اطبع هذه الصفحة


تنصير إفريقيا !

الدكتورة زينب عبدالعزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية

 
لقد إنعقدت الجمعية الثانية الخاصة بأفريقيا فى الفاتيكان ، من 4 إلى 25 أكتوبر الماضى ،تحت عنوان "الكنيسة فى أفريقيا ، لخدمة المصالحة والسلام". وقد حضره حوالى 250 أسقفا لمناقشة قضايا القارة ، وهى واحدة من أكثر القارات تعرضا للحروب ، والفقر ، وتوابع الإستعمار وما بعد الإستعمار. فالمعروف أن الشعوب الإفريقية ضخايا إدارة عامة فاسدة ، بسبب السلطات المحلية التابعة للغرب ، وخاصة خضوعها لأسوأ أنواع الإستغلال من القوى الإستعمارية الخارجية.. ويبقى معرفة التوجهات الحقيقية لهذه الجمعية ومخططاتها.


يدفعنا عنوان هذه الجمعية إلى التساؤل حول معنى كلمة "مصالحة" وما هو المقصود منها ؟ مصالحة من وماذا ؟! فعلى الصعيد الإفريقى ، إن كافة الحروب التى تدار على أرضها ترجع خيوطها إلى أولئك الذين يحركون اللعبة فى العالم، إلى قادة الغرب المتعصب ، الإستعمارى،المغتصِب ، الذى يلجأ إلى أعوانه المحليين ليقود لعبته. وهى قائمة على تجويع الأفارقة وإنتزاع كنوزهم. فهل المقصود مصالحة كافة أطراف القادة المحتالون ليقوموا بلعبة أكثر دقة لقهر وإجبار الأفارقة على مزيد من التنازلات ؟ إن إختلاق الحروب المحلية بين الشعوب باتت لعبة تقليدية ، و لا نذكر على سبيل المثال سوى إختلاق مشكلة البربر فى الجزائر لتقسيم البلاد ؛ وحرب دارفور ، حيث معظم سكانها من حفظة القرآن الكريم ؛ ولا نقول شيئا عما يتم حياكته حاليا مع الأقليات المسيحية فى البلدان ذات الأغلبية المسلمة لإختلاق الفتن والقلاقل مثلما يدور فى مصر وغيرها من البلدان. فأية مصالحة يقصدون ؟!

وعلى الصعيد الكنسى ، عن أية مصالحة يمكن أن نتحدث ؟ إن كافة الكنائس وقد تعدى عددها الثلاثمائة كنيسة ، كلها أعضاء فى مجلس الكنائس العالمى، تتسابق بعتهٍ محموم لتنصير العالم .. فهل المقصود بالمصالحة ضم كل هؤلاء المنشقون عقائديا لإختلاق الكنيسة العالمية التى يسعى إليها بابا روما شريطة أن تكون تحت لواءه ؟ أم هى مصالحة للتغنى بعملية تنصير واحدة ، لمزيد من إعتصار الشعوب الإفريقية والقيام بفرض عملية غرس ثقافى لا إنسانية ، والتوغل أكثر لإقتلاع أحشاؤها والعمل على إبادتهم ؟ إن الدور المشين الذى لعبته الكنيسة وتدخلها الإجرامى فى رواندا ، حيث قام بعض الآباء والراهبات بإشعال الحرائق فى هناجر مكدسة بالأفارقة الفارين من ويلات الحرب، لم تنسى بعد ! ولا نقول شيئا عن الدور المشين الآخر لموقف الكنيسة من العازل الطبى الذى تسبب عدم السماح به فى قتل آلاف من الأفارقة المصبين بالإيدز. فما المقصود بالمصالحة هنا ؟ مزيد من القتلة الإجراميين مشعلى الحرائق، أم مزيد من الإستعمار الجديد ؟

أما على صعيد الحرب التى يقودها الفاتيكان ضد الإسلام ، فما من إنسان يجهل اليوم الهَوَس الذى يقود به مسيرته لإقتلاع الإسلام ، وقد شبهتها جريدة لوموند الفرنسية بعبارة "أنه يسير على الإسلام بوابور ظلط" ! وما من إنسان يجهل الوسائل التى أعدها الفاتيكان للإسراع بذلك الإقتلاع. فهى ترسانة يمتد عتادها بدءاً من رجال الكنيسة إلى كافة العلمانيين ، مروراً بعدد لا يحصى من البعثات التنصيرية ، والمنظمات ، والمؤسسات ، ووسائل الإعلام ، والإنترنت ، ورجال السياسة، والسياح ، إختصاراً ورسمياً : ما من مسيحى معفى من المساهمة فى عملية التنصير التى فرضها مجمع الفاتيكان الثانى (1965) على كافة الأتباع. بل وقد وصل العَتَه إلى تكوين فرق مبشرين من الشباب ومن الأطفال !! أما التقنيات الحديثة فلم يتم إستثناءها وجميعها تحت إمرة البابا ، من أجل تنمية ثقافة تبشيرية تنصيرية وفرض ما يطلق عليه "الكلمة الوحيدة التى يمكنها إنقاذ البشر، وهى الأناجيل". فهل ينوى البابا أخيراً أن يقوم بمصالحة بين العقل والإيمان ويقر أنه من حق هؤلاء المسلمين الذين يحاول إقتلاعهم من دينهم ، من حقهم أن يحبوا ويتمسكوا بدينهم ؟! وياله من إفتراض لمصالحة لا تتمشى مطلقا مع هيستريا تنصير العالم التى يقودها .

وتجدر الإشارة هنا إلى أعمال معهد وستار ، فى الولايات المتحدة ، الذى أقام " ندوة عيسى" ، حيث إجتمع أكثر من مائتى عالم متخصص فى النصوص الإنجيلية ، لمدة سنوات ( من 1985 إلى1991فى اول مرحلة ،ثم من 1991 إلى 1996) ، خرجوا بعدها بيقين أن 82 % من الأقوال المنسوبة ليسوع لم يتفوه بها ، وأن 86 % من الأعمال المنسوبة إليه لم يقم بها . فمن يمسك بمثل تلك النصوص الثابت تحريفها لا يحق له بأى حال محاولة تخريب القرآن ، الذى هو كلام الله عز وجل ، والذى ظل محفوظا منذ تنزيله حتى يومنا هذا ، لكى يفرض عقائد تم نسجها عبر المجامع على مر العصور. وتكفى الإشارة هنا إلى كل الجهود المنبتة التى تقوم بها المؤسسة الكنسية منذ قرون ، لتحريف نص القرآن .. فمن ناحية ، نرى جهود مستميتة لإقتلاع اللغة العربية ؛ ومن ناحية أخرى ، محاولة فرض تطبيق إستخدام المناهج الألسنية الحديثة التى توصلوا إليها على نص القرآن !.

فهل هناك من ضرورة لتوضيح أن كل ما توصل إليه الغرب فى هذا المجال فى اللغويات له علاقة مباشرة باللغات التى أصلها لاتينى ، بينما اللغة العربية فهى من اللغات السامية. فكيف يمكن السماح بمثل هذا الشطط إن لم يكن الهدف هو التخريب المتعمد ، ولا نذكر هنا إلا الأبحاث التى يقوم بها أحد المعاهد البابوية وإسمه "الواحة" لتخريب النص القرآنى ، وللآسف يعاونهم بعض المسلمين الذين هان عليهم دينهم .

وهكذا ، فإن مجرد العنوان يكشف أن هذه الجمعية قد إجتمعت لأسباب أخرى تماما غير تلك "المصالحة" المزعومة ، ولا أقول شيئا عن كلمة "السلام". فأى سلام يمكن أن يقام حينما يكون ما نواجهه عبارة عن هجمة شبيهة بحرب الإسترداد ونهب الأندلس ، وعملية إستعمار جديدة باسم الدين ؟!.

وسرعان ما يأتينا الرد حول الهدف الحقيقى من إنعقاد هذه الجمعية فمن المؤسف أن نطالع يوم 27 أكتوبر على أحد مواقع الفاتيكان ،أن الآباء المجتمعين قد قاموا فى نهاية الجمعية " بتوجيه الشكر لله على وفرة الموارد الطبيعية الموجودة فى إفريقيا " ! ولا نفهم ما دخل "الموارد الطبيعية" هنا فى إجتماع كنسى ؟ ويا له من شكر يكشف عما وراءه ، بما أن ما يتكشف ليس إلا هدف إقتصادى سياسى لتلك الجمعية "الدينية" التى إجتمعت من أجله . إذ نطالع بوضوح : "أن الموارد المعدنية الإفريقية تساوى 46200 مليار دولار" .. وأنه بما قيمته "12 % من هذا المبلغ يمكن لإفريقيا أن تقوم بتمويل بنية تحتية على المستوى الأوروبى " .وهو ما يكشف بوضوح عن الهدف غير المعلن تحت ذلك العنوان الكاذب ، لأن الأمر لا يتعلق إلا بكيفية إلتهام هذه الفريسة الدسمة !

ونطالع فى بحث أجراه داود بيلار D. Beylard ، رجل الإقتصاد الكنغولى ، فى مجلة "إفريقيات" (وهى مجلة إقتصادية لكل إفريقيا) يتضح أن مجمل الثروات الإفريقية يصل إلى ستة وأربعين مليار ومائتين مليون دولار، إذ يقول : "إن القيمة المالية للمناجم الإفريقية فى المواد الخام الأولية التى تم إكتشافها للآن يصل إلى 46،200 مليار دولار ! لماذا إذن لا تفلح إفريقيا فى الإستفادة من مثل هذه الثروات التى تفوق ثلاثة عشر مرة العائد السنوى للصين ؟ إنها ثروة تكفى بكثير لتحويل القارة الإفريقية إلى واحدة من القوى العظمى فى العالم ". وهذا التقصير فى تنمية إفريقيا فى مجمله ، هو النموذج الإقتصادى القائم على تمويل إستثمارى ، يجيد الغرب العنصرى المغتصِب كيف يقوده. وها هو مثال آخر يقدمه الباحث :
"هناك شركات مناجم بلا إمكانيات معقولة، وأحيانا بلا عاملين ولا مكاتب ، تتبع شركات مساهمة مجهولة، مقيدة فى السجلات الضريبية ، وتصل بفضل الوعود والإستعراضات إلى إقناع الحكومات الإفريقية بأن تسند إليها تنازلات منجمية ضخمة لإستغلالها. وما أن يتم الحصول على العقد ، فإن هذه الشركات تسارع على تمويل شحيح، عادة ما يكون من كندا ، لإضفاء قيمة على الأسهم الإفريقية وأخذ أرباح بفائض قيمة ضخم قبل حتى أن يتم رفع جرام واحد من أرض المناجم التى حصلوا على حق إستغلالها".

وهو ما يعنى عمليا، أنهم يختلقون ثروة بضمان الموارد الإفريقية ، دون أن تكون هذه الموارد قد تم إستغلالها فعلا, والأدهى من ذلك ، دون أن تأتى بأية أرباح للملاك الحقيقيين، الأفارقة، أصحاب الحق المهضوم. ويا له من موقف فاضح خاصة حين نفكر فى أن نظام التمويل الدولى مصاص الدماء ، العنصرى، يستمر فى مطالبة الأفارقة بدفع الأرباح المركبة للديون التى يتورطون فيها عن طريق صندوق النقد الدولى !.

وإضافة إلى ما تقدم ننقل ذلك الإستشهاد المأخوذ من أحد الأبحاث المقدمة فى إجتماعات هذه الجمعية : "وفقا لدراسة قامت بها جمعية إستشارية متخصصة فى الإستثمار فى إفريقيا ، فإنه يوجد فى هذه القارة عشرة ملايين منجم من المواد الأولية الخام سواء فى البر أو فى البحر. ولا يُستغل منها سوى مائة ألف ، ويظل تسعة ملايين وتسعمائة موقع ، أى 90 % من الثروات غير مستغل إطلاقا. والأدهى من ذلك ، كلها مواقع معروفة ومسجلة فى أحد بنوك المعلومات المزودة بتقنيات الأقمار الصناعية والمعلوماتية الأكثر تحذلقا".

فليس بغريب إذن أن نقرأ فى نهاية إنعقاد هذه الجمعية "الدينية" عبارة : "أن الكنيسة سوف تبحث عن إقامة نظام معلوماتى فى كافة البلدان الإفريقية لإدارة الموارد الطبيعية" !.. وهو ما يعنى مزيدا من التدخل و مزيدا من التحكم من أجل السيطرة على هذه الموارد الطبيعية.

أى أن الأمر لا يتعلق لا بمصالحة ولا بأى سلام ، وإنما بعملية إستعمار مزدوجة. إستعمار جديد إقتصادى ، وسوف يزداد ضراوة بالإستغلال العشوائى للموارد الطبيعية ، إستغلال يدارى عملية السرقة المخططة لهذه الثروات ؛ وعملية إستعمار جديد يرمى إلى الحفاظ على إخضاع إفريقيا للحاجة المالية التى تعطى لها قطرة قطرة ، عن طريق إستعباد أخلاقى سياسى بفرض معايير الإنفلات الغربى المتطرف على الشعوب الإفريقية، عن طريق مختلف السلطات.

وإلى كل من يتساءل : كيف يمكن لأقوى مؤسسة دينية فى العالم أن تنجرف فى مثل هذه المغامرة الفاضحة واللا إنسانية ؟ نقول ببساطة : يكفى أن نطالع أن عجز مدفوعات الفاتيكان عام 2002 وصل إلى ثلاثة عشرة ونصف مليون يورو ، وذلك رغم موارده التى لا يتخيلها عقل. لكن، يكفى أن نطالع ما كتبه تونى باشبى T. Bushby فى كتابه حول "البلايين البابوية" ، وأن نتذكر فضيحة بنك أمبروزيانو ،وتورط الفاتيكان مع المافيا الإيطالية ، لنرى إلى أى مدى وصل الفساد المرتبط بالمافيا فى هذه المدينة التى تمثل بقايا الإمبراطورية البابوية والخلاف حول قضية "المسألة الرومانية". إن الفاتيكان دويلة تم إختلاقها فى 11 فبراير 1929، كممثل مدنى للكرسى الرسولى. والسبب الوحيد فى وجود مثل هذه الدويلة هو تلك الرغبة الراسخة للكنيسة فى التشبس بالسلطتين الدنيوية والدينية ، بأى ثمن كان حتى على حساب نهب شعوب قارة بأسرها.

ألا يدل ذلك على نهاية عهد سلام الكنيسة فى النطاق العلمانى الوطنى وعملية إحياء "للسلام الرومانى" فى أراضى الغير ؟ أى نقل المتناقضات الداخلية للخارج للسيطرة العسكرية ولترسيخ تلك المقولة الشهيرة لفيالق الإستعمار :

"إقمعوا كل من يقاوم وسيطروا على المتكبرين" فى بلدان إفريقيا وآسيا !!

6 نوفمبر 2009

 

 الدكتورة زينب
  • مقالات
  • كتب
  • أبحاث علمية
  • Français
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط