اطبع هذه الصفحة


التبشير والتنصير ضرورة كنسية !

الدكتورة زينب عبدالعزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية


فى وثيقة تُعد صياغتها نموذجا مثاليا للتلاعب بالألفاظ والمعانى ، أعلن الكرسى الرسولى عن مذكرة تفسيرية حول عدد من ملامح التبشير ، صادرة عن لجنة عقيدة الإيمان (محاكم التفتيش سابقا) ولجنة تبشير الشعوب ، و تدور حول فكرة " أن التبشير بالإنجيل لا يعنى المطالبة بتغيير الدين وإنما هو واجب كنسى ، وإن التعبير عن الإيمان المسيحى والإعلان عن الإنجيل لا يعنى أنه القيام بعملية تبشير غير مشروعة ، وإنما هى من صميم المسيحية " !

وقد تم نشر الوثيقة يوم 14/12/2007 ، بعد أن اقرها البابا يوم 3/12/2007. وإن كان يقال أن البابا كان قد بدأ صياغتها حينما كان يدعى الكاردينال راتزنجر ويشغل منصب رئيس لجنة محاكم التفتيش . و تتكون الوثيقة من 19 صفحة تتضمن 13 بندا ، منها المقدمة والخاتمة ، و تدور بكلها "حول مسائل حساسة وأساسية بالنسبة لمهمة الكنيسة التبشيرية ، فى الظروف الحالية ، سواء التاريخية أو الثقافية " ، ـ إذ أنها توضح وتحدد كيفية تنصير العالم ، وأن ذلك حق كنسى لا رجعة فيه بل ولا نقاش !..

وتتذرع الوثيقة بتلك الآيات المصاغة فى القرن الرابع الميلادى ، عند تأليه المسيح ومساواته بالله عز وجل ، والمطالبة على لسان المسيح بتنصير العالم ، والتى بمقتضاها تقول اللجنة التى أصدرتها أنها تعتمد عليها لتبشير العالم . لذلك نراها منذ البداية تضع فى الصدارة فكرة " أن كل النشاط الكنسى له بُعد تبشيرى أساسى ولا يمكن فصله أبدا عن الإلتزام بمساعدة كل البشر على لقاء يسوع فى الإيمان ".. ويا لها من مساعدة فر منها الكثير من أتباعها ، وينفر منها المسلمون الذين يؤمنون بأن الله ، سبحانه وتعالى ، ليس كمثله شىء فهو الواحد الأحد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد !
لذلك تشير الوثيقة إلى الخلط المتزايد فى الثقافة المعاصرة التى تعتبر " أن كل محاولة لإقناع الآخرين بمسائل دينية ( أى تبشيرية ) تعد بمثابة تحديد لحرية الآخر!. وهو ما يتبعه توضيح لهدفها " الرامى إلى عدة ملامح تتعلق بأمر التبشير، الصادر عن يسوع ، وإحترام حرية العقيدة والحرية الدينية لكل فرد " ـ ولا نفهم كيف يمكن ان يتم تبشير أو تنصير شخص ما مع مراعاة إحترام عقليته و عقيدته وديانته ؟! ..

وتنقسم الوثيقة إلى ثلاثة أجزاء ، تتناول فيها التداخلات الإنسانية ، والكنسية ، وتوحيد الكنائس فى المهمة التبشيرية للكنيسة . وهنا لابد لنا من توضيح أن عبارة الكنيسة أو الكنيسة الأم تعنى : الكنيسة الرومية الكاثوليكية الرسولية ، فالكنائس الأخرى بكلها تتفاوت القيمة فى نظرها ، بل هناك كنائس لا تعتبرها تلك الكنيسة الأم انها كنائس و تصفها بأنها معيبة . وهو ما تم توضيحه بعد الخطاب الرسولى الأول للبابا بنديكت السادس عشر وما اثاره من زوابع .

ويعتمد الجزء الأول من الوثيقة على الخطاب الرسول للبابا يوحنا بولس الثانى حول " الإيمان والعقل " لذلك تحاول شرح كيف يمكن للفرد أن يدخل فى الإيمان المسيحى ، بل إن ذلك واجب أخلاقى عليه القيام به ، إضافة إلى أنها بمثابة ضرورة لا يمكن إلغائها. وفى كل هذه النقطة تعتمد الصياغة على دور الحرية الشخصية وعلى أنها نبع مفتوح مهدى للإنسان من خالقه !. لذلك تنتقد الوثيقة كل الذين يعتبرون التبشير إعتداء على حرية الغير، موضحة أن هذا الموقف لا يلاحظ فى المجتمعات الغربية فقط ، وإنما يلاحظونه فى الشرق أيضا.

ويرى كاتبو هذه الوثيقة ، أن التبشير فى مجال التعايش المشترك بين البشر، يجب أن يأخذ فى الإعتبار اليقين الأساسى بأن "الحقيقة لا تُفرض إلا بموجب نفس قوة حقيقتها" لأن هذه القوة هى التى تحدد طريق النصر الذى يتعين على المرتد أن يسلكه " لأنه خُلق ليعرفها ويتبعها " (أى أن الله العلى القدير قد خلق كل البشر ليكونوا مسيحيين ! ).. ومن هنا فإن "دعوة الشخص بصورة أمينة ، مع مراعاة ذكاءه وحريته ، لأن يذهب طواعية للقاء المسيح وإنجيله ، ليس تدخلا فى غير مكانه فى حقه وإنما هى خدمة شرعية وجليلة تقَدَم له بحيث تجعل العلاقات بين البشر أكثر ثراء " !!
إن الدعوة إلى ضرورة التنصير صريحة لا لبس فيها إذ تقول : " إن الإعلان عن المسيح ، إبن الله الذى تجسد بشرا ، وأنه المنقذ الوحيد ، بصراحة وإخلاص تبشيرى ، دون خشية مخاوف لا أساس لها، إعتمادا على قوة الحق الناجم عن الرب شخصيا سيساند الحقيقة الوحيدة التى يجب أن تنغرس فى قلوب البشر " .. ويواصل النص موضحا : " لا بد من الفهم بوضوح أن الإنضمام كاملا إلى المسيح ، الذى هو الحق ، والدخول فى كنيسته ، لا يقلل من الحرية الإنسانية وإنما يرفع من شأنها " !

وهنا توضح الوثيقة " أن منهج واسلوب التبشير عظيم الشأن ، إعتمادا على الإعلان عن الكنيسة وعلى الصداقات الشخصية ، فإن كانت المسيحية هى لقاء مع حدث ما ومع شخص ما ، فذلك يعطى الحياة أفقا جديدا إعتمادا على الإدارة الحاسمة . فصداقة يسوع بحوارييه التى تتواصل إلينا حتى اليوم ، هى منهج التبشير الذى يصل الإله-الإنسان بالإنسان ، ومن شخص إلى شخص ، حتى تعم الإنسانية بأسرها " ..

ثم تتناول الوثيقة معنى كلمة الإرتداد والتى " تتضمن ضرورة إدخال الوثنيين فى الكنيسة ، ( وهنا تجدر الإشارة إلى أن كلمة وثنى ، فى هذا النص ، تشير إلى كل من هو ليس مسيحيا ) ، وضرورة قيادتهم إلى التوحد المتزايد بيسوع ، لأن ذلك يعنى الدخول فى شبكة صداقة مع المسيح ، الذى يربط السماء بالأرض والقارات المختلفة وكل العصور الزمانية ، لأن ملكوت الله هو قبل كل شىء إنسان له وجه وإسم: يسوع الناصرة " !

وتوجز الوثيقة عملية التبشير " بأنها واجب لا يمكن للمسيحيين التخلى عنه وفى نفس الوقت أنها أحد حقوقهم التى لا نقاش فيها ، وتعبير عن الحرية الدينية التى لها ابعادها الموازية للقيم الأخلاقية الإجتماعية والسياسية ، وأن أية شهادة مسيحية تظل عاجزة ما لم يمكنها الإعلان بوضوح وبلا مواربة عن ربنا يسوع " . أى إن المسيحى الذى لا يشارك فى عملية التبشير ، التى فرضها مجمع الفاتيكان الثانى على كافة الأتباع، يعد إيمانه بمسيحيته ناقضا !

وتنتهى الوثيقة بما له مغزاه الواضح ، إذ تقول : " لقد آن الآوان لنتخطى المفاهيم الخاطئة التى بمقتضاها يقال أن غير المؤمن بالمسيحية والذى يعيش حياة مستقيمة ، ليس عليه إحترام واجبات أخرى ، إذ أن الوصية الأولى لا تزال سارية إلى الأبد ولكل البشر، وخطيئة غير المسيحى هى تحديدا عدم الإيمان بهذه الوصية التى تقول : "ولن يكون لك إله غيرى " .. ولا يسع المجال هنا لنتناول بالتفصيل أن البابا بنديكت السادس عشر أصبح يتبنى تعاليم العهد القديم ، الخاص باليهود ، على أنها تعاليم عامة للجميع ، فهذه الوصية هى من الوصايا العشر الخاصة باليهود ..

وتشير الوثيقة إلى ان عملية توحيد الكنائس المختلفة أو المنشقة والحوار بين الديانات الأخرى لن توقفه عملية التبشير بالإنجيل وبيسوع ، بل بالعكس من ذلك إنها توضيح للهوية وللنية ، أنها مواجهة حرة للأفكار المسبقة وقادرة على عرض الأسباب المتبادلة التى تميز هذا الحوار الحر الشديد الضرورة للتقدم الفعلى للمعرفة المتبادلة للطرق المشترك .
وتنتهى الوثيقة بمقولة للبابا بنديكت السادس عشر توضح أن التبشير يمثل " أول خدمة يمكن للمسيحيين أن يقدمونها لكل إنسان وللإنسانية جمعاء " !!
ويعقبها الدعاء القائل : " نطلب من الروح القدس أن يعطى القوة للجميع ، الأتباع العلمانيين والرعاة الكنسيين ، للإعلان عن المسيح بذكاء وسخاء وفاعلية جديرة بأصدقاء الرب وبشجاعة الشهداء ، وهو المقياس الوحيد الحقيقى والواقعى للتبشير" ..

وتبقى الإشارة إلى أن سبب إصدار هذه الوثيقة هو الإعتراضات الرسمية التى تقدم بها بابا الكنيسة الأرثوذكسية فى روسيا ، ضد عمليات التبشير التى يقوم بها الكاثوليك هناك ، منذ أن سُمح لهم بغرس أربعة أسقفيات فى روسيا ..

والموضوع برمته مرفوع إلى كافة المسلمين الذين يشاركون بجهل أو عن عمد فى مهزلة الحوار بين الأديان ، التى لا ترمى ولا تهدف إلا إلى كسب الوقت حتى تتم عملية التنصير التى تدور رحاها بصورة لا تغفلها عين ..


 

 الدكتورة زينب
  • مقالات
  • كتب
  • أبحاث علمية
  • Français
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط