اطبع هذه الصفحة


الجذور المخفية لأوربا ..

الدكتورة زينب عبدالعزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية

 
 فى يوم السبت الموافق 24 مارس 2007 ، ألقى البابا بنديكت السادس عشر خطابا حاسما ومقلقا ، حول الإتحاد الأوربى ، بمناسبة مرور خمسين عاما على توقيع اتفاقيات روما. وهو خطاب أوضح فيه رغبته الصارمة فى أن يتم ذكر الجذور المسيحية لأوربا فى نص الدستور الجديد.

وقد بدأ البابا بتحديد أنه خلال الخمسين عاما الماضية ، اجتازت القارة الأوربية مسيرة طويلة أدت إلى المصالحة بين رئتى المسيحية ، الشرقية والغربية ، " المتحدتان بتاريخ مشترك وإن كانا قد افترقا تعسفيا بسبب ستار من الظلم "..

وقد اتهم أوربا بتناسى هويتها التى صاغتها المسيحية ، وبأنها تقترف نوعا من " الإرتداد" ، وهى عبارة جد قاسية من جانب البابا ، " ارتداد عن الذات ، أكثر منه ارتداد فى حق الله " ، ثم انساق فى سرد عدد من التحذيرات الكاشفة ، مشيرا إلى : التناقص الديمغرافى ؛ وإلى اتجاه أوربا إلى طريق لن يؤدى بها إلا إلى الإختفاء من التاريخ ؛ وإن نفس وسيلة صياغة هذا الإتحاد لم يعد الجميع يرغبونها ؛ وأن فصول المشروع الأوربى قد صيغت دون أخذ تطلعات المواطنين فى الإعتبار ؛ وأن البيت الأوربى لا يمكن أن يُبنى إذا ما تم نسيان هوية القارة ؛ مشيرا إلى أن الهوية تاريخية وأخلاقية قبل أن تكون جغرافية واقتصادية أو سياسية ؛ وأن هويتها مكونة من مجموعة من القيم العالمية التى ساهمت المسيحية فى صياغتها ، مكتسبة بذلك دورا تاريخيا ومؤسسا فى المناقشات الخاصة بأوربا . وأن هذه القيم ، التى تكوّن روح القارة ، يجب ان تظل فى أوربا فى الألفية الثالثة ؛ ثم انتقد البراجماتية التى أدت إلى سلب المسيحيين حقهم فى الإشتراك كمسيحيين فى المناقشات العامة ؛ مصرّا على إنقاذ حق الإعتراض الدينى ، فى الساحة الأوربية ، كل مرة يتم فيها خرق الحقوق الإنسانية الأساسية ؛ وانتهى بالتحذير من ان تتحول إلى عقلية محاصَرة أو أن تصبح أقلية !!
أى بقول آخر : إن أوربا بإنكارها هويتها المسيحية تقترف خطيئة مميتة . ومن ناحية أخرى نرى مزيدا من الوسائل لمحاصرة وجود الإسلام والمسلمين فى أوربا .

وقد أعقب هذا الخطاب : رسالة إلى برلين ، يوضح فيها الأساقفة طلبهم تحديدا فى أن تتم إشارة واضحة للميراث المسيحى فى القارة الأوربية ، " لأن الكنيسة الكاثوليكية يجب عليها أن توالى التكوين الأوربى بصورة انتقادية أحيانا " . كما أرسل الأسقف دومنيك ممبارتى رسالة يتهم فيها البرلمان الأوربى " بتوجيه هجوم متكرر على الكنيسة " . و نفس النبرة نطالعها فيما قاله رومانو برودى ، الذى أعرب عن أسفه شخصيا لغياب الإشارة إلى المرجعية المسيحية الأوربية ، موضحا : " أن أكثر ما يشغلنى فى الدفاع الصافى و الهادىء عن قيمنا ، هو عقلية الشعور بالمحاصرة وأن نصبح أقلية مثلما أراها أيضا فى العالم المسيحى " ! ومن جانبها ، وعدت أنجيلا ميركل ، وهى إبنة قس بروتستانتى ، بفتح باب النقاش حول هذا الموضوع لكى يتم ذكر الجذور المسيحية لأوربا فى الدستور الجديد ، - وهو ما كانت فرنسا وهولندا قد رفضتاه من قبل .

ولسنا بحاجة لعمل شرح نصوص لنرى مدى تلك الرغبة الصلدة ، المشتركة ، لكى يتم فرض الإشارة إلى الهوية المسيحية واستبعاد إسهام الإسلام . ولسنا بحاجة إلى تفاسير لرؤية إلى أى مدى تبعد كل هذه المعطيات المساقة عن الحقيقة التاريخية ، أو لوضع هذا الخطاب ضمن مجمل تلك النصوص و المواقف التى يقوم من خلالها البابا بنديكت السادس عشر ، مثله مثل سابقه ، فى الإصرار على إقتلاع الإسلام والمسلمين من أوربا ! وهو ما يمثّل تطبيقا لقرارات مجمع الفاتيكان الثانى (1965) ، الذى فرض قرار تنصير العالم ، وهو قرار لا رجعة فيه !
ومع الإحترام الواجب للمعلومات اللاهوتية و الثقافية للبابا ، أو للوظيفة التى يشغلها ، فإننى أسمح لنفسى ، كمسلمة وأستاذة للحضارة الفرنسية ، بأن أقول أنه يقترف خطأ تاريخيا وعلميا ودينيا. لأن أوربا ، أو بالأحرى الغرب برمته ، قد شيد لا على الإسهامات التى لا يمكن إنكارها للإسلام فحسب ، وإنما أيضا على اسهامات متعددة لثقافات أخرى .

أنه لأمر معترف به بوضوح ، من كل الذين يتمسكون بالأمانة العلمية التاريخية ، بأن تراث المسلمين قد ساهم بعمق فى بزوغ كل من أوربا والغرب . وأنه بفضل المفكرين العرب قد عرفت أوربا مذهب العقلانية الذى كرس له البابا خطابه فى جامعة راتسبون . وهى المحاضرة التى ذكّر فيها مستمعيه بهويتهم المسيحية ، منتقلا مباشرة إلى التراث العقلانى اليونانى ، ليعلن أن الهوية الأوربية مسيحية من حيث الإيمان ، ويونانية من حيث الفكر الفلسفى ، دون أن ينسى تحديد أن الإسلام ، الذى يجهل العقل والمنطق ، فى نظره ، غريب على الهوية الأوربية ! ترى ، هل من ضرورة لكى نذكر قداسته بأن أول كلمة أُنزلت فى القرآن هى صيغة فعل الأمر لإقرأ ؟! إن الإسلام يحث على القراءة وعلى الدراسة وعلى المعرفة ، ولا يدفع أبدا إلى الظلامات ...

ولا يمكن عدم رؤية رسالة مقلقة وخطرة فى كل هذه النصوص والمواقف ، رسالة تمس تناول التاريخ كما تمس التعريف بالهوية الأوربية . أن نفس اختيار العبارات لشديد الكشف عن نيّة مستعدة لأى شىء ، لكى تفرض نفسها ، ومستعدة لأى شىء ، لإستبعاد الإسلام من التراث الأوربى !

وقد يكون من المفيد من الناحية التاريخية ان نستشهد بالمؤرخ دوزى ، الذى كتب فى "تاريخ مسلمى اسبانيا " عام 1860 ، وصفا شديد العمق للأحداث :
" إن الفتح العربى كان خيرا بالنسبة لإسبانيا : فقد أحدث ثورة اجتماعية هائلة ، وأباد جزءا كبيرا من الآلام التى كانت البلاد ترضخ تحتها منذ قرون (...) إن العرب كانوا يحكمون وفقا للأسلوب التالى : تم تقليل الضرائب تماما بالنسبة لما كانت عليه فى الحكومات السابقة . وقد انتزع العرب الأراضى من الأغنياء ( الذين كانوا قسموها إلى إقطاعيات ضخمة للفرسان ، وكان يزرعها عبيد من الفلاحين أو من العبيد المسخرين ) وقاموا بتقسيمها بالتساوى على من يعملون فى الأرض. وبذلك حصل الملاك الجدد على محاصيل أوفر من زراعاتهم. وتم تحرير التجارة من القيود الثقيلة التى كانت مفروضة و ترهقها ، وتطورت بشكل ملحوظ . إذ ان القرآن يسمح للعبيد بأن يشتروا حريتهم مقابل تعويض عادل ، وهو ما سمح بوجود طاقات جديدة . وكل هذه الإجراءات أدت إلى وجود حالة من الرضا العام والتى كانت سببا فى الإستقبال الترحيبى الذى تم به قبول العرب فى بداية سيادتهم ". (المجلد الثانى صفحة 43 ).

وقد يكون من المفيد أن نضيف استشهاد آخر للكاتب الإسبانى الكبير بلاسكو إيبانز (1867-1928 ) ، الذى يكتب شهادة عن بلده :
" إن الإحياء فى اسبانيا لم يأت من الشمال ، مع شراذمة البرابرة ، وإنما أتى من الجنوب مع الفتح العربى (...) لقد كانت حملة حضارية أكثر منها حملة عسكرية (...) . ومن هنا دخل فى بلادنا تلك الثقافة الشابة ، القوية ، النشطة ، ذات التقدم المذهل السريع ، الذى ما أن تولد حتى انتصر ؛ إن هذه الحضارة التى خلقها حماس النبى ، كانت قد امتصت أفضل ما فى اليهودية والعلم البيزنطى ، وبالإضافة إلى ذلك حملت معها التراث الهندى الكبير ، وما فى فارس من نفائس ، وكثيرا من الأمور المستعارة من الصين الغامضة . أنه الشرق الذى يدخل أوربا ، ليس مثل شاكلة داريوس و كسيريس، الذين دخلوا عن طريق اليونان التى كانت تدفعهم عنها لإنقاذ حريتها ، ولكن عن طريق الطرف الآخر ، من اسبانيا ، التى كانت عبدة لملوك اللاهوت وأساقفة الحروب ، فراحت تستقبل الفاتحين بقلب مفتوح . وبعد عامين ، تبدل الحال ، وكانوا قد استقروا فيما أمضينا سبعة قرون لنستردها منهم. لم يكن الوجود العربى غزوا بالسلاح ، كان مجتمعا جديدا ينموا من كل جانب بجذور قوية . أن مبدأ حرية العقيدة ، وهو حجر الزاوية الذى تقوم عليه عظمة الأمم ، فقد كان من شيمهم . ففى المدن التى كانوا أسيادا فيها ، كانوا يتقبلون كنيسة المسيحى ومعبد اليهودى " .

ويضيف بعد ذلك بقليل قائلا :
"من القرن الثامن حتى القرن الخامس عشر ، تم تشييد وتطوير أجمل و أثرى الحضارات التى كانت فى أوربا فى العصور الوسطى . وبينما كانت شعوب الشمال تتقاتل فى حروب دينية وتتصرف كقبائل همجية ، كان الشعب فى اسبانيا يتزايد إلى أكثر من ثلاثين مليون نسمة ، وفى هذه التعددية من الناس كانت كل الأجناس و العقائد تتداخل فى تنوع لا نهائى ، نجمت عنه أقوى الطفرات الإجتماعية . (...) وفى هذا التداخل الخصب للشعوب و الأجناس ، نمت كل الفكار ، وكل العادات ، وكل الإكتشافات التى تمت حتى ذلك الوقت على الأرض ، وكل الفنون ، وكل العلوم ، وكل الصناعات ، وكل الإختراعات ، وكل المعارف القديمة ؛ ومن تداخل كل هذه العناصر المختلفة انبثقت اكتشافات جديدة وطاقات جديدة مبدعة . وكان الحرير والقطن والليمون والبرتقال والرمان يأتى من الشرق مع هؤلاء الأغراب ، وكذلك السجاد والأقمشة والمعادن المرصّعة والغُمرة . ودخلت بفضلهم أيضا الأرقام العشرية والجبر وعلم تحويل المعادن و الكيمياء والطب وعلم الكونيات والشعر المقفّى . إن الفلاسفة اليونان ، وكانوا على شفى الإندثار ، وجدوا الخلاص فى متابعة اللغة العربية مع فتوحاتها ، وبذلك تألق أرسطو فى جامعة قرطبة الشهيرة " (فى ظل الكاتدرائية ، صفحات 201-204).

استشهاد طويل نسبيا ، لكنه كاشف لكثير من الجوانب ، و بقلم واحد من أكبر الأدباء الذين عرفتهم اسبانيا فى أواخر القرن التاسع عشر . أنه استشهاد يردّ فى نفس الوقت على العديد من المعطيات التى بترها البابا أو بدّل من حقيقتها فى خطابه موضوع هذا المقال.

إن الإسلام بالفعل قد خلق حضارة جديدة ، ترتكز على محور أساسى هو : التوحيد بالله . حضارة تَمثّل فيها مفهوم الوحدة والترابط كفعلٍ للربط بين مختلف المجالات ، ويسمح بتجديد الثقافات السابقة . فعلى عكس مفهوم الثنائية للثقافة اليونانية ، إن الرؤية الإسلامية شديدة الوحدة : والعالم المحسوس فيها لا ينفصل أبدا عن العالم الفكرى ولا عن وجود الله . لذلك اتخذت العلوم ذلك الطا بع التجريبى ، على عكس الطابع النظرى لدى اليونان . وهو ما سمح بازدهار كم هائل من الإكتشافات وذلك بالربط ببراعة بين العلم والحكمة والإيمان .
ولذلك أمكن لواحد مثل روجيه بيكون (1220-1292) ، وهو من الفرنسيسكان ، ويُعد سباقا فى المنهج التجريبى فى العلوم فى أوربا ، ويلقبونه " الدكتور المدهش" ، فقد أوضح فى كتابه المعنون "العمل الكبير" أنه لا يتردد فى نقل صفحات بأسرها من ابن الهيثم ، أو أن يحدد قائلا : " إن الفلسفة مأخوذة عن اللغة العربية ولا يمكن لأى شخص لاتينى أن يفهم الحكَمة والفلسفات كما يجب إن لم يكن يجيد اللغة التى تُرجمت إليها " .

أمن ضرورة هنا لتكرار أو لتأكيد حقيقة تاريخية مُعاشة وثابتة و معترف بها ؟ إن أوربا لم تعرف التراث اليونانى إلا بفضل الجهود الضخمة التى قام بها المسلمون ، الذين ترجموا وطوّروا كل مجالات التراث اليونانى ، وإن التراث اليونانى قد تمت ترجمته من العربية إلى اللاتينية . إنه الوجود المفصلى الأساسى لثمانية قرون متواصل هو ما تحاول بعض المواقف قاصرة البصر و البصيرة أن تخفيها من الوجود ... لكن ، " أيا كانت الطريقة التى يتم بها الحكم على التأثير الإسلامى ، وأيا كان العنف الذى تمت ممارسته ضده أو الطريقة التى تم بها التخلص من وجوده ، فلا يمن إنكار أن أوروبا لما صارت ما هى عليه تماما إن لم تكن قد عرفت الإسلام . أنه جزء من تراثها " ، ذلك هو ما كتبه جان بول رو ، فى مقدمة كتاب " الإسلام فى أوربا " .

من ناحية أخرى ، فى زمن كانت فيه الكنيسة الرومية تفرض التعتيم والظلمات ، وتمنع أتباعها من القراءة ، وتحرق الكتب وتشعل الحرائق فى المكتبات ، أو بمعنى أدق ، فى زمن لم تكن فيه أوربا تعرف القراءة ، كانت المكتبات تتضاعف فى كل مكان فى العالم الإسلامى . إن مكتبة الخليفة العزيز ، فى القاهرة ، كانت تضم مليون وستمائة الف كتاب، منها ستة آلاف فى الرياضيات، وثمانية عشر الفا فى الفلسفة . وكانت مكتبة الخليفة المأمون ، المسماه " دار الحكمة " ، تضم مليون عملا ، وذلك بخلاف قرابة مائة مكتبة أخرى فى المدينة ، ولا نقول شيئا عن مكتبة الإسكندرية القديمة التى أحرقها القساوسة قبل الفتح الإسلامى . وفى العراق ، كانت مكتبة ناصر الدين التوسى تضم أربعمائة الف عملا . و فى اسبانيا المسلمة ، كانت مكتبة الخليفة الحاكم تضم أربعمائة الف مجلدا . وكانت الجامعة الإسلامية فى قرطبة ، فى القرن العاشر ، تشع واحدة من أجمل الإشعاعات الثقافية فى العالم ، على ثلاث قارات ، بصورة متكاملة تجمع ما بين العلم والحكمة والإيمان .

ولا يسع المجال هنا لذكر كافة العلماء العرب الذين اسسوا تلك الحضارة التى لم يكن هناك مثيلا لها ، لكنا نذكر على سبيل المثال : أبو بكر بن طفيل ، المتوفى عام 1185 ، وكان طبيبا وفيلسوفا . وأبو القاسم الزهراوى ، المتوفى عام 1010 ، طبيبا وجراحا ذائع الصيت . البطّانى ، المتوفى عام 929 ، من كبار علماء الفلك . وأبو معشر ، المتوفى عام 886 ، ويعتبرونه أكبر عالم فى النجوم . والكندى ، المتوفى عام 873 ، ويعد أبو الفلسفة . والخوارزمى ، المتوفى عام 847 ، وكان أول مسلم يهتم بالجبر. والفرغانى ، المتوفى عام 861 ، من كبار علماء الفلك . والغازالى ، المتوفى عام 1111 ، فيلسوف وفقيه . والرازى ، المتوفى عام 865 ، من كبار الأطباء ، ويلقبونه "جليان العرب " . والبتروجى ، المتوفى عام 1204 ،فيلسوف وعالم فلك . والفارابى ، المتوفى عام 950 ، وكان فيلسوفا وموسيقيا ، ألّف العديد من الأبحاث فى نظرية رياضيات الموسيقى والآلات الموسيقية . وابن باجة ، المتوفى عام 1138 ، طبيبا وفيلسوفا . والزرقلى ، من كبار علماء الفلك فى اسبانيا ومعروف بجداوله الفلكية. ولا ننسى ابن رشد المتوفى عام 1198 ، وابن سينا المتوفى عام 1037 ، وكلاهما من كبار الأطباء والفلاسفة .

ولا يسع المجال لذكر أعمال كل هؤلاء الفلاسفة والعلماء ورجال الفكر الذين تمت ترجمتها إلى اللاتينية ، وكانت تدرّس فى أوربا حتى القرن الثامن والتاسع عشر ، وكانت أساس معظم الإكتشافات التى تمت وتركت أثرا لا يُمحى فى العلوم اللاتيتية والبيزنطية .

وقبل الإنتقال إلى المجال الدينى ، لا يفوتنا أن نلفت النظر إلى تلك السمة غير الأمينة ، فى تحريف أسماء كل العلماء المسلمين إلى نطق لاتينى لا صلة له بالعربية ، وذلك لمحو أى صلة لأوربا بالإسلام ، أو لإستبعاد كل ما تدين به اوربا للإسلام والمسلمين . ألم يحن الوقت لكتابتها كما تنطق ؟ ألم يحن الوقت بعد لكل هؤلاء العلماء ، الذين أسسوا واحدة من أبهر الحضرات فى التاريخ ، وتعد هى المؤسِسة لأوربا ، أن تعاد لهم هويتهم المسلوبة على مر القرون ، بدأ بتعديل اسم سيدنا محمد عليه صلوات الله. إن الظلم يقتل الحضارات ، على حد قول بن خلدون فى مقدمته .

وقد يكون من المفيد أن نذكّر بأنه قبل الأسلام ، كانت اسبانيا بلدا محتلا من الفيزيجوت منذ أكثر من قرنين . وكانوا محتلون بمعنى الكلمة ويستغلون البلاد بالإستيلاء على ثلثى أراضيها ولا يكفون عن ممارسة الإضتهاد . فقد كان قانون جستنيان يعرّف الملكية بأنها تعنى " حق الإنتفاع وحق التعسف " !

وفى المجال الدينى ، يجب التنويه إلى أنه فى الأندلس ، كان الصراع بين التوحيد وتعدد الآلهة سابق بكثير على الفتح الإسلامى ، بل وسابق على المنازعات بين المسيحيين أنصار الثالوث ، الذين يؤلهون يسوع ، وأتباع أريوس ، الذين كانوا يرفضون مساواته بالله . وكان مجمع نيقية الأول عام 325 قد قسّم المسيحيين بإدانته أريوس ، الرافض لتأليه المسيح ، مثلما تمت إدانة نستوريوس بعد ذلك بقرن تقريبا ، وكان يرفض عقيدة قتل يسوع على الصليب وآلامه ، كما كان يرفض جعل مريم تحمل لقب " أم الله " . وكل هذه الإدانات والعديد غيرها لم تمنع التيارين من الإنتشار ، خاصة الأريوسية ، التى انتشرت فى أوربا ، ولا تزال متناثرة وإن كانت فى الخفاء ، بينما انتشرت النستورية فى بلاد فارس. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الأريوسية ، التى كانت تتمسك أساسا بوحدانية الله ، كانت السبب الذى أدى إلى إقتلاع الكاتار والبوجوميل وفرسان الهيكل وغيرهم من على سطح الأرض !

كما لا يسع المجال هنا لذكر عدد " الهرطقات " التى تعرضت لها المسيحية فى القرون الأولى . وتكفى الإشارة إلى أن يوحنا الدمشقى ، فى النصف الأول من القرن الثامن ، يتحدث عن مائة هرطقة فى كتابه المعنون " عن الهرطقات " ، حيث يتناول الإسلام على أنه الهرطقة رقم مائة ، وأنه هرطقة مسيحية قريبة من الأريوسية !

وبعد قرن من الزمان تقريبا ، يأتى كتاب التأريخ لثيوفان ، بمعلومات جديدة حول الإسلام وخاصة عن سيدنا محمد ، إذ يقول فيليب سيناك : " من هذا النص عُرف أنه فى عام 622 توفى أحد الأنبياء المزيفون التابع لعائلة إسماعيل " (صورة الآخر، صفحة 30) . أما الأسقف دوشين ، فى دراساته حول موقف الكنائس فى القرن السابع ، فيذكر ميشيل السورى ، الذى يشيد بالمسلمين قائلا : " رب الإنتقام ... حينما رأى شر الرومان الذين يسيطرون فى كل مكان ، وينهبون كنائسنا وأديرتنا ببشاعة ويدينوننا بلا رحمة ، أرسل لنا أبناء إسماعيل من الجنوب ليخلصونا منهم " (روجيه جارودى الإسلام الحىّ ، صفحة 15) . وفى خضم نفس ذلك الإضطراب بين النحَل المسيحية والكنائس ، أعلن البريطانى جون فيكليف (1324-1384) بصوت عال ما كان الكثير من المسيحيين يفكرون فيه بصوت خافت . وقد وضعته الكنيسة بين الهراطقة لأنه كان يرفض الضرائب العشرية ، وأرباح القساوسة ومكاسبهم ، و فرض تقديم الهبات ، مشيرا إلى عدم لزوم وجود البابا ولا الأساقفة ورجال الكنيسة بصفة عامة ، إذ كان يرى أن الكنيسة برمتها غارقة فى الخطأ . ويقول فيليب سيناك " أنه لكى يدعّم آراءه و يوسع المجال للجدل اتخذ مرجعية الديانات الأخرى وخاصة الإسلام ، مؤكدا نحن بمثابة محمد الغرب ، لأن الوضع بالنسبة له لا يوجد فرق بين الإسلام والكنيسة الأوربية " . (صورة الآخر ، صفحة 14) . وكان يرى ذلك الشبه خاصة فى الكنيسة التى ترفض تأليه المسيح..

وقد أوردنا تلك الإستشهادات لنوضح أنه طوال القرون الوسطى ، كان مازال شائعا فى كل مكان أن المسلمين هم نسب إسماعيل ، الإبن البكر لسيدنا إبراهيم .. وهو اسم تعمّدت الكنيسة استبعاده ليس فقط من النصوص ، ولكن خاصة من تلك الوثيقة المعروفة باسم "فى زماننا هذا " ، التى تمت صياغتها فى مجمع الفاتيكان الثانى عام 1965 ، والتى يلوّحون بها وكأنها كلمة السر كلما تعلق الأمر بعلاقة الكنيسة بالإسلام . إن قراءة كيفية صياغة هذا النص ، الذى تولى الأب كاسبار صياغة محاضر جلساته والمنشور فى كتاب " الكنيسة وعلاقاتها بغير المسيحيين " فى الصفحات 201-236 ، و الصادر عن الفاتيكان ، يكشف إلى أى مدى يصل عدم الأمانة العلمية و التاريخية من أجل استبعاد أية قرابة للمسلمين عن سيدنا إبراهيم أو ابنه البكر إسماعيل أو حتى عن رسالة التوحيد !

وفى اسبانيا ، حيث كانت الأريوسية هى السائدة ، وبعد الفتح الإسلامى بقرن ونصف تقريبا كانت كل الصراعات بين علماء اللاهوت المسيحيين تتعلق بالأريوسية فحسب . ولم يتحدث اى لاهوتى عن الإسلام ، الذى كان فى نظرهم يمثل جزءا من الأريوسية . لذلك لم يبدو الإسلام ، من الناحية الدينية ، وفى مواجهة إمبراطوريتين فى حالة انهيار إجتماعى و دينى ، كديانة جديدة ، تحل محل عقيدة سابقة عليها. وتم استقباله بترحاب من تلك الشعوب التى كان عقيدتهم السابقة ، المسيحية، وكل المذابح التى تقودها مؤسساتها المختلفة ، قد كفّت عن أن تعطى أى روح لحياتهم. وكان الإسلام يمثل بالنسبة لهذه الشعوب ، صحوة دينية تمنح تدينهم طفرة جديدة . وهو ما يفسر ويوضح فى نفس الوقت لماذا كل هذه الشعوب المختلفة ، من الهند إلى اسبانيا ، مرورا بكل جنوب أوربا ، تستقبل المسلمين على أنهم محررين ، ورجال مؤمنين ، يحترمون عقائد الآخرين ويحيونها بنور الإسلام .
فليس من المبالغة تحديد أنه إذا كانت المسيحية قد ساهمت فى تكوين الهوية الأوربية ، فذلك يرجع بلا نزاع أن ذلك قد تم وتحقق بفضل الإسهامات التى قدمها الإسلام والمسلمون .

وفى نهاية هذا التعليق المقتضب على خطاب البابا بنديكت السادس عشر ، لا يسعنى إلا أن أقول لسيادته ، مع كل الإحترام الواجب له :
الأب المبجل ، حينما يحتل المرء مثل المكانة الرفيعة والمطلقة التى تتبوأها ، فإن العدل يستوجب أمانة لا خلل فيها : إن إقتلاع ثمانية قرون من الوجود التأسيسى للإسلام فى أوربا ، لا يعنى بتر شريحة أساسية من التراث الأوربى فحسب ، وانما يناقض المسيرة الحقيقية للتاريخ الإنسانى ، ويناقض حتى النصوص الإنجيلية . وهى نصوص لا تزال تثبت ، رغم كل ما أجرى بها من تعديلات ، المكانة الرئيسية لإسماعيل ، الإبن البكر لسيدنا إبراهيم ، وابنه قيدار، الجد الأول للنبى محمد علية الصلاة والسلام . واقتلاع ثمانية قرون من التراث الأوربى يعنى صراحة اقتراف عملية تحريف تاريخية و دينية .

إن استعراض موجز للتاريخ من الإنجيل يوضح أن ساراى (تكوين 16 :3 ) قد أخذت خادمتها هاجر " وأعطتها لأبرام زوجة له " . زوجة وليست محظية ، فالنبى لا يمكنه اقتراف الزنا. والعهد ، الذى هو الختان ، قد تم بين الله وسيدنا إبراهيم (تكوين 17 : 1-27) بينما كان إسماعيل فى الثالثة عشر من عمره حينما خُتن ، وكان ذلك قبل مولد إسحاق بعام . وحق البكورة كما يرد فى (تثنية 21 : 15-17) يقول : " إذا كان لرجل امرأتان إحداهما محبوبة والأخرى مكروهة فولدتا له بنين المحبوبة والامكروهة. فإن الإبن البكر للمكروهة . فيوم يقسم لبنيه ما كان له لا يحل له أن يقدم ابن المحبوبة بكرا على ابن المكروهة البكر بل يعرف ابن المكروهة بكرا ليعطيه نصيب اثنين من كل ما يوجد عنده لأنه هو أول قدرته له حق البكورية " . ونسب إسماعيل موجود بالتفصيل فى (تكوين 25 : 12-16 ) . وعند وفاة سيدنا إبراهيم (تكوين 25 : 9 ) " دفنه اسحاق و إسماعيل إبناه فى مغارة المكفيلة"... وكل التغييرات التى تمت فى هذه النصوص لا يقع ذنبها على الامسلمين ، بدأ بتقديم اسم إسحاق على اسم إسماعيل فى الآية السابقة و الذى يبدل مكانة البكورة من إسماعيل ويضفيها على إسحاق !

وهنا أسمح لنفسى بإضافة ما يلى : بدلا من مواصلة التمسك بدور الإستبعاد الذى يتم منذ القرون الأولى ، لإستبعاد الإسلام والامسلمين ، أليس أكثر إنسانية وأكثر صوابا ، من الناحية التاريخية والدينية ، أن تقوم بنفس العمل الذى قمتم به ككنيسة ، لتبرأة اليهود من دم االمسيح ؟ لقد أمكنكم بكل شجاعة تخطى الفى عام من العداوات ، حتى على حساب النصوص المقدسة وما بها من اتهامات صريحة تفوق المائة اتهام . ألم يحن الوقت للقيام بنفس الخطوة للمصا لحة مع المسلمين ، الذين لا يزالوا يطارَدون لمجرد أنهم متمسكون بالتوحيد الحق ، كما أنزل ، وبوحدانية الله ؟!

لو قمنا باختصار كل التفاصيل لنرى إجمالا قصة تاريخ رسالة التوحيد ، سنخرج بما يلى : لقد أُنزل على سيدنا موسى عليه السلام ، كنبىّ ، وحينما حاد اليهود عن الطريق المستقيم وقتّلوا الأنبياء بغير وجه حق ، أتى عيسى عليه السلام ، كنبىّ ، من أجل خراف بيت إسرائيل الضالة لإعادتها إلى الطريق المستقيم ، وليس لتنصير العالم ! وعندما حاد المسيحيون عن الطريق المستقيم بتأليه السيد المسيح عليه السلام ، بعد رحيله بثلاثة قرون ، وصياغة عقائد لا يعرف هو عنها شيئا ولم ينطق بها ، أتى سيدنا محمد عليه السلام ، كنبىّ ، وأُنزل عليه القرآن الكريم . وهو نص لم يعرف أى تعديل أو تبديل ، ولكنه يدين كل أنواع التغيير و التحريف التى تمت فى البلاغين السابقين لرسالة التوحيد. وهذا هو بكل أسف السبب الحقيقى الذى تمت بسببه إدانة الإسلام والمسلمين .

ألم يحن الوقت لإزاحة ذلك الذى أطلقتم عليه " ستارا من الظلم " و قمتم بمصالحة رأتى المسيحية الشرقية والغربية ، و القيام بجمع شمل كل عائلة سيدنا إبراهيم بدلا من مواصلة إستبعاد أبناء إسماعيل ؟ نعم ، ياسيادة الحبر المبجل ، نحن جميعا أولاد عمومة ، ومن المفترض أن نتعايش بلا ضغائن ولا قهر .. فالدين لله والأرض للجميع ، أيا كانت عقيدتهم ، فلا إكراه فى الدين ، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر . ذلك هو ما يعلمه لنا القرآن الكريم.

فبدلا من تلك الإرادة الحديدية لفرض تنصير العالم ، وبدلا من تقديم المساعدة بيد ، لكل بؤساء العالم الثالث ، وفرض التعميد والإرتداد باليد الأخرى ، ألم يحن الوقت لممارسة التسامح الحق ؟!

إن العالم لن ينصلح شأنه بعملية إسقاط لكافة المساوىء ، التى عرفتها المسيحية ، على الإسلام والمسلمين ، أو بإعادة صياغة الدين و التاريخ تحريفا ، أو بإبادة المسلمين وتنصير كل سكان المعمورة ، وإنما بنصلح حاله بالإلتزام بالتسامح ، والعدل ، والطريق المستقيم ، بى مواربة . وهو ما يتعين عليكم عمله بإنسانية جديرة بالمكانة التى تتبوأونها .

 

 الدكتورة زينب
  • مقالات
  • كتب
  • أبحاث علمية
  • Français
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط