اطبع هذه الصفحة


ملف/ من داخل عيادتي (2)

د. ليلى العويس

 
من داخل العيادة النفسية
د. ليلى العويس
أخصائية اجتماعية وطبيبة نفسية
 

ملف/ من داخل عيادتي (1)

(5)

لماذا هذه الفتاة خائفة؟!

 

وصلتني الرسالة التالية على بريدي الخاص:

د. ليلى أنا مشكلتي كبيرة، ومعقدة ومتراكمة، جذورها تعود إلى فترة الطفولة، وفروعها تمتد إلى ما بعد المراهقة وبداية الشباب وها أنا ذا أجني ثمارها الآن.. نعم هي ثمار شديدة المرارة ولا يكاد الحلق يبتلعها .. لكنها في الواقع ثمار حقيقية لما تراكم من أسباب ومشاكل للحالة التي أعيشها.
مشكلتي تتلخص في أنني أخاف ولا أستطيع مواجهة الآخرين وأرتجف وتضيع الحروف من لساني إذا حاولت التحدث أمام الغير، وأكبر مشكلة عندي أن أخاطب الناس، وإذا طلب مني ذلك أكون كمن حكم عليه بالإعدام. أما إذا أردت أن أعبّر عن أي شيء بالكلمات المكتوبة فليس لدي مشكلة في ذلك، بل ينطلق قلمي بكل حيوية ونشاط، وتنساب الكلمات والعبارات إلى ذهني بوفرة ودون عناء.
قيل لي من أخواتي الأكبر أنني كنت أتبول على الفراش حتى سن الخامسة، وأنني كنت إذا عوقبت لأي سبب من الأسباب ينزل البول مني دون إرادتي.. وكنت أبكي كثيراً وأتشنج من الغضب والانفعال، وأرفض الطعام أحياناً تعبيراً عن الغضب. هذا ليس كل المشكلة، بل جزء مهم منها؛ لكن الجزء الأكثر أهمية هو أنني أعرف الكثير من أعراضي وسبب مرضي وحالتي، وأعرف كذلك أنها لا حل لها إلا عن طريق طبيب نفسي؛ لكن جوهر المشكلة أني أريد حلاً دون أن أدخل عيادة الأمراض النفسية.. فهذه العبارة تنفّرني، وتنرفزني أيضاً، وربما تزيد حالتي سوءاً.. ومن خلال مطالعاتي لملحق بنات اليوم أعجبت كثيراً بطريقة تناولك لحل مشكلات الفتيات، ومنها يتضح مدى خبرتك وتجاربك في هذا المجال.. فأرجوك يا دكتورة أن تبحثي لي عن حل دون أن تطأ قدماي مبنى العيادة النفسية وهذا هو عنواني البريدي، وهذه أرقام هواتفي الثابت والجوال ولك مني كل الشكر والتقدير والدعاء لك بدوام التوفيق والسداد.


ابنتك ر.ع.ع (انتهت الرسالة).

طبعاً هذه ليست الرسالة الأولى التي تصلني من حالات مشابهة، فقط الاختلاف هو أن هذه الفتاة – رغم خوفها – وحالتها النفسية – تتميز بالشفافية العالية، والواقعية في بعض الأحوال، والجرأة في تناول حالتها، وكذلك تشخيصها.. وهذا ما دعاني للاهتمام بالموضوع أكثر وأن أتواصل معها عبر عناوينها التي أرفقتها بالرسالة....

تواصلت معها حتى قابلتها شخصياً، بعد أن أكدت لها احترامي لرغبتها بعدم طلبها في العيادة النفسية، فجلست معها عدة مرات خارج العيادة، ووجدتها فتاة لطيفة وديعة ودودة وجميلة ورقيقة ولمحت في عينيها كل الأعراض التي اشتكت منها، وسألتها عن أشياء كثيرة في البيت والمدرسة والطفولة، ولم أتحرج من سؤالها عن بعض الخصوصيات المتعلقة بها كفتاة سواء في مرحلة المراهقة أو قبلها أو بعدها، فوجدتها عاقلة وذكية وواقعية في تقبل الأسئلة والإجابة عليها بشفافية عالية وصراحة شديدة؛ وكذلك استفسرت والدتها.. عن بعض الأشياء فأجابتني بوضوح.

وعندما أمسكت بخيوط الحالة، وعثرت على رأس الخيط – كما يقولون – واستخلصت كل ما أود الحصول عليه من معلومات، أخبرتها بأنها كانت في العياة النفسية.. وشرحت لها أن العيادة النفسية لا تعني المبنى والمكتب واللافتة التي يكتب عليها اسم الطبيب وتخصصه، ولا هي حتى السماعة والأجهزة. فقط العيادة النفسية تعني الحوار الذي يدور بين الطبيب والمريض، قبل التدخل العلاجي.

واضح جداً أن الفتاة (ر.ع.ع) تعاني من رهاب نفسي ورهاب اجتماعي، ومن خلال تطابق إفادات الفتاة مع ما جاء على لسان أمها، تأكد لي أنها تعرّضت للضرب والإهانة أكثر من مرة في طفولتها، وتعرضت للاضطهاد والزجر كثيراً وهي مراهقة، وهذا اوجد لديها شعوراً بالخوف على نفسها من الآخرين، وأوجد لديها في ذات الوقت رهبة من تحدثها أمام الغير، وأضعف شخصيتها، وأفقدها الثقة في نفسها.. هي غير مرتبة الدواخل؛ رغم أنها تبدو متوازنة (ظاهرياً).

بعد أن أزلت من نفسها الخوف تجاه (العيادة النفسية) وجعلتها تأتي بقدميها إلى عيادتي، وتطرق بابها وتدخل مطمئنة بل مبتسمة.
حتى وصلت إلى المرحلة التي قالت لي فيها إنها صارت ترتاح نفسياً عندما تحضر إلى العيادة.. رغم أنني كنت على استعداد أن أكمل معها العلاج في منزلها، في حالة رفضها المجيئ إلى العيادة؛ لكنني أيضاً كنت على ثقة أن أحد الأمرين سيكون سبباً في علاج الآخر، إما مجيئها إلى العيادة سيكمل علاجها، أو البدء في العلاج سيجعلها تزور العيادة، وقد حدث هذا الأخير.. وهذا أفضل من ناحية العلاج النفسي، فحينما يعرف المريض أنه داخل عيادة نفسية سيكسر حاجز الخوف ويقطع نصف المسافة باتجاه العلاج.


واصلت معها العلاج عبر عدة جلسات، وكانت تستجيب للعلاج بصورة جيدة، وروحها المعنوية ظلت ترتفع بوتيرة متصاعدة.

ولم يستمر العلاج سوى بضعة أسابيع وخرجت الفتاة في آخر مقابلة من العيادة وهي أكثر ثقة بنفسها وأكثر حباً لمن حولها وأكثر قدرة على مواجهة المواقف وليس فقط مواجهة الناس، وقبل كل ذلك أكثر ثقة واطمئناناً للعيادات النفسية.
 


 
**
مجلة بنات اليوم العدد (21)


 


(6)
 
أفراح
تصرخ من عمق الأحزان..!!

 



قبل أن تحضر أفراح إلى عيادتي النفسية، اتصلت بي والدتها وأخبرتني بأن ابنتها بحاجة إلى علاج نفساني، وليس من السهولة إقناعها بمقابلة اخصائية نفسية، فقد يؤدي الأمر إلى تفاقم حالتها.. ولدى استفساري عن الحالة التي تمر بها عرفت أنها تعاني من نوع من الرهاب الذي أتى بمضاعفات نفسية أخرى فاقمت من حالتها، وعلمت أنها تتصرف بما يدل على كرهها لوالديها ولكل من حولها، وهي تدرس بالمرحلة المتوسطة، السنة النهائية، وعندما تعود من المدرسة تأتي إلى المنزل مكرهة، بينما تغادر الصباح وهي مرتفعة المعنويات..

ترتمي في فراشها لدى عودتها من المدرسة، دون أن تسلم على أي من والديها، لا تأكل معهما، اعتادت أن تتناول الطعام مع إخوتها الصغار أو منفردة.. هذا الأمر كان يزعج والديها ويقلقهما بشدة، أخذ الوالد يمارس عليها بعض الضغوط.. لكنها زادت نفوراً، بل صارت تصرح لأخواتها أنها لا تطيق رؤية والدها.. أما والدتها.. فهي تكلمها وقت الحاجة فقط.. وما عدا ذلك.. فلا مؤانسة.. ولا صراحة، ولا علاقة خاصة.. استطاعت الأم أن تقنعها بمصاحبتها عندما حضرت إلى عيادتي.. باعتبار أن أمها التي ترغب في مقابلتي.. لكنني عند رؤية (أفراح) بصحبة أمها.. تظاهرت بأنني أعجبت بها ورغبت في التعرف إليها.. وبالفعل فهي فتاة جميلة، هادئة فارعة، عيناها تحكيان الكثير، توحي لمن يراها بأنها عاقلة وواعية وذكية.

عبرت لها عن إعجابي بشخصيتها وجمالها وذكائها، واستطعت أن أكسب ثقتها ووجدت لديها رغبة في التحدث إلي والتعرف بي أكثر.. فتحت معها خطاً مباشراً، وصرت أتسلل من خلاله إلى أدق خصوصياتها.. ولم أتردد في أن أقول لها (يبدو أنك تعيشين مشكلة ما، وأنا مستعدة أن أعينك على حلها.. وبهدوء دون أن يعلم بذلك أحد.. بعدها فتحت لي قلبها وأخذت تروي جانباً من معاناتها، فقالت: (منذ طفولتي شعرت بأن تناقضاً ونفاقاً يمارس في بيتنا.. فوالدي يضربنا على أبسط الأشياء ويرتكب أكبرها.. والبنت في قاموس أهلي.. إنسان ناقص.. وربما أرفع درجة من الحيوان قليلاً.. كنت أُضرب لكي أنام، وأُضرب لكي أصحو من النوم ولأذهب إلى المدرسة، وإذا دخلت غرفة لأنام أُطرد منها، وإذا دخلت غرفة أحد اخواني يذودوني عنها، أخواتي الكبريات معقدات نفسياً.. أصبح وجود أبي في البيت يعني البعبع المخيف.. وغيابه يترك فسحة من الراحة النفسية لدينا جميعاً.
صرت أخاف من المستقبل، وأرى الزواج حكماً بالإعدام ينتظرني، أرى مقصلته كلما أغمضت عيني، وأسمع صليل سيفه كلما سمعت وقع خطوات أبي وهو يسير نحوي ليأمر وينهى، ويضرب ويبطش.. وقتها أتذكر.. كيف تزوجت أختاي الكبريان.. حيث عقدت الصفقة بليل، ولم تُعلما عن زوجيهما شيئاً إلا بعد الانتقال إلى عشي الزوجية (حظيرتي الزوجية) اللتين رأتا فيهما صنوف الأذى والعذاب.. وكلما اشتكت إحداهما من سوء المعاملة، ضربها والدي وأعادها إلى زوجها.. لهذا فأنا خائفة من المصير المجهول.. من القادم القاتم)..


من خلال حديثها، عرفت أن أفراح غارقة في بحر من الأحزان، حتى أن والدتها تقول عنها: إنها تطلق على نفسها (أحزان) بدل أفراح.. فهي عانت في طفولتها.. وواجهت قمعاً شديداً من أهلها أفرز عندها خوفاً وكرهاً.. وأصبحت نفسيتها مرتبكة.. وثقتها في أهلها مهزوزة.. بل في كل الرجال.. وكثير ممن حولها..

أفراح تحتاج تغيير معاملة أهلها تغييراً شاملاً.. وتحتاج إلى وقفة أمها، ثم أبيها.. حتى تعود إلى طبيعتها..

صحيح يستطيع الطب النفسي أن يعيد لها بعضاً من ذاتها.. لكن وعدتني والدتها أن تضع يدها بيدي، لكي نقود أفراح سوياً إلى شواطئ السلامة والمعافاة.. وقد بدأنا المشوار بالفعل بعد أن حصلنا على ثقتها واستعدادها النفسي، وقطعنا شوطاً بعيداً.. ساعدنا على السير فيه التحول في معاملة أبيها لها، وهي الآن تقترب من العودة إلى الحالة السوية..


**
مجلة بنات اليوم العدد (13)

 



(7)


تراكمات نفسية



حينما يسود مستوى معين من الثقافة والوعي الصحي، يسهل على الطبيب الكثير في سبيل الوصول إلى التشخيص ومن ثم العلاج.. كما أن الوعي بالصحة النفسية بصفة خاصة لم يكن متوفراً بالقدر الذي يجب أن يكون عليه الناس؛ لكن ثقافة الصحة النفسية بدأت في الانتشار مؤخراً، حيث صار البعض يذهبون إلى العيادات النفسية بأقدامهم وباختيارهم عكس ما كان في الماضي؛ إذ كان المريض يؤخذ إليها إما عنوة أو خداعاً.

(أشواق) فتاة جميلة، هادئة رزينة، ذات عينين زرقاوين، وقامة طويلة، وبشرة بيضاء، وذكاء عالٍ؛ لكنها كانت تعاني من بعض الاضطرابات النفسية التي انعكست على سلوكها وتصرفاتها، وأثّرت بالتالي على صحتها، وعلى أسرتها التي كانت منزعجة جداً مما تعانيه (أشواق) المحبوبة جداً من إخوتها وأهلها وأقاربها.

حضرت (أشواق) إلى عيادتي بصحبة والدتها وهي تعاني من حالة نفسية تركت بصماتها على صحتها الجسدية، وذكرت والدتها أنها تعيش ظروفاً نفسية غير طبيعية من خلال تصرفاتها مع والديها، وانزوائها بعيداً عن بقية أفراد الأسرة، وكذلك القلق والخوف.. والشرود الذهني الذي يسيطر عليها في كثير من الأحيان.. وتدني مستواها الدراسي.. هذا فضلاً عن ارتدائها بعض الملابس الرجالية (الخاصة بإخوانها)؛ حيث وصل بها الأمر إلى ارتكاب أخطاء سلوكية..

كانت الفتاة في وضع شبه طبيعي، يوحي بأنها تستوعب كل ما تقوله والدتها، وما بدر مني من استفسارات عن حالتها، ونصائح علاجية تحدثت إليها مباشرة وسألتها عن تفكيرها في المستقبل ومخاوفها، وعن هواياتها وتطلعاتها.. وعن البيئة المحيطة بها.. وعن صديقاتها وزميلاتها وعلاقتها بهن.. فكان هذا مربط الفرس.. ورأس الخيط الذي قاد إلى تشخيص حالة (أشواق) وبعد الاستماع إلى خلاصة عرض والدتها لحالتها النفسية وتصرفاتها وسلوكها.. تبين أن الفتاة تعيش تراكمات نفسية ربما تكون قد ترعرعت معها منذ الصغر، وامتزجت هذه التراكمات بمنهجية الأسرة في تربية الأبناء، يضاف إليها العادات والتقاليد التي تسيطر على المجتمع الذي يغلب عليه الطابع الذكوري.

نشأت (أشواق) واشتد عودها في كنف أسرة تتكون من أب وأم وبنت (هي أشواق) وخمسة أولاد.. فمنذ أن تفتحت عيناها على الدنيا وجدت نفسها فتاة وحيدة وسط خمسة من الأولاد.. فكان هذا الشيء يحز في نفسها.. ويرسخ فيها شيئاً من النقص.. ويكرس فيها عقدة النقص والضعف..

لم يبخل عليها والدها بشيء.. كان يغمرها بفيض الحنان، ويوفر لها الألعاب والملابس والمقتنيات منذ نعومة أظافرها.. ولا يحوجها إلى شيء حتى وهي تلميذة في المدرسة.

الشيء الذي لم يستطع والدها أن يوفره لها هو وجود أخت معها في المنزل تلاعبها وتضاحكها وتقاسمها لحظات الهناءة والترويح والترفيه.. كان وجود (أشواق) وسط عدد من الأولاد تختلف ميولهم واهتماماتهم وهواياتهم عنها مؤثراً جداً على تكوينها النفسي.. كبرت الفتاة وكبر معها ذلك الشعور.. حينما تأخذ قسطاً من الراحة بعد حضورها من المدرسة يتفرق إخوتها حسب اهتماماتهم وأنشطتهم وبرامج أصدقائهم وغير ذلك من الارتباطات والالتزامات.. لكن (فتاتنا) كانت تظل قابعة في (قعر بيتها) تلازم غرفتها (الموحشة) و(سريرها الممل).. وبمرور الأيام أخذ هذا الشعور يتنامى ويتسع مداه وتتمدد مساحته.. وأخذت آثار مخالبه تنغرس في جوف (أشواق) وأحشائها.. وظلت هذه الرواسب تتراكم يوماً بعد يوم حتى.. توقفت قدرتها على امتصاص تلك المشاعر والأحاسيس، لتنفجر في يوم من الأيام في شكل تصرفات وسلوكيات جعلت أهلها يعرضونها على العيادة النفسية.

لم يكن التعاطي مع مشكلة هذه الفتاة صعباً، بل كان من السهولة بمكان، خاصة بعد صراحة أمها وعرضها الحقائق كاملة، و(قبل كل شيء) إرادة الله تعالى، ثم تجاوب (أشواق) وتفاعلها مع الطبيبة والتزامها بجلسات العلاج.. ومعرفتها أنها تعاني من حالة تستدعي العلاج.. كل هذا سهل المهمة في التعامل مع هذه الحالة وأسهم في اقتيادها إلى (بر الأمان) بكل يسر وسهولة.. فلم تمكث في العيادة إلا قليلاً، ولم تتردد عليها كثيراً.. وحظيت برعاية واهتمام كبيرين ووفقنا الله في علاجها.. ومتابعة حالتها بعد العلاج.. وتأكد أنها تسير على ما يرام؛ حيث تم زواجها بعد ذلك بقليل.. والآن ربما هي أم لأكثر من طفل.


**
مجلة بنات اليوم العدد (22)
 



(8)

حدث في ذاكرة الطفولة


زارتني في عيادتي النفسية في الصيف الماضي شابة في السابعة عشرة من عمرها، ولكن هيئتها تنبئك وكأنها في العشرينات، وكانت بصحبتها والدتها التي تولت مبادرة الحديث، وكانت البنت تستمع باهتمام – مثلما أفعل أنا – وكأنها تسمع الكلام للمرة الأولى، رغم أن حديث والدتها كان عنها هي شخصياً ولم يكن عن أي شخص آخر.
في حضورها ركزت أمها على الأعراض الاعتيادية، بأنها مرهقة ذهنياً، وقليلة النوم، وكثيرة الخوف والانفعالات حتى مع أخواتها وإخوانها، وعصبية بعض الشيء لدى نقاشها مع أمها.

وبعد أن تحدثت مع (سامية) بترحاب ونوع من المجاملة والداعبة، استأذنتها ودخلت مع أمها في حجرة مجاورة في ذات العيادة، وطلبت منها أن تعطيني نبذة مختصرة عن حياتها منذ أن كانت طفلة، وأبرز محطات حياتها، وما هو أعظم حدث تعرضت له، وعرفت أنها قبل أكثر من ثماني سنوات تعرضت لمحاولة اختطاف من أحد المراهقين لدى عودتها من المدرسة القريبة من بيتها، ولكن المارة استطاعوا تخليصها من ذلك الذئب البشري وإبلاغ الجهات الأمنية التي سيطرت على الموقف وتم القبض على الجاني.. أي أنه لم يصبها شيء من جراء تلك الحادثة، ولكنها كانت نقطة تحول سلبية في حياتها.. حيث طار قلبها في تلك اللحظات.. وهي طفلة يافعة.. وظنت أنها خطفت، وحدثت لها صدمة نفسية.. وتخيلت أن كل الناس عرفوا عنها ذلك الموقف.. رغم أن الحادثة لم يشهدها إلا بضعة أشخاص أوصلوها إلى باب منزلها.. ولكن لهول الحدث ومفاجأته أصيبت بصدمة بقيت آثارها طيلة هذه المدة .. وفي ذات اليوم جلست تبكي لساعات طويلة ورفضت الأكل والشرب وبقيت بملابس المدرسة حتى المساء .. كل هذه التراكمات أثرت في نفسيتها، وجعلتها تنهض من نومها مذعورة منتصف الليل وشبح (الخاطف) يسيطر على خيالها.. مما زاد الطين بلة أنها في اليوم التالي للحادثة ذهبت إلى المدرسة وهي منكسرة نفسياً .. ولديها إحساس داخلي بأن من حولها يعلمون ما جرى.. وربما يؤولونه إلى أكثر مما جرى. خصوصاً وأن إحدى زميلاتها وجارتها تسلل إليها النبأ .. وسألتها عن التفاصيل ولكن (سامية) لم تستطع أن تجيب عن أسئلتها.. وصارت تكره هذه البنت التي علمت عن أمرها.. ومنذ ذلك الحين وسامية في دوامة من الانتكاسات النفسية والصحية، وهذا سبب لها توتراً وقلقاً دائمين وتعودت على قلة النوم، والانطواء، وعدم الاختلاط مع بنات الأهل حتى في المناسبات، وإذا حضرت تكون على طرف منزوٍ بعيد عن بقية الفتيات.. وبالقرب منهن بجسدها فقط، ولكن عقلها يكون شارداً خارج إطار المكان والزمان، ولا تشارك برأيها ولا تحسن الاستماع ولا تتفاعل مع الأجواء مهما كانت مرحة .. هذه هي صورة (سامية) التي أتت إلي في عيادتي.. وبعدما استخلصت كل المعلومات الأساسية والضرورية المهمة من والدتها وجلست معها بعض الوقت لأعطيها دفعات معنوية، وأطمئنها وأعزز ثقتها بنفسها طلبت منها أن تحضر في اليوم التالي مؤكدة لها أنها ذكية وجميلة وواعية، وشيء من الإطراء الذي جعلها تنظر إلي نظرة إعجاب واحترام وتقدير. حتى أكون مصدر ثقة لها واطمئنان بحيث أن كل ما يصدر مني لابد أن يجد لديها التقدير والتنفيذ الصارم.. وهذه أهم نقطة في مشوار العلاج النفسي ..

في اليوم التالي بدأت معها طرف الحديث وتركتها تتحدث بمنتهى الصراحة .. فقالت: أشعر بالضيق من نفسي، والذين من حولي وأتضايق من نظراتهم وأكاد أفسرها ضدي .. وأقل كلمة من والدي أو إخواني تبكيني وأشعر أنني مستهدفة ولكن صدقيني منذ أن تعرفت عليك بالأمس أحسست أنني أرى بصيص أمل لكي أثق بالناس وشعرت بأن الدنيا فيها من يفهمني ويهتم بي، ولكن كل الذين يعرفوني كانوا يعاملوني بقسوة، ولوم ويصفوني بالتخلف ويتهموني بالتقصير حتى أقرب الناس إلي.

واستمعت إليها حتى أكملت حديثها وأصغيت إليها باهتمام شديد حتى شعرت هي بالراحة النفسية وأشعرتها بأنها طبيعية وتصرفاتها سليمة، وأنها عاقلة وذكية، وأكدت لها أنها أفضل من غيرها من البنات، فقط تحتاج إلى إعادة الثقة بنفسها، وبمن حولها .. ووعدتني أن تنفذ نصائحي بدقة متناهية، وأهمها أن تتعامل مع الغير مثلما تتعامل معي بابتسامة وسعة صدر وثقة، وألا تفسر أي تصرف إلا في حدود الظروف التي حدثت فيها، وقصصت عليها قصصاً جيدة استوعبتها، وطلبت منها أن تطبق بعض الخطوات ونفذتها، وواصلت معي جلسات يومية ثم نصف أسبوعية وأخيراً أسبوعية وصرت بعدها أزورها في البيت وكانت تستقبلني بتركيز شديد ووعي وأحس أهلها أنها عادت إلى طبيعتها، حتى بنيتها تحسنت كثيراً، لأنها صارت تأكل بشكل طبيعي وتنام وقتاً كافياً.

(سامية) زارتني للمرة الأولى وهي أقرب إلى الشبح وصامتة، وفي آخر زيارة كانت فتاة رائعة الجمال والابتسامة ومدهشة وخفيفة الظل وتداعب وتحكي (النكتة) وتشارك في النقاش والحوار.


**
مجلة بنات اليوم العدد (7)
 

تحرير: حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »


 

للنساء فقط

  • المرأة الداعية
  • رسائل دعوية
  • حجاب المسلمة
  • حكم الاختلاط
  • المرأة العاملة
  • مكانة المرأة
  • قيادة السيارة
  • أهذا هو الحب ؟!
  • الفتاة والإنترنت
  • منوعات
  • من الموقع
  • شبهات وردود
  • فتاوى نسائية
  • مسائل فقهية
  • كتب نسائية
  • قصـائــد
  • مواقع نسائية
  • ملتقى الداعيات
  • الصفحة الرئيسية