اطبع هذه الصفحة


وثيقة فى " زماننا هذا"
وعلاقات الكنيسة بالإسلام

الدكتورة زينب عبدالعزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية

 
عقب المحاضرة الشهيرة التى القاها البابا بنديكت السادس عشر فى راتسبون، والتى سب فيها الإسلام بوضوح وتعمّد ، تم رفع وثيقة المجمع الفاتيكانى الثانى (1965) المعروفة باسم "فى زماننا هذا" وإشهارها كالراية فى مختلف الصحف ، حتى فى الفاتيكان نفسه ، لتهدأة النفوس وإثبات "الإحترام" الذى يكنه الفاتيكان للمسلمين !

وفى واقع الأمر ، إن القليل من الناس هم الذين يعرفون نص هذه الوثيقة ، خاصة الجزء المتعلق بالإسلام. لذلك رأينا أنه من المفيد وضع هذا النص تحت الضوء ، لنراه عن قرب ونوضح للجميع الموقف المزدوج للمسؤلين عن الكنيسة الكاثوليكية الرسولية الرومية ... ويمتد نص الوثيقة فى حد ذاته على أربع صفحات، والبند الثالث المتعلق بالمسلمين ، يتضمن فقرتين من سبعة عشر سطرا، نصها كما يلى :

الديانة الإسلامية :
3 – " إن الكنيسة تنظر أيضا بعين الإعتبار إلى المسلمين الذين يعبدون الإله الواحد ، الحىّ القيوم ، الرحمن القدير ، خالق السماء و الأرض ،الذى تحدث إلى البشر. إنهم يحاولون الخضوع بكل قواهم لقرارات الله ، حتى وإن كانت مخفية ، مثلما خضع إبراهيم لله والذى يتخذه الإيمان الإسلامى طواعية مثلا له. وعلى الرغم من أنهم لا يعترفون بيسوع كإله ، فهم يبجلونه كنبى؛ ويوقرون أمه العذراء ، مريم ، وأحيانا يتوسلون إليها بتضرع. كما أنهم ينتظرون يوم الحساب، الذى سيجازى فيه الله البشر بعد بعثهم ، وهم يقدرون الأخلاق، ويقدمون عبادة ما لله خاصةً بالصلاة، والزكاة والصوم.
"وإذا ما كانت عبر القرون قد اندلع العديد من الخلافات و العداوات بين المسيحيين والمسلمين ، فإن المجمع يهيب بهم جميعا نسيان الماضى وأن يجتهدوا بإخلاص فى محاولة للفهم المتبادل، وأن يقوموا معا بحماية ونشر العدل الإجتماعى، والقيم الأخلاقية، والسلام و الحرية ، من أجل كافة البشر " (صفحة 29).

وما من إنسان يجهل أن مجمع الفاتيكان الثانى يمثل أهم الأحداث قاطبة بالنسبة للكنيسة فى القرن العشرين. فعلى العكس من كافة المجامع السابقة ، التى كان يتم عقدها لتدارس المشكلات الحقيقية التى تمثل أخطارا على نفس الكيان الكنسى ، بما أنها بكلها عبارة عن تهديدات لاهوتية ناجمة من داخل الكنيسة أو من خارجها ، فإن المجمع الفاتيكانى الثانى يعد أول مجمع هجومى فى تاريخ الكنيسة، إذ أنه قرر علنا تنصير العالم بقرار لا رجعة فيه. ومن بين الخمسة عشر وثيقة التى أصدرها المجمع بين 1964 و1965 ، فإن وثيقة "فى زماننا هذا" التى تعنينا هنا قد تم التوقيع عليها فى 28 /10/1965 . والنص النهائى للوثيقة وكل محاضر الجلسات والتعليق عليها موجودة فى الكتاب الصادر عن دار نشر دى سير (du Cerf)، سنة 1966 ، تحت عنوان : مجمع الفاتيكان الثانى وعلاقات الكنيسة مع الديانات غير المسيحية ، وهو يمثل جزءا من المجموعة الكنسية برقم 61 . والكتاب يتكون من 335 صفحة ، ومقسّم إلى ثلاثة أجزاء بخلاف الملحقات. والجزء المتعلق بالإسلام يحتل الصفحات من 200 إلى 236 . وقد قام بصياغته القس روبير كاسبار، أستاذ "علم اللهوت الإسلامى" بالمعهد البابوى للدراسات العربية فى روما ، ومستشار السكرتارية الخاصة بغير المسيحيين. وأثناء انعقاد المؤتمر كان عضوا فى اللجنة الفرعية الخاصى بالإسلام.
وعند قراءة الست وثلاثين صفحة المتعلقة بصياغة النص ، لا يمكن للقارىء الا يشعر بالإشمئزاز والقرف بالنسبة لذلك الموقف المتعنت وغير الأمين لهؤلاء الأباء الأجلاء ، الذين تفننوا فى استبعاد الإسلام كديانة توحيدية ، أتت لتصويب ما تم فى الرسالتين السابقتين من تحريف وإنحراف. و يبدأ الأب كاسبار بتوضيح الجو العام الذى دارت فيه هذه الجلسات ، قائلا: "لا بد لى من الإعتراف أولا بأن الديانات غير المسيحية تحتل مكانة ضئيلة فى اهتمامات هؤلاء الأساقفة والمؤسسات المعنية (...) ، وأساقفة البلدان التى بها الإرساليات يتحدثون كثيرا عن المشكلات التى تصادفهم فى التبشير ، وقليلا ما يذكرون الديانات غير المسيحية كديانات ، ولا شىء تقريبا يقال عن الإسلام . والمرء يدهش من ملاحظة الصمت المطبق للكنائس الشرقية حول هذا الموضوع الذى يواجهونه يوميا " ( صفحات 201 و 202 ). ومن المؤسف رؤية أن التعنت الوحيد لهؤلاء الأباء الأجلاء هو الإهتمام بتدارس كيفية تنصير العالم ، رغم تلك اللافتة المعلنة عاليا والمنادية بحرية العقيدة !
من ناحية أخرى ، لا نرى ضرورة لفتح هامش نوضح فيه الموقف المثير للإشمئزاز لهؤلاء الأباء الأجلاء ، وخاصة موقف الذين يمثلون الكنائس الشرقية ، أى الأقليات المسيحية التى تعيش بين المسلمين ، وعدم أمانتهم تجاه البلدان التى يعيشون فيها ، فالنص شديد الوضوح...

ويبدأ الأب كاسبار بتلخيص مختلف وجهات النظر التى لاحت منذ أولى الحوارات، والتى يلخصها فى نقطتين ، لا بد من أخذهما فى الإعتبار : " أن الإسلام عبارة عن شرّ مطلق لا بد من دحضه ، وخطر بالنسبة للكنيسة لا بد من محاربته. والثانية ، ترى فى الإسلام بصيص من النور لبعض الحقائق والتشابهات مع المسيحية والتى يجب تنميتها "( صفة 202 ) ، ( الخطوط من وضعنا فى النص كله). وأن البطريارك مكسيموس هو الذى أسدى ملاحظة "أنه لا يمكن التحدث عن اليهود دون التحدث عن الديانات الأخرى و خاصة الإسلام" (صفحة 203 ). وهنا تجدر الإشارة إلى أن واحدا من أهم السباب التى دعت إلى إجتماع هذا المجمع هو التنازلات غير المسبوقة التى تمت لليهود أو التى تم فرضها على الكنيسة ، رغم مخالفتها الشديدة للنصوص ، وتدارس كيفية جعل الأتباع يبتلعونها ! وإختصارا ، فإن المحاولات الأولى المتعلقة بالإسلام تم اتخاذها فى دورة 1964 ، لإدخال فقرة حول المسلمين فى نص البيان.
وكان النص المبدئى يتضمن العبارة التالية : " وليسوا غرباء أيضا عن التنزيل الذى تم على الأباء ، أبناء إسماعيل ، الذين يعترفون بإبراهيم كأب لهم ، ويؤمنون بإله إبراهيم". وكانت هناك ملحوظة توضح أن " أبناء إسماعيل " هم المسلمون... إلا أن التصويت على النص الذى كان يتضمن عبارة " أبناء إسماعيل" قد قوبل باعتراض شديد. ويوضح الأب كاسبار ذلك قائلا : " ما الذى حدث ؟ من بحث تعليقات التصويت تبيّن أن النص المقترح، رغم إعتداله ( ليسوا غرباء عن التنزيل الذى تم على الأباء" يمكنه أن يستبق الحكم فى حل مسائل صعبة ومصار جدل شديد، من قبيل الإنتساب التاريخى للعرب لإسماعيل ، وخاصة ربط الإسلام بالتنزيل الإنجيلى " (صفحة 205). وهو ما يؤكد عدم الأمانة المتعمّد.

وبعد مداولات ممتدة ، وإقتراعات وإستبعادات ، يوضح الأب كاسبار أن النص الأصلى المكوّن من بضعة أسطر، والخاص بالمسلمين ، قد تمت زيادته بشكل ملحوظ : " فهو يستخلص الخطوط الرئيسية لعبادة المسلمين ويدعو إلى نسيان خلافات الماضى ، وإلى الحوار والتعاون بين المسيحيين و المسلمين لصالح الإنسانية العام" (صفحة 206). وقد تم التصويت عليه بعدد 1910 موافقون و 189 معترضون.
وفى الجزء الثانى من نصه التفسيرى ، يتحدث الأب كاسبار عن المكانة التى يحتلها الإسلام فى تاريخ الخلاص ، موضحا كيف يقوم البيان بوضع الإسلام بين الديانات الكبرى الأسيوية التى تولدت بعيدا عن المسيحية (...). والبيان لا يقول شيئا حول الوضع الدينى للإسلام بالنسبة للتنزيل اليهودى-المسيحى (...) وقد أوضحنا أن المجمع كان قد استبعد الصياغة الأولى للبيان والتى كانت تشير بشكل طفيف إلى صلة بين " التنزيل الذى تم على الأباء " و الإسلام (صفحة 213 ). وبتفاديه إتخاذ إى موقف حول هذه المسألة ، فإن النص يضع الإسلام فى الصف الأول للديانات التوحيدية غير اليهودية-المسيحية. ويواصل الأب الكريم مضيفا : " من المهم أن نرى جيدا ما الذى يود المجمع أن يقوله ، وما الذى لا يريد قوله و الأسباب التى دعته إلى ذلك " ! (نفس الصفحة السابقة).
وفى الجزء الثانى من النص الذى كتبه الأب كاسبار ، يتحدث فيه عن التوحيد الإسلامى ويقوم بنوع من شرح النص الرسمى ، وكيفية إختيار الكلمات للنص النهائى للوثيقة. ومن المحبط و المثير للإستفزاز أن نرى كيف تم اختيار كل كلمة بريبة و بحرص شديدين ، وكيف تم اختيار أسماء الله – فى تلك الوثيقة، بلؤم ومكر، إذ يقول الأب كاسبار : " وهكذا قام المجمع بوصف إله الإسلام باختيار الملامح الأساسية للإيمان الإسلامى والشبيهة لما هو وارد فى المسيحية. فأسماء أخرى كان يمكن أن تؤكد الخلافات بدلا من التشابهات" (صفحة 219).
وفى مواصلة شرحه هذا ، يلفت الأب كاسبار النظر إلى أن الوثيقة : " تضع إلراهيم لا كجد فى سلسلة نسب العرب المسلمين ، وإنما تضعه كنموذج للإيمان الإسلامى لخضوعه لإرادة الله " (صفحة 221).

وإذا ما قام القارىء باسترجاع نص تلك الوثيقة فيما يتعلق بالمسلمين ، ويمكنه الرجوع إلى الصفحة الأولى من هذا المقال ، سيلحظ النقاط التالية :
• أن كلمة " إسلام " غير واردة بهذا النص.
• أن الكنيسة تنظر أيضا بعين الإعتبار إلى المسلمين ، فلا تشير إليهم على أنهم أتباع الرسالة التوحيدية الثالثة ، وإنما تنظر إليهم فحسب بعين الإعتبار !
• أن الإله الذى يعبده المسلمون " قد تحدث إلى البشر" ، أى أنه لم يتحدث تحديدا إلى سيدنا محمد !
• الإصرار المتعمّد لاستبعاد النسب التاريخى للمسلمين إلى سيدنا إسماعيل . وهنا لا يمكننا إلا أن نتساءل : هل إختفى نص العهد القديم من الوجود، لذلك لم يتمكن هؤلاء الأباء المساكين المجتمعين لصياغة ذلك البيان ، ولا يعرفون تاريخ المسيحية بالنسبة لقرابتها وعلاقتها فى سلسلة النسب مع الإسلام والمسلمين ؟! ومع ذلك فالتاريخ المعاش ، ثابت بكل وضوح فى الوثائق والنصوص !
• أن الإيمان الإسلامى يتخذ سيدنا إبراهيم كنموذج ، يتخذه مثلا طواعية ولا ينتسب إليه ! ومن العار أن نرى مواصلة ذلك التعنت بلا خجل !
• السعى الحثيث لإستبعاد الإسلام من النص الإنجيلى رغم كل الإشارات التى لا تزال فى الكتاب المقدس بعهديه ، حتى بعد كل ما أصابه من تعديلات وتغييرات متعددة ، لكى لا نقول تحريفات ، وهو ما أثبته بجدارة رجل القانون الأمريكى جوزيف هويلس ، فى كتابه المعنون : التحريف فى المسيحية .
• عملية التزوير فى التاريخ و وضع الإسلام بين الديانات الكبرى الأسيوية التى تولدت بعيدا عن المسيحية ! إن المغالطة من الوضوح بحيث ان أى شخص ملم بجزء ولو ضئيل من المعلومات التاريخية سيدرك التحريف.. وإذا كان هؤلاء الأباء البؤساء لا يعرفون الفرق جغرافيا بين آسيا وبلاد العرب و فلسطين ، فما الذى يمكننا أن نتوقعه من أمثالهم ؟ !

من الجارح والمخيّب للآمال أن نرى كل ذلك التصلّب لهؤلاء الآباء الأجلاء ، وإصرارهم على التزوير و تغيير الحقائق التاريخية ، وخاصة الإعتماد على هذا التزوير لإصدار أحكام ، ووضع توجيهات للتصرف أو فرض قرارات بعينها ! و من المفزع أن نراهم يجمعون على قول " إن المسلمين يقدرون الحياة الأخلاقية " ! ولو كان هؤلاء الأجلاء قد سألوا عن المضمون الحقيقى للقرآن فيما يتعلق بالأخلاق ، لأتاهم كرد مفعم رسالة الدكتوراه المكوّنة من 770 صفحة والتى تمت مناقشتها فى السوربون سنة 1952، والتى تقدم بها الدكتور محمد عبدالله دراز، تحت عنوان " الأخلاق فى القرآن ". وذلك ليروا إلى أى مدى الأخلاق لا تمثل فحسب جزءا لا يتجزأ من القرآن ، وانما هى واحدة من أهم دعائمه التى تنظم حياة المسلم فى كافة المجالات ، حتى فى المجال الحربى : حيث لا يحق للمسلم أن يبدأ بالإعتداء ولكن بالرد فقط وبيقدر الإعتداء نفسه . والنصوص موجودة لكل من يود معرفة الحقائق بلا إلتواءات. فمن السخرية أن نطالع مجرد "أن المسلمين يقدرون الأخلاق" !
أما فيما يتعلق "بالخلافات و العداوات " التى اندلعت بين المسيحيين والمسلمين ، فمن الثابت فى وثائق ونصوص المؤرخين المسيحيين أن الإسلام قد تمت محاربته منذ بداية إنتشاره على أنه "هرطقة" من الهرطقات التى كانت ترفض تأليه يسوع. ومنذ أولى الأيام قام الكتّاب المسيحيون بوصف الإسلام بأقذع وأحط الأوصاف. ففى النصف الأول من القرن الثامن قام يوحنا الدمشقى بتشبيه الإسلام بحركة هرطقية شديدة القرب من الأريوسية – والأسقف أريوس كان من الذين يرفضون تأليه يسوع وشلحته الكنيسة. وفى منتصف القرن التالى نطالع فى حوليات تيوفان قوله : "أنه فى عام 622 توفى نبى مزيف من سلالة إسماعيل" (وارد فى كتاب فيليب سيناك : صورة الآخر صفحة 30 ). ونطالع فى صفحة 97 من نفس الكتاب : " ومنذ ذلك الوقت لن يذكر اسم نبى الإسلام إلا مقرونا بالمسيح الدجال. وفى منتصف القرن الثانى عشر ، قال القديس برنار الذى كان يحث على الحرب الصليبية الثانية أن نهاية المسيح الدجال قد إقتربت وان المسلمين الذين يتهددون القدس ليسوا سوى أولياء الظلمات وقد اجتمعوا من أجل نهايتهم المحتومة " . ومن المحزن ، للأسف ، أن نرى القديسين يسقطون فى هاوية التزوير والتحريف للتاريخ . وعلى أى حال فهذا القديس لم يكن وحده هو الذى انجرف إلى هاوية التحريف والتزوير التى تتواصل حتى يومنا هذا بهوسٍِِ أكثر تسلطا !
وهل لنا أن نضيف ما قاله الأب كاسبار فى صفحة 209 ، بعد أن استعرض العداوات والخلافات التبريرية المسيحية ، من " أنه طوال القرنين الماضيين (والنص مكتوب فى سنة 1965 ) قام الغرب المسيحي بالهجوم والإعتداء على البلدان الإسلامية باستعمارها أو بوضعها تحت الحماية (...) والمسيحيون الذين يعيشون وسط المسلمين ، ولو فى تداخل جزئى ، تبيّن أنهم غير قادرين على ادراك ما يكوّن جوهر وعظمة الإسلام ، وهى : التصعيد المطلق لله الواحد. وكان الوضع فى الغرب المسيحى أسوأ . فلمدة قرون طويلة سيكتفى الغرب بنشر أسوأ وأحط الأحكام على الإسلام ونبيه ، دون حتى أن يكلفوا أنفسهم بتبين حقائق ذلك المذهب". ولا جدوى من إضافة هنا أن حتى البابا بنديكت السادس عشر لم يتمكن من إدراك عظمة التصعيد المطلق لله الواحد الأحد فى الإسلام ، و وجد أنه أمر لا يتفق مع العقل والمنطق !!!
وهنا لا يسعنا إلا أن نتساءل لماذا إيقاد كل ذلك الحقد والكراهية ضد الإسلام والمسلمين والإصرار على المحافظة عليها ؟! لماذا ذلك الوجه المزدوج أو التعامل بوجهين، خاصة حينما نقارنها مع التنازلات التى قدمها الفاتيكان لليهود؟! بل وما الذى يمكن قوله عن ذلك الإصرار على اقتلاع الإسلام كديانة توحيدية وبكل تلك الضراوة ؟ و مع ذلك فالتاريخ شديد البساطة والوضوح رغم كل عمليات التحريف تلك.

فإذا ما استبعدنا كافة التفاصيل لنتخطى الزمن لتناول تاريخ رسالة التوحيد فى بضعة كلمات سنجد : أن رسالة التوحيد نزلت على موسى النبى عليه الصلاة والسلام ، ثم عاد اليهود إلى العجل وقتل الأنبياء. فأُنزلت رسالة التوحيد على عيسى النبى عليه الصلاة والسلام موضحا أنه لم يرسل إلا من إجل خراف بيت إسرائيل الضالة (متى 15 : 24). وفى مطلع القرن الرابع ، فى سنة 325 ، قام المتحكمون فى الكنيسة الكاتوليكية بتأليه يسوع ، ثم بعمل عقيدة الثالوث وفرضوها غير عابئين بالنصوص والحقائق التاريخية ، واقعين بذلك فى هاوية الشرك بالله. لذلك تم تبليغ الرسالة لثالث مرة على النبى محمد عليه الصلاة والسلام . وكانت رسالته لا من أجل إرجاع الخراف الضالة فى الرسالتين السابقتين إلى التوحيد فحسب وإنما للعالمين ، ليسيروا على السراط المستقيم الحق وعبادة الله الواحد الأحد. وهو ما نطالعه بوضوح فى نص شهادة الإسلام: " لا إله إلا الله " ، لا أشخاص مؤلهة ولا ثالوث يشرك بالله . وهذا هو ما يؤكد بوضوح التصعيد المطلق لله الواحد الأحد ، الله الذى ليس كمثله شىء.

وعلى عكس ما تقولة وثيقة الفاتيكان الشهيرة حول "أحكام الله المخفية" فى الإسلام ، فإن وضوح الأحكام الإلهية الإسلامية ، التى تم الحفاظ عليها سالمة بدقة وحرص شديدين ، ترجع إلى أنه لا توجد معميات مفروضة بظلمات أيا كانت ، لا يوجد ايمان بألوهية المسيح ، لا يوجد تاريخ تم " توضيبه " وفقا للأهواء بعد تغييره وتحريفه، لا يوجد مسيحا ولا وساطة منسوجة بين الله والبشر ، لا يوجد خلاص على يد أحد وكلها بدع مختلقة ! لا يوجد فى الإسلام أى شىء من هذه الأحاييل الكنسية. لايوجد سوى إختيار واضح بين الخير و الشر ، بين الحلال والحرام ، بين السراط المستقيم وسراط معوجّ ملتوى. أنه اختيار متواصل على كل إنسان أن يقوم به وهو ما يضعه وحده أمام الله، ولا شىء معه سوى أعماله التى قام بها فى الدنيا والتى اختارها طواعية ليجزيه الله فى يوم الحساب. ذلك هو الإسلام.

إن هذا الوضوح البسيط للأحكام الإلهية فى الإسلام ، وهذه النزعة الإنسانية العميقة والعادلة ، هى التى جعلت أنه على مدى إثنى عشرة سنة انتشر الإسلام فيما بين النهرين وفلسطين وسوريا ومصر ، مخلّصا شعوبها من الإضطهاد المتعصب ، بفضل الإسلام والمسلمين, وهو ما يؤكد و يضفى مصداقية واضحة على ظاهرة إنتشار الإسلام، وهى من الظواهرالأكثر وضوحا والأكثر تأثيرا على العالم ، منذ مطلع القرن السابع وحتى يومنا هذا.
وإذا انتقلنا بإيجاز شديد إلى تاريخ النصوص ، ما الذى سنراه وفقا للأبحاث الحديثة خاصة ؟ أن النصوص العبرية قد احترقت مع المعبد قبل الميلاد بخمسة قرون ، ثم قام عزرا بكتابتها من الذاكرة بعد ذلك بقرنين أو ثلاثة ، ولم تنته صياغتها إلا فى القرن العاشر الميلادى ! ونصوص العهد الجديد قد تمت صياغتها فى اواخر القرن الميلادى الثانى ، بأقلام كتبة مجهولون وليست الأسماء التى هى معروفة بها . ثم قام القديس جيروم بصياغتها من بين أكثر من خمسين إنجيلا . والخطاب/المقدمة الذى يوجهه للبابا داماز ، الذى طلب منه القيام بذلك العمل ، لأكبر دليل على التحريف والتلاعب الذى تم فى نصوص العهد الجديد (راجع طبعة البنديكتين سنة 1693 ) ! وعلى أى حال فلم يكن بلا سبب أن تقوم الموسوعة البريطانية بقول أن هناط 150000 خطأ ترجمة وتناقض وعدم توافق فى الأحداث. وقد قام العلماء حديثا برفع هذا الرقم إلى الضعف بفضل الأبحاث التى اجروها. وفى واقع الأمر ، لا توجد أى وثيقة واحدة أصلية لا بلغة عيسى عليه السلام ولا من عهده : كل هذه النصوص عبارة عن نصوص منقولة عن نصوص منقولة ومعاد نقلها . وهو ما يجب أن نضيف عليه إعادة تغيير هذه النصوص والعقائد عبر المجامع ومن طبعة إلى أخرى على مر العصور. وعلى العكس من ذلك ، فمن الثابت والمعروف لدى الجميع ان النص القرآنى هو النص المنزّل الوحيد الذى تم الحفاظ عليه بلا تحريف أو تغيير ولو حرف واحد من حروف ، منذ انزله الله حتى يومنا هذا وسيظل محفوظا إلى يوم الدين ...

وقبل عصر التنوير بكثير ، وفى زمن لم يكن أحد بعد يعرف بما يدور فى كواليس المؤسسة الكنسية ، قام القرآن الكريم بإنكار صَلب يسوع ، وبإنكار تأليه يسوع، وبدحض الثالوث، كما قام بكشف مختلف أنواع التلاعب الذى تم فى النصوص الإنجيلية. وهو ما تم إثباته قطعا طوال القرن العشرين خاصة ، بل ومن قبله .. بحيث ان هذه المعلومات فى الغرب باتت من المعلومات الدارجة التى نطالعها فى الموسوعات والقواميس ، حتى المدرسية منها من أمثال قاموس لاروس الصغير.
 وهذه الحقائق هى فى الواقع التى تثير أحقاد المتحكمين فى المؤسسة الكنسية. ونذكر مما أورده القرآن الكريم على سبيل المثال :
• وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفى شكٍ منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظّن وما قتلوه يقينا ( النساء / 157)
• ياأهل الكتاب لا تغلوا فى دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فأمنوا بالله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد ... (النساء/171)
• ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون (البقرة 42)
• فبدّل الذين ظلموا قولا غير الذى قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون (البقرة / 59 )
• أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون (البقرة / 75 )
ومن الملاحظ طوال النص القرآنى ان عيسى عليه السلام يطلق عليه : "عيسى بن مريم " لستبعادا لتلك الهرطقة التى تقول أنه "إبن الله" أو "ألله نفسه" !
وهنا لا يمكننا إلا أن نتساءل بكل مرارة : ألم تكف الفا عام من التاريخ المدرج بالدماء والحروب الضارية التى قادتها هذه المؤسسة الفاتيكانية لتفرض نفسها بكل ذلك الطغيان ، لكى تفهم أنها ليست على الطريق المستقيم ؟! وبدلا من مواصلة قلفطة التحريف والتزوير والغش لتبشير الشعوب ، لتنصير الشعوب ، خاصة بعد كل تلك الأبحاث الجديدة الجادة والتى عرضنا منها تلك الشذرات الواردة بهذا المقال ، أليس أكثر إنسانية وأكثر منطقية أن تترك الناس فى حالها وأن تكرس جهودها لاستبعاد كل تلك الآلام التى تغص بها الأرض ، وكل هذه الأوبئة ، والمجاعات ، والأمراض ، وكل هذه الكوارث الطبيعية أو المفتعلة ، التى تتهدد الحياة على الكرة الأرضية بكلها ، دون الإصرار الأعمى على تنصير الشعوب ؟! إن مليارات الدولارات التى تنفق هباء وبعته لتنصير العالم سوف تعاون بلا شك على النخفيف أو تحسين ذلك المصير المأساوى الذى ينتظرنا جميعا ..
وفى النهاية ، لا يسعنا إلا العودة إلى تلك الجملة البذيئة والظالمة ، لكنها جدّ كاشفة ، والتى تصف الإسلام " بأنه عبارة عن خطأ مطلق لا بد من دحضه ، وخطر بالنسبة للكنيسة لا بد من محاربته " ، لنسأل تلك المؤسسة الفاتيكانية ، بكل صدق وموضوعية ، أى الديانتين يعد خطأ مطلق بالنسبة للدنيا : تلك المسيحية الفاتيكانية المتعنتة ، المتصلبة الرأى ، والتى تم اختلاقها تلفيقا عبر المجامع على مر العصور ، أم الإسلام ، الذى لم يهن عليكم حتى ذكر أو كتابة اسمه فى تلك الوثيقة ، والذى لم تكفّوا عن محاربته بضراوة وعدم أمانة لا مثيل لهما ؟!
 

 الدكتورة زينب
  • مقالات
  • كتب
  • أبحاث علمية
  • Français
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط