اطبع هذه الصفحة


تعقيب على مقال الدكتور ميلاد منصور
المنشور بجريدة القدس العربى يوم 27/12/2007

الدكتورة زينب عبدالعزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية


قبل أن أبدأ بالتعقيب على المقال ، ليأذن لى الزميل الدكتور ميلاد منصور ، أستاذ تاريخ العصور الوسطى ، أن أوضح عدة نقاط أساسية ، وهى :
أننا لسنا أعداء ولا خصوم ، وإنما أخوة فى الوطن يتم التلاعب بنا لحساب أطراف أخرى ، وأخوة متجاورون عند وقوع المصيبة التى يعدّون لها ، لتحل علينا جميعا ، فالقنبلة (سواء فعلية أو مجازية) حين تسقط لا تفرق بين الأديان والملل ، وإنما تحصد كل ما يقع فى نطاقها ؛ وأن كل منا ليس مسؤلا سواء عما تم فى النصوص المسيحية من تحريف أو عما يقوم به بعض المسلمين من سوء إستخدام للدين ؛ وأننى لا أتخذ الدين مطية لتحقيق الأطماع السياسية ، فأنا مستبعدة ولله الحمد من كافة المحافل ، السياسية والإسلامية ، للصراحة والوضوح الذى اتحدث بهما ؛ وبى من الأمراض ما يجعلنى أتلو الشهادة قبل النوم ، وأندهش فعلا لإشراقة كل فجر جديد .. فأنا فى الثانية والسبعين من عمرى ولا أطماع لى فى هذه الدنيا إلا الدفاع عن الإسلام الذى يُقتلع بشراسة وإصرار لم يعد من الممكن تغافلهما ؛ ولست معادية للمسيحية والمسيحيين ، لكننى – واقولها بكل وضوح وتحديد : أنا ضد قرار تنصير العالم لفرض كاثوليكية روما، وضد إقتلاع الإسلام. لذلك أركز جهدى العلمى فى جزئية "موقف الغرب المسيحى المتعصب من الإسلام" ، وأحدد "المسيحى المتعصب" فيقينا إن نفس هذا الغرب ملىء بالأمناء وبالذين يجاهدون من أجل الصالح العام ، وبالذين هم غير راضون عن تلك الفئة القليلة الضالة التى تقود العالم إلى الهاوية . وكلها مسائل باتت مكشوفة لكل من لا يتعمد فقدان البصر والبصيرة ..

ومن هذا المنطلق فعبارات من قبيل الإستعلاء ، والإعتقاد المطلق بصواب رأيى ، والإفتقار إلى الحيدة ، وإتخاذ موقف مسبق ، وأنه يعوزنى التجرد والأمانة العلمية ، وما إلى ذلك من العبارات الصريحة أوالمضغمة ، لا تنطبق علىّ ، وإنما وبكل أسف قمتَ أنت يا دكتور ميلاد بتطبيقها فعلا فى ردك ، وتلفعت بمسوح العلم وعباراته لتهميش صُلب الموضوع الذى تناولته فى المقال ، وتجنبت أنت الرد عليه ، بل واسترسلت فى تفاصيل جانبية لا شأن لها بالموضوع . وهنا لابد من أن أوضح : أن التمويه فى الرد لا يلغى الواقع والحقائق المعاشة ، كما أن تكرار الأكاذيب لا يحولها إلى حقائق بالأقدمية أو لمجرد تكرارها !

إن الخطاب المفتوح الذى وجهته للبابا بنديكت السادس عشر بعنوان "هيستريا تنصير العالم" بالفرنسية ، وترجمته إلى العربية ونشر فى جريدة القدس العربى وفى مواقع أخرى ، كان يركز على أن الفاتيكان ، فى قراره تنصير العالم الذى إتخذه فى مجمع الفاتيكان الثانى (1965) ، يستند إلى نصوص متناقضة ، وأن المسيح عليه الصلاة والسلام كان يبشر بالملكوت وقرب وقوعه ، بل وفى حياته ، وليس بتنصير العالم . وأنه قد أسند بنفس هذه المهمة إلى الحواريين ، وأنه حتى بعد صَلبه وبعثه – وفقا لأعمال الرسل ، ظل أربعين يوما يحدثهم عن الملكوت. كما ضربت مثلا على التلاعب بالنصوص ، إذ نطالع فى رسالة بطرس (آية 11) أن "ملكوت الله " الذى كان يبشر به يسوع ، قد تحول إلى "ملكوت ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الأبدى" .. وهو ما يثبت قطعا أن أعمال الرسل، أو هذه الجزئية منها ، تمت كتابتها بعد تأليه السيد المسيح ، اى فى أواخر القرن الرابع بعد إختلاق بدعة الثالوث ، وليس فى أواخر النصف الثانى من القرن الأول . ويمكنك مراجعة ذلك من الأناجيل ومقارنتها ومناقشة عدم فهمى لنصوص الأناجيل ، علما بأن ما لدى منها طبعات كنسية وليست "إنتقائية" !.

وخرجت من هذه الأقوال بتحديد أن رسالة يسوع ، وفقا للأناجيل ولأقوال يسوع بها ، تنحصر فقط فى "إعادة خراف بيت إسرائيل الضالة إلى رسالة التوحيد ، والتبشير بالملكوت الذى إقترب " ، وأنه من غير المنطقى أن نراه بعد ذلك يُملى على الحواريين ، بعد "بعثه"، ويأمرهم بتنصير العالم بإسم الثالوث ! فالثالوث قد تم اختلاقه فى مجمع القسطنطينية عام 381، بعد أن تم تأليه يسوع ، عليه السلام ، فى مجمع نيقية عام 325 !. وهذه المعلومات باتت من الأبجديات المفروغ منها فى الثقافة والحضارة الغربية بعامة والفرنسية تحديدا .

كما تساءلت فى نفس المقال عن مصير اليهود من عملية تنصير العالم هذه ، والذى منحهم الفاتيكان أرضا ليست من حقهم بكل المقاييس ، ويتم بسبب هذا الموقف إقتلاع الشعب الفلسطينى من أرضه وتُفرض عليه عملية قتل عرقى مدبّرة بإصرار رهيب ، على مرأى ومسمع من العالم أجمع ، وكان السؤال : هل سيتم تنصيرهم أيضا أم لهم خلاص آخر ؟. أم إن الفاتيكان هو الذى سيتهوّد ؟!..
وكنت أتخيل ، بحكم علمك وتخصصك الدقيق و عقيدتك ، أن تناقش أوتفنّد ما طرحته من حقائق وتساؤلات ، يمكنك التأكد منها من الأناجيل نفسها أو من إصدارات الفاتيكان ، وتثبت لى أنها غير واردة فى الأناجيل ، أو أننى أسأت فهمها أو أى شىء من هذا القبيل ـ إلا إن كنت لم تقرأها فهذا موضوع آخر ..

وللعلم : إن قرار تنصير المسلمين "أولا وأساسا" وارد فى قرارات مجمع الفاتيكان الثانى ، فى وثائق الدورة الخامسة ، المادة 16 ، إذ يقول النص : " إن هدف الخلاص يتضمن أيضا الذين يعترفون بالخالق ، ومن بينهم ، أولا وأساسا المسلمون ، الذين بممارستهم إيمان أبراهام (سيدنا إبراهيم) يعبدون معنا الإله الواحد ، الرحيم ، الذى سيحاكم الناس آخر يوم " !. (المجامع المسكونية ، الجزء الثانى صفحة 1751، صادر عن دار نشر لوسير الفرنسية التى تتولى طباعة إصدارات الفاتيكان ، إلى جانب مطبعة الفاتيكان ذاتها، صادر عام 1994 فى ثلاثة أجزاء ) ، ولا أعتقد إن هاتين المطبعتين من المطابع "الإنتقائية" أو المعادية للمسيحية !!.

وقد تم الإعتماد على هذا القرار لإصدار وثيقة " فى زماننا هذا " ، التى إستبعدت المسلمين من نسل سيدنا إبراهيم ووضعت الإسلام ضمن الديانات الأسيوية ! (مجمع الفاتيكان الثانى ، علاقات الكنيسة مع الديانات غير المسيحية ، دار نشر لوسير ، صفحات 201- 236 ، طبعة 1966) ، وهى نفس الوثيقة التى تم فيها تبرأة اليهود من دم المسيح ، وقد تناولت الجزئية المتعلقة بالإسلام فى مقال على حدة بعنوان "وثيقة فى زماننا هذا "..

كما أندهش لكل ما كلته من هجوم وسخرية على كتاب : "المساومة الكبرى ، من مخطوطات قمران إلى مجمع الفاتيكان الثانى" ، بنفس الأسلوب المتلفع بمسوح العلم لتوهم القارىء بجدية وحياد النقد وأمانة التسفيه الذى كلته !. فالناقد الأمين يتناول الموضوع سواء بالتأييد أو بالإعتراض ، مع توضيح الأسباب بالأدلة والبراهين ، وهذا من أبجديات أصول البحث العلمى التى لا أتخيل أنك تجهلها ..
ومن المؤسف أنك لم تدرك أنه أول بحث يقوم بالكشف عن سبب تلك العجرفة الصهيونية التى لا تغفلها عين ، وهى عجرفة أو عربدة تُلقى بكافة القرارات الدولية وتضرب بها عرض الحائط !. وذلك لأنهم يمتلكون من النصوص ، من مخطوطات قمران ، ما يسمح لهم بهدم الكيان الكنسى برمته .. وهذه هى المساومة الكبرى التى يضغط بها الصهاينة على الفاتيكان وعلى قادة الغرب المسيحى المتعصب ، ولذلك ينحنون لكافة الضغوط التى تمارس عليهم ، بمعنى : الرضوخ أم الفضيحة ، حتى وإن كان هذا الرضوح يتم على حساب شعب يباد بكل جبروت وإصرار !.

وما كان يجب أن يلفت نظرك ، سواء كأستاذ جامعى أو حتى كمجرد إنسان مسيحى ، هو: كيف لهذه المؤسسة الفاتيكانية العاتية ، التى فرضت مسيحيتها طوال مشوارها الدامى، وتحمل على كاهلها عصر الظلمات بكل ما به من إبادة ملايين القتلى والضحايا بمحاكم التفتيش والحروب الصليبية ضد المسلمين والحروب الدينية ضد المسيحيين وحرق الناس أحياء ، وكل ما قامت به من هدم وإقتلاع للتراث والبشر، كيف يمكن لمثل هذه المؤسسة أن تقبل المساس بعقائدها والإطاحة بمضمون أكثر من مائة آية من أناجيلها، وهى آيات تتهم اليهود بقتل المسيح عليه الصلاة والسلام ، إلا لو كان هناك ما هو أقوى منها ومن جبروتها الممتد ؟.. فلم يعد بخافى على أحد أن التنازلات الدينية والعقائدية ، من جانب الفاتيكان ، لصالح الصهاينة ، لا تتوقف ـ إلا إن كنت لا تقرأ أو لا تتابع مجريات الأحداث ، بل ولا تربط بينها ، وهو ما لا يمكننى تصوره فى أستاذ جامعى ومسيحى يتم التلاعب بنصوص عقيدته بمثل ما يحدث حاليا !. وما يقلقنى هنا هو إصرار الفاتيكان ومحاولة فرضه على المسلمين ان يقوموا بمثل هذا التلاعب فى القرآن الكريم وأستبعاد آيات بعينها.

وقد نجم عن هذا الموقف الفاتيكانى بتبرأة اليهود ، والتلاعب بالنصوص من أجل الأغراض السياسية ، أن تضاعف الإلحاد فى الغرب ، فى هذه الفترة تحديدا ، أى منذ مجمع الفاتيكان الثانى عام1965 حتى اليوم ، إذ أن الأتباع قد عاصروا بالفعل واحدة من تلك الوقائع التى عادة كان يتم التعتيم عليها فى عصور الظلمات بالترويع الذى تعرفه يقينا أكثر منى !. وهو ما أدى أيضا إلى حدوث حركة إنشقاقية داخل الكنيسة وإنسحاب الأسقف لوفيفر من كاثوليكية روما ، وقام بتأسيس كنيسة أخرى- ولا يسع المجال هنا لتناول كل هذه التفاصيل للأسف ، إلا أنها موضوعات باتت تطرح على صفحات الجرائد اليومية فى الغرب وخاصة فى فرنسا .. أى أنها بمثابة المعلومات العامة فى الحياة اليومية ، فالمكابرة ومحاولة التعتيم عليها لم تعد مجدية ، وإنما كان التكاتف لصد هجماتها أهم وأصدق ممن فى مثل مركزك !.
كل تلك الأمور المصيرية هى ما كنت أتصور أن تتناولها فى ردك ، بل وأن تتكاتف الجهود لتفادى ما يحيكونه من كارثة ، فالترتيبات تتم بإيقاع محموم لإقتلاع الإسلام ولتوحيد الكنائس تحت لواء كاثوليكية روما قبل حلول عام 2010 ، وهى المهلة التى حددها مجلس الكنائس العالمى فى يناير عام 2001 ، حينما لم يتم تنصير العالم عشية الألف الثالثة ، وفقا لقرارات المجمع الفاتيكانى الثانى ، فقام بإسناد هذه المهمة إلى الولايات المتحدة الأمريكية ، التى قامت بإختلاق مسرحية الحادى عشر من سبتمبر لتتلفع بشرعية دولية لإقتلاع الإسلام والعمل على تنفيذ قرار توحيد الكنائس .. ولا أعتقد أنك بغافل عن هذه الأحداث أيضا وكان الله فى عون تلاميذك !
كما لا أتصور أنك بغافل عن خطب البابا بنديكت السادس عشر وما يعلن عنه يوميا تقريبا من قرارات من قبيل جعل اللغة اللاتينية هى الأساس فى نصوص كافة الكنائس، و إحياء اللغة اللاتينية وجعلها لغة تواصل عالمية رغم مواتها ، وخاصة تلك المذكرة المسماه "مذكرة عقائدية حول التبشير" الصادرة يوم 14/12/2007 ، لتنصير العالم ، وهى وثيقة صدرت أساسا للرد على إحتجاج الكنيسة الأورثوذكية فى روسيا من عمليات التبشير التى يقودها الفاتيكن هناك ، وغيرها جد كثير ..

لذلك اندهش لموقفك الهجومى الساذج أو السطحى ، الذى لا أرى ما يبرره ، إلا إن كنت كاثوليكيا ، فهذا هو السبب الوحيد الذى قد يجعل لموقفك شىء من التبرير أو المنطق رغم كل ما به من مآخذ آثرت ألا أضيع وقت القارىء فى متابعة تفنيدها ! ولا أتخيل أن مقالتى تستدعى كل هذا العداء ، أو محاولة التعتيم على الحقائق المعاشة، فكلنا عابرى سبيل ، والكفن لا جيوب له ، ولا يبقى إلا صالح الأعمال ..
وكلمة أخيرة أتوجه بها لجريدة "القدس العربى" التى رفضت نشر هذا التعقيب وضربت بجميع الأعراف عرض الحائط ، فأبجدية التعامل الحضارى تقتضى بأن يتم نشر التعقيب على أى مقال يُنشر ، فى نفس الجريدة وفى نفس المكان ، وأن المجاملة للغير أو الرضوخ لضغوطه لا يجب أن يكون على حساب الحق ، ولا على حساب الأمانة والعدل ، ولا على حساب الدين : فكلها أسباب تمس بمصداقية الجريدة التى نعتز بمواقفها المشرفة و بجهودها لنشر الحقائق !!


 

الدكتورة زينب
  • مقالات
  • كتب
  • أبحاث علمية
  • Français
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط