اطبع هذه الصفحة


للوقاحة حدود..

أ. د. زينب عبد العزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية



 

أقام "بيت العائلة المصرية" التابع للأزهر والكنيسة، في الأول والثاني من شهر مارس الحالي 2017، مؤتمرا دوليا تحت عنوان "الحرية والمواطنة.. التنوع والتكامل". وقد افتتحه كلا من الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب والبطريرك تواضرس الثاني ومشاركة ممثلون من خمسين دولة. وقد استهل شيخ الأزهر كلمته قائلا: "الإرهاب شاب جميع الأديان ولا يجوز حبس الإسلام وحده في قفص الاتهام"، أما البطريرك تواضرس فاستهل كلمته قائلا: "المواجهة الفكرية مع الإرهاب هي الحل ونحتاج خطاب ديني تنويري وليس إنشائي"..
وقبل تناول هذا المؤتمر المصيري لا بد من الإشارة باقتضاب إلى عدة وقائع ترتبط به يقينا، فهي التي مهدت له وأدت وقاحتها إلى ما وصلنا إليه من خلط في المفاهيم وقلب للمواقف والأوضاع، علها تعاون على فهم ما يدور على أرض الواقع.. فتسلسل التواريخ وحده يكشف كيفية التصعيد.

1961 : مجلس الكنائس العالمي

اجتمع المؤتمر الثالث لمجلس الكنائس العالمي في مدينة نيودلهي 1961، ويضم هذا المجلس 349 كنيسة مختلفة عقائديا فيما عدا الفاتيكان، فعدم عضويته تمكنه من معاونتهم كطرف خارجي. وأصدر المجلس قرارا يُبرئ اليهود من دم المسيح ويحذر الكنائس من التعليم المعادي لليهود. بل لقد قام القس ل. ح. نبت البروتستانتي الأمريكي بوصف المسيحية ذاتها بالعنصرية ضد اليهود وحمّل كل الكنائس تبعة "معاداة السامية".. وفي عام 1964 خصص هذا المجلس موسماً دراسياً لموضوع "الكنيسة وإسرائيل".. ومر الخبر في صمت.

1963 ـ 1965 : مجمع الفاتيكان الثاني

يمثل هذا المجمع نقطة فارقة في تاريخ المسيحية إذ اتخذ قرارات تطيح بثوابت العقيدة الكاثوليكية والكنائس الأخرى التابعة له، ومن هذه القرارات: في 19 فبراير 1964، أثناء اجتماع المجمع الفاتيكاني أصدر قرار "تبرئة اليهود من دم المسيح"! أو إن شئنا: قام بترسيخ وتدويل قرار مجلس الكنائس العالمي السابق بعاليه، وتحميل وذر مقتل السيد المسيح على جميع المسيحيين! فبعد ألفي عام من ترديد وتكرار إن اليهود "قتلة الرب"، استنادا إلى ما هو وارد في الأناجيل ولا يزال، والدعاء عليهم في عدة صلوات تحديدا طوال ألفا عام، اكتشف الفاتيكان فجأة أنهم "أبرياء" وأنهم "الإخوة السبّاقون إلى الإيمان".. وهو ما تسبب فيما يطلقون عليه "النزيف الصامت للكنيسة"، بمعني ترك الأتباع وبعض الكهنة لها والابتعاد عنها في صمت..
كما قرر هذا المجمع من ضمن ما قرر: اقتلاع اليسار في عقد الثمانينات، وهو ما تم فعلا؛ وقرر اقتلاع الإسلام في عقد التسعينات حتى تبدأ الألفية الثالثة وقد تم تنصير العالم. ولأول مرة في التاريخ الكنسي يصدر هذا المجمع قرارا يتعلق بالمدنيين، إذ فرض على جميع المسيحيين، الكنسيين منهم والمدنيين، المساهمة في عملية تنصير المسلمين وفَرَض نفس القرار على الكنائس المحلية في كافة بلدان المسلمين. الأمر الذي يضع كل هذه الأقليات المسيحية، أينما وُجدت، هي وكنائسها، في موقف "الخيانة" بالنسبة للبلدان التي يعيشون فيها. وما من بابا أتى بعد هذا المجمع الفاتيكاني إلا وتبنى نفس الموقف، إذ ان قرار تنصير العالم كما يقولون: "قرار لا رجعة ولا نقاش فيه"..
وقد رفض البابا شنودة الثالث قرار الفاتيكان قائلا: "إن العقيدة الأرثوذكسية المبنية على ما جاء في الكتاب المقدس وتقاليد وتفاسير الأباء تؤمن بأن الشعب اليهودي هم الذين حكموا بصلب المسيح.. وإننا من خلال ما جاء في الكتاب المقدس لا نعترف لليهود بمملكة لهم فالله رفض هذه المملكة منذ البدء".. إلا أنه في سنة 1988 "اضطر" للسفر الي الفاتيكان.. وبدأت المواقف تتغير، ليتواصل التغيير والتنازل في العقائد القبطية.. وفي 4/2/2017 أيد البطريرك تواضرس الثاني جهود البابا فرانسيس لتوحيد الكنائس، على حساب عقائد كنيسته، وطالب المجتمع الدولي باتخاذ إجراءات حاسمة ضد العنف والإرهاب وكل اشكال التفرقة العنصرية (جريدة أوسيرفاتوري رومانو)، وهو مما يعني دعوته للتدخل الغربي صراحة..

1978 : مؤتمر كولورادو سنة

اجتمع في شهر مايو 1978 بمدينة كولورادو الأمريكية مائة وخمسون أستاذا لاهوتيا متخصصا في التنصير لدراسة ومناقشة أربعين بحثا متخصصا في كيفية اختراق العالم الإسلامي لتنصيره. وكان قد سبقه اجتماع آخر سنة 1974 في مدينة جنيف بسويسرا إعدادا له.. وتم نشر أبحاث مؤتمر كولورادو هذا والتعليقات والمقترحات المتعلقة بها في كتاب ضخم يضم ألف صفحة تقريبا. وهذه الأبحاث الأربعين تمثل أربعون مدخلا لاختراق العالم الإسلامي من خلال المرأة، والعلاج، والصحة، والعمالة المنزلية الأجنبية المسيحية، والتدخل في المناهج التعليمية، واستخدام العلمانيين في التبشير الى جانب المبشرين، وتنصير الدولة شكلا وموضوعا، الخ..

2001 : تفجير أبراج التجارة العالمية سنة

في 11 سبتمبر 2011 وصلت الوقاحة، بل الإجرام، بالإدارة الأمريكية بأن قامت بتفجير ثلاثة أبراج: برجا التجارة العالمية والبرج السابع، الذي انهار بنفس نظام الهدم تحت السيطرة، بعدهما بسبع ساعات، لكن دون ان تمسه اية طائرة أو صاروخ، وكان مكونا من سبع واربعين طابقا، والتضحية بحوالي الفين من مواطنيها.. وذلك لكي تتلفع "بشرعية دولية" لاقتلاع الإسلام والمسلمين.. فكم مليوناً من المسلمين أبادت منذ ذلك التاريخ ؟!

2004 : تقرير مؤسسة راند

مؤسسة راند البحثية الأمريكية على علاقة خاصة بوزارة الدفاع الأمريكي والسلاح الجوي بها. ومعظم مشروعاتها البحثية تتم بعقود مع البنتاجون وتتناول الشؤون الاستراتيجية والأمنية الأمريكية والعالمية. وقد أصدرت في 18 مارس 2004 تقريرا بعنوان "الإسلام المدني الديمقراطي: من يشارك فيه وما مصادره واستراتيجيته". والتقرير صادر عن قسم بحوث الأمن القومي. وهو عبارة عن توصيات محددة لكيفية التصدي لما أسماه "الإسلام الأصولي"، ووصفه بأنه قوى تزعزع الاستقرار، وأن هذه التوصيات هي أفضل السبل للتصدي للإسلام الأصولي، مع ضرورة استقطاب بعض الحلفاء من المسلمين.. فهي تريد أن تمنع انتشار التطرف والعنف ؛ وتفادي اتهامها بأنها تعادي الإسلام ؛ والبحث عن وسائل تَدَخّل من خلال القضايا الاقتصادية والاجتماعية.. وقاموا بتقسيم المجتمع إلى أصوليين، وتقليديين، وحداثيين، وعلمانيين. ونص التقرير على تشجيع أنصار الحداثة وإدخال مفاهيمهم في الإعلام والتعليم ؛ ودعم التقليديين ضد الأصوليين ومنع أي تحالف بينهما ؛ زيادة إبراز أنصار الحداثة ؛ وإضعاف سلطة الفتاوى الدينية ؛ وتشجيع الإسلام المتصوف ؛ وتشجيع الصحافيين على فضح الأصوليين ؛ وتشجيع الخلافات بين الأصوليين وتدعيم العلمانيين ؛ والعمل على إنشاء إسلام أمريكي وإسلام غربي، وإسلام فرنسي الخ.. واتخاذ مواقف هجومية ضد الأصوليين ؛ ونقد عيوب النزعة التقليدية وإثبات علاقتها بالتخلف ؛ وإدخال الإسلام الديمقراطي في المناهج المدرسية والإعلام.
وبذلك أصبح الإسلام ضمن اهتمامات ووقاحة وزارة الدفاع الأمريكية، فالتقرير يتحدث عن إعادة تشكيل المجتمعات الإسلامية، فلا سبيل إلى التخلص من الإرهاب إلا بالتخلص من الدين وعزله عن الحياة العملية وفصله عن الدولة عن طريق العلمنة والتغريب.. وكأن الدولة تدار من الخارج وترضخ لكل ما يُفرض عليها.

2005 : وثيقة الحقوق الدينية

في إبريل 2005 التقى وفد أمريكي يطلق على نفسه "سفراء السلام" بشيخ الأزهر د. سيد طنطاوي وتقدم بوثيقة بعنوان "الحقوق الدينية" للمسيحيين طبعا، فالمسلمون لا حقوق لهم في نظر كل أولئك المخربون.. إذ تدور معظم بنود هذه الوثيقة في إطار السماح لأي جماعات دينية بحرّية الدعوة لمذهبهم وعدم التصدي لهم، وذلك تحت ستار التآخي والتسامح بين المسيحية والإسلام. وتضم الوثيقة 17 بندا قام شيخ الأزهر بالتوقيع عليها كما وقعها رئيس لجنة الحوار بين الأديان بالأزهر آنذاك.. ويا لها من تنازلات.
فبموجب هذه الوثيقة لا يحق لأي مؤسسة إسلامية أن تتدخل لوقف عمليات التنصير أو التبشير ضد الإسلام، أو التبشير بمذهب مسيحي غربي يناقض المسيحية الشرقية لأن ما تحاول الإدارة الأمريكية نشره هو المسيحية الصهيونية، وإن حرية عمل المؤسسات الغربية في بلادنا هو شأن سياسي ولا يندرج في حرية الاعتقاد..

2007 : البابا بنديكت 16 يسب الإسلام والرسول، صلوات الله عليه

في وقاحة وجرأة لا سابقة لها في تاريخ الباباوات، بخلاف ما يفعلونه ويقولونه سرا، تعمّد البابا بنديكت 16 سب الإسلام والرسول، عليه الصلاة والسلام، في محاضرة علنية بمدينة راتسبون الألمانية. وهاج وماج المسلمون في كل مكان ليعتذر البابا عن وقاحته، لكنه لم يفعل للآن، فهو لا يزال على قيد الحياة مختبئا هربا من أحكام قضائية صادرة ضده، وإنما تأسّف لموقف المسلمين "الهمجي"..

2008 : لجنة الحوار بين الأديان

ورغم هذه الإهانات المتتالية، أصرت لجنة الحوار بين الأديان التابعة للفاتيكان لتنعقد في الأزهر تحت عنوان "الإيمان بالله وحب الآخر".. وإن كان لهذا اللقاء من رسالة واضحة أراد الغرب المسيحي المتعصب إرسالها للمسلمين، فهي رسالة تقول بوضوح: "نحن نفعل بكم ما نشاء، فليس لكم الحق في مطالبتنا بالاعتذار عما بدر منا من اساءات أو وقاحات".. والمؤسف أن شيخ الأزهر آنذاك رفض الربط بين هذا اللقاء وتعمُد بابا الفاتيكان سب للإسلام والرسول، عليه الصلاة والسلام، ولا حتى قيام الكاردينال جان لوي توران، رئيس مجلس الحوار بين الأديان، الذي سب الإسلام والمسلمين "لإيمانهم بأن القرآن منزل من عند الله"..

2011 : إنشاء بيت العائلة المصرية

تم تأسيس "بيت العائلة المصرية" كما عرّفه موقع الأنبا ارميا "للحفاظ على التراث القبطي الثمين مما له من دور حيوي في تاريخ مصر ونشر التعاليم المسيحية على مستوى الأمم، وليحث الأجيال الجديدة على التمسك بهويتهم بوعي وإدراك".. والمعني واضح.
تأسس "بيت العائلة المصرية" سنة 2011، كهيئة مستقلة برئاسة فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر وبابا الكنيسة القبطية الأرثوذكسية. ويجمع أيضا ممثلي الطوائف المَسيحية في مصر، وعددًا من الخبراء والمتخصصين.
ووصفه الأنبا ارميا، الأمين المساعد للبيت، بأن دوره "الحفاظ على النسيج الوطني الواحد لأبناء مصر"، ومن أجل تحقيق هذا الهدف، فإن له حق "الاتصال والتنسيق مع جميع الهيئات والوزارات المعنية في الدولة، وتقديم مقترحاته وتوصياته إليها، وكذا عقد المؤتمرات واللقاءات في جميع محافظات مصر. كما جاء في المادة الأولى من وثيقة تأسيسه". وهو ما يعني تدخلا صريحا في شؤون الدولة ولا يُسمح لأية أقلية في العالم بالقيام به..
أما لجان هذا البيت فهي: لجنة الخطاب الديني، لجنة التعليم، لجنة الشباب، لجنة الثقافة، لجنة الشؤون الأسرية، لجنة الطوارئ، لجنة الإعلام، لجنة العلاقات العامة ولجنة المتابعة. وهي لجان تختص بكل شئون الدولة، ولن أشير هنا إلا الى تعريف لجنة الخطاب الديني إذ ان هدفها هو: "تجديد الخطاب الدينيّ بما يتناسب مع تحقيق أهداف "بيت العائلة المصرية" ورسالته وقيم المجتمع"..
ومثلما تلفع بوش الابن "بشرعية دولية" لاقتلاع الإسلام والمسلمين، تلفعت الكنيسة المصرية ـ التي فرض عليها الفاتيكان دور الخيانة ـ تلفعت الكنيسة بالأزهر لتقوم بنفس الدور الأمريكي لاقتلاع الإسلام.

2017 : مؤتمر بيت العائلة

يحتاج عنوان المؤتمر الذي أقامه "بيت العائلة المصرية" في مطلع هذا الشهر والمعنون: "الحرية والمواطنة.. التنوع والتكامل" الى مقال على حدة لما يحتوي عليه العنوان من معان مشحونة هو وما تم تداوله من محاور وأبحاث.. لكنني أكتفي هنا بالإشارة الى عدة نقاط لا بد من التوقف عندها، فقد جاء الإعلان عنه بعبارة "الأزهر ومجلس حكماء المسلمين ومسيحيي الشرق"، ولم يقل "أقباط مصر". وإقحام عبارة "مسيحيو الشرق" تربط الجانب المسيحي في هذا المؤتمر بالفاتيكان، الذي سبق وفرض عليهم دور "الخيانة لمصر" بفرضه عليهم، كنيسة وأتباعا، المساهمة في عملية تنصير العالم التي يقودها بهيستريا لا تغفلها عين. فالفاتيكان هو الذي يستخدم هذه العبارة لدفع الغرب الي التدخل رسميا في الشؤون الداخلية بزعم انقاذ "مسيحيو الشرق".. ومن الواضح بكل أسف أن الوقاحة والجبروت لا حدود لهما.
وقد قال الإمام الأكبر في افتتاح المؤتمر: "الإرهاب شاب جميع الأديان ولا يجوز حبس الإسلام وحده بقفص الاتهام". وقال البطريرك تواضرس الثاني: "المواجهة الفكرية مع الإرهاب هي الحل ونحتاج خطاب ديني تنويري وليس إنشائي".. أما الأنبا ارميا فقد أشار إلى أن هناك لجان ومبادرات قد راجعت المناهج الدراسية "أما مناهج الأزهر فلم تعرض علينا بعد لمراجعتها".. واللهم لا تعليق، فحينما يتعدى الفُجر حدوده تتوقف الكلمات في الحلق !


زينب عبد العزيز
7 مارس 2017
 

الدكتورة زينب
  • مقالات
  • كتب
  • أبحاث علمية
  • Français
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط