اطبع هذه الصفحة


دراســات حول مكان جبل موســي..

أ. د. زينب عبد العزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية


جبل موسى، إحدى لوحات معرضي عن سيناء سنة 1985


الموضوع قديم متجدد ومتواصل الأصداء، فمن أكثر الدراسات اللافتة للنظر تلك التي صدرت حول جبل موسي في سيناء، والتي أجراها جورج تيمّرمانز (2004ـ1938) في بحث بعنوان "الكتاب المقدس" وصدر قبل وفاته بعام. وهو بحث قائم أساسا على الحفائر الجديدة فيما حول منطقة القدس. وهي حفائر تمت في منطقة تقع عشرين ميلا شمال غرب مدينة القدس وتم بها اكتشاف مدخل لمغارة. وهذه المنطقة قد احتلها المصريون القدماء والآشوريون والبابليون واليونان والرومان والأتراك والصليبيون، ويمثل أقل أثر يتم العثور عليه فيها أهمية تدل على مرور شعب من هذه الشعوب..
وفي سنة 1995 كان رجال الآثار الصهاينة والمسيحيون قد بحثوا في أكثر من ثلاثمائة موقع، بحثا عن تراث ممتد لهؤلئك الغزاة يثبت حقهم فيما اقتلعوه.. وحيث ان هذه المنطقة تهم أتباع الرسالات التوحيدية الثلاثة، فكل خبطة معول تحرك العديد من الآمال. ويقول تيمّرمانز أنه كثيرا ما تكون النتائج مخيبة للآمال إن لم تكن تمس مصداقية الكتاب المقدس في حد ذاته. وأدى اكتشاف 23 زلعة مليئة بالعظام الآدمية عند فجوة صخرية شمال غرب مدينة القدس، في قراءة سريعة للأحرف الواضحة، الى انها تنتمي لعائلة الهشمونيين، المعروفين أيضا تحت اسم المكابيين. وبعد أسبوعين أعلنت السلطات الإسرائيلية تكذيبا للخبر لاكتشاف وجود عظام خنازير معها.

والبحث عن أدلة مادية لوجود اليهود في هذه المنطقة يمثل مشكلة: إذ يقول الباحث ان كلمة "الإسرائيلي" تشير الى أنه من سلالة شعب إسرائيل المكون من الاثنى عشر ابنا ليعقوب الواردة سيرته في الكتاب المقدس. وتبدأ قصتهم بالخروج من مصر مع موسي، وبعد الانقسام الذي حدث بعد حكم سليمان أصبحت كلمة "إسرائيلي" (من مملكة اسرائيل) تمثل تعارضا مع كلمة "يهودي"، أي من منطقة مملكة اليهودية التي اشتق منها كلمة "يهودي". وهنا يوضح جورج تيمّرمانز ان كلمة إسرائيلي تستخدم تورية لتفادي استخدام كلمة "يهودي" لأن إسرائيل هو اسم الأرض التي يقال ان يهوا قد وعدها لإبراهيم ولليهود..
كما يكشف ان اليهود قديما كانوا يستخدمون أوراق البردي للكتابة، على عكس الحضارات الأخرى التي كانت تستخدم الأواني والجدران والتماثيل لتدون الأحداث عليها. لذلك يوضح أنه لا اليهود ولا المسيحيين يحبون سماع أن بعض أجزاء الكتاب المقدس لا مصداقية لها أو أنها من الخيال.. فالكتاب المقدس هو أساس الحضارة الغربية ومن المهم لهم أن تكون لنصوصه مصداقية ما، وان تكون قائمة على أبحاث علمية تثبتها. إلا أنه بعد العديد من الحفائر والاكتشافات الأثرية والعلمية لم يؤد ذلك إلا الى صعوبة إثباتها أو أن تكون للقصص الواردة بالكتاب المقدس أية مصداقية تاريخية..
وفي عام 1993 اكتشف علماء الاثار داخل جبل صغير اسمه "تل دان" في شمال إسرائيل نص محفور على قطعة بازلت يعود الى "غرفة داود" و"ملك إسرائيل". وهي أول مرة يتم فيها العثور على اسم الملك اليهودي مكتوب خارج الكتاب المقدس. إلا ان هناك العديد من الأتباع الذين يشكّون في ان إبراهيم وإسحاق ويعقوب، المؤسسون التقليديون لليهودية، أنهم لم يوجدوا على الإطلاق، وكثير منهم يتشككون في فكرة العبودية في مصر وفي الخروج.. وبالتالي قليل من المؤرخين الحداث يؤمنون بموضوع غزو يوشع لمدينة أريحا والأرض الموعودة. وإن كان تاريخ إسرائيل بعد حكم الملك سليمان مقبولا الي حد ما فذلك لأنه يستند إلى وقائع تاريخية مكتوبة في الآثار المصرية القديمة والآشورية.
واختصارا، هناك المبالغون الذين يعتبرون الكتاب المقدس كمرشد شرعي للأبحاث الأثرية، وهناك المتشككون أو المنكرون للكتاب المقدس تماما، والذين يؤكدون أنه مجرد وثيقة دينية لا مصداقية تاريخية لها على الإطلاق. ورغمها فلا يزال الأثريون يبحثون عن أدلة جديدة يمكنها المعاونة في العثور على حلول لأسئلة لا تزال بلا إجابات، منها: هل موسى وُجد حقا؟ وهل الخروج من مصر حدث فعلا؟ وهل حارب يوشع فعلا في معركة أريحا؟ وغيرها كثير..

جبل سيناء
يؤكد جورج تيمّرمانز ان السؤال الذي يثير الجدل في القطاع الديني والعلمي منذ عشرات السنين في الغرب والذي يدور حول موقع جبل موسي، حيث يوجد دير سانت كاترين، والذي تعتبره الكنيسة الأرثوذكسية المكان الحقيقي لجبل سيناء، قد انتفي تماما بالأبحاث الجديدة، بل ويؤكد في كتابه: "ان هذه الفكرة قد نُسفت تماما، فلا يوجد أي عالمٍ جاد يمكنه اعتبار أن هذا المكان هو الذي تلقى فيه موسى ألواح الشرع"!
وبينما غضوا الطرف عن مواصلة البحث عن حقيقة الموقع الأصلي لجبل موسى، يؤكد عالم الآثار عمانويل آنّاتي، إعادة طرح الموضوع بالإعلان عن خبر "سيحدث صداه كالزلزال بين الأثريين"، إذ أنه يؤكد "ان جبل موسى لا يوجد في جنوب سيناء وإنما في شمالها في صحراء النقب".
وعمانويل آناتي هو مدير مركز دراسات ما قبل التاريخ في "كابو دي ݒونتي" (بمقاطعة لومبارديا)، وهو المكلف من قِبل اليونسكو للقيام بالحفائر لمدة 19 عاما في تلك المنطقة المتواضعة في وسط صحراء النقب. فلا وجود لذلك الجبل أو أصداؤه المدوية الواردة في الكتاب المقدس، وإنما هناك مكان تتعبد فيه الشعوب المغليثية (متعلق بالآثار السابقة للتاريخ المبنية على حجارة ضخمة). وهي منطقة تضم مئات المواقع الأثرية والشواهد والصخور المنقوشة.

حار كرقوم
وفيما يلي بعض المقتطفات من الخلاصة التي توصل أليها العالم الأثري الإيطالي الذي يدعم اكتشافه وتأكيده ان جبل "حار كرقوم"، هو الجبل الذي صعد اليه موسى:
"لقد زرت حار كرقوم لأول مرة سنة 1954، وعند وصولي للمنطقة هالني منظر ذلك الجبل، وكان اسم ذلك الجبل باللغة العربية "جبل عيد" أو "جبل الاحتفالات"، وتم تسميته باسم إسرائيلي هو "حار كرقوم" أي جبل الكركم. وترجع أقدم المواقع الأثرية في هذه المنطقة الى خمسمائة ألف عام، إلا ان أغلبها ينحصر فيما بين 4200 الى 2000 سنة قبل الميلاد. وهذا الجبل لا مثيل له في كل شبه جزيرة سيناء"..
ويلاحظ عالم الآثار أنه في عصر البرونز القديم كان هذا الجبل مخصص للصفوة وأنه لم يكن مسموحا لأي شخص ان يصعد إليه، وذلك بسبب الحالة الجيدة لأماكن العبادة به. وبالنسبة له لا يوجد أي شك في أنه المقصود بجبل سيناء، وهو وارد في سفر لخروج (19: 11ـ13): "لأنه في اليوم الثالث ينزل الرب أمام عيون جميع الشعب على جبل سيناء. وتقيم للشعب حدودا من كل ناحية قائلا احترزوا من أن تصعدوا الى الجبل أو تمسوا طرفه. كل من يمس الجبل يقتل قتلا. لا تمسه يدٌ بل يُرجم رجما أو يُرمى رميا. بهيمة كان أم إنسانا لا يعيش". وفي الجملة 23 يقول موسي للرب: "لا يقدر الشعب أن يصعد الى جبل سيناء لأنك أنت حذرتنا قائلا أقم حدودا للجبل وقدسه".
كما يشير العالم الأثري الى أدلة أخرى تتفق جميعها مع وجهة نظره: "فكتب موسى جميع أقوال الرب. وبكّر في الصباح وبنى مذبحا في أسفل الجبل وإثني عشر عمودا لأسباط إسرائيل الاثنى عشر" (خروج 24: 4)؛ كما توجد بقايا معبد وعدة تلال صغيرة تعلوها آثار أقدام تتجه إلى أعلى، وهي علامة منذ العصر الحجري الجديد وتعني "عبادة". كما قارن الأنقاض مع المعبد المكشوف.. أما المؤرخة أورا ليبشيتز، المتخصصة في التاريخ الإنجيلي، فتقول: "ما الذي يثبت ذلك؟ يمكن لجبل حار كرقوم أن يكون جبل سيناء مثله مثل أي قمة من القمم الثلاث مائة أو أكثر التي تكون المنطقة. فالكتاب المقدس أساسا هو نص مكتوب وأعيدت كتابته عبر مئات السنين، بقلم العديد من الكتبة، وعادة ما تتناقض وجهات نظرهم".
ومثلما حدث في التاريخ مع كوبرنيك وجاليليو وغيرهم، فإن التقدم العلمي يزيح كل يوم بالعقائد الإنجيلية التاريخية الأكثر رسوخا.. فلقد بدأت الخفائر في مجيدو ومساده والقدس وعسقلان وغيرها في مطلع القرن التاسع عشر علي أمل أنها سوف تؤكد ما ورد بالكتاب المقدس. لكن العكس تماما هو الذي حدث. فبعد سبعين عاما من الحفائر المكثفة سواء في إسرائيل أو في البقية الباقية من فلسطين المحتلة، فجميعها تؤكد أن قصص الكتاب المقدس لا تتفق على الإطلاق والواقع التاريخي المعاش. أما السياسة العامة في القيادة الصهيونية فيبدو أنها تحاول تناسي الموضوع وإخماد نتائجه المحرجة بالنسبة لحقهم المزعوم في الأرض التي اغتصبوها على مرأي ومسمع من العالم أجمع بكل مكوناته..
ولم أتناول هذا الموضوع الذي يخرج عن مجال تخصصي، فلست عالمة تاريخ أو آثار، إلا أن ما لفت نظري ورأيت أهمية عرضه فهو: موضوع مكان جبل موسي ودير سانت كاترين، ومحاولة نقله تاريخيا الي شمال صحراء النقب، وبذلك فقد يدخل في مشروع مدينة نـ يوم المشئوم بكل ما سوف يجلبه على المنطقة من بدع ناسفة للحضارة الإسلامية وللتاريخ..
ليت بعض علماء التاريخ والآثار لدينا يهتمون بما يدور ويمس تاريخنا وحضارتنا قديما وحديثا بدلا من ترك تاريخنا وتراثنا في مهب أهواء المغرضين..
زينب عبد العزيز
2 يونيو 2020

أهم روابط البحث:
(1)
(2)

 

الدكتورة زينب
  • مقالات
  • كتب
  • أبحاث علمية
  • Français
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط