اطبع هذه الصفحة


عدل الخالق

أ.سحر عبد القادر اللبان

 
مازلنا مع محمّد ومع بناته الأربع، هؤلاء البنات اللاتي لم يرحمن كبر سن أبيهن وضعفه، فأودعنه دارا للعجزة،ليتخلصن من طلباته وضرورة رعايته.
مرّت مدة ليست بالقصيرة مذ شاهدت محمدا في داره التي استقرّ بها، بعيدا عن دفء العائلة، وعن التنعم بالمال الذي قضى عمره في جمعه .
وفي مساء شديد البرودة رنّ هاتفي وكان المتصل أختي، اتصلت لتعلمني بوفاة محمد وتسألني ان كنت أريد الذهاب معهم لأداء واجب العزاء.
انا لله وانا اليه راجعون ، كلمات رددتها وانا اسمع خبره، مسكين هذا الانسان، اسلم روحه بين يدي ممرضات غريبات.
وفي اليوم الثاني ذهبت مع اختي وبعض الاهل لبيت المفقود، دخلت البيت، سكون يلفّ المكان، لا صوت الا صوت تلاوة شجية كانت تنبعث من مسجل مركون في الزاوية..اقتربت من أهل الميت أسلم عليهن واقدم لهن التعازي
تفرست عيناي في الوجوه علني أجد آثار بكاء أو حزن، الا أن عيني عادتا حاسرتين..
يا سبحان الله، كأن هذا الميت لم يكن لهن يوما الأب المحب..
لكن أين ابنته الكبرى وأين زوجته ؟؟؟
سؤال جال في فكري، ما لبثت أختي أن طرحته على احدى الموجودات.التي أفادتنا أن زوجته مريضة فقد ارتفع معها الضغط، ومنذ قليل خرج من عندها الطبيب، اما ابنتها الكبرى فهي قربها لا تفارقها..
جلسنا بعض الوقت صامتات، كنت أقلب النظر في الوجوه التي يظهر عليها كل شيء الا الحزن. بعد ذلك قمنا للانصراف وسلمنا على ابنتيه مرة ثانية، وكان علينا ان ندخل غرفة الزوجة لنسلم عليها وعلى ابنتها الكبرى.
قرعنا الباب وفتحناه ليطل علينا وجه امرأة انهكها البكاء واضناها السهر، انه وجه فاطمة التي ما ان رأتنا حتى هرعت تسلم علينا وتبكي بحرقة.
ضممتها الى صدري قائلة:عظم الله أجركم يا فاطمة...انا لله وانا اليه راجعون...ادعي له بالرحمة والمغفرة بدلا من البكاء والحزن، وكيف أمك؟؟؟؟
فاطمة: الحمد لله، هي الآن أفضل، أعطاها الطبيب منوّما لترتاح.
صمتت فاطمة برهة كأنها تجاهد نفسها الا تتكلم، لمحت في عينيها كلاما كثيرا تتمنى البوح به، في قرارة نفسي تمنيت لو انها تتكلم فتريح نفسها من كتمانه، فتبسّمت في وجهها مشجعة.
فهمت ابتسامتي ، وانطلقت من صدرها آهة تبعتها أخرى.
وبعد لحظة من الصمت خلتها لن تنتهي، سمعت صوتها وهي تقول:
مات هناك...سامحنا الله ،لا أصدق أننا من وضعناه في دار العجزة ، لكن ... لم يكن في اليد حيلة ، فقد كبر وعجز ، وليس لنا طاقة على خدمته
هززت رأسي متفاعلة مع كلامها أحثها على الاستمرار .
فتابعت كلامها قائلة : " كل واحدة منا في شانها ولها من الهموم ما يكفيها، فكيف لنا بخدمته والسهر عليه؟والدتي امرأة عجوز كما ترين، مريضة لا تقوى على رعاية نفسها، فكيف ستقوى على تلبية طلباته؟ لكن ...أنا أعلم أننا قد أقترفنا بحقه وحق أنفسنا أكبر خطأ ،كم أتمنى لو انني استطعت إخراجه وخدمته قبل فوات الأوان، صدقيني حاولت ذلك لكن زوجي لم يرض، حتى أنه منعني من زيارته "
بلعت ريقها ومسحت دموعا بللت وجهها، ثم أكملت:
"سامح الله والدي... هو من سبب بكل هذا..لولا أنه لم يرفض معظم من تقدم لخطبتي زمانا، حينما كنت في صباي وجمالي بحجة أنهم لا يليقون بي، كنت بنظره كأميرة لا تليق بعامة الناس، تقدم إلي الكثيرون ومنيوا بالرفض، كنت أوافقه على رفضه بعد أن زرع في رأسي أنني سأتزوج أفضل رجل، وأنه لا بد آت.. حتى مضى العمر وجاوزت الأربعين، صحيت من غفلتي لأصطدم بواقع مرير..لا أحد عاد يطلب يدي، ولم يفعل؟؟؟فبدأت أشعر بالندم على سني عمري التي أضعتها، وتقدّم وقتها أحمد طالبا الزواج مني، وكان لا بد لي حينها من القبول به ، كل الذي فكرت به هو أن أرزق بولد يكون لي سندا في كبري، فرغبتي في أن أصبح أما كانت تسيطر على تفكيري ، وتقض مضجعي"
سكتت قليلا وكأنها تسترجع الماضي ثم تابعت : " كان أحمد رجلا يصغرني بسبع سنوات ، يطمع بزوجة تملك منزلا ومالا، ضحك علي بكلامه المعسول وشبابه الغضّ، وأوهمني أنّني حلم حياته وأقصى أمنياته، فصدقته وعشت معه أجمل ثلاث سنوات في حياتي، واستطاع بأساليب متعددة امتلاك بيتي، بيتي الذي اشتريته من عملي وجهدي ليكون لي حماية من غدرات الزمان.
لم يشأ الله لنا الخلفة، لم أسمع بطبيب مختص الا وزرته دون فائدة، في بادئ الأمر كان أحمد يظهر لي تفهما وحبا، ويصرح لي أنّ وجودي معه يكفيه ويغنيه عن الدنيا وعن الأولاد، حتى فاجأني ذات يوم
بشابة حامل في شهرها الأخير يدخلها البيت على أنها زوجته ،ويفرضها علي.
لا تتصوري يا أختاه مدى الألم النفسي الذي أقاسيه كل يوم بل كل ساعة، وأنا أراه يدللها ويهتم بها، وأراها في البيت تأمر وتنهي، ولم لا تفعل؟؟؟ فالبيت صار لزوجها الذي أبقاني على ذمته كرما منه وتفضلا..
لذلك لم أهتم بوالدي في مرضه ؟؟؟ يارب سامحني وسامح أخواتي.. فهن غافلات
ارحمنا يا الله، وزل عنا غضبك الذي حلّ بنا..
أختي مريم زوجة الطبيب المعروف صاحب أضخم مستشفى في البقاع، زوجها قبض عليه بتهمة
سرقة أعضاء المرضى وبيعها، وصودرت أمواله، فانتقلت وأولادها من الفيللا التي كانوا يقطنونها الى
غرفة ناطور في مدرسة البلدة.. هي أيضا لم تزر والدها منذ سنوات، انشغلت بمشاكل زوجها،كثيرا ما كنت أقول لها اتركي هذه الغرفة واسكني في بيت أمنا، أخرجي والدي من تلك الدار وقومي برعايتهما، فكانت ترد علي انها لا تحب ان يراها الناس وهي في هذه الحال.
تصوري... لم تحضر ولا أختي فلة جنازة والدي، ولولا الخوف من كلام الناس ما كانت لتكون اليوم موجودة.
أما فلة فمسكينة، لا ألومها...تعرفين انه كانت لها ابنة وحيدة، ماتت قبيل زواجها بأيام، اثر حادث تصادم بينما كانت وخطيبها في طريقهما الى عاليه لقضاء السهرة في أحد المطاعم هناك.
كانت الحادثة جدا مؤلمة على فلة، بالكاد استطاعت تجاوزها...كان الله في عونها.
مسكت يدها اشجعها على الاستمرار واشعرها بتعاطفي معها...
دموعها كانت تقطع كلماتها فتضطر الى التوقف قليلا ثم تستمر..الا ان توقفها هذه المرة طال حتى شعرت ان كلامها انتهى...وماذا عن ليلى ؟؟؟ الاخت الصغرى ذات العينين اللوزيتين والوجه الناعم
لم أرها في الغرفة أثناء العزاء...أترى حل بها الأخرى من المكروه ما حل بأخواتها ؟؟؟
لكن أين هي ؟؟؟
لم أستطع حجم حشريتي فانطلقت الكلمات مني دون ارادة: وليلى ؟؟ أين هي ؟؟؟
بلعت فاطمة ريقها ونظرت في الأرض... لا تريد أن تتكلّم عنها...لم ؟؟؟
احترمت صمتها وسلّمت أمر حشريتي للّه...رفعت نظرها عن الأرض...تلاقت عيوننا
وعاودني الأمل في أنها ستتكلم... وصدق هذه المرة ظني..
قالت: ليلى...انتهى أمرها...ماتت...نعم هي ماتت في نظري ونظر الجميع...من لم تعبأ بشرفها وشرف أسرتها فالموت أحق لها...لا أعرف أين هي ..وما هي أخبارها..آخر مرة سمعت أنها سافرت برحلة مع عشيقها الجديد...الى أين ؟؟ لا يهمني ان اعرف.
بدأت قصتها بعد دخول والدي لدار العجزة، صارت تشعر امي بتغيبها المستمر عن البيت
وكلما كانت تسألها أين كانت او من اين لها كل الذهب والملابس التي كانت تتباهى بها، كانت تتحجج بالعمل، فعملها الجديد كما كانت توهم امي المسكينة كان يتطلب منها السهر لساعات طويلة خارج البيت ومنه كانت تشتري مالذ لها وطاب
الى ان اتى يوم ولم تعد به مساء، اتصلت بنا امي مرعوبة هلعة، أخبرنا الشرطة عنها التي بحثت عنها في كل مكان لنكتشف في النهاية انها في رحلة سياحية مع خليجي ثري، ولنعرف ان المال ما كان الا الثمن لساعات تقضيها مع هذا وذاك.
أعرفت لم هي ميتة بنظرنا؟؟...سامحها الله وهداها..
آه يا أختي وألف آه........
بقيت مع فاطمة بعض الوقت أحاول أن أخفف عنها وطأة الذنب، والحزن على أبيها وحالها وأسرتها.
وما ان خرجت من عندها حتى تنفست الصعداء وشكرت ربي على السلامة.
أخرجت جوالي واتصلت بوالديّ في غربتهما سلمت عليهما وطلبت منها الدعاء والرضا علي.

 

سحر لبّان
  • مقالات
  • قصص
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط