اطبع هذه الصفحة


"عقيدة الثالوث ليست وحيا إلهيا"

أ. د. زينب عبد العزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية



 

تحت هذا العنوان الجريء والحاسم في آن واحد، أصدر الباحث البريطاني ماكّيڤكتابا سنة 1996 ينتقد فيه عقيدة الثالوث، نشأتها وكيفية تجميعها وفرضها على الأتباع. وبدأ مشواره البحثي من منطلق ان فكرة الثالوث قد انغرست واستقرت في ذهن المسيحيين، بمختلف فرقهم، بحيث بات من النادران يتناولها أحد المعاصرين بالنقد، وإن فَعَل فلا تتاح له الفرصة لنشر عمله، خاصة بعد ما أصاب العالِم اللاهوتي ميشيل سرڤيه وحرقه حيا في القرن السادس عشر لأنه تجرأ وقام بتفنيد عقيدة الثالوث بالوثائق الأصلية، بفضل إجادته لغاتها القديمة.. وذلك على الرغم من أنها، أصلا، من أصول وثنية وأن من قام باختلاقها وفرضها بشكلها الحالي رجال كنسيون، عبر المعارك والمجامع. ويوضح ماكّيڤ انها تفتقد المصداقية لأنها ترتكز على متناقضات وعلى التجميع من ديانات وثنية قائمة في الحضارات القديمة التي فُرض عليها اعتناق المسيحية أيام قسطنطين في القرن الرابع..

ويورد ماكّيڤ ما يقوله العالم بامبر جسكواني في كتابه "المسيحيون" (1976) موضحا أنه: "طوال الخمسون سنة الأولى مما نطلق عليه "العصر المسيحي"، لم تكن هناك أية وثيقة متعلقة بيسوع أو بحوارييه. وفي الخمسين سنة التالية قام المسيحيون أنفسهم بكتابة معظم النصوص التي تكوّن العهد الجديد. وفي القرن الثاني كتب المؤرخ الروماني تاسيتوس قائلا: "هناك جماعة مكروهة لأفعالها المقززة، اسمهم المسيحيون، وقد اشتقوا هذه العبارة من "كريستوس" (أي الممسوح بالزيت المبارك)، وعانوا العذاب أيام حكم تيبريوس على أيدي أحد ضباطنا، هو بونتيوس بيلاطس". أما المؤرخ الروماني سيوتون، الذي عاش فيما بين القرن الأول والثاني، فكتب عنهم قائلا: "المسيحيون طبقة من الناس ينغمسون في ديانة جديدة شيطانية الخرافات"..

ويواصل بامبر جسكواني قائلا: "ان مختلف العقائد المسيحية كالثالوث وغيرها قد تطورت فيما بعد، إذ بدأ تقبلها أيام قسطنطين الأكبر واستقرت كعقيدة تامة أيام الإمبراطور تيودوز سنة 381. ومنذ ذلك التاريخ تزايد انقسام المسيحية الى العديد من الطوائف بحيث أصبح من الصعب اليوم التعرف على أيّهم هي المسيحية الحقيقية. لكن ما من واحدة منها قريبة من التعاليم الأصلية للأنبياء. انهم يرتكزون على الكتاب المقدس، وهو نفسه خاضع للمراجعات المتواصلة"..


عقيدة الثالوث  

تعتمد عقيدة الثالوث على فكرة إله مكوّن من ثلاثة أقانيم، وكل أقنوم منها يعتبر لا بداية ولا نهاية له. وأن له قدرة مطلقة لا تقل ولا تزيد عن الإقنيمان الآخران. وأن كلا منها إله متكامل الأركان بأوسع معاني الكلمة، وهو ما يتضمن صفات الإله، وكلا منها متساوي في الزمن والوضع والقدرة والمعرفة. وهذه العقيدة تمثل قلب ودعامة المسيحية على اختلاف فرقهم المختلفة. ويوضح ماكّيڤ ان هذه العقيدة لا تمت إلى التنزيل الإلهي أبدا وإنما هي عقيدة اختلقها فريق من المسيحيين في الربع الأخير من القرن الرابع، وتم تثبيتها وفرضها في مجمع القسطنطينية الأول سنة 381، ذلك المجمع الذي أضفي على الروح القدس نفس صفات الرب وصفات يسوع المسيح! ويوضح ماكّيڤ ان محاولة تكوين وفرض الثالوث قد بدأت أيام مجمع نيقية الأول سنة 325، الذي تمكن من تمرير بدعة "تأليه يسوع"، نظرا لشدة المعارضة والخلافات الدائرة آنذاك، تاركا فرض الثالوث لمجمع آخر، وهو ما تم سنة 381..

ويقول التعريف الأرثوذكسي عن هذه العقيدة: "إن عقيدة الثالوث تقر بأن الآب هو الله، والابن هو الله، والروح القدس هو الله، وجميعهم يكونون إلها واحدا، فالثالوث خالد لا بداية ولا نهاية له".. بينما تقول الكنيسة الكاثوليكية الرومية أن الثالوث هو العبارة المستخدمة لوصف العقيدة الأساسية للدين المسيحي".. بينما تقول الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية: "أن الثالوث هو العقيدة الأساسية حين يقال: المسيحيون هم الذين يقبلون المسيح كإله". ذلك لأن هناك فرَق ترفض تماما تأليه المسيح. وفي كتاب التعليم الديني يقول الإيمان المسيحي: "الله ثالوث: الآب إله تماما. والابن إله تماما. والروح القدس إله تماما"..


فرض العقيدة بقرار سياسي


يؤكد ماكّيڤ، مثله مثل علماء الكاثوليكية، ان ترتوليان (150 ـ 225)، الملقب بالأب اللاهوتي اللاتيني هو أول من استخدم عبارة "الثالوث"، وتبعه أوريچين (180 ـ 254). وهما أكثر من كتب في هذا الموضوع آنذاك وهما اللذان أرسخا أسس التعاليم المتعلقة بالثالوث، لأن هذه الفكرة لا أثر لها في الأناجيل ولا في العهد القديم. والعهد الجديد لا يقول شيئا عن الثالوث. لأن ترجمات كلا من أوستروالد، ولويس سجوند، وكينج جيمس لا ترد بها جملة إنجيل يوحنا القائلة: "لأنه يوجد ثلاثة يشهدون في السماء الآب والكلمة والروح القدس، وهؤلاء الثلاثة واحد" (5: 7). وفي الوهلة الأولى يبدو انها إشارة الى الثالوث، إلا أن هذه الجملة لا ترد أبدا في أقدم الأناجيل اليونانية والثابت أنه تمت إضافتها في النص اللاتيني أثناء صراعات القرن الرابع حول الثالوث.
أما الجملة الحالية التي توجد في نهاية انجيل متّى "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" (28: 19)، التي يتذرعون بها لتنصير العالم، فنطالع بها فكرة الثالوث بصريح العبارة، وقد أضيفت للأناجيل الحالية أولا في اسبانيا سنة 380، كما ادخلها القديس چيروم في النص الرسمي الذي صاغه بأمر من البابا داماز".. وهو ما يؤكد أنها فرية من الفريات وواحدة من عمليات الإضافة والتغيير التي تذخر بها تلك الأناجيل..

وقد أدى مجيء قسطنطين الأكبر سنة 312 إلى شبه توقف اضطهاد المسيحيين، وتوقف إغلاق الكنائس الأولى الذي كان سائدا أيام الأباطرة الرومان. كما أدى المرسوم الذي أصدره سنة 313، المعروف باسم "مرسوم ميلانو"، الى السماح للمسيحيين بممارسة عقيدتهم أسوة بكل العقائد الأخرى السائدة آنذاك. ورغبة منه في توحيد أطراف الإمبراطورية، يقول ماكّيڤ: "أنه قام بتقديم مكاسب خاصة للذين يدخلون المسيحية ممن هم في المجال السياسي والعسكري والاجتماعي. مما سمح له بممارسة سلطان واسع النفوذ على الشأن المسيحي".

وتيودوز الأول هو من رفع المسيحية الى مستوى ديانة رسمية وفرضها على جميع انحاء الإمبراطورية الرومانية بشقيها الشرقية والغربية، بموجب مرسوم تسالونيكي سنة 380، الذي يقول حرفيا:


 "أنها رغبتنا ان تمارس كل الشعوب التي يحكمها اعتدال رحمتنا وان تلتزم بهذا الدين الذي نقله بطرس الرسول الى الرومان، وذلك وفقا لما يؤكده تراث تواصل من أيامه حتى الآن، ومن الواضح انه يتبعه البابا داماز الأول، وأسقف الإسكندرية، وأنهم يتبعون بطرس الإنسان  ذو القداسة الرسولية: أي إن ذلك يتفق والالتزام الرسولي والعقيدة الإنجيلية، وأننا نؤمن بالألوهية الوحيدة للآب والابن والروح القدس، في جلال متساوي وثالوث مقدس.

"لذلك نأمر الذين يتبعون هذا القانون ان يتخذوا اسم "مسيحيون كاثوليك"، وان الآخرين، الذين نعتبرهم معتوهين وحمقى، عليهم أن يتجرعوا فضيحة هرطقتهم. وأماكن اجتماعاتهم لا يجب أن تحمل اسم "كنيسة"، وسوف يقع عليهم أولا الانتقام الإلاهي، ثم ستتم معاقبتهم بمعرفتنا التي تبنيناها وفقا للرغبة الإلهية"..


ويكشف هذا القرار الإمبراطوري ان من صاغه فعلا هم حفنة من تلك القساوسة التي تجيد ربط الماضي بالحاصر من باب التبرير "وفقا للتراث" الذي لا سند تاريخي له. كما يكشف حقيقة كيفية فرض المسيحية قمعا وترويعا في أواخر القرن الرابع على الإمبراطورية الرومانية بشقيها، الشرقية والغربية. كما أنه بفرض هذا القرار وضع الإمبراطور تيودوز الأول نفسه رئيسا للسلطة الدينية، وبذلك بدأ صراع من نوع آخر بين السلطتين، السياسية والدينية، استمر وتواصل لمدة ستة عشر قرنا تقريبا، أي حتى يومنا هذا، من أجل السيطرة والجمع بين السلطتين، وما أكثرها تلك المعارك.. لذلك نلاحظ حتى الآن ان البطريرك الأرثوذكسي، أي البابا المحلي، ـ إذ لا يوجد رسميا سوى بابا واحد في العالم هو بابا روما في الفاتيكان بالاتفاق بينهم بناء على قرارات مجمعية أقرتها جميع الكنائس المنشقة، ـ نراه ممسكا في يديه بصولجان علامة الحكم المدني، وبالصليب علامة الحكم الديني، أملا في الجمع بينهما ذات يوم..


الأصول الوثنية للثالوث


كما يورد ماكّيڤ في هذا الجزء أقوال عدد من الباحثين حول الأصول الوثنية للثالوث: فيقول المؤرخ ويل دورانت: "ان المسيحية لم تهدم الوثنية وإنما تبنتها، فأفكار الثالوث الإلهي قد وصلتنا من الديانة المصرية القديمة". ويقول سيجفريد مورنز: "ان الثالوث كان الاهتمام الأكبر في اللاهوت المصري القديم، وذلك بجمع ثلاثة آلهة ومعاملتها على أنها إله واحد، وهذه الفكرة مستوحاة من الديانة المصرية القديمة". وفي موسوعة "الدين والقيم الدينية" يقول جيمس هاستنج: "في الديانة الهندية نجد ثالوث براهما وشيڤا وڤيشنو؛ وفي الديانة المصرية القديمة نجد أوزيريس وإيزيس وحوريس".. وفي موسوعة المعرفة الدينية الجديدة" يقول شاف هيرزوج: "لقد قام اليونان بتكوين عقائد اللوجوس والثالوث متأثرين بالفلسفة الأفلاطونية".

أما كنيسة القرون الثلاثة الأولى فتقول: "لقد تكونت عقيدة الثالوث بصورة تدريجية وفي مرحلة متأخرة نسبيا..  وأصولها غريبة بعيدة تماما عن النصوص اليهودية والمسيحية.. ولقد ازدهرت والتصقت بالمسيحية بفضل أيادي الآباء الأفلاطونيين". وعبارة "
تكونت عقيدة الثالوث بصورة تدريجية وفي مرحلة متأخرة نسبيا" تثبت يقينا أنها فكرة لا تمت إلى التنزيل الإلهي بأي صلة !

ولقد تم العصور على تماثيل بثلاثة رؤوس بجسم واحد في العديد من الحضارات المسيحية القديمة، في محاولة من الكنسيين لتوضيح فكرة الثالوث للأتباع وترسيخها في العقول. ولقد حاول عباقرة المسيحية إنقاذ الثالوث بشتى الطرق وتبريره.. وبعد أن استنفذوا كافة المحاولات، أعلنوا أنه "سر إلاهي غامض". وهنا يقول الأسقف
چون دي جروت (في كتابه "تعاليم كاثوليكية" صفحة 101): "إن الثالوث المقدس سر غامض بأوسع معاني الكلمة. والعقل وحده لا يمكنه إثبات وجود الله في ثلاثة أشخاص، والتنزيل هو الذي يقول ذلك. وحتى بعد شرح غموض السر فمن المحال للعقل البشري أن يدرك كيف يمكن لثلاثة أشخاص أن تكون لهم طبيعة إلهية واحدة". وهنا تجدر الإشارة الى كلمة "التنزيل" التي تم اقحامها في شرح الثالوث، للإيحاء بانه وحي من الله ويبتلعه الأتباع ضمن كل ما يبتلعونه.. فالثالوث لا علاقة له بالتنزيل الإلهي، لأن الثابت بالوثائق أن كافة مراحل تكوين أو نسج مختلف عقائد المسيحية، مسجلة خطوة خطوة، بكل معاركها وعواقبها بل وكل المجازر المترتبة عليها.. واقحام كلمة "التنزيل" في هذا الشرح دليل واضح على التلفيق لإثبات أكاذيب بكذبة جديدة..

المعاصرون يرفضون فكرة الثالوث


تقول "الموسوعة الكاثوليكية الجديدة": "من الصعب في النصف الثاني من القرن العشرين تقديم مصداقية موضوعية وبسيطة أو تطور عقائدي أو حتى صياغة لاهوتية لسر الثالوث (...) ومؤرخو العقيدة وعلماء اللاهوت يتحدثون عن ثالوث يرجع الى أواخر القرن الرابع. فلم تستقر عقيدة الثالوث نهائيا بمعنى إله في ثلاثة أشخاص إلا بعد القرن الرابع".. وذلك لا يعنى ان المعارك الناجمة عنها قد توقفت.

وقد أعرب أسقف مدينة دربن، ديفيد چنكينز، أستاذ اللاهوت والدراسات الدينية في جامعة ليدز، في مقال تم نشره في جريدة "دايلي ميل" الصادرة يوم 15/7/1984: "ان العديد من الأحداث المتعلقة برسالة يسوع لم تكن صادقة بمعنى الكلمة، وإنما تم اضافتها ليسوع التاريخي بأيدي المسيحيين الأوائل للتعبير عن إيمانهم به كمسيح".. وهو ما أكده العديد من العلماء وأثبتوا عدم مصداقيتهم.

أما العالم چون هيكّ فيقول: "ان ما طورته الأرثوذكسية حول طبيعتي يسوع، الإلهية والإنسانية، وأضافتهما ليسوع التاريخي، عبارة عن تجميع كلمات بلا أي معنى حقيقي (...)، واختصارا: إن القول بلا أي معرفة، ان يسوع الناصرة التاريخي "كان أيضا الله" هو أمر عاري من أى معنى، بل وبمثابة قول ان الدائرة التي نرسمها بالقلم على ورقة هي أيضا مربع في نفس الوقت!"..

وفي ضوء كل ما تم كشفه من إضافات وتحريف ثابت، لا منطق له إلا انه كان من أجل السيطرة والاستحواذ على السلطة، قام عدد لا يحصى من علماء الغرب على مر العصور بكشفه بالأدلة الدامغة، وكلهم مسيحيون أو علماء لاهوت.. ومع تزايد تباعد الأتباع عن الكنيسة بصفة عامة، حتى باتوا يطلقون عليه "النزيف الصامت للكنيسة"، قررت الكنيسة الهولندية سنة 1966 إلغاء "عقيدة الثالوث" تماما من كتاب التعليم الديني ومن إلزام  الإيمان بها كعقيدة، حفاظا على البقية الباقية من الأتباع..

وحينما يكون من المؤكد ان عالم اللاهوت ترتوليان، الذي اعتنق المسيحية فجأة سنة 193، والمتوفي سنة 220م، هو أول من تحدث عن الثالوث وصاغ شرحه باللاتينية، إذ قبل ذلك كانت كل النصوص باليونانية، وان البابا بنديكت 16 قال عنه في محاضرة عامة ألقاها يوم 30 مايو 2007، وتم نشرها في جريدة "أوسيرڤاتوري رومانو" يوم 31 مايو 2007، موضحا: "ان ترتوليان أتم خطوة ضخمة حاسمة في صياغة وتطوير عقيدة الثالوث: فقد أعطانا باللغة اللاتينية العبارات المناسبة للتعبير عن هذا السر الغامض بتقديم عبارات "أقنوم" و"ثلاثة أشخاص".. فلا يمكن أن نغبنه حقه أو نقلل من شأنه".. وحينما نعلم ذلك وكل من تقدم من تفاصيل، فمن العار بل من الإجرام مواصلة فرض هذا الثالوث على العالم، على أنه منزّل من عند الله، في الوقت الذي نعلم فيه من صاغه وكيف تم فرضه وكل ما أثاره من معارك حتى القرن السادس عشر وحرق عالم اللاهوت ميشيل سرڤيه حيا لأنه تجرأ وأثبت أنه غير منزل من عند الله..

وفيما يلي عدة صور للثالوث في حضارات مختلفة:

زينب عبد العزيز
 17 يوليو 2017

                  

الدكتورة زينب
  • مقالات
  • كتب
  • أبحاث علمية
  • Français
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط