمام الباب أشاهد هذا المنظر المؤثر وأراقب محمدا وهو غارق في ملابس المستشفى البيضاء،وقد خف نظره وخارت قواه.
كنت قد سمعت أخبارا عن تدهور في صحته ولكني لم أكن أتصور أنها وصلت إلى هذا الحد،وكيف لي أن أتصور من ألفته عيناي منذ طفولتي رجلا قويا عظيما، يمشي كالطاووس مرفوع الرأس،الكل يتوسل منه النظرة والكلمة.
آه ما أعجب هذا الزمن
أهذا يكون مصير محمد؟صاحب الملايين؟أيكون مصيره غرفة باردة في دار العجزة؟
كيف ؟ ولماذا؟
أين هن بناته الأربع؟
كيف استطعن التنكر له وتركه في غياهب هذه الدار؟
أبعد كل ما فعله لهن يكون هذا جزاؤه؟
لقد فعل لأجلهن ما لم يفعله الآخرون.
وتزاحمت الذكريات في خاطري ،وعدت أتذكر ماكنت أراه زمانا وما كان يخبرني عنه والدي.
فمحمد هذا بدأ حياته كباقي أقرانه يجاهد لكسب لقمة عيشه طول النهار وشطرا من الليل، لكنه لم يكن ليقنع بما قسمه الله له ، فكان حسودا ، يمد عينيه لما متّع الله غيره من رزقه -كثيرا كان أم قليلا - وأول ما بدأ بدأ بإخوته
وأخواته ،فوالده كان قد تزوج بغير أمه وأنجب منها ما قدّر الله له من البنين والبنات ، أخذت الغيرة والحسد والطمع من محمد كل مأخذ ، فصار يفكّر في طريقة يستحوذ فيها على مال والده ،فما كان منه الا أن نصّب نفسه وكيلا على تركة والده ووصيّا على إخوته وأخواته ليتسنّى له بذلك أن يحكم أظافره ، ويقتنص ما يقدر عليه من إرثهم ، وبهذا ، كان نصيبه من تركة أبيه نصيب ساكن العرين .
الا أنّه لم يكتف بما حصل عليه نصبا من حق إخوته بل أخذه الطمع لجهة أخرى،بعد أن ذاق لذّة المال، فصار يبحث عن زوجة غنية تساعده على كسب المزيد والمزيد، وكان له ما أراد ،ووفقه الله تعالى الى زوجة ثرية يملك والدها عمارة في وسط بيروت التجاري،وكانت هذه الزوجة تعمل كمعلمة في مدرسة مرموقة حيث كانت تدر عليه من عملها دخلا اضافيا تروي به غليله وتزيد به خزنته.
لكن طمع محمد لم يقف عند هذا الحد ،بل دفعه لأن يجعل من زوجته الطيبة أداة ضغط على أهلها ليقتنص ما يتيسر له من تركة أبيها،ولمّا لم يتسنّ له ذلك،عمد إلى أخذ شقّة في عمّارة والد زوجته بالقوّة ،مغتنما أحداث لبنان ،ومستعينا على ذلك بدعم من بعض المنظّمات السياسية آنذاك
وكان له ما أراد، وصار يصول في العمارة ويجول ،مستعرضا عضلاته حينا،وأعوانه المسلحين حينا آخر،وأهل زوجته الطيبون غير قادرين على فتح أفواههم والاعتراض،وصارت زوجته المسكينة بين جحيمين،أهلها وما يقاسونه من زوجها وغطرسته، وزوجها وبناتها الأربع اللاتي رزقها الله تعالى بهن ولم يرزقها الولد.
وأوكلت أمرها لله ، وسكتت وهي ترى زوجها يتبع الشيطان مرة ثانية ويتحدى المذاهب الاسلامية فيتنصل من مذهبه ويغيره إلى مذهب آخر يؤمن له حفظ ماله من بعده لبناته وبناته فقط،حارما بذلك حق أخوته في الميراث.
ومرّت الأيام وأموال محمد في ازدياد ،كيف لا وقد وضع كل ما حصل عليه من مال اغتصبه من تركة أبيه أضافة الى تعويض نهاية الخدمة له ولزوجته في أحد البنوك الربوية في لبنان ، التي كانت تدر عليه من فوائدها ما يسيل له لعابه وتنتعش حياته.
وعاد ليضغط على زوجته فتضغط بدورها على اخوتها ليبيعوا له بعض الشقق بسعر بخس ، وكاد يفلح في ذلك لولا الذي أصابه من تدهور سريع في العملة اللبنانية بسبب الحرب ،أفلس من جرائه البنك الربوي الذي كان محمد قد أودع به ما يملكه من المال، فخسر ماله كله،جنى عمره وعمر زوجته وماجمعه بالقنص والضغط، فكان وطأة هذا الأمر شديدا عليه فلم يستطع أن يتحمل فكرة خسارته لكنزه فداهمه المرض ،وأفقدته الصدمة حاسة النظر.
كثيرا ما كنت أشاهده بعد ذلك وزوجته تمسك بيده وهما يخرجان أو يدخلان إلى العمارة، تلك التي شهدت قوته وجبروته زمانا،الآن تشهد ضعفه وهوانه.
وغبت عن الحي لسنوات ،وماعدت أسمع عن أخباره الا ماكان يصلني أحيانا من أهلي ،حيث عرفت أن صحته أخذت في التدهور يوما بعد يوم،حتى فقد القدرة على الحراك،لكني ما كنت لأتصور أن الحال تصل به إلى دار العجزة،بعد الغنى الفاحش والقوة والغطرسة،أراه ذليلا مهانا يرقد على السرير صامتا واجما،وليس أحد معه سوى زوجته المخلصة.
أين بناته؟ سؤال حار في فكري.
أربع بنات عمل على تعليمهن وتدليلهن،وبخل على نفسه وزوجته ولم يبخل عليهن.
كن له الدنيا بأسرها
باع آخرته بتنصله لمذهبه ليضمن لهن المال الذي ضاع كما أتى
كيف هان عليهن أن يدخلنه مأوى للعجزة؟أهكذا يكون رد الجميل؟
ماذا كان يتوقع منهن وهن قد ربين في كنف هذا الوالد، شببن وهن يرينه يغدر بأخوته وأخواته،وهن يسمعنه يحرض زوجته على أبيها وأخوتها ، كان لابد أن يطبقن ما تعلمنه منه ،وقد نجحن في الامتحان
حيث كانت النتيجة قاسية جدا.
نظرت الى وجه محمد وقد ذبل وظهر الألم على قسماته، وجررت قدمي مبتعدة عن غرفته وقد سالت من عيني الدموع رهبة ممن هو بالمرصاد،يمهل ولا يهمل.

 

سحر لبّان
  • مقالات
  • قصص
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط