اطبع هذه الصفحة


الفوائد المنتقاة
من محاضرة "ابن عبدالبر وكاتبه التمهيد"
لفضيلة الشيخ المحدث/ أ.د. بشّار عوّاد معروف

انتقاها / عبدالعزيز محمد العاصمي

 
بسم الله الرحمن الرحيم

 
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد ،،،

فهذه فوائد نفيسة نثرها فضيلة الشيخ المحدث/ أ.د. بشّار عوّاد معروف في إحدى لقاءاته العليمة، وقد نقلتها بالمعنى، ومن أراد الأصل فهي موجودة على (اليوتيوب)، وقد تحدث الشيخ عن تحقيقه لكتابه (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد) للإمام العلامة أبي يوسف عمر بن عبدالبر المالكي، وضمَّن محاضرته فوائد مهمّة لعلم التحقيق، وبين كثيرًا مما يقع فيه البعض من الأخطاء في ذلك، نفع الله بها الكاتب والقارئ :

كانت البصرة هي عاصمة المذهب المالكي، حيث قل عدد المتمذهبين به، ويتجلّى ذلك في رسالة حملها أبو ذر الهروي والتي كُتبت إلى أبي عمران الفاسي، وفيها بثّ شكواه من قلّة المتمذهبين بالمذهب المالكي، وكان من تمذهب بالمذهب المالكي من أهل الخليج العربي فبسبب قربهم من البصرة، الذي يفصلها عنهم الخليج.

عندما أسس الناصر لدين الله العباسي المدرسة المستنصرية على المذاهب الأربعة، والتي تعتبر كالدراسات العليا لمن تخرّج من المدرسة النظامية، لم يجد في العراق من يصلح لتدريس المذهب المالكي، ولم يجد الطلبة، فراسل عائلة (آل الشارمساحي) في الإسكندرية في مصر، حيث كانوا على المذهب المالكي، وجاء مع طلابه، وحلّوا في بغداد، والتحقوا بالمدرسة المستنصرية.

ممن روى الموطأ يحيى بن يحيى الليثي، ورواه عنه عالمان جليلان، أحدهما: ابنه عبيد الله الذي رواها على الوجه، والثاني هو: محمد بن وضّاح المرواني، الذي تسوّر عليها وأصلح بعض أخطاء شيخه يحيى فيها، وانتُقِد على ذلك.

أقام ابن عبدالبر شرحه (التمهيد) على رواية يحيى بن يحيى الليثي، لأنها كانت هي الرواية المنتشرة في ذلك الوقت في الأندلس والمغرب، وقد انتشرت لما للإمام يحيى من مكانة عليا في قلوبهم، وكان ذا كلمة مسموعة عند الحكام، وعند العلماء، وعند طلبة العلم، وعند العامة.

يحيى بن يحيى الليثي كان فقيهًا متمكنًا، لكنه ليس من فرسان الحديث، بينما كان ابن وضّاح من فرسان الحديث، لذلك تسوّر على رواية الليثي، وأصلح ما فيها من أخطاء، وقد أشار ابن عبد البر في كثير من المواضع إلى تصحيحات ابن وضاح، ولذا قالوا: ما صارت الأندلس دار حديث إلا عن طريق ابن وضاح، وبقي بن مخلد - رحمهما الله -.

ولد الإمام ابن عبدالبر والإمام يخطُب في صلاة الجمعة، بتاريخ (٣٦٨) هـ، من أسرة عربية صليبة، تنتمي إلى تيم الله بن النمر بن قاسط، استوطنت بقرطبة.

بدأ ابن عبدالبر طلب العلم بعد أن جاوز العشرين من عمره، كما يظهر من قائمة شيوخه، ورغم طلبه للعلم على شيوخ متمكنين إلا أنه لم يرحل لخارج الأندلس، لا هو، ولا رفيقه وصديقه العزيز ابن حزم - رحمهم الله تعالى -.

لا توجد مخطوطة في العالم من هذا الكتاب - أي التمهيد - إلا لاحقتها، كان لدي نسخ من بغداد من المكتبة القادرية القيلانية، فيها مجلد عظيم يمثل ربع الكتاب، وغيرها من المخطوطات من المغرب، ومن بلاد الشام، ومن تركيا، ومن فرنسا، وإنجلترا، وغيرها ... .

بدأ ابن عبدالبر حياته ظاهريًّا، ثمّ أصبح مالكيًا مع ميلٍ واضح للمذهب الشافعي، إلا أنه عبر التمذهب وأصبح إمامًا مجتهدًا، ومن هنا نال على مكانته العالية عند الناس.

كان ابن عبدالبر عالم بالحديث من الطراز الأول، حيث كان عالمًا بالرّجال، ومنازلهم، وجرحهم، وتعديلهم، وعلل الحديث الخفية، والظاهرة، ولكن كلٌ يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ.

على الرغم من سلاطة لسان ابن حزم -رحمه الله - على المذاهب والمقلدين، خاصة المالكية، حتى قيل: سيف الحجاج، ولسان ابن حزم، إلا أنه كان شديد الاحترام لابن عبدالبر، وكان ينقل من كتبه رغم أن ابن عبدالبر مات بعده بقليل، وقد قال ابن حزم عن (التمهيد) في كتابه في فضل الأندلس: (ومنها كتاب التمهيد لصاحبنا أبي عمر يوسف بن عبدالبر، وهو الآن بعدُ في الحياة، لم يبلغ سن الشيخوخة، وهو كتاب لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله أصلًا، فكيف أحسن منه ؟).أهـ يقولها وهو ابن حزم، المتصيد لأخطاء وعثرات المالكية خاصة.

يقول الحميدي صاحب الجمع بين الصحيحين وهو من طلاب الإمام ابن حزم: ((فقيه، حافظ، مكثر، عالم بالقراءات، وبالخلاف في الفقه، وبعلوم الحديث، والرجال، قديم السماع، كثير الشيوخ، وألّف مما جمع تواليف نافعة سارت عنه، ومن مجموعاته كتاب (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد)، سبعون جزءًا، قال لنا أبو محمد علي بن أحمد - يعني ابن حزم -: وهو كتاب لا أعلم في الكلام في فقه الحديث مثله فكيف أحسن منه .أهـ

تبيّن لي بعد الدراسة أن ابن عبدالبر ألّف كتابه التمهيد مرتين، أي أن له إبرازتين، فالأولى: هي المسَوَّدَة وهي التي منها أكثر المخطوطات مع الأسف، حتى مخطوطة تيمور باشا المشهورة، وكذلك العراقية، والمصرية، وبين الإبرازتين فرق هائل، حيث أن ابن عبدالبر ينقل صفحات كاملة ليست في الإبرازة الأولى، وجميع من نشر (التمهيد) بمن فيهم وزارة الأوقاف المغربية لم ينتبهوا لهذا الأمر.

من المحققين كسعيد أعراب من اختار طريقة التلفيق، لكنهم وقعوا في خطأ كبير، حيث أدخلوا المحذوف من الإبرازة الثانية؛ لأنها موجودة في الإبرازة الأولى !! ولذلك عاب علي بعض جهلة (تويتر) و (الفيس بوك) وادعوا وجود سقطٍ في تحقيقي، وهو ليس كذلك، بل حذف ابن عبد البر ما ادعوا سقطه من الإبرازة الأخيرة، وحداني هذا لتأليف كتاب سميته (إبرازات الكتب الخطية ومناهج وطرق تحقيقها).

بلغت زيادات ابن عبدالبر في الإبرازة الأخيرة ما يزيد عن مجلد كامل، أي قرابة (٦٠٠) صفحة، والمحذوفات أيضًا كثيرة، وهي مهمة صعبة جدًا، فإنك لا تستطيع أن تحذف عبارة حتى تتأكّد أن المؤلف حذفها فعلًا.

من الأخطاء التي وَقَعتْ فيها الطبعة المغربية أن بعض النساخ قد يعلق على هامش نسخته، فأُدرجتْ هذه التعليقات في المتن، وقد بينت ذلك، حيث إنه لا وجود لها في بقية النسخ لا في الإبرازة الأولى، ولا في الإبرازة الثانية.

لا يجوز لمن أراد أن يحقق مخطوطة أن يبدأ فيها إلا بعد أن يتأكد من أنها هي التي ارتضاها المؤلف في آخر حياته، ولا عبرة بكونها طويلة أو ناقصة، فقد تكون الناقصة هي الصحيحة، كما حصل معنا عند تحقيق معجم شيوخ شمس الدين الذهبي، فقد وصلتنا نسختين، الأولى فيها (١٢٨٧) ترجمة، والثانية فيها (١٠٨٠) ترجمة تقريبًا، أي أن الفرق قرابة (٢٠٠) ترجمة، وبعد الدراسة تبين أن الأقل هي الصحيحة، لأن المؤلف طلب في آخر حياته أن يُحذف من معجمه جميع أصحاب ابن البخاري؛ لأنه لم يرَ في ذكرهم فائدة.

لا يوجد في الأغلب الأعم من المخطوطات إلا والمؤلف عدّل فيها، ومن ذلك كتاب (كشف الظنون عن الأسامي والفنون)، فقد كتب الحاجي خليفة مُسَوَّدة، وهي التي وصلت إلينا، بينما بدأ المؤلف في المُبَيَّضة، ووصل لحرف (الراء) ثم توفي - رحمه الله -وبين ما كتبه في المُسَوَّدة وما كتبه في المُبَيَّضة إلى حرف (الراء) فرق هائل جذري، ولم ينتبه المحققون لهذا، فإذا حضر الماء بطل التيمم، فالمُبَيَّضة تبطل ما في المُسَوَّدة.

كان ابن حزم سليط اللسان على المذاهب كما ذكرنا، وكان يشتمهم في كتابه (المحلى)، لكنه شطب هذه الشتائم في آخر حياته، وبدأ من آخر مجلدين، لكن بعض من نشر الكتاب قال: بأن هذا الشطب من فعل ناسخ حنفي، حيث شطب الشتائم التي على أبي حنيفة، وهذا غير صحيح، فقد كان الشطب أيضًا لشتائم الشافعية والمالكية، وقد قُمْتُ بدراسة بين الإبرازة الأخيرة من (المحلى)، وبين الإبرازة القديمة، فوجدت أنّه حذف وعدّل كثير من الشتائم، كـ (شغّبوا) يحولها (كتبوا).

مما ينبغي أن يُعْلم: أن الخط العربي متطور، وقد كان النّساخ يستعملون صيغًا واختصارات لا ينبغي استعمالها الآن، ككتابتهم (ىا) بدون نقطة والتي تعني (حدثنا)، وكذلك (ثنا)، وكتابتهم (أبنا) والتي ظنها البعض (أنبأنا)، وهذا خطأ، فإنهم لم يجوزوا اختصار (أنبأنا)، فكل ما فيها (ألف) فهي (أخبرنا)، وما ليس فيها (ألف) فهي (حدثنا) قولًا واحدًا، وكذلك حذف النسّاخ لكلمة (قال) من بين رجال السند اختصارًا، فبعض المحققين يحذفها كذلك، وهذا خطأ، فما لزمانهم ليس لزماننا دائًما، وقد وجدت اثنين من العلماء لم يحذفا ما حذفه النساخون، وهما: ابن عبد البر حيث كتب (قال) بين رجال السند، والثاني هو: المزّي، فعندما كان ينقل من (تاريخ مدينة السلام) لم يحذف (قال)، وكتب (حدثنا) و(أخبرنا) بدل (ىا) و(أبنا) وغير ذلك، ومثله أيضًا كتابتهم للرقم (١٠٠) بـ (مائة)، حتى أصبح البعض ينطق الألف في حديثه، ولا يقول (مئة)، وهذا خطأ، فينبغي أن تكتب (مئة) كما تنطق، أما المتقدمون فكانوا يخشون من أن تقرأ (منه)، أو (فئة)، أو (فيه)، وهذا لا يُحْذر منه اليوم.

مما يقع فيه بعض الناس من الخطأ ضبط (نفطويه)، و (سيبويه)، فهناك اختلاف بين ضبط المحدثين وضبط النحْويين، فالمحدثون يضبطونها (سِيبُويَةَ)، ومثال ذلك قول زكي الدين المنذري: (شِيشُويَةَ) بكسر الشين المعجمة، وسكون الياء آخر الحروف، وبعدها شين معجمة مضمومة، وواو ساكنة، وياء آخر الحروف، وهاء تأنيث.

سبب ضبط المحدثين لـ (سِيبُويَةَ) هكذا: أنهم استعملوا القياسات العربية، لأن (سيبويه) تعني رائحة التفاح بالفارسية، و (نفطويه) تعني رائحة النفط، فهي جمل مركبة، فجعلوها على هذا الوزن، ولم يخالفهم إلا أهل الأدب والنحو.

كانوا يضبطون التاء المربوطة (ـة) بهاء التأنيث، وعندما تكون هاء حقيقية يقولون: هاء محضة، ومنها قول المؤلف - ابن عبد البر - : ((ولا يقول عربي "نعمة" بالهاء))، أي تاء مربوطة، ومنها قول الحازمي في (صعدة) المعروفة باليمن: ((بفتح الصاد، وسكون العين، وآخره هاء))، بل حتى (قَصْبات) قال السيد الزبيدي: مقصور بألف الإلحاق، وآخره هاء تأنيث !! ولذا أخطأ بعضهم فقال: (ابن ماجة) بالهاء؛ كما ضبطها المتقدمون، ولم يعلموا أنهم يقصدون التاء المربوطة (ـة)، وليس الهاء المحضة.

تحقيق الكتاب من غير ضبط لحروف الأسماء والبلدان وغيرها لا يسمى تحقيقًا؛ لأن ذلك جزء أساسي للتحقيق.

يضبط البعض (رَوَينَا) بقوله (رُوَّينَا)، بوضع شدّة على الواو، ولم أجد من استعمل هذا اللفظ قبل القرن السابع، حيث كانوا قبل ذلك يقولون: (رَوَينَا) بلا شدّة، وإنما اخترعها ابن الصلاح، وهو لم يكن من فرسان الحديث مع الأسف، وقد يستغرب البعض هذا، ولكنه كذلك، ولم يؤلف في الحديث سوى (المقدمة)، وهي عبارة عن كتاب جمعي ثم صار عمدة في ذلك، ولا شك أنه فقيه شافعي معروف، لكنه ليس بمحدث، فقد ضبطها: (رُوِّينَا) بالشدة، وعند الدراسة تبين أنه فعل ذلك عندما سأل (ابن دحية الكلبي) عن ضبطها فقال له: بالشدة، فصارت قانونًا بعد ذلك، وابن دحية ممن تُكلّم فيه بكلام قوي، واتُّهم بأشياء عدة، ليس هذا مكانها والموضوع - أي موضوع ابن دحية - يحتاج لدراسة، وعليه فالصحيح قول (رَوَينَا) بفتح الراء، والواو، وسكون الياء، وليس بشدةٍ على الواو.

كان ابن عبد البر عالم متنوع الثقافة، ومما تكلم فيه (علم القراءات)، وتناول مسألة (الأحرف السبعة) في كتابه (التمهيد) بشكل يوضح سعة علمه وتمكّنه، حيث ذهب الطبري إلى أن المصحف الذي بين أيدينا على حرف واحد، وهو الذي أمر أبو بكر الصديق بكتابته، أما الأحرف الستة الباقية فأُلغِيت، حيث كانت رخصة في زمن النبي ﷺ، وأُلغيت عند وفاته، لأن الأمة الإسلامية كانت أُمِّيَّة، فسهّل الله لهم نطق بعض العبارات، فهي رخصة طلبها النبي ﷺ من ربه مراعاة لظروف العرب حينها، فجاز لهم نطق الألفاظ المتنوعة الدالة على معنى واحد، يعني: قوله تعالى ((إذا جاء نصر الله والفتح))، يجوز قول: ((إذا قَدُم نصر الله والفتح))، في ذلك الوقت مثلًا، وقد تناول ابن عبد البر هذا الموضوع بتوسع في التمهيد، في قرابة (٤٠) صفحة، وبين أن أكثر العلماء على أن القرآن الآن على حرف واحد فقط، وهناك فرق بين جمع أبي بكر رضي الله عنه وبين نسخ عثمان رضي الله عنه، فعثمان نسخ الصحف التي كانت عند حفص، والتي كانت عند عمر قبل ذلك، والتي كانت عند أبي بكر قبل ذلك إلى خمس نسخ، ثم بعثها في الأمصار.

انتهيت بحمد الله من تحقيق (المحلى) في عشرين مجلدًا، وقدمت له بمقدمة قدرها (٢٥٠) صفحة، وابن حزم عفريت من العفاريت !! وكنت حريصًا في الرد عليه في اختلافي معه في تقويم الرجال، والعلل، ومسألة زيادة الثقة، فكنت انتصر لأهل الفن والعلل، كما كنت انتصر له في المسائل التي أجاد فيها، وما تركت نسخة إلا طاردتها، وأعتقد أنه أعظم انتاج لي في حياتي بعد (التمهيد).

أنا خريج تاريخ، وليس لي في الحديث لا شهادة بكالوريوس، ولا ماجستير، ولا دكتوراه، ولكن تشرّب دمي حب حديث رسول الله ﷺ، وجرى في عروقي، ونهلت منه ما وفقني الله إليه، وخدمته أكثر من (٥٠) سنة ولله الحمد.
 


انتهى ولله الحمد

انتقاها / عبدالعزيز محمد العاصمي
١٦ /٧ /١٤٤٠هـ
 

 

فوائد وفرائد
  • فوائد وفرائد من كتب العقيدة
  • فوائد وفرائد من كتب الفقه
  • فوائد وفرائد من كتب التفسير
  • فوائد وفرائد من كتب الحديث
  • فوائد وفرائد منوعة
  • غرد بفوائد كتاب
  • فوائد وفرائد قيدها: المسلم
  • فوائد وفرائد قيدها: عِلْمِيَّاتُ
  • الرئيسية