اطبع هذه الصفحة


"مُمَجّدٌ أنت"
خطاب رسولى تبشيرى

أ. د. زينب عبد العزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية


في الثامن عشر من شهر يونيو 2015 أصدر البابا فرنسيس خطابا رسوليا جديدا بعنوان "ممجّد أنت" ، حول الإحتباس الحرارى فرضا، لكنه فى واقع الأمر خطاب تبشيرى تنصيرى شديد الوضوح. وقبل أن أتناوله بشئ من التفصيل، من المهم توضيح أنه يوم 28 إبريل 2015 ، أقيم فى الفاتيكان مؤتمر من أجل "حماية الأرض وإعلاء شأن الإنسانية". وكان الهدف منه زيادة النقاش حول الأبعاد الأخلاقية لحماية البيئة ومن أجل إقامة "حركة عالمية من كل الأديان، تتعلق بالتنمية المستدامة وتغيّر المناخ"، وذلك بحضور بان كى مون ، رئيس هيئة الأمم. والتبعية السياسية واضحة منذ خطواتها الأولى. كما يبدو منذ البداية أن الفاتيكان يهدف إلى هيكلة السلطات السياسية والإقتصادية فى العالم من أجل خلق حكومة عالمية مركزية، فى الإجتماع القادم الذى سيتم فى فرنسا فى شهر ديسمبر القادم (COP21) .
ومن المهم أيضا توضيح ، منذ البداية، أن خبير البيئة الألمانى هانز جواكيم شلنوبرت، الذى تم تعيينه حديثا فى الأكاديمية البابوية للعلوم، بدرجة مستشار رئيسى، هو من أنصار تقليل عدد السكان على الأرض، من سبعة مليارات إلى مليار واحد ، كما أنه عضو "نادى روما" الذى يجاهد من أجل تقليل عدد سكان العالم.

هدف هذا الخطاب الرسولى :

إن الكاردينال توركصون ، الذى عاون فى صياغة هذا الخطاب الرسولى، كان قد نشر فى أكتوبر 2011 وثيقة بعنوان "نحو إصلاح النظم المالية والإقتصادية العالمية فى إطار سلطة مدنية عامة". ولا نفهم أى معنى لتدخل مثل هذا الكاردينال الدينى فى مجال الأنظمة المالية والإقتصادية ؟ وهذا الجانب المالى الإقتصادى يمثل الشق الأول من الموضوع. أما البابا السابق بنديكت 16 فكان قد طالب فى خطابه الرسولى المعنون "حقيقة الإحسان"، بإقامة "سلطة سياسية عالمية". وهو ما يمثل الشق الثانى من الموضوع. ويتواصل الخطاب تصاعديا عبر بابوات ما بعد مجمع الفاتيكان الثانى ، تحت غطاء عملية التنصير الواضحة..
إن كل شئ فى هذا الموضوع ، موضوع البيئة والإحتباس االحرارى، قد تم حسبانه ولم يتم ترك اى شئ للصدفة ، مثلما حدث فى محاضرة راتسبون الشهيرة والإستشهاهد المقحم المتعمد الإساءة إلى الإسلام، الذى إستشهد به بنديكت 16 ليخدم أهداف جورج بوش الإبن، الذى كان يبحث عن توحيد العالم المسيحى لإقتلاع "محور الشر" ، الذى هو الإسلام ، على حد وصف مجلس الكنائس العالمى فى يناير 2001 ، وهو يسند مهمة إقتلاع الإسلام إلى الولايات المتحدة ، الباحثة عن الإستيلاء على منابع البترول، بعد أن فشل ذلك المجلس الكنسى فى تنصير العالم عشية الألفية الثالثة ، أى فى عقد التسعينات ، وفقا لما كان قد حدده مجمع الفاتيكان الثانى (1962ـ1965)..

وسواء أكان "محور الشر" أو أى مسمى آخر للإسلام ، فإن الكنيسة كانت دائما تفرض على أتباعها فكرة "أن الإسلام دين مزيف أتى به النبى المزيف المدعو "ماأوميه" (تحريفا لإسمه الكريم). وإن أتباعه اسمهم "مسلمون" ويتبعون كتاب اسمه القرآن. وأن المسلمين يرفضون الثالوث وألوهية المسيح. ووفقا للتعاليم الكاثوليكية، فإن الإسلام هو رجسٌ وطائفة شيطانية نابعة من الشيطان. أما البابا آوجين الرابع فقد قال فى مجمع مدينة بال سنة 1434 : " بما أنه يجب علينا أن نأمل ... فسوف يأتى يوم يدخل فيه معظم أفراد تلك الطائفة الكافرة ، البغيضة، التابعة لمحمد فى المسيحية ". أما البابا كاليكست الثالث فقد قال فى عام 1455 : "أتعهد بأن أرفع شأن الإيمان الحقيقى وأن أنتزع من الشرق تلك الطائفة الشيطانية ، الإسلام، التابعة للكافر المنبوذ ماأوميه" (راجع كتاب المجامع المسكونية).
لذلك يقول البابا فرنسيس فى خطابه الرسولى : "نظرا لهشاشة السلطات المحلية فإن الإتفاقيات الدولية تبدو ملحّة، وأن يتم الإلتزام بها لكى تتدخل بصورة فعالة (...) إذ ينقص كوادر منظّمة عامة يمكنها فرض القرارات الإجابية" (فقرة 173). ثم استشهد بالبابا بنديكت 16 حين قال : "من الضرورة الملحّة إقامة سلطة سياسية عالمية مثل تلك التى أشار إليها البابا السابق يوحنا 23" (175). ويواصل البابا فرنسيس قائلا : "إن الإنسانية بحاجة إلى تغيير" (202) ؛ و"هناك مجهود للتأثير على الشعوب يقع على السياسة وعلى مختلف الجمعيات. كما يقع على الكنيسة أيصا. إن كافة الجماعات المسيحية يقع عليها دور مهم تقوم به فى هذا المجال" (214). وهى دعوة صريحة لتطبيق النظام العالمى الجديد.

السياسة الحربية للولايات المتحدة :

لقد قام البابا فرنسيس بالإشارة إلى مختلف أنواع الخسائر المناخية والبيئية التى تعرضت لها الكرة الأرضية من جراء الإستهلاك المنفلت كما يقول، بالتفصيل الشديد. ومن الغريب أن نراه يصمت صمت القبور حيال كافة الكوارث التى تسببت فيها السياسة الحربية الأمريكية وحلفائها ! فكيف يمكن لذلك البابا الذى يطمح فى أن يكون المدافع الأول عن البيئة ، ولا يتهم ولو بكلمة واحدة الولايات المتحدة الأمريكية التى كانت تحارب طوال 222 عاما من ال 239 عاما التى هى تمثل كل عمرها ؟! لقد كانت هذه الولايات المتحدة فى حالة حرب بنسبة 93 % من عمرها منذ أن تم إنشاؤها سنة 1776 (راجع infoswars.com). فلم تظل ولو لمدة عقد واحد متواصل دون أن تكون فى حرب أشعلتها. وكل العمليات العسكرية التى تم إطلاقها منذ الحرب العالمية الثانية شنتها الولايات المتحدة الأمريكية. وكل تلك الأسلحة الكيماوية والبكتريولوجية والبيولوجية وسواريخ دايم، وغيرها كثير، التى تتسبب فى أضرار بالغة بالبيئة وبالمادة الحية . لم يقل عنها أى شئ. إن الإنفاق الحربى لتلك الولايات المتحدة يتعدى بكثير كل ما تنفقه دول العالم مجتمعة. وهذه الملايين من مليارات الدولارات التى أدت إلى الإضرار البالغ بالبيئة خاصة فى البلدان الإسلامية التى نقلت إليها الحروب التى إبتدعتها، لماذا لم يذكرها البابا المحب للبيئة ؟ كل هذه الأموال الطائلة التى تم إستخدامها للإضرار بالبيئة ألم يكن من الأجدى إستخدامها لمحو الفقر الذى يتشدق به ويذكره 63 مرة فى خطابه الرسولى ؟!
كما لم يُصدر أى إتهام ضد النهم المدمر الذى يقوم به علماؤهم من أجل السيطرة على الظواهر الطبيعية ، وبناء شبكة للسيطرة العالمية مكونة من مجموعات متنوعة من التلاعب بالذرات المناخية وإختلاق طبقاط تخفى تجارب معينة، وموجات قصار، وإختلاق الأمطار أو تسحر مساحات شاسعة ، وتلك الخطوط الكيماوية التى تجوب سماء مختلف البلدان النامية (الكمتريل)، وكلها عمليات سرية تحكّمية بالبيئة من أجل السيطرة على الظواهر الطبيعية وإستخدامها كسلاح للسيطرة على بلدان أخرى ! ويصمت البابا ولا يدينها ..
وما من إنسان يجهل إلى أى مدى أدت هذه السياسة الحربية الأمريكية إلى تكوين الإرهاب ولا لأى درجة بات الغرب العنصرى الخاضع لها مسئولا معها عن إختلاق منظمة داعش ، ورغمها فالإسلام هو المتهم دوما. وعلى العكس من ذلك ، هناك دراسة مقلقة ، إنتقدها البعض ، تعلن عن : "الموجة السادسة للإقتلاع الكمّى (...) تفيد بأن البشر سيكونون ضمن تلك الأنواع التى ستختفى" ، وهى دراسة تواكب إعلان هذا الخطاب الرسولى، وكأنها تسانده، إذ تتناثر فكرتها طوال هذا الخطاب.
لقد تناول البابا بتفاصيل ممجوجة متباكية إنتقاد كل ما تعانى منه الكرة الأرضية من جراء الإستهلاك المتزايد، أما إنعكاس تلك الحروب المدمرة على البيئة فلم يشر إليها إجمالا إلا فى الفقرة 57 ، عديمة اللون والتأثير ! فمن كل المذابح التى قام بها الغرب المسيحى المتعصب طوال ألفى عام تقريبا ، سواء لإقتلاع الإسلام أو السكان الصليين من الأمريكتين ، فلم يشر أو يتأسف إلا على "ملايين الأشخاص" الذين أبادهم النازى (104)، إشارة إلى اليهود ، دون أن يذكر العدد المبالغ فيه للستة ملايين والذى بدأ بمليون ونصف..

خطاب رسولى تبشيرى أساسا :

إن الموضوع الأساسى لهذا الخطاب هو التبشير. فالتبشير يتواصل طوال الخطاب إعتمادا على أهم العقائد التى اقامتها الكنيسة عبر المجامع وترسيخا لها وأفرد لها فصولا باسرها ، وهى : تأليه يسوع ؛ الثالوث ؛ الإفخارستيا ؛ مريم ، التى لم تقل عنها الأناجيل شيئا تقريبا ، ولم يذكرها بولس أبدا ، ولا يؤمن بها البروتستانت ، ورغمها جعل منها "مليكة كل المخلوقات" ؛ وكذلك يوسف النجار ، القابع فى ركن الأناجيل، تحول إلى حامى وحارس الكنيسة العالمية !
أما الحوار ، وهى كلمة أساسية فى المجال الكنسى بعد مجمع الفاتيكان الثانى ، فهى تتناثر عبر الخطاب اكثر من عشرين مرة وتصبح أداة عمل فى الفصل الخامس. ومنذ البداية تبدأ الوثيقة بالتبشير ، وتدعو إلى إتخاذ طريق الإرتداد ، بمصاحبة كبار المبشرين ، بدأ بفرنسيس الأسيزى وصولا إلى النقاط التى تناولها البابا بنديكت 16 ليؤكد أن الكنيسة الكاثوليكية تمثل قمة " الدمج بين العقل والإيمان" (63) ، ويا لها من فرية !
وفيما يلى بعض الإستشهادات ذات المغزى الواضح : "إن عاقبة مسيرة الكون (...) التى تم التوصل إليها بقيامة يسوع ، تمثل محور نضج العالم" (83) ؛ "لكى نفهم الإدراك المسيحى للوواقع، فإن مصير كل الخليقة يمر بعملية صلب المسيح" (99) ؛ "الإفخارستيا ، فعل الحب هذا ، ستقام على مذبح العالم (...) ذلك العالم الذى أعطاه الله لنا" (236). أما قمة ذلك التبشير فتتجلى فى هذه الخلاصة : الحصول باسم الدين على تجنيد مليار ومائتا مليون كاثوليكى لإنقاص تعداد السكان.

أسلوب ذلك الخطاب الرسولى :

يتكون الخطاب من 192 صفحة ، وستة فصول ، و246 فقرة ، كما أنه مزخرف بعدد 172 إستشهاد دقيق التوثيق ، وكلها مأخوذة من نصوص كنسية ، فيما عدا إثنان : أحدهما متعلق بأحد المتصوفين ، مذكور حشرا فى أحد الهوامش ، والآخر ، دون أن يذكر إسم صاحبه، وإن كان هذا الإستشهاد بمثابة العبارة الأساسية أو المتألقة عبر كل الخطاب ، وهذا يؤخذ على أمانته العلمية. فهى عبارة جميلة المعنى الإنسانى ، مأخوذة عن جورباتشوف : "بيتنا المشترك" ، وقد أشار إلى ذلك الكاتب الفرنسى إدجار موران ، تعليقا على الخطاب فى جريدة لاكروا بتاريخ 21/6/2015 ! وعلى أى حال فهى ليست العبارة أو الفكرة الوحيدة المأخوذة دون ذكر مرجعها ، فما أكثر ما نقله عن الإسلام وقيمه الإنسانية ، ولا أشير منها إلا إلى التصعيد لعظمة الله عز وجل ، فلإسلام هو الدين الوحيد الذى يؤمن فعلا ويصر على تأكيد فكرة التصعيد المطلق لله ، فألصق هذا الإيمان بالمسيحية..
ويجاهد البابا فرنسيس للحصول على أرضية مشتركة مع من يطلق عليهم "غير المؤمنين" ، والديانات الأخرى ، بغية التوصل إلى إتفاقيات تسمح بتنفيذ هذا المشروع. فمنذ الفقرة الثالثة يقول البابا : "أزعم الدخول خاصة فى حوار مع الجميع بشأن بيتنا المشترك (...) ومع كل إنسان يقطن هذه الرض". ورغمها ، فعندما ينوى الإنسان ، لكى لا أقول عندما يزعم مخاطبة كل شخص يسكن هذه الأرض ، فلا يستعين لا بالعنصرية ولا بالتعالى كوسيلة للتعبير أو كأداة من أدوات الحوار !
وهناك بعض المتناقات : يقول البابا فرنسيس فى الفقرة 13 أن "الخالق لا يندم على أنه خلقنا" ، وذلك عكس ما يقوله سفر التكوين الذى يذكره صحيحا فى الفقرة 71 : "فحزن الرب أنه عمل الإنسان فى الأرض وتأسف فى قلبه" (6:6). وفى الفقرة 76 يتحدث فرنسيس عن "أب خالق متفرد للعالم" ويقصد به يسوع. وذلك يتناقض مع عقيدة الطبيعة المزدوجة ليسوع التى فرضتها الكنيسة.
وحينما يوجه البابا خطابه الرسولى "للجميع" ، لكل من هم غير الكاثوليك ، فعليه أن يتصف بأدب الحوار والتواضع. فيكفى أن نطالع عبارات من قبيل : "نحن المؤمنون" (64)، "نحن المسيحيون" أو "ذلك العالم الذى منحنا الله إياه" (242)، و"أن نتولى مهام ذلك البيت الذى منحنا إياه" أو "إننا نتّحد لنتولى هذه المهمة التى أسندها إلينا" (244) ، ويقصد توحيد الكنائس المختلفة ، فلا يملك المرء إلا الإبتعاد عن عنصرية واضحة وأنانية مفرطة.
أما الخاتمة، فهى مخجلة ، ليس فقط فى حق كاتبها ، لكنها تنفّر كل من هو على دراية بتاريخ العالم وتاريخ الأديان. إذ يقول البابا فرنسيس : "نحن نتجه نحو سبت الخلود (Sabbat) ، نحو القدس الجديدة السماوية" (243). وعبارة يوم السبت هذه تشير إلى سبت اليهود وعيدهم، وذلك يعنى أننا لا نتجه نحو تنصير العالم وفقا لما قرره مجمع الفاتيكان الثانى ، وإنما الكنيسة هى التى ستتهوّد !!
كلمة أخيرة أقولهها للبابا فرنسيس : إن كل تلك الحروب الصليبسة المختلفة التى قادتها الكنيسة بإسم يسوع لن تتمكّن من إقتلاع الإسلام الذى وعدنا الله بحفظه إلى يوم الدين. وأيا كانت توجهات ذلك الخطاب الرسولى الذى يزعم الإهتمام بالبيئة ، فليست المرة الأولى أن يتم فيها إلقاء عباءة دينية لتغطية عرىّ المصالح الإقتصادية والسياسية لغرب شديد العنصرية ، أو أن تتحول حملة لصوصية إلى عمل بطولى !
والأمر برمته مرفوع إلى الأزهر وإلى كافة المؤسسات الإسلامية فى مصر وفى العالم علّهم يتداركون الأمر قبل أن ينساقوا الى التوقيع.

 زينب عبد العزيز 27/6/2015

 

LAUDATO SI Une Encyclique multi faces



 

الدكتورة زينب
  • مقالات
  • كتب
  • أبحاث علمية
  • Français
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط