اطبع هذه الصفحة


شطحات بنديكت السادس عشر !

الدكتورة زينب عبدالعزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية

 
إن ما اقترفه البابا بنديكت 16 من شطحات فى الأشهر القليلة الماضية وما سببه من أضرار لصورة وهيبة المؤسسة الفاتيكانية والأتباع ، وخاصة الكاثوليك منهم ، أشبه ما يكون بعواصف أدت رياحها العاتية إلى قيام نصف كاثوليك فرنسا تقريبا بمطالبته بالإستقالة من منصبه ، بينما قام جيوم هوجييه بعمل عريضه فى موقعه على النت لجمع توقيعات الكاثوليك الذين يطالبونه "بالإعتذار رسميا وعلنا وبلا مواربة عن مواقفه وتصريحاته غير المسؤلة التى تزيد من الفجوة القائمة بين المؤسسة الكنسية واتباعها فى العالم"..

وقد إندلعت هذه العواصف عقب تتالى ثلاثة أحداث مختلفة هى : رفع الحرمان الكنسى عن أربعة أساقفة ؛ وحرمان أم برازيلية وطاقم الأطباء الذين أجروا عملية إجهاض لإبنتها ؛ وتصريح بنديكت 16 حول "عدم جدوى العازل الطبى فى الحماية من الإيدز" .. ولا بد من تناول هذه الأحداث الكاشفة، كل على حدة، حتى تتضح أبعادها ولا تختلط الموضوعات.

1 - رفع الحرمان عن أربعة أساقفة :

وهؤلاء الأساقفة الأربعة هم الذين كان الحبر الفرنسى الراحل مارسيل لوفڤر قد قام بترسيمهم حينما انشق عن الكنيسة الفاتيكانية معترضا على قرارات مجمع الفاتيكان الثانى (1965) لخروجه عن تعاليم الإنجيل وقيامه بتبرأة اليهود من دم المسيح.. فقام البابا بولس السادس وقتها بحرمانه من الكنيسة. ولم يعبأ لوفڤر بذلك الحرمان وقام بتأسيس كنيسة مستقلة وترسيم الكادر الكنسى اللازم لها إضافة الى كل الذين انضموا اليه لإعتراضهم على نفس السبب.. وأصبحت هذه الجماعة تضم – وفقا لخطاب البابا الموجه لأساقفة العالم : 491 قسيسا و251 طالب اكليروس و6 مدارس إكليروسية و88 مدرسة عامة ومعهدان جامعيان و117 راهب و164 راهبة، إضافة اإلى آلاف الأتباع ..
وازدادت شدة ردود الأفعال لقيام بنديكت 16، يوم 21 يناير 2009، برفع الحرمان عن هؤلاء الأساقفة الأربعة خاصة وأن واحد من بينهم ، هو الأسقف ريتشارد وليمصون ، كان قد أعلن فى نفس الوقت عن عدم إقتناعه ونفيه ل "محرقة اليهود المزعومة" ! والمعروف أن الإيمان بتلك المحرقه كانت محكمة نورنبرج قد فرضته على العالم أيام تناولها قضية النازى واليهود.. ومن الواضح ان فرض الإيمان بشىء ما، بقوة القانون، يعنى ان هناك ما لا يستقيم مع الحقائق المعاشة..
والغريب ان ما لم يتناوله الإعلام الغربى بوضوح فى هذه المسألة هو ان قيام البابا برفع حرمانٍ ما عن أشخاص كان قد قام بحرمانهم أى بابا سابق ، فإن ذلك يمس بعقيدة "معصومية البابا من الخطأ" التى فرضها مجمع الفاتيكان الأول سنة 1870 كعقيدة إيمانية مسلم بها، لأن البابا مندوب "ربنا يسوع المسيح" على الأرض كما يقولون ولا يمكنه الخطأ.. ويا له من خلط وتلاعب بالعقول !
ومن شدة الإنتقادات التى تطايرت إضطر بنديكت 16، فى سابقة هى الأولى من نوعها فى التاريخ الكنسى، ان يوجه خطابا الى كافة أساقفة العالم، فى 12 مارس 2009 ، يشرح فيه سبب رفعه هذا الحرمان ، فكل ما يعنيه كما قال هو لمّ شمل المنشقين لتوحيد صفوف التيارات المسيحية المختلفة، والتى زاد عددها حاليا عن الثلاثمائة إنشقاق كنسى، والهدف هو فى نظر البابا : أن يتكاتفوا جميعا لعملية تنصير العالم بحلول سنة 2010 .. وذلك تنفيذا للبرنامج الذى كان مجلس الكنائس العالمى قد أعلنه فى يناير 2001 ، حينما لم يتم تنصير العالم، وفقا للمخطط المعلن منذ مجمع الفاتيكان الثانى سنة 1965.. وهو ما أعلنه أيضا القس رضا عدلى راعى الكنيسة الإنجيلية بالإذبكية يوم الأربعاء 14/3/2009 فى مؤتمر الصلاة والعبادة السنوى فى مصر قائلا :
"أن عام 2010 سوف يكون عاما كرازيا ( أى تبشيريا ) ليس فى مصر فقط ولكن فى كل الوطن العربى" ، وهو المؤتمر الذى اعلن فيه عن مفاجأة تأسيس "مدرسة الكرازة" اى مدرسة التبشير التى تهدف الى تخريج 2000 مبشر سينتشرون برسالة "الخلاص" فى أنحاء القطر المصرى! الأمر الذى يكشف عن مدى تواطوء النصارى فى مصر وفى العالم العربى مع المؤسسة الكنسية العالميه ومخططها المعلن لتنصير العالم ، بل وهو ما يضع ولاءهم للوطن محل نظر..
والغريب أيضا أن الإعلام الغربى لم يعلّق على قرار البابا فى الخطاب التبريرى الذى نشره من أنه قد "قرر إسناد الدفاع عن <كنيسة الرب> إلى لجنة عقيدة الإيمان "، وتعنى محاكم التفتيش السابقة بعد أن تم تغيير اسمها.. وهو ما يوضح الى اى مدى تصل جدية محاولات تلك المؤسسة الفاتيكانية لتنصير العالم واستعانتها بالصليبيين الجدد الذين يتولون عملية إقتلاع الإسلام والمسلمين بعد تذرع قيادتهم بمسرحية 11/9/2001 التى سمحت لهم بالتلفع بشرعية دولية ، قائمة على تل من الأكاذيب، لإقتلاع الإسلام وتنصير العالم..

2 - حرمان أم برازيلية وطاقم الأطباء :

فى يوم 5/3/2009 قام أحد أساقفة البرازيل والمسؤل عن مدينة رسيف بحرمان أم برازيلية وطردها من الكنيسة هى وطاقم الأطباء الذين قاموا بإجهاض إبنتها البالغة من العمر تسع سنوات ، بعد ان ظل زوج الأم يغتصبها طوال ثلاث سنوات مهددا إياها بقتل أمها إذا ما أبلغتها بما يقوم به ! وكانت الطفلة حامل فى توأم ، ورأى الأطباء انها لن تتحمل عواقب ذلك الحمل الذى سيقضى عليها حتما، وقرر الجميع إجراء عملية الإجهاض فورا رغم تحريم القانون البرازيلى للإجهاض، وذلك لإنقاذ حياة الطفلة .. فما كان من اسقف البلدة إلا ان قام بحرمان الأم وكل الذين اشتركوا فى عملية الإجهاض، بعد أخذ موافقة الفاتيكان، الذى رأى "أن جريمة الإغتصاب أقل بكثير من القيام بعملية إجهاض تخالف تعاليم الكنيسة" !!. كما لم تقم الكنيسة البرازيلية أوالفاتيكانية بمعاقبة الزوج أو حتى حرمانه لعملية الزنا والإغتصاب المتكرر الذى قام به لأن ذلك فى نظرها : "اقل جرماً من الإجهاض الذى تحاربه الكنيسة وتحرّم اللجوء إليه.. ولأن الأجنّة كان من حقها ان تعيش " !. ويا له من منطق..
وأدت هذه الفضيحة المدوّية الى ثورة عارمة فى الرأى العام الغربى الى درجة قيام العديد من رجال الكنيسة وخاصة رتبها العليا فى فرنسا بل والعديد من القيادات السياسية والإجتماعية بإدانة ذلك التصرف الخالى من اى شعور إنسانى وإدانة البابا بنديكت 16 ومطالبته علنا بالتنحى عن منصبه ، على الرغم من أنه لا يمكن لمخلوق أن يقيل البابا من منصبه.. غير أن القانون الكنسى الحالى والذى أقره البابا السابق يوحنا بولس الثانى عام 1983، يسمح للبابا بالتنحى بمحض إرادته بموجب البند 332/2 ، كما ان قبول تنحيه ليس بحاجة إلى إعتماده من أحد "إذ ان البابا لا يترأسه إلا الله شخصيا" كمل يقولون ! وقد ظلت هذه الإمكانية شبه نادرة، ففى التاريخ الكنسى الحديث لم يفكر فى التنحى سوى ثلاث بابوات، مجرد تفكير : البابا بيوس 12 خشية أن يختطفه النازى، وبولس 6 عند بلوغه الثمانين، ويوحنا بولس الثانى عام 2000.. لكن بريق الكرسى وسلطات التحكم كانت أقوى.

3 - عدم جدوى العازل الطبى فى الحماية من الإيدز :

فى الطائرة التى اقلته الى الكامرون يوم 17/3/2009، و رداً على سؤال من أحد الصحفيين المرافقين له، أجاب بنديكت 16 قائلا : "لا يمكن حل مشكلة الإيدز بتوزيع العوازل الطبية ، وعلى العكس من ذلك فإن استخدامها يزيد من تفاقم المشكلة" !. الأمر الذى أثار عاصفة احتجاج عارمة على الصعيد العالمى وصلت ردود أفعالها الى تحريك بعض رؤساء الدول وكبار المسؤلين الكنسيين او السياسيين ..
وقد أعربت وزارة الخارجية الفرنسية عن قلقها الشديد من هذه التصريحات التى "تجاذف بالصحة العامة وبمتطلبات حماية الحياة البشرية" .. كما أوضحت الوزارة فى بيانها : "ان العازل الطبى يمثل عنصرا أساسياً فى الحماية من الإيدز إلى جانب التوجيه والإرشاد والكشف عن مخاطر المرض" .. وهو ما أقرته المانيا ، بلد البابا، مؤكدة على أهمية العازل الطبى. أما وزيرة الصحة فى بلجيكا فقد وصفت عباراته بأنها "إنعكاس لرؤية تسلطية خطرة" .. بينما قال ميشيل كزاتشكين، الرئيس التنفيذى للصندوق العالمى لمكافحة الإيدز، معرباً عن شعوره بالإهانة مطالبا البابا "بسحب عباراته والتراجع عنها علناً وبوضوح لأنها مرفوضة وغير مقبولة" ، مشيرا الى ان أخطر ما فى اقوال البابا أنها موجهة لقارة " يعانى 70% من سكانها من الإصابة بالإيدز". فى حين وصف عمدة باريس تلك العبارات بأنها "غير مسؤلة ومخالفة للحقيقة" .. وأوضح دانيال بنديت ، احد النواب الأوروبيين "ان عبارات البابا تعنى عملية قتل متعمّد" ..
وفى حركة علنية معادية لموقف البابا بنديكت 16، قام فريق من اليسار الفرنسى بتنظيم مظاهرة رسمية يوم 22 مارس الحالى فى ميدان يوحنا بولس الثانى أمام كنيسة نتردام فى باريس، وقاموا بتوزيع عوازل طبية على الحضور والمارة كنوع من الإحتجاج على عبارات اعتبرها العديد من كبار المسؤلين أنها "إجرامية" و"غير مسؤلة" !.

ومن الواضح ان هذه العاصفة تحديدا وما سبقها من عواصف قد حالت دون ان تتولى وسائل الإعلام التحليلية تناول الهدف الرئيسى لزيارة البابا بنديكت الى كل من الكامرون وأنجولا، التى امتدت من 17 إلى 23/3/2009 إحتفالا بمرور خمسمائة عام على بداية تنصير القارة، أو على الأقل قد أرجأته لحين. فالهدف المعلن كنسيا هو الإعداد للسينودس الذى سوف ينعقد من أجل بحث وتدارس كيفية تنصير القارة الإفريقية، وذلك خلال شهر أكتوبر القادم. لذلك إلتقى بنديكت 16 بممثلى 52 أسقفية لتسليمهم الخطوط الرئيسية لخطة العمل كما يتصورها.. وهى خطة تقع فى حوالى خمسين صفحة !.
وإذا ما حاولنا الربط بين هذه الموضوعات الثلاثة، رغم اختلافها ولو شكلا، لوجدنا أنها تلتقى جميعها عند الخطوط الرئيسىية التى تقودها المؤسسة الكنسية بكل جبروت لفرض سلطتها لتنصير العالم .. لأن محاولة إستعادة المنشقين إلى الكنيسة الأم هى جزء من محاولة توحيد الكنائس تحت لواء كاثوليكية روما؛ وفرض الحرمان بكل هذا الصلف والتعنت فى الوقت الذى كان لابد من عمل تصرف إنسانى لحماية الطفلة المغتصبة ومعاقة الجانى بأشد أنواع العقوبات وحرمانه هو وليس الأم وطاقم الأطباء الذين أنقذوا حياة الطفلة، يكشف عن صرامة وإصرار فرض العقائد التى نسجتها المؤسسة الكنسية والتى لا يعرف عنها السيد المسيح شيئا ؛ و إدانة العازل الطبى ومنع توزيعه لحماية الناس وأغلبهم من فقراء القارة بل ورغم إنتشاره فى العالم، يؤكد مدى تحكم بنديكت 16، الذى أطلقوا عليه "البابا الدبابة" عند إنتخابه ، ومدى تشبثه الأكمه بتنفيذ القرارات الرامية الى توحيد كافة الكنائس لتنصير العالم – حتى وإن تم وصف تصرفاته وأقوالة بالشطحات الإجرامية !.

ويبقى السؤال المرير :
أين القيادات الإسلامية من كل هذه الشطحات الرسمية الإجرامية المعلنة ؟!..

25/3/2009

 

 الدكتورة زينب
  • مقالات
  • كتب
  • أبحاث علمية
  • Français
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط