اطبع هذه الصفحة


إمام الحرمين يُعلن توبته من التأويل وينقده

 
من لا يعرف إمام الحرمين؟!
هذا الشبل من ذاك الأسد .. فأبوه الإمام أبو محمد عبدالله بن يوسف الجويني –رحمه الله- الذي أعلن توبته من عقائد الأشاعرة ولزومه غرس السنة، واهتدائه بسلف الأمة، في رسالته العظيمة لشيوخه [رسالة في إثبات الاستواء والفوقية]، ولم تكن صيحة أبيه لتذهب سدى، بل وفق الله من وفق للاستنارة بها، والوقوف أمام مضامينها، وقوف المتأمل والمتعلم، حيث لا مجال للعناد، مع آيات الكتاب، وصحيح السنة، وما صح من نقلٍ عن أئمة السنة، وممن تأثر بعلمه ونهل منه في فترتيه ابنه أبو المعالي، الذي خلف والده في التدريس ...

فمن هو إمام الحرمين؟!
هو أبو المعالي عبدالملك بن عبدالله بن يوسف المتوفى سنة 478هـ ، مات والده فجلس في مجلسه للتدريس، فانتقلت إليه نسبة (الجويني) وقيل: كان عمره عشرين سنة عندما جلس للتدريس في مجلس والده، ولقب بإمام الحرمين لأنه كما قيل، جاور مكة أربع سنوات كان خلالها يناظر ويدرس ثم عَرَّج على المدينة المنورة.
وقد ألف الإمام الجليل مؤلفات كثيرة في فنون مختلفة ..
ومن هذه المؤلفات التي تتصل بمرادنا (الغياثي) ألفه لغياث الدولة الذي هو نظام الملك (الوزير) وهو الحسن بن علي بن إسحاق بن العباس الطوسي أبو علي الوزير العادل صاحب المدارس التي عرفت باسمه (النظامية) وأحد الزهاد العباد المعروفين، ناصر السنة وأهلها وحامي الفقهاء من بطش المبتدعة والزنادقة وأحد فقهاء الشافعية.
تولى الوزارة للسلطان السلجوقي (ألب أرسلان) ثم من بعده لابنه ملكشاه، ولد الوزير سنة 408هـ وتوفي سنة 485هـ.

كما أن الكتاب (الغياثي) منسوب لهذا الوزير الصالح الحسن بن علي الملقب (غياث الدولة)، فقد نسبت العقيدة النظامية إليه لأنه يلقب أيضاً (نظام الملك) ونستحسن هنا بعض كلام الإمام نقلاً عن كتابه الكبير (الغياثي)، قال الإمام أبو المعالي الجويني في الكتاب المذكور (رقم 279 ص190) :

( ومن رام اقتصاداً، وحاول ترقياً عن التقليد واستبداداً فعليه بما يتعلق بعلم التوحيد من الكتاب المترجم (بالنظامي) فهو محتوي على لبابٍ لِلْباب، وفيه سر كل كتاب في أساليب العقول.
[U]والذي أذكره الآن لائقاً بمقصود هذا الكتاب، أن الذي يحرص الإمام عليه جمع عامة الخلق على مذهــب السلــــف الســــابقين قبل أن نبغت الأهواء وزاغت الآراء وكانوا رضي الله عنهم ينهون عن التـــعرض والتعمـــق في المشكلات والإمكان في ملابسة المعضلات والاعتناء بجمع الشبهات وتكلف الأجوبة عما لم يقع من السؤالات ...
إلى أن قال: وما كانوا ينكفون-رضي الله عنهم- عما تعرض له المتأخرون عن عِيِّ وحَصْر، وتبلد في القرائح، هيهات، وقد كانوا أذكى الخلائق أذهانا وأرجحهم بياناً؛ ولكنهم استيقنوا أن اقتحام الشبهـــات داعيــة الغويــات، وسبب الضلالات، فكانوا يحاذرون في حق عامة المسلمين ما هم الآن به مبتلون، وإليه مدفعون، فإن أمكن حمل العوام على ذلك فهو الأسلم.أ.هـ.

وقال الإمام في العقيدة النظامية (ص22-23) :
( وذهبت طائفة إلى التعطيل من حيث تقاعدت عقولهم عن درك حقيقة الإله، فظنوا أن مالا يحويه الفكر منتف، ولو وقفوا لعلموا أنه لا تبعد معرفة موجود مع العجز عن درك حقيقته.

والذي ضربناه من الروح مثلاً يعارض به هؤلاء فليس لوجود الروح خفاء وليس إلى درك حقيقته سبيل ولا طريق إلى جحد وجوده للعجز عن درك حقيقته، الأكمه يعلم بالتسامع والاستفاضة الألوان ولا يدرك حقيقتها. فهــــذا ســبب زيـــغ المعطلة وهم على منـــاقضة المشبهة.

وأما فئة الحق فهدوا إلى ســــواء الطريق، وسلكوا جُدُد الطريق وعلموا أن الجائزات تفتقر إلى صانع لا يتصف بالصفات الدالة على الافتقار، وعلموا أنه لو اتصف الصانع بها لكان شبيهاً بمصنوعاته، ثم لم يميلوا إلى النفي من حيث أن يدركوا حقيقة الإله، ولم يتعدوا موجداً يجب القطع به مع العجز عن درك حقيقته، إذ وجدوا أنفسهم مخلوقاً لم يستريبوا في وجده، ولم يدركوا حقيقته، ونحن الآن نذكر عبارة حَرِيَّةً بأن يتخذها مولانا في هذا الباب هجيراً فهي لعمري المنجية في دنياه وأخراه، فنقول: من نهض لطلب مدبره، فإن اطمأن إلى وجده انتهى إليه فكره فهو مشبه وإن اطمأن إلى النفي المحض فهو معطل، وإن قطع بموجود واعترف بالعجز عن درك حقيقتـــه فهو موحــــد، وهو معنى قول الصديق رضي الله عنه إذ قال: "العجز عن درك الإدراك إدراك". فإن قيل فغايتكم إذا حيرة ودهشة، قلنا: العقول "عـــاجــــزة" عن درك الحقيقــــة قاطعة بالوجود المنزه عن صفـــات الافتقار) .

قال الإمام الجامي معلقاً على هذا الكلام في كتابه "الصفات الإلهية ص164":
( فإمام الحرمين عبدالملك قد سلك مسلك والده الإمام أبي محمد الجويني في إعلانه أن فهم السلف هو الحق وحده فيما يعتقد العبد نحو ربه سبحانه، وما سواه باطل لا محالة لأنه تشبيه أو تعطيل أو توقف وهو يشبه أباه في هذا الموقف بالجملة "ومن يشابه أبيه فما ظلم" وإن لم يبلغ درجة أبيه، حيث يوجد في كلامه بعض الثغرات التي يستطيع أن ينفذ منها بعض المغرضين المنحرفين بكلامه بالتحريف فيه، وحمله على غير محمله، بخلاف كلام والده فإنه لم يترك مدخلاً لداخل يدرك ذلك من يقارن بين ما جاء في العقيدة النظامية للجويني (الابن) وما جاء في "رسالة إثبات الاستواء والفوقية" (الأب)، وعلى كل حال فإن إمام الحرمين بحر لا ساحل له في علمه تدل على ذلك كتب التراجم ومؤلفاته المتنوعة، وكان رحمه الله يكره التقليد والتعصب، ومما نقل عنه قوله: "لقد قرأت خمسين ألفاً في خمسين ألفاً ثم خلَّيت أهل الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الطاهرة وركبت البحر الخضَمَّ وغضت في الذي نهى أهل الإســـلام عنه كل ذلك في طلب الحق. وكنت أهرب في ســــالف الدهر من التقليـــــد".

وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض كتبه عبارات صارخة بالندم والتوبة ومتضمنة للنصيحة لأصحابهم من علماء الشافعية- لو سمعوا نصيحته- إذ يقول:
يا أصحابنا: لا تشتغلوا بعلم الكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ، ما اشتغلت به.
وقال عند موته: "لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإســلام وعلومهم ودخلت في الذي نهوني عنه كل ذلك اجتهاد في طلب الحق فالآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لفلان".
وهي عبارات، كما ترى في غاية الصراحة والندم والتوبة ولعل الله تَقَبّل توبته ولا عذر لأصحابه بعد ذلك في بقائهم في أحضان علم الكلام وقد وضح لهم أنه ضار غير نافع ... والله الموفق)

رحم الله الجويني والجامي .. نعم عبارات صارخة .. تنضح بالنصيحة .. والشفقة .. حتى على فراش الموت ..

(وبعدما أورد الحافظ ابن حجر مذاهب الناس في صفات الله نقل عن إمام الحرمين الجويني رحمه الله قوله كما في رسالته النظامية:
"والذي نرتضيه رأياً وندين الله به: عقيدة اتباع سلف الأمة للدليل القاطع على أن إجماع الأمة حجة. فلو كان تأويل هذه الظواهر حتماً فلا شك حينئذ أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصر الصحابة والتابعين على الاضطراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتبع" )
راجع فتح الباري 13/390 والرسالة النظامية 23 نقلاً عن موسوعة أهل السنة 1/448.

قلتُ:
وهذا كلام في غاية الوضوح .. فرحم الله الجويني ..


أعده
المنهج - شبكة الدفاع عن السنة

 

العائدون         

  • العائدون إلى العقيدة
  • موقع صحوة الشيعة
  • موقع مهتدون
  • الملل والنحل
  • الصفحة الرئيسية