اطبع هذه الصفحة


هل الكنيسـة فوق سلطة الدولة ؟

أ. د. زينب عبد العزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية



في حوار كاشف فاضح، نشر في الصفحة التاسعة كاملة بجريدة الأهرام يوم الجمعة 10إبريل 2020، وتحت عنوان استفزازي يقول صراحة: "الدولة لم تفرض علينا إغلاق الكنائس.." فقد استجاب البابا تواضرس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكنسة القبطية الأرثوذكسية، لدعوة الأهرام لإجراء حوار مطول "أكد فيه أن قرار إغلاق الكنائس لم تفرضه الدولة علي الكنيسة، ولم يتخذه البابا بمفرده،". ومن مجرد هذا العنوان الغريب، الذي تصدر الصفة الأولي بالجريدة، ندرك ان البابا تواضرس يضع نفسه فوق القانون وفوق سلطة الدولة ورئيسها، الذي من حقه هو أن يتخذ القرارات، وهو من يصدر الأوامر للحكومة، مثلما يحدث في جميع بلدان العالم. وهذا الرد المتعالي من جانب البابا يستوجب المساءلة..

كان ذلك في الديباجة لبداية الحوار الذي سأتناول منه عدة نقاط. واستكمالا لنفس النقطة، المتعلقة بقرار إغلاق الكنائس، يطرح كاتب الحوار أشرف صادق، سؤالا واضحا: "لماذا اتخذتم قرار استمرار تعليق الصلاة في الكنائس وحرمتم الاقباط ربما لأول مرة في التاريخ من صلوات وطقوس أسبوع الألآم وقداس العيد برغم وجود بدائل مثل تخفيض عدد المصلين؟". الإجابة: "هذا القرار لم نتخذه بفكر فردي. ولكن الظروف هي التي حتمت علينا ذلك".

وعلي الفور طرح المحاور السؤال التالي: "هل فُرض عليكم قرار غلق الكنائس من الدولة أم كنتم أصحاب القرار، ومن تشاور مع قداستكم قبل صدور القرار ثم قبل اعلان استمراره؟"
ورد البابا فورا: "لا طبعا لم يُفرض، ولكن واقع انتشار هذا المرض وهذا الوباء فرض علينا جميعا اتخاذ هذا القرار الصعب، لأن الصحة هي أغلي شيء (...) وهذا القرار لم أتخذه بمفردي لكن عندما بدأت تظهر بوادر هذا الأمر اجتمعت اللجنة الدائمة وهي إحدى لجان المجمع المقدس، ويمكن أن نسميها المجمع المقدس المصغر، اجتمعنا وتناقشنا وأخذنا مجموعة من الإجراءات فيها المرة الأولي 5 مارس، وفي المرة الثانية 21 مارس، وكانت الصورة تتضح شيئا فشيئا ولأن الحالات كانت تزداد في مصر والعالم وفي كنائسنا بالخارج، كان القرار بأن نعلق الصلاة تماما والأمر صعب".. أي ان القرار صادر عن مجمع الكنائس برئاسة البابا كأعلى سلطة، ورئيس الدولة لا شأن له بذلك!!

أما السؤال الثاني فكان: "في جنازة أحد الكهنة تم كسر القرار الصادر عن المجمع المقدس بتعليق الصلاة واقتصار حضور صلاة الجنازة على أهل المتوفي فقط ما الإجراءات التي اتخذتها الكنيسة لمنع تكرار هذا الأمر؟". ويأتي الرد الإنفلاتي الكاشف قائلا: "لا بد أن نقدر المشاعر عند وفاة أحد الأحباء، وبدون وعي تجمع الناس لوداع ابيهم الذي خدمهم لسنين طويلة وتناسوا للحظات الوباء الموجود والمرض الموجود، وبالطبع هذا أمر لا يليق وليس مناسبا من أجل صحة الجميع، والكنيسة لها إجراءاتها الخاصة التي تتخذها مع أي إنسان مخالف". وكأن اتباع الكنيسة لا يتبعون للدولة وإنما هم خاضعون لقرارات الكنيسة! وقد تكرر نفس الزحام عند وفاة جورج سيدهم.

وفي سؤال طُرح جهلا من المحاور عن بابا الفاتيكان بأنه "احتفل مع المصلين بعيد القيامة بتأمين مسافة نحو مترين بين كل مصل وآخر فلماذا لم تفعلوا ذلك في مصر؟". وأقول "جهلا" لأن البابا فرنسيس أقام هذا القداس بحضور رمزي بحت لحوالي عشرة من القساوسة بزيهم الرسمي المزركش، ولم يكن هناك أي جمهور على الإطلاق، مع مراعاة مسافة المترين بين كل واحد منهم.. وبدلا من ان يقوم البابا تواضرس بتصحيح السؤال قائلا ان ذلك الحضور الرمزي جدا كان عددا من رجال الكهنوت، لأن كل ما يقوم به بابا الفاتيكان، الذي يترأس مليارا ونيف من الكاثوليك، مسجل ومذاع على العالم، خاصة في بلد عرفت أكثر الضحايا والموتى، أجابه تواضرس وكأنه المقهور المغلوب على أمره قائلا: "كل بلد ولها ظروفها الخاصة. نحن هنا ظروفنا لا تسمح فكنائسنا مساحاتها صغيرة جدا بالنسبة لعدد الشعب. ولن يكون من المناسب أبدا ازدحام الشعب في مكان محدد وتكون هناك فرصة لانتشار او التقاط عدوي من أى أحد".

وهنا لا بد من طرح السؤال على البابا: "وماذا عن حوالي 5800 كنيسة التي تم بناؤها بلا تراخيص وتقوم الدولة حاليا بتقنينها على مراحل بدلا من هدمها كما يحدث مع كل مخالف؟ ماذا عن كل تلك الكاتدرائيات التي تم بناؤها كالقلاع بالأسمنت المسلح في كل منطقة وفي كل حيّ من أحياء المدن بطول الجمهورية؟ ماذا عن كل ما يتم استقطاعه من أراضي الدولة ولا يجرؤ أحدا على الاعتراض ولا أذكر هنا إلا أراضي وادي الريان مثلا..

وبخلاف ما تقدم، وهو قليل من كثير، فهناك بعض الكلمات التي يتعيّن علي رئيس الكنيسة المصرية مراجعتها وعدم استخدامها. فتكرار عبارة "بلدنا مصر" أو "الشعب"، بهذا التجريد أو التعميم سواء أكان استخدامها تعبيرا عن المكان أو الأفراد والسياق نفسه لا يسمح بذلك، فيقال "هنا في البلد"، أو "هنا في مصر"، وليس "في بلدنا مصر" بلا مناسبة. ان سياق الحديث لا يتطلب هذه الصيغة، وقول "الشعب" بدلا من "الأتباع" بمعني أتباع الكنيسة، أو "المسيحيين"، فالمسيحيين لا يمثلون يقينا كل الشعب المصري، الذي هو المسلمين والأغلبية عددا، وإنما المسيحيون هم جزء منه، جزء لا يتجزأ من الشعب المصري. مثلما ان الخمسة عشرة مليونا من المسحيين يمثلون مسيحيو الشرق الأوسط وفقا لإحصائية الفاتيكان. إنها كلمات تكشف عن نوايا غير سويّة خاصة في سياق الكلام وفي مثل هذه الظروف.

وهناك ملاحظة لاهوتية ما كنت أتخيل أن يقع فيها البابا تواضروس، عندما راح يشرح للصحفي المحاور، تفاصيل العيد وأحد الشعانين، إلا إن كان يستخدم نسخة أناجيل حديثة معدّلة، فقال: "ودخول السيد المسيح الي مدينة أورشليم وترحيب الشعب به كبارا وصغارا مستخدمين أدوات بسيطة مثل سعف النخيل وأغصان الزيتون، والسيد المسيح نفسه ركب علي أتان (أنثي الحمار أو والدة الجحش الصغير) كرمز للعهد القديم وبعدها ركب الجحش الصغير كرمز للعهد الجديد تطبيقا لآية الإنجيل (أنا لم آت لأنقض بل لأكمل)".

فهناك عدة ملاحظات أعتقد أنه لا بد من تداركها: فالوارد بالأناجيل أن السيد المسيح ركب علي "الأتانتين معا وليس على التوالي". وهو الوارد في طبعة 1966 أي قبل التعديلات التي تمت بعد مجمع الفاتيكان الثاني المنتهي سنة 1965 وتتوالى من طبعة لطبعة، ووارد أيضا في طبعة 1671. كما ان العهد الجديد لم يكن مكتوبا أيام السيد المسيح وإنما بدأت صياغته ما بين سنة خمسين أو سنة سبعين بعد "صلب" السيد المسيح كما تقولون. والأرجح بعد سنة سبعين لأن انجيل متّي في الإصحاح (23: 53) يتحدث عن " دم زكريا بن برخيّا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح". وزكريا بن برخيا ثابت من كلام السيد المسيح في نفس هذه الجملة أنه قتل سنة 70 عند هدم المعبد..

وتبقي همسة عتاب أقولها بكل التقدير الواجب لمكانتك: إن الإنسان الذي تخطيته وتغاضيت عن ذكر اسمه ومكانته، فإن اسمه على الصعيد العالمي وفي كافة المحافل الدولية: "السيد رئيس جمهورية مصر العربية". أما سيادتك وعلى نفس بروتوكول الصعيد العالمي وفي كافة المحافل الدولية فاللقب الذي تخاطب به هو "البطريرك" وليس "البابا"، كما أنه نفس اللقب الذي يستخدمه الفاتيكان حين يتحدث عنك. لأنه وفقا لبروتوكول العرف الدولي لا يوجد في العالم سوي بابا واحد هو بابا الفاتيكان، وكل ما عداه يسمي بطريركا. بدليل عند زيارة البابا يوحنا بولس الثاني لمصر لم يذهب البابا شنودة لاستقباله في المطار لكيلا يضطر للسير خلفه. وعندما حضر البابا فرنسيس الي القاهرة سُمح لك باستخدام لقب البابوية لرفع مكانتك أمام الجميع، وهذا لا يقلل من شأنك على الإطلاق. كما ان رئيس الكنيسة الروسية التي تضم آلاف الملايين من الأرثوذكس، فيقال سيادة "البطريرك" ولا يجوز له أن يحمل لقب البابوية.
 

زينب عبد العزيز
11 ابريل 2020

 

الدكتورة زينب
  • مقالات
  • كتب
  • أبحاث علمية
  • Français
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط