اطبع هذه الصفحة


الإقتلاع بالهدم والتدمير

الدكتورة زينب عبدالعزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية


من الثابت تاريخيا أن عملية إقتلاع الآخر ، فى التاريخ الاكنسى ، قد شملت كافة المجالات الأساسية ، ونعرض هنا لما قامت به المؤسسة الكنسية من تدمير واقتلاع للهوية ، فى المنطقة التى انصهرت فيها ونُسجت منها المسيحية ، أى فى روما واليونان وضواحيهما ، وإن كان ما مارسته من غل لتدمير وإقتلاع الآخر كان هو النمط الذى اتبعته فى كل المناطق التى امتدت إليها هذه الديانة الكاسحة لما عداها ، عبر شواطىء حوض البحر الأبيض المتوسط ومدنها !
إن العدد الضئيل المتبقى من أنقاض المعابد والمسارح وأقواس النصر وأكشاك الموسيقى أو حتى المدافن بكل ما تضمه من تماثيل وأعمال فنية ، بل وكل ما يمكن لحضارة ضاربة فى التاريخ وتنوع الثقافات والعبادات أن تنتجه ، لا يتمشى مع كم المبانى المتنوعة التى يتضمنها كتاب المؤرخ القديم بوزانياس والمعنون "وصف اليونان" ، الذى كتبه فى القرن الثانى الميلادى.

وقد يتخيل المرء أن تلك المعابد المعدودة المتبقية فى اليونان أو فى غيرها من المناطق هى كل ما شيدته حضاراتها القديمة ، كما قد يتصور أن عوامل الزمن هى التى أتت عليها أو على غيرها ! إلا أن متابعة تطور التاريخ وأحداثه تثبت أن تقلبات الطقس بل حتى الزلازل بريئة من ذلك الدمار الذى اجتاح مختلف أنواع الأبنية العاكسة للحضارات القديمة وعباداتها السابقة على ظهور المسيحية وانتشارها.

وأهم ما يلفت النظر أن المعابد الوحيدة الباقية تقريبا هى تلك التى تم تحويلها آنذاك إلى كنائس.. ومنها معبد آثينا الذى تم تحويله إلى كاتدرائية سيراكوز. وهو ما يمكن ملاحظته فى مختلف البلدان الأخرى .

ويمثل حكم قسطنطين (306 -338 ) مرحلة مفصلية بين الحضارات الهللينية والرومانية المتعددة الديانات والعبادات. إلا ان المساندة السياسية التى قدمها قادة المؤسسة الكنسية لهذا الإمبراطور هى التى فتحت للمسيحية طريق الإنتشار. فقد كان المسيحيون فى بداية مشوارهم يرفضون الإشتراك فى الحروب والقتال لحرمة ذلك فى تعاليم السيد المسيح . إلا أن المساومة التى تمت بين المؤسسة الكنسية والسلطة السياسية ، والتى تم بموجبها الإعتراف بالمسيحية كديانة من الديانات السائدة آنذاك ، فى عام 313 ، مقابل أن يتم تجنيد المسيحيين فى الجيش الإمبراطورى ، هى التى تفسر استمرار بقاء تلك العقيدة الوليدة – حتى وإن كانت تمثل فى نفس الوقت خروج هذه المؤسسة عن تعاليم الدين تماما ، وهو ما سوف يتكرر العديد من المرات طوال مشوارها عبر التاريخ .

ويقول جى ديفيتش : " أن إتّباع قادة الكنيسة لسياسة حاذقة المهارة قد سمح لهم بالوصول إلى أن تكون المسيحية ديانة وحيدة للدولة ، وأن تتحول إلى سلطة عسكرية ذات نفوذ ، وسلطة قمعية أساسا ، راحت تقرض وتمحو بالتدريج الدؤوب التراث الفنى والفكرى الموروث عبر القرون السابقة حتى أتت عليه " ..
وقد إتبع أبناء قسطنطين نفس خطواته فى حربهم ضد العبادات الوثنية ، إلا أن تيودوز الأول (379 – 395 ) هو الذى استكمل مسيرة الهدم بضراوة. فكم من معابد تم استخدام حجارتها الضخمة فى بناء كنائس للديانة الجديدة . فتم إقتلاع معبد أرتميزيون بمدينة أفسوس ، وكان قديما يعد أحد عجائب الدنيا السبعة ، وذلك لجمال أعمدته المصنوعة من الرخام الأبيض الذى تشوبه تعاريج زرقاء ، بارتفاع عشرين مترا . وكانت قاعدته المرتفعة مزدانة بتماثيل بالحجم الطبيعى. وقد تم هدم هذا المعبد التحفة المعمارية وتقطيعه ، كما تقطع الذبائح ، لبناء كنائس مسيحية !
وفى فلسطين تم هدم معبد هدريان فى مدينة القدس ، ومعبد فينوس بجوار بحيرة طبرية ، ومعبد إسكولاب فى سليسيا ، ومعبد فينوس فى بعلبك ، وذلك على سبيل المثال لا الحصر.. كما كانوا ينبشون المقابر والأبنية المحيطة بها وكسر تماثيلها وتحطيم توابيتها ونثر رفات جثثها لإقامة كنائس على أنقاضها.

ومن المتفق عليه بين العلماء واعتمادا على الوثائق التاريخية الموجودة ، أن معظم المعابد الهللينية الضخمة وغيرها وكافة دور العبادة الوثنية الأخرى المتبقية قد تم هدمها بناء على مرسوم الإمبراطور المسيحى ، تيودوز الثانى ، إمبراطور الشرق ، فيما بين 408 و450 ميلادية ، والذى أمر بموجبه "أن يتم هدم كل ما بقى من الوثنية السابقة ".

وقد انتشرت المسيحية فى بلاد الغال بنفس أسلوب الهدم والإقتلاع لإقامة الكنائس المسيحية تثبيتا لها. ويقول إيميل مال فى كتابه عن "نهاية الوثنية فى بلاد الغال" : "عندما نتأمل ما بقى من التماثيل والنقوش الوثنية ندهش من ذلك الإصرار على تجريحها وتشويهها إن لم يكن مجرد كسرها أو تحطيمها تماما . وكل ذلك بواعز من الأساقفة والقيادات الكنسية ".. وفى عام 388 تم حرق معبد كاللينيكم ، وهو من أكبر المعابد ، بواعز من أحد الأساقفة وأقره الأسقف إمبرواز فى ميلانو. وفى عام 389 تم هدم معبد أباميه ، وقد مات الأسقف وهو يقوم ببداية الهدم بتفسه. وفى عام 390 كتب المؤرخ ليبانيوس كتابه الشهير " من أجل المعابد" ، وهى وثيقة إدانة حادة ضد المسيحيين وأساقفتهم لكل ما يمارسونه من عمليات هدم للتراث ..

وتراكمت الأنقاض فى مجمل بلدان الشرق الإمبراطورى إذ تضافرت جهود القساوسة والرهبان تحت قيادة الأساقفة والبابوات لهدم الآثار الوثنية فى مختلف البلدان التى امتدت إليها المسيحية لفرض بصمتها ..

وقد أتى الإمبراطور جوستنيان فى القرن السادس على ما بقى من معابد وثنية لإقامة كنائس ضخمة للقديسين. وفى القرن السابع كانت المسيحية قد استقرت فى المعابد التى تم تحويلها إلى كنائس ، ومنها : البانتنون فى روما ، والبارتنون فى آثينا ، والتيزيون.

ومن بين المعابد التى تم كسوة جدرانها بالملاط وتغطيتها برسومات تمثل السيد المسيح والقديسين ، معابد النوبة فى مصر ومنها معبد أبو عودة ، حيث كان المسيحيون الأوائل يلجأون إلى الصعيد ، فى القرون الأولى ، هربا من إضطهاد الرومان .

و تمت ممارسة نفس العمليات فى مختلف البلدان ، وما لم يتمكنوا من هدمه كانوا يقومون بفرض معالم تنصيره بحفر علامة الصليب ورسم القديسين ، لتتواصل عمليات الهدم والإقتلاع للتراث القديم لأكثر من الف عام. وهو ما أطلق عليه جى ديفيتش " العصر الأسواد " لما اعتراه من قتل وهدم وحرق للناس وللوثائق بوحشية منقطعة النظير ..

ويقول بيير جريمال فى كتابه عن "روما" : "إن ما بقى من الآثار القديمة فى كل مكان قد تم تنصيره سواء بوضع الصلبان فوق المسلات ، أو بوضع تمثال لأحد القديسين فوق أعمدة تذكارية مثل عمود تراجان ، وتمثال لبولس الرسول فوق تمثال مارك أورليوس.. ومن ناحية أخرى كان الهدم يتم بلا رحمة لكل ما هو آثار قديمة توجد فى طريقهم ، أو يقومون باستخدامها فى المبانى التى يشيدونها ، أو تحويل غيرها إلى جير بعد سحقها !
ففى القرن الخامس عشر فى روما وضواحيها كان إقامة أى مبنى جديد يعنى هدم أثر قديم .. فلكى يقوم البابا نيقولا الخامس (1447 – 1464 ) بتنفيذ مشاريعه الكنسية الضخمة قام بتحويل مناطق آثار روما القديمة إلى محاجر فى مناطق ترافان والفورم والسيرك الكبير فى الكوليسيوم. ففى عام واحد تم نقل الفين وخمسمائة عربة من تلك الأحجار الأثرية.

ويقول أوجين مونتز فى كتابه عن "الفنون فى بلاط البابوات فى القرنين الخامس عشر والسادس عشر" : إن كل تلك الآثار من حمامات ومسارح وأقواس نصر ومعابد قد سقطت تحت معاول الهدامين التابعين للبابا نيقولا الخامس ، فى نفس ذلك الوقت الذى كان يفتتح فيه عصر النهضة ..

وهو نفس الموقف الذى إتبعه البابا سيكست الرابع (1471 -1484) حيال الأنقاض الأثرية الباقية من روما الإمبراطورية. فقد كان عهده الأسوأ بالنسبة لها. ففى شهر ديسمبر 1471 أصدر مرسوما للمهندس القائم على بناء مكتبة الفاتيكان، بأن يقوم بحفائر للحصول على الأحجار اللازمة لإستكمال البناء. ولم ينص المرسوم بالطبع على المكان الذى يمكنه الحفر فيه ، لكن الأماكن الأثرية كانت معلومة وما كان عليه إلا إنتزاع الأساسات الباقية من تلك المبانى الأثرية. ويقول أوجين مونتز أنه قد تم أخذ من مبنى الكوليزيوم الذى كان لا يزال قائما الأحجار اللازمة لبناء "كوبرى سيكست" ، وهو الكوبرى المسمى باسم البابا ، وكذلك من معبد هيرقل وقوس النصر بجوار قصر سكايارّا كولونَّا . والطريف أن المرسوم الذى أصدره هذا البابا كان ينص على الحفاظ على الآثار المسيحية وعدم المساس بها !

وكم من أصوات إرتفعت للحد من ذلك الإقتلاع المتواصل والتدمير لمدينة الإمبراطورية القديمة ، من قبيل إعتراضات المعلم جريجوار ، الذى راح يعدد كم الآثار الباقية فى روما وضواحيها معترضا على تخريبها ، أو فاوستو دى فرّو الذى كتب رسالة إحتجاج حادة للبابا سيكست الرابع لما كان يقترفه ضد آثار المدينة الخالدة. وكلها أصوات ظلت تدين وتحتج ، بينما البابوات يواصلون بنفس الدأب و لعدة قرون ، يشيدون قصور عصر النهضة بتشويه أو بتدمير مبانى روما الإمبراطورية والوثنية.

ويقول الأثرى رودولف لانشانى فى كتابه المعنون : "أنقاض وحفائر روما القديمة" (1897) : " لنفترض أنه كانت هناك عوامل تعرية أو عوامل طبيعية من قبيل الحرائق والزلازل والفيضنات أو حتى الأمطار والسيول والبرد والحر وكل ما يمكنه أن يؤثر كرد فعل طبيعى ، إلا أن ذلك الإقتلاع الرهيب وذلك الهدد المتعمد يفوق رد فعل تلك العوامل ولا يمكن إلا أن يكون بفعل بشر.. بل ولا يمكن إرجاع ذلك إلى قبائل البربر ، فكل ما كان يعنيهم فى غزواتهم هو نهب المحال والديار ثم الفرار – وكانوا يفرون كالعاصفة العاتية مثلما يغيرون. أما مسيحيو العصور البيزنطية وما بعدها ، وسلسلة البابوات من بداية المسيحية حتى عصر النهضة ، فقد كانت تصرفاتهم وإنعكاساتها أكثر دماراً على التراث من نيران وحمم بركان الفيزوف " !..

ومما يحكى تاريخيا أن البابا أوربان الثامن باربرينى قد أرسل إلى إدارة المسابك الرسولية أكثر من خمسين ألف رطل من البرونز المنزوع من هيكل بناء معبد البانتنون فى روما ، ليستخدمها فى بلدكانة القديس بطرس فى الكنيسة التى تحمل إسمه ، وفى العديد من المعدات المعدنية لقصر الملاك المقدس ، حتى أطلق سكان روما تلك العبارة الساخرة : "ما لم يفعله البرابرة ، فعله آل باربرينى " !.. (Quod Barbari non fecerunt, Barberini fecerunt ) ..

ومن بين الأصوات التى إرتفعت إحتجاجا على ذلك الهدم المتعمد ، فلافيو بيوندو (1388-1463 ) ، وكان يعمل سكرتيرا رسوليا ، وراح يندد " بتلك الأيادى غير الأمينة التى بدلت الأعمال الرخامية أو المنحوتة من الحجر و قامت بتدميرها لإستخدامها فى مبانى منفرة الشكل" .. ثم يواصل حصرته على ما ضاع قائلا : "لقد أصبحت شجيرات الكروم تنبت على أرض كانت تكسوها روائع الآثار التذكارية ، بعد أن تم تحويل أحجارها المنحوتة إلى جير .. وبجوار الكابيتول ، أمام الفورم ، لا يزال صرح الكونكورد قائما ، وقد كان سليما عند زيارتى السابقة لروما ، ولم يكن نزع منها سوى الكسوة الرخامية. أما اليوم ، فقد هدموه وحولوه إلى جير " !

أما الفنان التشكيلى رفايللو ، وهو من أشهر فنانى عصر النهضة ، فقد كتب عام 1519 إلى البابا ليون العاشر عريضة يقول فيها :
" لماذا نشكو من غزوات الغوط والفندال ، فى الوقت الذى كان يتعيّن فيه على من يحمون ثروات روما التراثية من الضياع هم الذين عاونوا منذ فترات طويلة على هدمها ونهبها !. فكم من البابوات فى نفس سلطتك قد تركوا المعابد الأثرية والتماثيل والعقود وكل تلك المبانى الرائعة التى كانت تمثل مجد من صنعوها ، فأمروا بهدمها ونهبها ! كم من البابوات سمحوا بعمل حفائر لإستخراج أرض خصبة ؟ كانوا يحفرون تحت الأساسات لخلخلتها لكى تنهار بنفسها .. كم من تمثال أثرى قاموا بطحنها لتحويلها إلى جير ؟ لذلك أجروء على قول أن كل روما الحديثة هذه والتى نراها حاليا تتألق فى عظمتها وجمالها وقصورها وكنائسها قد تم تشييدها بجير مستخرج من التماثيل الرخامية القديمة. ولا يمكننى أن أذكر – دون الشعور بالحزن العميق ، أنه منذ وصولى إلى روما ، منذ حوالى إثنى عشر سنوات ، قد تم هدم العديد من الأبنية الأثرية الجميلة القديمة ، من قبيل مبنى ميتا و رواق مدخل حمامات ديوكليسيان ومعبد كسيريس ، فى الطريق المقدس ، وجزء من أنقاض الفورم ، الذى تم حرقه منذ بضعة أيام لتحويل رخامه إلى جير ، وكذلك العديد من أجزاء البازليك التابعة للفورم وأعمدته ! أنه عار على هذا العصر الذى نحن فيه أن يقبل حدوث مثل هذه التصرفات ، ويمكن القول بأن هانيبال وغيره من الهمج أعداء روما لما استطاعوا أن يتصرفوا بوحشية أكبر من هذا "!. _ وارد فى كتاب أندريه بيجانيول : " هدم روما القديمة بأيدى البابوات " (1964) ..

ومع إنتصار المسيحية وفرض لزوم تفردها كديانة وحيدة دون سواها فى الإمبراطورية الرومانية ، وفى كل ما تم غزوه من بلدان بحد السيف ، ترسخت عقلية جديدة قائمة على تجفيف منابع العصر الهللينى ومختلف العبادات ، سواء فى مصر وبلدان مابين النهرين وآشور وما جاورها من عبادات وثنية أخرى أو كل ما يمكنه أن يذكّر بها .. مما نجم عنه ذلك الهدم المنهجى المتواصل لكل ما أبدعته هذه الحضارات من ترث معمارية وثقافية وفكرية ودينية ..

ولم ينج من هذا الهدم الغاشم الدؤوب إلا ما تم تحويله آنذاك إلى كنائس مباشرة بعد طمس معالمها وتنصيرها ، وذلك كنزع تمثال مينرفا ووضع تمثال للعذراء ، أو نزع تمثال أحد الآلهة لوضع تمثال ليسوع أو لأحد القديسين ، أو كل ما أعيد استخدامه بعد إنتزاعه من مكانه وتعديله تطويلا أو تقصيرا لوضعه فى المبنى الكنسى الجديد.. والمهم فى جميع الأحوال هو إقتلاع الآخر !
فالإقتلاع بالهدم والتدمير ، الذى بدأت به المسيحية الرومية بإقتلاع الآثار والنصوص ، لا يزال يتواصل بنفس الضراوة ، وإن كان بأساليب أخرى تتمشى مع مقتضيات العصر ..


 

 الدكتورة زينب
  • مقالات
  • كتب
  • أبحاث علمية
  • Français
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط