اطبع هذه الصفحة


وثيقة "هبة قسطنطين"

الدكتورة زينب عبدالعزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية


تعنى عبارة "هبة قسطنطين" (Constantin's Donation)، منذ القرون الوسطى ، الوثيقة المزورة باسم الإمبراطور قسطنطين الأكبر والتى يقال أنه بموجبها قد قدم مميزات وممتلكات لا يتصورها عقل للبابا وللكنيسة . ومخطوطة الوثيقة القديمة المعروفة منذ القرن التاسع موجودة بقسم المخطوطات اللاتينية بالمكتبة القومية فى باريس ، تحت رقم 2777، وفقا لما هو وارد فى " الموسوعة الكاثوليكية " ، وتحمل الوثيقة عنوان : "وثيقة هبة الإمبراطور قسطنطين " ، وهى موجهة من الإمبراطور قسطنطين إلى البابا سيلفستر الأول (314 ـ 335) ، وتتكون من جزئين.

والجزء الأول منها بعنوان : " الإعتراف " ، ويشرح فيه الإمبراطور كيف تم تعليمه مبادىء المسيحية على يد البابا سيلفستر الأول ، ويقر بإيمانه بالمسيحية، ويتحدث عن تعميده ، وكيف أن البابا قد شفاه وعافاه من مرض الطاعون .

وقبل الإنتقال إلى الجزء الثانى والأهم من الوثيقة ، تجدر الإشارة هنا إلى أن كافة المراجع النقدية التاريخية الحديثة تشير إلى أن الإمبراطور قسطنطين كان رافضا لفكرة تأليه السيد المسيح ، وأنه لذلك كان من أتباع الأسقف أريوس الرافض لتأليه يسوع ، وأنه لم يقبل التعميد ـ كما يقولون ، إلا وهو على فراش الموت . أما تقبله للمسيحية والسماح للمسيحيين بممارسة عقيدتهم مثلهم مثل باقى الديانات الموجودة فى الإمبراطورية ، فذلك من أجل توحيد الإمبراطورية وإدخال المسيحيين الخدمة العسكرية ، إذ أنهم كانوا رافضين التجنيد بحكم ان المسيحية الأولى كانت تحرّم القتل !! وحين نسترجع كمّ الملايين التى تم قتلها بعد ذلك باسم المسيحية لا نملك إلا التعجب و الإستعاذة بالله عز وجل ..

وفى الجزء الثانى من الوثيقة المعنون " الهبة " ، يقوم قسطنطين بالتنازل إلى البابا سيلفسترالأول ، وكل من يخلفه ، عن الملكيات التالية : بموجب أن البابا يعد خليفة القديس بطرس فإن له الأولوية على البطرياركات الشرقية التالية : إنطاقيا ، والإسكندرية ، والقسطنطينية ، والقدس . وكذلك الأولوية على كافة أسقفيات العالم. وقام بالتنازل للبابا عن قصر لاتران ، وهو أكبر وأجمل قصر شيد حتى ذلك الوقت . وتنص الوثيقة على أن بازليكا مدينة لاتران فى روما والتى بناها قسطنطين ستترأس كافة الكنائس وكذلك كنيستا القديس بطرس والقديس بولس. وهنا تجدر الإشارة إلى أن كنيسة لاتران هذه رئيسها الفخرى هو رئيس فرنسا ، مثلما كان الرئيس الفرنسى الأسبق جاك شيراك رئيسها الفخرى ، وهو أول ما فعله البابا بنديكت السادس عشر حينما تولى نيكولا ساركوزى رئاسة فرنسا وذكره قائلا : " بانه أصبح يحمل لقب الرئيس الفخرى لكنيسة سان جان دى لاتران " ـ وهوما يكشف عن حقيقة الدور الذى يربط رئيس فرنسا بالكنيسة رغم التشدق بالعلمانية وفصل الدين عن الدولة ..

وتواصل وثيقة قسطنطين المزعومة تزويد كنيستا بطرس وبولس بممتلكات ثرية . كما وهب البابا لقب رئيس أساقفة روما ، الذى يمكّنه من إستقبال أعضاء مجلس الشيوخ ، وأنه سيحصل على نفس التكريم والمميزات التى يحصل عليها أعضاء مجلس الشيوخ. ومثلها مثل الإمبراطور ، فإن كنيسة روما سوف يكون لها الحاشية الخاصة بها ، وطاقم الضيافة الخارجى والداخلى ، والحرس الداخلى والخارجى . كما سوف ينعم البابا بنفس الحقوق الفخرية والتبجيلية كالإمبراطور ، ومن بينها إرتداء التاج الإمبراطورى والرداء القرمزى وإجمالا كافة العلامات والشارات الخاصة بالتمييز الإمبراطورى . إلا ان البابا سيلفستر قد أبى أن يضع على رأسه آنذاك تاجا من الذهب فقام قسطنطين بتزويده بالتاج الأبيض المرتفع ..

وتضيف الوثيقة أن الإمبراطور قد أضفى على البابا شرف التكريم الذى يحصل عليه الفارس وجواده . والأدهى من ذلك ، تضيف الوثيقة أن الإمبراطور قسطنطين قد منح البابا وكل من يخلفونه من بعده إضافة إلى قصر لاتران مدينة روما وكل المقاطعات التى من حولها وكافة مدن إيطاليا وكافة المناطق الغربية للإمبراطورية ! ونظرا لعدم معقولية هذه الهبة التى تجرد الإمبراطور من كل شىء طواعية ، تورد الموسوعة الكاثوليكية الجزئية الخاصة بمنحه كافة مدن إيطاليا للبابوية ، باللاتينية ، وهذا نصها :

" Tam palatium nostrum, ut prelatum est, quamque Romae urbis, et omnes Italiae seu occidentalium regionum provincias loca et civitates" .

وتواصل الوثيقة العجيبة قائلة أن الإمبراطور قد اقام لنفسه مدينة جديدة فى الشرق ، تحمل اسمه ، وأنه سوف ينتقل إليها هو وحكومته ، بما انه لا يجوز أن يكون للإمبراطور أى سلطة فى المكان الذى أقام الله فيه مقرا لرئيس الديانة المسيحية! وكم من جُرم يُقترف باسم الله بالوثائق الرسمية المزورة التى سرعان ما يتم الإعتماد عليها " كوثيقة رسمية " لتتواصل اللعبة !..

وتنتهى الوثيقة بصب اللعنات على كل من يجروء على مخالفة هذه الهبات مع تأكيد أن الإمبراطور قد وقّع عليها بخط يده شخصيا ووضع الوثيقة بنفسه على قبر القديس بطرس ..

ونطالع فى نفس الموسوعة الكاثوليكية : ومما لا شك فيه أن هذه الوثيقة مزورة ، وتم افترائها فيما بين عامى 750 و795 م . وقد تم إثبات تزييفها منذ القرن الخامس عشر. فالكاردينال نيقولا دى كوزا يتحدث عنها فى أعماله على أنها "وثيقة أبوكريفا" أى مستبعدة وليست فى متناول الجمهور ! وبعد عدة سنوات قام لورنزو فاللا L Valla)) ، فى عام 1440 ، بإثبات تزوير هذه الوثيقة بكل تأكيد. كما توصل رجينالد بيكو أسقف تشيسستر (1450 ـ 1457) إلى نفس النتائج فى بحثه حول : "التعتيم على أكثر ما يدين رجال الكنيسة " ..

ورغمها ، ظل استخدام الوثيقة سارى التداول فى الأقبية البابوية على أنها أصلية حتى قام المؤرخ الكاردينال بارونيوس ، من مدينة سورا بمملكة نابولى آنذاك، بالإعتراف فى " الحوليات الكنسية " التى يؤرخ فيها للكنيسة ، بأن وثيقة "الهبة " وثيقة مزورة .. وبارونيوس يُعد من الذين يتبوأون الصدارة بعد المؤرخ أوسبيوس وكلاهما من أباء الكنيسة !
ولا غرابة فى عملية الكشف الفاضحة هذه ، فمنذ القرن الخامس عشر بدأت بوادر عملية النقد التاريخى للمؤسسة الكنسية وكل ما اقترفته من تزوير وتحريف فى مختلف الوثائق الرسمية منها والدينية .

وقد قام المزور الرسمى لهذه الوثيقة باستخدام العديد من السلطات التى قام كل من جرويرت وزيومر والعديد غيرهما بتفنيدها بالبحث العلمى واللغوى. فبداية الوثيقة ونهايتها مقلدة من وثائق حقيقية حتى تبدو الصياغة رسمية طبيعية . إلا أن المتن نفسه قد كشف عن عمليات التزوير باستخدام لغة وعبارات لم تكن موجودة أو سائدة فى القرن الرابع أيام قسطنطين ! ومنها عبارات قد وردت فى قرارات "مجمع الأيقونات " المنعقد فى القسطنطينية عام 754 ، أو عبارات من " كتاب البابوات " الذى يضم خطابات من بابوات القرن الثامن ، والمعروف تاريخيا أن قسطنطين من القرن الرابع !

وفى نفس هذه الوثيقة المزورة أو المعروفة بأنها تمثل " أشهر وأكبر وأحط عملية تزوير فى الوثائق البابوية " ، لم تخلو من إثارة الأسئلة والتناقضات حول كيفية صياغتها والفقرات التى أضيفت إليها وتحت رئاسة أى بابا من البابوات تمت هذه الإضافة الجديدة !

وأيا كانت هذه الخلافات الجزئية ، فجميع من تناولوها بالدراسة أكدوا أنها تمت من أجل تدعيم السلطة المدنية للبابوات والكنيسة الكاثوليكية فى حربها الممتدة ونضالها الذى لا يكل من أجل السيطرة على السلطتين الدينية والمدنية ، وخاصة لتوحيد إيطاليا سياسيا تحت قيادة بابا روما ، وإضفاء سيادة سلطوية على روما أمام حكومات الفرنجة ، وحماية الإمبراطورية الغربية الجديدة من أية هجمات من جانب البيزنطيين ..

وكان البابا ليون التاسع أول من استخدم هذه الوثيقة المزورة بصورة علنية واضحة فى خطابه الموجه عام 1054 إلى ميخائيل سيرولاريوس ، باطريارك القسطنطينية ليوضح له أن بابا روما يمتلك رسميا السلطة الدينية والمدنية على كل الإمبراطورية. كما استخدمها البابا أوربان الثانى ، الذى أشعل أول حرب صليبية، وذلك فى عام 1091 لتدعيم مطالبه بسلطته المدنية على جزيرة كورسيكا..

وظل استخدام هذه الوثيقة المزورة ساريا أو معمولا بها حتى القرون الوسطى، واستعان بها معظم الكتّاب الكنسيين طوال القرن السادس عشر ، رغم إدانتها والكشف عن زيفها. ومع كثرة الإنتقادات ونشر الأبحاث التى تدينها شكلا وموضوعا تم التخلى عنها كوثيقة ، إلا أن المؤسسة الكنسية لم تتنازل عن مختلف المكاسب التى جنتها زورا ، بما فى ذلك تلك الثياب الفاخرة والحرائر والحلى الذهبية المرصعة بالجواهر، التى هى أبعد ما تكون عن تعاليم السيد المسيح ، ولم تقر بتزويرها إلا فى أواخر القرن التاسع عشر ..

أما فى " القاموس التاريخى للبابوية " ، فنطالع أن وثيقة "هبة قسطنطين" تعد " أشهر وثيقة مزيفة فى تاريخ البابوية " ، موضحا أن تحريرها واستخدامها بدأ منذ القرن التاسع فى روما ! فقد ورد ذكرها لأول مرة عام 979 م فى وثيقة بابوية ، وفى سنة 1053 فى مراسلات نيقولا الأول لتدعيم السلطة المدنية للبابوية. وتم دمجها فى القرارات الكنسية الرسمية الرومية .. ويالها من مهزلة ! ومنذ عام 869 كان أسقف باريس يكتب قائلا : " أن هذه الوثيقة توجد منها نسخة فى كافة كنائس بلاد الغال " ـ طبعا للإسترشاد بها لتحقيق مزيد من المكاسب فى كل مكان من الإمبراطورية عن غير وجه حق ..

وبعد استعراض التطور التاريخى لإدانة هذه الوثيقة ، يوضح أوليفييه جيوجانين ، كاتب هذه المداخلة فى القاموس التاريخى للبابوية ، قائلا : " إن الكنيسة لم تعترف رسميا بتزييف هذه الوثيقة ولا باقى الوثائق المعروفة باسم "القرارات" المنسوبة إلى إيزيدور إلا فى أواخر القرن التاسع عشر " (صفحة 582) !

أما جوزيف هويلس فيقول : " ان كنيسة المسيح مؤسسة كذبا بأكاذيب فوق أكاذيب لتتمكن من مواصلة استتبابها وتدعيم سلطاتها المختلسة والتى جمعت بموجبها ثروات طائلة ، وذلك بفضل سلسلة من التحريف والتزوير التى لا سابقة لها فى تاريخ الإنسانية . وتعد الوثيقة المعروفة باسم " هبة قسطنطين " من أقذر الوثائق وأدنسها فى السجلات الإنسانية ، فى مجال التزوير والتحريف ، من أجل أغراض دنيئة بغية الإستيلاء على ثروات وسلطات مدنية " ( التحريف فى المسيحية ).

ومن ضمن هذه الوثائق المزورة التى يتناولها جوزيف هويلس ، أن هناك وثائق من أجل الحصول على مزيد من السلطات الدينية والمدنية ، ووثائق مزورة متعلقة بالقديسين و الشهداء والمعجزات ، ووثائق متعلقة بالكيانات الرسولية والقوانين الرسولية ، وكتاب البابوات ، الذى يزعم تسلسل البابوات منذ القديس بولس حتى القرن الخامس عشر وثبت زيفه ! فمعروف أن المسيحية كانت تحارب رسميا حتى القرن الرابع فى كل مكان ، فكيف يكون لها من يحتل مثل هذه المكانة الرسمية العلنية ؟ وكلها وثائق تتعدى كل ما يمكن تصوره من غش وخداع فيما يُطلق عليه "عصر الإيمان " الذى كان فى واقع الأمر هو عصر الظلمات الذى امتد الف عام .. (التحريف فى المسيحية ، صفحات 256ـ259).

أما المؤرخ البريطانى إدورد جيبّون فيقول عن هذه الدعامة السحرية للسلطة البابوية الدينية والمدنية : " ان اول من استخدم هذه الوثيقة وقدمها للعالم خطاب من البابا أدريان الأول الذى راح يحث الأمبراطور شارلمان على أن يحذو حذو سخاء الإمبراطور قسطنطين إحياءً لإسمه " ("صعود وسقوط الإمبراطورية الرومانية" صفحة 741 ) ليحصل على مزيد من العطايا !.

بينما يضيف الكاتب الدكتور ماكّابى ، الوارد ذكره فى كتاب هويلس : "إن البابا أدريان الأول قد أقنع شارلمان بتأسيس الممتلكات البابوية بتزييف وثيقتين من أشهر وأكثر الوثائق المزورة خجلا وحرجا فى التاريخ وهما "أعمال القديس سلفستر" و"هبة قسطنطين". وهما وثيقتان توضحان زورا وبهتانا أن الإمبراطور قسطنطين قد أعطى معظم إيطاليا تقريبا هبة للبابوية ، وهى وثائق تم تزويرها فى القرن الثامن واستخدمها البابوات للحصول على هذه العطايا المهولة".

أما اللورد برايس فيقول فى كتابه عن " الإمبراطورية الرومانية المقدسة " حول هذه الوثيقة : " أنها من أكبر عمليات التزوير فى القرون الوسطى والتى تحت زعم أنها هبة من قسطنطين ، قد تحكمت لمدة سبعة قرون فى معتقدات الجنس البشرى والتى تُعد أكبر دليل على فساد رجال الدين فيما بين القرن الثامن والعاشر"...

وأكثر ما يشير إليه الذين تناولوا هذه الوثيقة بالبحث لإثبات زيفها ، إضافة إلى كل ما عُرف عنها وتم إثباته ، أن قسطنطين قد إعتنق المسيحية عام 312 قبل أن يعتلى المدعو سلفستر الأول كرسى البابوية ، وإن قسطنطين لم يُصب أبدا بالطاعون، وبالتالى فإن بدعة صلوات البابا سلفستر التى شفته لا مكان ولا ضرورة لها ، وأن قسطنطين لم يتم تعميده فى روما على أيدى البابا سيلفستر وإنما إعتنق المسيحية بعد وفاة الأخير بعامين ، وفى مدينة نيكومديا وليس فى روما ، قبيل وفاته مباشرة أى وهو على فراش الموت ! ..

وقد إنتفت مصداقية هذه الوثيقة تماما ببنادق الوطنيين الإيطاليين عام 1870 حينما تم استعادة الأراضى التى استولى عليها الكرسى الرسولى وتم توحيد إيطاليا وتحديد مقر الفاتيكان فى مساحته الحالية .

وعلى الرغم من صغر حجم المساحة التى أصبح يحتلها الآن ، وهى 44 هكتارا ، فإنه يقيم علاقات دبلوماسية مع 176 دولة ، إضافة إلى الإتحاد الأوروبى والنظام العسكرى السيادى لمالطة (فرسان المعبد) وعلاقات ذات طبيعة خاصة مع الإتحادات الروسية و منظمة تحرير فلسطين ، كما يساهم فى نشاطات العديد من المنظمات العادية والمنظمات الدولية وبين الحكومات ، سواء بعضوية عاملة أو مجرد مراقب ، وكلها أكثر من 33 منظمة ، تستخدم جميعها كمداخل للتبشير! وهو ما يوضح مدى تغلغل تلك المؤسسة الفاتيكانية ، فى المجتمع الدولى ، ومدى تشبثه بالسلطة المدنية القائمة على ذلك التل من الأكاذيب المتراكمة عبر العصور !..


 

الدكتورة زينب
  • مقالات
  • كتب
  • أبحاث علمية
  • Français
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط