اطبع هذه الصفحة


المائة يوم الأولى للبابا فرانسيس !

الدكتورة زينب عبدالعزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية


"المائة يوم الأولى للبابا فرانسيس !" عنوان يتنقل منذ بضعة أيام فى وسائل الإعلام الفرنسية بغية التوصل لتقييم مجمل ما قام به البابا فرانسيس فى فترة مثيرة للفضول منذ توليه رئاسة البابوية فى روما. وبدأت هذه الفترة بمقارنات صارخة بل ومبالغ فيها أحيانا لإظهار الفرق أو الإختلاف بينه وبين البابا السابق بنديكت 16 الذى تخلى فجأة عن منصبه ولا يزال يثير التساؤلات.. وبدا الوضع وكأن ساحرة أسطورية قد إحتلت الفاتيكان لتضفى بريقا بعصاتها السحرية على كل شئ. وتسابق الإعلام لإبراز كل كلمة للبابا فرانسيس وكل تحركاته وتصرفاته بصورة مبالغ فيها مع خسف أفعال سابقه. وفجأة، تغيّر الوضع منذ بضعة أيام، وكأنهم إكتشفوا فجأة إستمرارية البابوان و"عظمة" مواقفهما، وكأنهم أرادوا عمدا إضفاء شئ من البريق حيث تضافر الجميع لطمس معالم بنديكت 16.

فى 21 يونيو 2013، يكون يورج ماريا برجوليو، الذى تم إنتخابه بأسرع إجتماع كنسى، قد أتم مائة يوم على رأس الكنيسة الكاثوليكية. وهو حدث قد بدأ بعدة خطوات سبّاقة : فهو أول شخص من أمريكا الجنوبية يترأس الفاتيكان، وأول شخص من أخوية يسوع، وهذه الأخوية تُعد إحدى القنوات الرئيسية لتسلل الماسونية إلى الممرات المقدسة للكرسى الرسولى !

والسنوات الصعبة للبابا بنديكت 16 فى وسائل الإعلام تتناقض جذريا مع الشعبية الفجائية المضفاه على خليفته بصورة لافتة للإنتباه. غير أن نظرة منطقية على الأحداث تكشف أنه إن كان من حيث الشكل، ينم عن بساطة شديدة معلنة : فالبابا فرانسيس يسكن فى فندق شبه متواضع للأساقفة والكنسيين فى الفاتيكان وليس فى بذخ مساكن البابوات، ويأخذ قهوته بيده من آلة القهوة ويتناول طعامه فى المطعم الذاتى الخدمة، ورفض إرتداء الصليب الثقيل المصنوع من الذهب الخالص ليرتدى صليبا أكثر بساطة من الفضة، وتجنب الرداء المزركش والحذاء الأحمر، أو آثر لقب "أسقف روما" على لقب البابا، فذلك يعنى أنه تخلى عن الصفات الرمزية أو الشكلية للسلطة، ويبدو وكأنه قد أنزل "البابا" من على العرش ليضعه وسط الجماهير وفى متناول يدها. إلا أن ذلك قد يعنى، من ناحية أخرى، أنه يرخى اللجام ليتمكن من شده ! وهنا تجدر ملاحظة فيما يتعلق بلقب "البابا" الذى يتجنب إستخدامه، حيث أنه فى هذا المجال الكنسى لا يوجد أى شئ عفوى أو تلقائى : إن هذا الإختيار يكشف بكل تأكيد أنه قام به لتسهيل عملية توحيد الكنائس، إذ أن سيادة بابا روما على كافة البابوات تعد من العقبات الأساسية لتوحيد الكنائس إضافة إلى الإختلافات العقائدية.

وإذا ما تصفحنا سريعا كل أقواله ولقاءاته، لنرى حقيقة هذه الأيام المائة، سنجد عدة موضوعات تبرز وتتكرر بإلحاح : التبشير الجديد أو تنصير العالم ؛ الحوار بين الأديان ؛ توحيد الكنائس ؛ الأقليات المسيحية ؛ المفاهيم الأخلاقية وفقا لكاثوليكية روما. كما أن المجالات التى كانت تنتظر مجيئه أو الميراث الذى تلقاه من البابا الذى سبقه تكشف أنه يتعيّن عليه أن يقوم بفك مركزية السلطة فى الفاتيكان ويعالج الفضائح التى لا سابقة لها فى التاريخ ؛ ويتخطى الإنفصال الحادث بين المجتمع العصرى وكافة أشكال إنفلاته وخاصة العقائد التى لم يعد حتى الأتباع يتقبلونها لعدم معقوليتها ؛ وتسهيل فتح باب الدخول إلى المجال الكنسى نظرا للهبوط الشديد فى أعداد من يقبلون عليه ؛ وإنقاذ عملية توحيد الكنائس رغم الصراعات التاريخية والعقائدية ؛ وتعميق الحوار مع اليهودية رغم كل ما تحتوى عليه النصوص المقدسة ضدهم ؛ وكذلك مع الإسلام الذى يؤدى وجوده إلى الحرج الشديد بكل ما يتضمنه القرآن من إتهامات التعديل والتبديل الثابتة ضد المزورين. وبقول آخر أن البابا فرانسيس وجد نفسه أمام نفس الحقيبة التى كان يحملها سابقه، وإن كان يتعامل معها بشئ من الصخب والبهلوانية.

وإذا ما نظرنا عن قرب لأفعاله وأقواله، نجد أنه فور إنتخابه، كان أول ما فعله هو إرسال خطاب إلى كبير الحاخامات فى روما ! وتلته تشكرات ثم زيارة لشيمون بيريس الذى قام بدوره بدعوة البابا لزيارة إسرائيل ، من أجل تفعيل الحوار مع الفلسطينيين "مع مراعاة إحترام الحقوق الشرعية لكل شعب منهما" !! وذلك بعد أن إستولى الصهاينة على 92 % من أرض فلسطين، فعن أية شرعية سيتحدثون ؟؟ وعندما أراد البابا فرانسيس أن يبدو وكأنه يقوم بتفعيل الحوار مع الإسلام، فور إنتخابه، أصر أولا وقبل أى شئ على العلاقات بين الصهاينة والمسيحيين، كما كان أول إنسان فى الوجود يقوم رسميا بتهنئة شيمون بيريس بعيد مولده التسعين ، الذى يقع فى أغسطس، لكن الإحتفالات به تبدأ من يونيو ..

ويوم الإثنين 27 مايو 2013 إنتقد فرانسيس الأزواج الذين ليس لديهم سوى طفل واحد ، مفضلين الراحة والمتعة المؤقتة، وحثهم على زيادة الإنجاب، مستخدما بدقة نفس العبارات والإختيارات التى كان يستخدمها بنديكت 16 بشئ من الحرص أو التجريد، ليعيدها بعبارات محددة صريحة يمكنها أن تستقر فى ذهن سامعيه.

ويوم السبت 15 يونيو، إستقبل حوالى خمسين من البرلمانيين الفرنسيين، وإستخدم كلمة لا يجوز إستخدامها فحسب لكنها جد كاشفة، إذ حث هؤلاء البرلمانيون الذين تتعلق "مهمتهم التقنية والقانونية إقتراح القوانين والموافقة عليها أو إلغائها" ! وهذه الكلمات المحسوبة بدقة كانت لا تتعلق بالقانون الخاص بالزواج للجميع لكن بكافة القوانين التى تخالف تعاليم الكنيسة، وحث البرلمانيين على إلغائها. وكان البابا يوحنا بولس الثانى أيضا قد سبق وكرر عدة مرات أن الذين يعملون فى المجالات القانونية "يقع عليهم إلتزام الإعتراض"، بما أن ذلك لا يعنى فى نظرهم تدخلا صارخا فى شئون المجتمع والعلمانية التى يتطبقونها بمعايير مختلفة وفقا للأهواء !

وفى إحدى عظاته الأكثر جذرية فى كل ما قاله، أعلن البابا فرانسيس أنه يريد "مسيحيون ثوريون" يقترحون الإنجيل بلا خشية ولا خجل. ففى رأيه، "إن لم يكن المسيحى ثوريا فهو ليس مسيحيا". ولا يقصد بها ثوريا ضد الحكومة ولكن فى طريقة إعلانه عن الإنجيل بلا خوف وبلا خجل. وهى عبارات لها مغزاها بعد كل ما تكشف من فضائح وتحريف على مر القرون. ونفس هذه الكلمات ، الخوف والخجل، سبق للبابا بنديكت 16 أن إستخدمها حرفيا. وها هو فرانسيس يعيدها أيضا عند حضوره إفتتاح المؤتمر الكنسى لأبرشية روما (17ـ19 يونيو 2013) قائلا : "لست خجلا من الإنجيل" ، "مسئولية الأتباع فى التبشير بيسوع"، وكثير غيرها من الشعارات الكاشفة والتى تحث سامعيه "على التفكير فى عملية التبشير فى الأحياء المتواضعة، وفى أماكن العمل، وفى كل مكان يلتقى فيه الناس ويتبادلون العلاقات" ، وطالبهم بالبحث عن التسع وتسعين خروفا، المتعلقة بالخروف الضال فى الأناجيل قائلا : " إخوتى وأخواتى ، لدينا خروف واحد : وينقصنا تسع وتسعين" !! فمن أجل نشر الإنجيل يتعلق الأمر بالذهاب "إلى أقصى الأطراف" ، "إلى الذين لا يعرفون المسيح".. أى أن يذهبوا إلى هؤلاء المسلمين الغلابة الذين سبق للبابا بنديكت 16 وتوعدهم بفرض المسيحية عليهم عن طريق المنظمات السياسية الدولية وحروب يخسرونها وتدك كبريائهم بالإسلام !

وأيا كان الأمر فالطريق ممهد تماما، بدأ من شيطنة الإسلام والمسلمين عن طريق مسرحية الحادى عشر من سبتمبر وكل النصوص والكتب التى تفننت فى إتهامهم، ولا نذكر منها على سبيل المثال سوى كتاب : "الإسترداد أو موت أوروبا"، الذى صدر حديثا وخص الفصل الأخير منه لتوضيح كيفية التصرف ضد أسلمة فرنسا ، أو عناوين سيارة من قبيل : "ما الذى سنفعله بالمسلمين عندما نمنع القرآن ؟"..
وهذا المؤتمر الذى أقيم فى كنيسة سان جان دى لاتران، كان يتعلق بمسئولية كل المسيحيين التبشيرية، وهى أحد قرارات مجمع الفاتيكان الثانى. ثلاثة أيام للتسابق و التفكير فى عملية التبشير. وها نحن حيال ذلك القرار الشهير لمجمع الفاتيكان الثانى ومطالبته بضرورة تنصير العالم، وحيال يوحنا بولس الثانى وبنديكت 16 وخاصة البابا فرانسيس : أنها إستمرارية متواصلة، متزايدة الإيقاع ، وتبدو أنها تتجه بكل قوة إلى الجدار، إلى الكارثة ! فلا يمكن إقتلاع المسلمين من إيمانهم ودينهم، الذى هو الدين الوحيد الذى ظل بلا أى تحريف أو تغيير منذ أنزله المولى عز وجل إلى يومنا هذا. لذلك يسبب الإسلام ذلك الحرج.

وبإختصار، أنها مسيرة واحدة ، مسيرة لنفس المخطط الذى يتم تنفيذه بأساليب متنوعة أو مبتدعة، ومنها ذلك الخطاب الرسولى الذى سيتم الإعلان عنه قريبا، ومكتوب "بأرعة أيدى" على حد قول البابا فرانسيس، (وهى عبارة موسيقية تعنى مقطوعة يعزفها إثنان معا) ، : "إن بنديكت قد سلمنى المخطوطة. وهى وثيقة قوية، وأعلن هنا أننى تسلمت هذا العمل الكبير : هو الذى قام به وأنا الذى أنهيته". ويقال أن فرانسيس قد إكتفى بكتابة المقدمة والخاتمة.

وبعبارات موسيقية ، بما أن بنديكت وفرانسيس من الشغوفين بالموسيقى، يمكننى قول : أننا حيال كونشرتو صاخب، يتسم بنهاية متصاعدة الإيقاع والدوىّ، لكى لا أقول "مأساوية"، فى أكثر من مجال...

20 يونيو 2013
 

Les cents jours de François !


 

الدكتورة زينب
  • مقالات
  • كتب
  • أبحاث علمية
  • Français
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط