اطبع هذه الصفحة


الفاتيكان ومسجد "أيا صوفيا"

أ. د. زينب عبد العزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية



مهما اختلفت الأحداث والوقائع والمسميات، فإن الغرب الصليبي المتعصب لا يكف عن تكرار المحاولات المستميتة فيما يتعلق باقتلاع الإسلام وتنصير العالم.. فعلي حد قول البابا الراحل يوحنا بولس الثاني حينما سأله أحد الصحفيين عن رأيه "فيمن يتركون الكنيسة" أو فيمن يطلقون عليهم عبارة "النزيف الصامت للكنيسة"، لأنه يوجد من بين الخارجين رجال الإكليروس وعلماء مسيحيون، فأجاب بكل فخر واعتزاز قائلا: "لا يعنيني من يغادرونها، فيكفيني من يدخلونها في إفريقيا".. إشارة الي من يتم تنصيرهم في القارة السوداء بشتى الوسائل.. وفي واقع الأمر لا تتم المحاولات في إفريقيا وحدها وإنما تتواصل في جميع أنحاء العالم وحيثما وُجد مسلما.. ولم تتوقف المساعي، بل ما أكثر ما يبتدعونه أو يختلقونه من ألاعيب تتم صياغتها اعتمادا على عدم الأمانة والتحايل ولي العبارات، ومن آواخر تلك المحاولات وثيقة "الإخوة الإنسانية" التي ابتلع الأزهر طُعمها في عجالة بكل ما بها من مآخذ في حق الإسلام..

والموضوع هنا يتعلق بمسجد آيا صوفيا بإسطنبول، ومساعي الفاتيكان المتواصلة الخفية والعلنية لمنع امتداد الإسلام الي أوروبا، أيام استعانته بصنيعته، مصطفي كمال أتاتورك، الذي انتزع الهوية الإسلامية من تركيا بإلغاء اللغة العربية واستخدام الأحرف اللاتينية، وتحويل مسجد آيا صوفيا الي "متحف للإنسانية"! وبذلك انتهت آنذاك العملية التي تضافرت فيها جهود الغرب الصليبي المتعصب بفاتيكانه وسياسييه لمدة عقود ممتدة تحت مسمي: "مسألة الشرق". والغريب أنهم يعدّون لإعادة الكرة حاليا ويتحاورون فيمام بينهم تحت مسمي "موضوع الشرق" بزعم حماية مسيحيو الشرق، والمسلمون نيام..

 وتعاد المحاولات المستميتة من جانب نفس ذلك الغرب بفاتيكانه وسياسييه لمنع إعادة افتتاح مبني "آيا صوفيا" كمسجد للجمهور. فقد نشرت "وكالة فيدس" الفاتيكانية يوم 20 ديسمبر 2013 قائلة: "ان مصفي كمال أتاتورك، الشديد الحماس لإنشاء دولة علمانية، قرر تغيير مكان العبادة "لإهدائه للإنسانية جمعاء"، فقام بنزع اللافتات المستديرة الكبيرة التي تحمل أسماء الله ومحمد والخلفاء، وأصبحت "القديسة صوفي" متحفا. ثم أعيدت هذه اللافتات إلى مكانها سنة 1951"! واستخدام عبارة "مكان العبادة" بدلا من "المسجد" يكشف من جهة عن كيفية تلاعبهم بالألفاظ ، وممن ناحية أخري يكشف
عمّن كان يدفع أتاتورك لنزع الإسلام بزعم العلمانية والتحضّر من جهة، وما معني التقدم والعلمانية في نظر الفاتيكان وأعوانه..

ثم تنتقد وكالة الفاتيكان، في نفس المقال، أن عدد المساجد قد تزايد 7 % منذ تولي رجب طيب أردوغان الحكم، وذلك ببناء قرابة مائة مسجد بطول البلاد وعرضها. وتنهي الوكالة مقالها بجملة: "إن تركيا بها الآن 83000 مسجدا، منها 3000 في إسطنبول حيث يوجد المسجد الأزرق".. والغريب في هذا التدخل السافر من جانب الفاتيكان ان المسيحيين بكل فرقهم لا يمثلون حتى 1% من التعداد، نعم 1 %، فما معني هذا الاعتراض على المساجد إن لم يكن تعصبا ممقوتا؟

وهل لي أن أذكر الفاتيكان ووكالات أنباؤه أنه في عام 1204، أثناء الحملة الصليبية الرابعة، قامت جنود الرب (كما كانوا يطلقون عليهم) بسرقة الكنيسة وهدم المذبح لانتزاع الأحجار الكريمة منه، واحتلها اللاتين (رجال الحملة الصليبية) من 1204 الي 1261، تحولت فيها البازليكا الي مقر للفرق الهجومية، وجميعهم نصارى في نصارى؟ بل ودُفن فيها أحد قادة فرسان المعبد رئيس فنسيا، إنريكو داندولو.. وقد استعاد البيزنطيون المدينة سنة 1261.. لماذا لم تقم الدنيا ولم تقعد آنذاك مثلما يحاول الغرب الصليبي الآن لمنع إعادة المسجد كما كان منذ 1453؟

وقبل أن أواصل عرض الموضوع أقول لذلك الفاتيكان، المتعدد الأوجه والموازين، ووكالة أنباؤه، أن السيد رجب طيب أردوغان رئيس مسلم لدولة مسلمة، والمسيحيون بها مجرد أقلية ساحقة لا يصل تعدادهم الي 1 % من السكان المسلمين، فما الغضاضة في أن يهتموا بدينهم وأصوله التاريخية ؟ ثم، تري ما قول الفاتيكان، إن كان أمينا، في الكنيسة المصرية التي قامت في الآونة الأخيرة بتشييد 5800 كنيسة بدون أي تصريح للبناء، رغم كل ما لديها من كنائس وأديرة في بلد مسلمة والنصارى بها، بكل فرقهم، لا يمثلون 6 % من تعدادها؟!

وقد أثير موضوع المسجد من جديد في يوم 29 مايو 2020، عندما اُقيمت الصلاة في متحف آيا صوفيا بمناسبة العيد رقم 567 لفتح السلطان محمد الثاني مدينة القسطنطينية.. ومنذ هذه الصلاة الاحتفالية الكبرى لذكري الفتح الإسلامي، تم نشر ثلاث مقالات في نفس "وكالة فيدس" الفاتيكانية، منها مقال بعنوان: "القرآن يجعل قباب القديسة صوفي ترتجف". وما أبغضها عبارة تعود جذورها الي الكتاب المقدس في مزمور 138 حين نطالع: "إنني أكرههم كراهية مثالية".. وقد علقت الصحفية ماري چيجو في جريدة لوموند الفرنسية، يوم 30 مايو 2020، قائلة: "في كل أزمة سياسية يقوم الرئيس أردوغان بتكرار فكرة تحويل بازليكا القرن السادس عشر إلى مسجد، وهو ما تم من 1453، تاريخ الغزو، حتى 1935". وعبارة الغزو هنا تقع على الفتح الإسلامي..

والغريب ان تتضافر الجهود ويرتفع سعارها لإهدار حق الأتراك في استعادة ما سُلب منهم غدرا وخيانة. فنطالع في العناوين الرئيسية في السادس من يوليو الحالي: "روسيا قلقة من نوايا الأتراك بالنسبة للقديسة صوفيا، وهو ما يمثل تهديدا للحضارة المسيحية" ! وها هو البطريرك بارتولومي الاول رئيس الأرثوذكس الروس يعلن: "إن إمكان تحويل القديسة صوفيا الي مسجد سيدفع ملايين المسيحيين إلى الانقلاب ضد الإسلام"! وسبقه مايك بومبيو بيومين، رئيس الدبلوماسية الأمريكية معلنا في أول يوليو الحالي الي ترك مشروع إعادة المبني الي مسجد متلفعّا بالإشعاع الحضاري للبازليكا" ! كما ناشدت الولايات المتحدة يوم الأربعاء تركيا بعدم المساس بالوضع الحالي للقديسة صوفيا!

ولا يسعني إلا أن أتساءل: أين كان كل هؤلاء الذين لا يخجلون من التدخل بهذا الشكل في شأن داخلي بحت لدولة ذات سيادة؟ أين كانوا وأين هم من القضية الفلسطينية وجميعهم يعلم كيف ومتي ولماذا تم اختلاق الكيان الصهيوني المحتل لأرض فلسطين؟ أين كانوا حين قام الصهاينة بدك فلسطين والفلسطينيين؟ أين كانوا حين قام الصهاينة سنة 2002 بدكهما بعملية "حدود دفاعية"؛ وفي 2006 بعملية "أمطار صيف"؛ وفي نوفمبر 2006 أيضا بعملية "سحب خريف"؛ وفي ديسمبر 2008 بعملية "الصلب المصبوب؛ وفي يوليو سنة 2014 بمجزرة "القتل العرقي"، وفضيحة الفضائح التي أبادت أكثر من 2000 شهيد فلسطيني فالعدد تزايد مع وجود عشرة آلاف جريح بإصابات خطرة بسبب ذلك العنف النادر الذي تمت ممارسته عليهم ويعيشون بين الأنقاض بلا ماء وبلا كهرباء وبلا مستشفيات.. ان كل هذه المجازر التي ظلت الهيئات الدبلوماسية الغربية العنصرية سلبية حيالها بل ومتواطئة منذ بداية غرس ذلك الكيان الذي لا حق له في الأرض التي انتزعها.. لا حق تاريخي ولا حق ديني ولا أي حق علي الإطلاق، فمن كانوا يعيشون قديما قام الرومان بطردهم مع هدم المعبد، أما الموجودين حاليا فهم سلالة خزر أوروبا.. ثم تتحدثون عن مبني تم تحويله ظلما وزورا وخداعا من مسجد الي متحف؟


زينب عبد العزيز
8 يوليو 2020

 

الدكتورة زينب
  • مقالات
  • كتب
  • أبحاث علمية
  • Français
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط