اطبع هذه الصفحة


المرأة التي شيدت الصرح

سارة بنت محمد حسن


حوار خيالي ، بين شابة حديثة الزواج ، وامرأة قد ......شيدت الصرح
"شردت ببصرها طويلا وابتسمت وهي تفكر في إجابة سؤالي الذي طرحته ...
زادني هذا لهفة ....بل ألهب نيران فضولي المستعرة أصلا ..
كأني سألتها عن حياة كاملة ....وكأنها تمر أمام ناظريها بأكملها ...
هزت رأسها وازدادت ابتسامتها اتساعا ثم تحدثت ....فكأن أذنيّ صارتا جهاز تسجيل حساس لكل الأصوات .........
فاسمعوا معي ....
"كنت فتاة متفوقة جدا في دراستي ..جدا ..وكنت أحب العلم وطلبه حبا جما ...أي علم ...والويل كل الويل لأي صفحة مكتوب عليها أي شيء ...مهما كان تافها أو خطأ...كنت أقرأ بل أنهل المكتوب وأنتقد كل كلمة وأفهم كل إشارة ...
ثم تزوجت وأنا بعد في الجامعة ، ورزقت بأول أطفالي وأنا في عامي الأخير وكانت البداية !!
فقد كان حلم حياتي أن أكمل مشوار دراستي وأنال عملا بالجامعة أو على أقل تقدير أستمر في دراساتي العليا...والكل يتنبأ لمن هي مثلي بالاكتساح والتفوق
لكني خذلت الجميع في العام الأخير نظرا لظروف الحمل والولادة والاهتمام بالطفل ...ثم خذلتهم مرة أخرى بعدم إقبالي على الدراسة العليا ..قلت ساعتها عندما يكبر الصغير ..ويقوى الضعيف نعود فنستكمل فإن كل شيء يمكن تأجيله ولكن التربية لا يمكن تأجيلها ...
دائما ما كانت نفسي تراودني بعد أن رزقت الطفل الثاني أن أعمل ، وأكسب مالا من تعبي وجهدي وجدي لأتصدق من مالي ، ويكون لي مالا خاصا فلا أشعر أنني عالة على زوجي خاصة أنني كنت دائما عزيزة النفس عزيزة الطلب ، ليس من السهل أن أطلب حتى من أبي مالا لأشتري شيئا خاصا واستمر هذا الحال مع زوجي أيضا ، وكنت أشعر دائما بالألم والأسف على هذا العلم الذي تحصلت عليه بفضل الله تعالى أن يضيع هباء جلوس البيت لاسيما أن حب العلم لايزال يجري في عروقي مجرى الدم وأن تخصصي العملي هو عين العمل على تحصيل العلوم التي أحبها وأشتهيها ....
ضحكت برقتها المعهودة وأكملت ..
لم تزل نفسي بي حتى دفعتني إلى العمل وشجعني أنه لا يحتاج لخروجي من البيت ، ولأن حب العلم في دمي فقد نسيت نفسي وما حولي كما كنت أفعل دوما ، فقبل ذلك حين كنت اندمج في القراءة أو الكتابة أو أي شيء متعلق بالعلم كان يصيبني صمم غريب فلا أسمع من حولي ولا أنتبه لهم أبدا ، وكان الحال كما هو لم يتغير ، فأصابني العمى والصمم عمن حولي ولم أر إلا عملي ، 6 أشهر كاملة حتى بكى الجميع كمدا وعلت الأصوات بالبكاء فانتبهت وأفقت من غفلتي ...وجلست أبكي معهم على الأشهر الثمينة التي ضاعت في عمل سوى بيتي وأولادي الأعزاء...
ثم تاب الله عليّ فتبت إليه ولبثت مليا ......
ثم عادت نفسي من جديد تراودني للعمل وهذه المرة كنت سأعمل كمعلمة في مدرسة للأطفال ، وراح الشيطان يزين لي الأمر فأطفالي في نفس المدرسة ليكونوا أمام عيني والصغير منهم "ألقيه "في حضانة من تلكم الحضانات المنتشرة بدعوى أن "يتعلم" الحروف ويتعلم القرآن ويكبر قبل الأوان ، وكأني علمي الذي حصلته في حياتي قد آليت على نفسي ألا أعلمه إلا للغرباء وأبناء الغرباء أما أولادي فليس لهم مني نصيب وليتربيهم ويعلمهم الغرباء في الحضانات والمدارس دون رقيب مني ولا متابع!! فخروج يومي كفيل أن يضيع يومي وشهري وعامي أيضا ولا بأس أن يضيع أولادي وبيتي وزوجي وكل شيء في سبيل إثبات الذات وتحسين الامكانيات ومن يضلل الله فما له من هاد، ولكن لله الحمد من قبل ومن بعد عصمني الله من هذا الزلل الأكيد وضياع النفس والبيت بصفة نقص أحمد الله اليوم أنها كانت فيّ ألا وهي الكسل!!
لكن الأمر لم يسلم بعد من الخلل فلم تزل نفسي بي ، يومان في الأسبوع في أحد الدور ، دعوة وأجر واستغلال العلم ، ولم تزل النفس بي حتى عملت معلمة في دار تحفيظ و"ألقيت " الصغار لأمي يومان في الأسبوع لتربيهم عوضا عني ، بل ليربيهم كل من أراد أن يربي من أخ وأخت وجار يومان في الأسبوع ، وأكمل أنا باقي الأسبوع بالضرب والصراخ فالمسؤولية كبيرة كبيرة والوقت قليل ، فيومان قبل النزول أجمع المادة العلمية ويومان أنزل ويومان أستريح ويوم أجلس معهم إن جلست على عجل !! ولكن المسؤولية كانت على أمي الكبيرة عسيرة فاشتكت ، بل ضج الجميع بالشكوى وجأروا إلى الله وكادوا أن يخرجوا غلى الصعدات مستغيثين برب العباد ولكن قبل أن يفعلوها شعرت بالارهاق من التوفيق بين الجميع وقلت في نفسي آمنت بالذي آمنت به ربات البيوت الناصحات من ضرورة القرار في البيوتات لتربية الأولاد كما ينبغي لعى السنة والكتاب!!
آلان وقد أضعت الأشهر والأعوام الثمينات ؟؟!! فاليوم إذ تاب الله عليّ نجوت فيما يستقبل فماذا عما مضى وضاع ؟؟!!
ثم إنني رُزقت بأخت على خير نصحتني في أولادي ولفتت أنظاري فأبصرت بعد العمى ولولا الله لما اهتديت ، فتسائلت لماذا خيري ضائع على الغرباء ؟؟ ويتسول أولادي الخير من الغرباء؟؟  لو كان هذا العلم مالا فأنفقته على الفقراء وحرمت منه فلذات أكبادي فتشردوا وضاعوا هل سأكون عندها عاقلة؟؟ لماذا أوهم نفسي أن أولادي لا يمكن أن يتعلموا مني وأنني لا أستطيع تربيتهم ؟؟ لماذا أكرر وأردد دائما أنهم منضبطون مع المعلمة الغريبة أما معي فلا ؟؟ فربما كان ذلك لأنني لم أطلب علم وفقه تربية الأولاد؟؟ كيف يطاوعني العقل والقلب على إلقاء الصغار للغرباء في زمن الغربة والفتن كل يدلو في عقله بدلوه ؟؟ ترى لماذا نجد في بعض البيوت الأم على دين وعلم والأولاد قد ضلوا في طرقات الجهل والضلال؟؟ ولماذا أبخل على بيتي بالبسمة والسعادة والوقت وأمنحهم للجميع في خارج البيت ؟؟ لماذا تشتاق ابنتي لضمة وقبلة وأذن لها مستمعة وبنات الناس يتمنون لو أنني أمهم !!؟؟ لماذا يحب ابني أصدقائه ويكره البيت وإن مكث معنا اختفى في غرفته ؟؟ طلبنا العلوم العديدة ولم نتعلم فقه الزواج والتربية !!وحصلنا أعلى الشهادات ولكننا لم نحصل على أهم شهادة من أبنائنا... وأزواجنا ....شهادة ..حب!!
فجلست مع أولادي جلسة حب، وفعلت معهم ما كنت أفعل في الدار مع الكبار وكانت دهشتي عظيمة من اقبالهم عليّ يستمعون إليّ ويحفظون ما أقول ويرددون في حبور وكأنهم أرض جدباء ألقيت فيها الماء فشربت حتى ارتوت ثم أنبتت زرع بهيج ، وفي خلال عام حققت معهم ما لم أستطع أن أحقق مع الغرباء وما لم يحققه المعلمون الغرباء مع لحمي ودمي الذي كنت ألقيه لهم باهمال غير مدركة أنه كنز ثمين وباب من الخير مفتوح ليل نهار بلا رياء ولا افتخار!!
ثم أقبل رمضان ، وما أدراك ما رمضان !! شهر العبادة والصيام وقراءة القرآن وكانت عادتي من قبل أن أذهب عند أمي فلا أبرها وألقي لها أولادي لأدخل غرفتي القديمة وأقرأ وأقرأ شاعرة بالرضى كل الرضى عن نفسي ، أو أجلس في بيتي وألقي لأولادي كل ما يشتهون من اللعب فهو وقت ابتزاز مثالي ، فقط لأقرأ وأقرأ وأنا أظن أنني بذلك قد أحسنت صنعا وبلغت من الفقه ما بلغت ، ولكن هذا العام يختلف هذا عام بدأته بالتقرب إلى الأولاد وشعرت بحلاوة الإيمان الحقيقي وأنا أتعبد لله فيهم وأتعجب كيف كنت أهمل ذاك الباب ! فكل صلاة وكل تسبيحة تصدر عنهم في موازيني تصب صبا على قدر مشقتي واخلاصي معهم ، واحترت ماذا أفعل ؟؟؟ أأقبل على عبادتي وأهمل أولادي كما هي عادتي ؟؟ أم ماذا أفعل ؟؟
فذهبت أفعل مثلما كنت أفعل ومر يومي الأول بسلام والحال على ما يرام عدا أن البيت لم يتنظف وأن الطعام لم يَتَنَضَّج وأن أولادي لم يكن لهم في هذا اليوم أُمَّاً!! فقط... لا غير...فهل ثم مشكلة ؟؟!!
وجاء اليوم الثاني فجأروا بالبكاء وهذا يشدني وهذا يعضني وهذا يقول متى ينتهي رمضان !!! عند هذه العبارة أفقت ومن غفلتي انتبهت فقمت مسرعة إلى بيتي وأولادي لأرسم البسمة على الوجوه واحتسبت وقتي وجهدي ، ورغم أن قرائتي القرآن صارت قليلة وخلواتي في الدعاء صارت عسيرة وأما صلاة القيام فقد أخرتها تأخيرا حتى صارت تأخذ من الوقت القليلا ،إلا أنني لم ألبث إلا يسيرا حتى شعرت برزق من الانشراح في الصدر كثيرا وغمرتني الراحة والحبور ورجوت من الله القبول ، فنظرت في ما مضى بأعين دامعة وقد علمت أنني كم أضعت وكم فرطت وكم كنت جاهلة !!
ثم رزقت خلوة إجبارية مع أولادي وزوجي فقط دون سائر الاهل والأحباب ومجالس الأصدقاء وامتدت طويلا ولم أجد شيئا أفعله سوى أن أتفانى في بيتي محتسبة وأحسن التبعل لزوجي المتعجب من حالي المتقلب وأقبلت على الأولاد المساكين الذين لم يكن لهم غيري فعلمتهم أمورا كثيرة ولعبت معهم ألعابا جميلة فشعرت بنشوة في القلب وانشراحا في الصدر وبركة في الوقت فقرأت من القرآن ما قرأت ، وطلبت من العلوم ما طلبت ورغم قلة الكم فقد عظمت بركة الكيف ، فصار الطلب للعمل أقرب من الطلب القديم الذي كان لمجاراة العلماء ومماراة السفهاء ....
حتى جاء ذات يوم خاطر حزين ، قد ضاع عمرك وفنى علمك فلم يستفد به أحد ، ولم تنالي من الشهرة قسطا ولم تستزيدي من العلم والخبرة ، وهاك فلانة وفلانة قد بلغوا من العلوم شأنا وأنت أحق بها وزنا ، وغدا يكبر الأولاد ويتزوجوا ويذهب كل واحد لحاله وتبقي في بيتك بلا أنيس والعلم قد ضاع بلا شهيد !!
واستمر الخاطر لحظات يلح عليّ :" أما من مجلس علم تعلمين فيه ما تعلمتي؟؟ أما من مجلس فقه تستزيدي منه ما بدأتي ؟؟
فابتسمت للحزن بسخرية واستهجان وقلت أعوذ بالله من الشيطان ، ما ضاع عمري ولا فسد علمي بل لقد فقهت تمام الفقه وتعلمت الدرس الحق وإن بيتي وأولادي بي لأحق ، فما أن قلتها حتى خنس الخاطر واختفى وانشرح الصدر واكتفى ...فتعجبت يومئذٍ من إلقاء الشيطان خاطر خير في الظاهر لينال منك ويكتفي بانشغالك بالمفضول عن الفاضل فيرضى بأن يبخسك حظك من الأجر طمعا في إيقاعك بشيء من الوزر ....
ومن يومها يمر عليّ الخاطر داعيا إياي للعمل وطلب العلم في مقابل[1] إهمال تربية أولادي ومتابعة تعليمهم ، فأزجره ، حتى كبر الجميع ووجدت في وقتي خفة وفي قلبي همة فعدت -والعود أحمد- للعمل والطلب الجد والتدريس والمجالس ذات الجهد ، لكن هذا صار بعد أن حصلت فقها لم أعهده من قبل ، فقه العلم للعمل وأزهرت في بيتي وأولادي الأمل ، فأديت رسالتي على أكمل وجه بفضل الله وكرمه سبحانه ،فما أشتهي أن لي الدنيا بما فيها وأنني قدمت حظ نفسي قديما على بنائي ذاك الصرح العظيم ...."
 
 
-------------------------------------
[1] نلاحظ ليست المشكلة في طلب العلم ولا تدريس العلم وليست المشكلة كذلك في عمل المرأة أعمالا لا تخالف الشرع ، بل أشد المشكلات هي ترجيح كفة عن كفة البيت وتربية الأولاد

 

سارة بنت محمد
  • الأسرة
  • وسائل دعوية
  • درر وفوائد وفرائد
  • تربية الطفل المسلم
  • قضايا معاصرة
  • عقيدة
  • رقائق
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط