اطبع هذه الصفحة


الحجاز والتسامح الديني في الرد على دعوة مي يماني لإرجاع التصوف للحجاز

د. الشريف حاتم بن عارف العوني


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:
فتعليقاً على ما نُشِر في موقع قناة الجزيرة في الإنترنت،يوم الخميس25/7/1425هـ، من عرضها لكتاب بعنوان:(مهد الإسلام: الحجاز، والسعي نحو هويَّة عربيَّة)، لمؤلفته: مي يماني، والمنشور في لندن.
وانطلاقاً من خلفيات الطرح الذي بُني الكتابُ عليه، حسب العرض المنشور عنه، وهو طرح له وجود ولا شك، ويقف وراءه ويتبناه أفراد وجماعات، ودُعم مؤخراً بقوة من جهات متعددة = أحببت أن أشارك في مناقشة هذا الموضوع، لا لكوني مسلماً ويهمني شأن مهد الإسلام (الحجاز) فقط، ولا لكوني من السعودية على وجه الخصوص؛ بل الأمر يخُصُّني أكثر؛ لكوني حجازياً، من أعرق أسرة في الحجاز، وهم الأشراف، ومن الأسرة الحاكمة في الحجاز سابقاً، وهم آل عون، والذين منهم حكام الأردن حالياً.
نعم.. فحديثي عن الحجاز لا يمكن أن يُدَّعى أنه كلام دخيل عليها، وحديثي عن تاريخها لا يمكن أن يُزعم أنه كلام معادٍ لتاريخها السياسي أو العقائدي؛ لأني كما ذكرت من الحجاز في ذروة السنام.. ولا فخر.

أهوى الحجازَ وطَلْحَه وسَيَالَه *** وأراكـَه وبَشـَامَه وعَضَاه
فسقى الإلـه سهوله وحُزُونَه *** ومروجَـه ووهـَادَه ورُبَاه
غيثاً يطبِّق بالفـلاة فيستوي *** بالروض منظرُ أرضِه وسماه

كما أني في تعليقي على الكتاب المشار إليه، حسب العرض الذي نُشر عنه، لا أقصد التعليق على كل النقاط التي تناولها ذلك العرض، ولا أريد أيضاً أن يُفهم عني أني أخالف كل ما تضمنه ذلك العرض.
فقد تضمن ذلك العرض حقائق ليس لأحد أن يخالف فيها، من مثل أن الحجاز متميز عن بقية مناطق المملكة. بل إني أقول: إنه متميز عن بقية مناطق الدنيا؛ لاحتضانه الحرمين الشريفين، ولكونه مهد الإسلام، ومهبط الوحي، وقبلة المسلمين، ومحجتهم من كل بقاع الأرض.
كما أني أوكد على صحة ما جاء في ذلك العرض، من أن أبناء الحجاز عموماً (قبائل وقاطنين) يتميزون باندماجهم القائم على سماحة الإسلام وبُعده عن العنصرية، وأنهم أكثر أبناء المناطق السعودية قبولاً للغريب عن منطقتهم، إلى غير ذلك من المميزات، التي أكسبتهم إياها المكانة الدينية والجغرافية للحجاز، والتي أثَّرت في أبنائها على مر القرون، والتي لم تكن وليدة عصر النفط في المملكة.
لكني أود التعليق على موضوع جاء في ذلك العرض، كثيراً ما يُطرح بنوع من المغالطة من جهة، وبمخالفة حقائق التاريخ الماضي وحقائق الحاضر والواقع الذي نعيشه من جهة أخرى.
ويتركز التعليق على قول صاحب العرض عن صاحبة الكتاب:
إن المشروع السعودي التوحيدي القادم من نجد لم ينازع الحجاز الزعامة السياسية فحسب، بل نازعها أيضاً، وبصورة أكثر أهمية، حصرية التمثيل الديني، ونوعية التعامل مع الدين نفسه، مهمشاً التنوع الحجازي المذهبي المتسامح، وأنه أبرز عوضاً عن هذا التنوع المتسامح التطرُّفَ الوهابي في الدين والتفسير له، وأن ذلك أدى إلى اضمحلال سلطة الحجاز وصعود سلطة نجد.
بهذا الأسلوب عرضت الكاتبة لإحدى أهم موضوعات كتابها، حسب عرضه المنشور عنه، وهو عرض لا شك أنه يساعد على تأجيج نار الإقليمية والعنصرية، المؤدية إلى إثارة الفتن، وإلى المطالبة بتفكيك هذه الوحدة التي تنعم بها المنطقة، والتي هي (أعني الوحدة) مما تتفق عليها جميع التيارات الإسلامية والمشاريع الدينية بل والقومية الصادقة مع مبادئ القومية: على المطالبة لا بالحفاظ عليها كإنجاز وقد تم فقط، بل على توسيع دائرتها، ليشمل العالم الإسلامي كله.
ثم إن الكاتبة أرادت أن تضع حلاً لإعادة الهوية الحجازية، فكان الحل -حسب العرض- هو الاعتراف بالتنوع الديني والاجتماعي والثقافي.
ولكي يكون نقاشي لهذا الحل علمياً موضوعياً، وعميقاً بعيداً عن السطحية الصحفية التي تعودنا في العالم الثالث أن نعالج بها الأمور، أود أن أفهم المقصود من ذلك الحل، أو بصورة أوضح: ما هو التنوع الديني الذي تطالب الكاتبة به؟ وتعدّه الحل الأمثل لمنطقة الحجاز؟ وما هي صورة هذا التنوع؟ ومتى سيصل هذا التنوع الحد المرضي عندها؟

أعترف أني لا أعرف ما هي أجوبة الكاتبة عن هذه الأسئلة؛ لأني لم أقرأ إلا عرضه المنشور عنه.
لكني أسمع وأقرأ دوماً مثل هذا الطرح، دون أن تكون لدى أصحابه أجوبة صريحة ومنطقية لتلك الأسئلة، في أكثر الأحيان.
فهل المقصود بالتنوع الديني المطالب به هو التنوع المذهبي الفقهي؟ كالمذهب الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي؟
إن كان هذا هو التنوع المطلوب، فهو موجود دون أي قمع أو محاربة له في المملكة، قديماً وحديثاً. بل إن التيار السلفي الذي تتبناه المملكة والسلطة الدينية فيها هو أبعد التيارات عن التعصب لمذهب فقهي معين؛ لأنه يقوم على ترجيح ما دلت نصوص الكتاب والسنة عليه من أقوال فقهاء المسلمين من المذاهب الأربعة جميعها.

وأما إن كان المقصود بالتنوع التنوع العقائدي، كالسلفية والصوفية والتشيع وغيرها، فهذا في حقيقته وواقعه ليس مجرد تنوع، بل الوصف الواقعي له أنه اختلاف، يصل في بعض نواحيه إلى اختلاف في أصول المعتقد.
أقول ذلك لا لغرض إقصاء الآخر أو إلغائه، ولا بسبب عدم قبول مبدأ التسامح مع المخالف؛ ولكني أقولـه لأني صادق مع مبدأ التسامح، ولأني أريد حلاً صحيحاً لهذا الاختلاف، ولن يكون الحل صحيحاً إذا صورنا ذلك الاختلاف أنه مجرد تنوع، أو أنه أطياف جميلة لقوس قزح. وإن كان هذا قد يخدع البسطاء، وإن كان قادراً على تخدير المشاعر في لحظة من اللحظات، وإن كان نافعاً لواجهة صحفية إعلامية في العالم الثالث. لكن أن يكون هذا التصوير المخالف للواقع حلاً، فلا؛ لأنه ولسبب هيِّن: يخالف الواقع، وسيصطدم به حال نزوله إلى أرض الواقع.

ولكي أثبت أن هذا التنوع اختلاف وليس مجرد تنوع، لن أدخل في تفاصيل المسائل المختلف فيها، فهي معلومة عند كل مثقف عربي ومسلم؛ فضلاً عن العلماء والمتخصصين في العقائد، لكني أثبت ذلك بالواقع:
أما رأي السلفية في الصوفية والشيعة، وتعاملهم معهم، فالكاتبة ومن على رأيها، يصفونها بالتطرف والإلغاء للآخر؛ فلن أثبت هذا الواقع الذي يرونه هم واقعاً.

وأما موقف الصوفية من غيرهم، فكتبهم ومقالاتهم في ذلك معروفة، من اتهام السلفية ببغض النبي –صلى الله عليه وسلم-، وانتهاك حرمة الصالحين، بل إنهم دسيسة على الإسلام والمسلمين، إلى درجة التكفير الصريح، وما يستتبعه ذلك من استباحة الدماء والأعراض. وها هي السلفية محاربة في كثير من بقاع العالم الإسلامي، من قبل الصوفية والشيعة، ولا دعوة فيهم إلى المطالبة بالتنوع الديني.

وأما موقف الشيعة من بقية المسلمين (سلفية وصوفية) فمعروف لا في بطون الكتب فقط، ولا على منابر الخطب فقط، ولا في الدروس اليومية فقط؛ بل في واقع تعاملهم معهم في عدد من بلاد العالم الإسلامي، التي يكون لهم فيها سلطة. فأين التنوع الديني عند هؤلاء؟

فلا داعي بعد ذلك كله أن نغالط أنفسنا، لنصف هذا الاختلاف بالتنوع.
ولا داعي لأن ندعي وبكل سذاجة أن مجرد وصف هذا الاختلاف بالتنوع، أن الواقع سيتغير، وأن الأمور ستنقلب رأساً على عقب، فيصبح الاختلاف ائتلافاً والافتراق اتفاقاً.
بل الاعتراف بالواقع، وبأن هذا التنوع هو في حقيقته اختلاف مبادئ وعقائد، وأن كل أصحاب معتقد يعدون مخالفيهم مخطئين، ويعدون أنفسهم أهل الحق = هذا الاعتراف هو أول طريق للحل الصحيح.
وهذا الاعتراف هو أول ناقض لذلك الحل الذي جاءت به الكاتبة؛ لأنه يناقض ذلك التصوير الخيالي لواقع الاختلاف الذي طرحته، وهو الدعوة إلى التنوع الديني.

وأنا أعلم أني بمجرد أن أطالب بالواقعية، سيحاول بعض أصحاب الأغراض الخفية، أن يصفوا هذا الطرح بأنه إقصائي، أو طائفي، وغير ذلك من التهم الجاهزة، لكل من يحاول إفساد مخططاتهم الخفية، القائمة على إقصائهم هم للآخرين، وعلى الطائفية التي ينتظرون معها ساعة تصفية الحسابات صباح مساء.
وبناء على ما سبق، يكون هناك اختلاف بين تلك التيارات: السلفية، والصوفية، والشيعية، وهذا الاختلاف لا يمكن أن يصبح بمجرد الدعوة إلى التعدّديّة ائتلافاً، بل سيبقى اختلافاً حتى مع حصول التعدّديّة.
وعليه.. فالحل للإشكال في هذا الواقع يجب أن ينطلق منطلقاً واضحاً، ليس مبنياً على إلغاء الآخر، بل على تحديد معالم استيعاب المخالف واحتوائه، وعلى معرفة القدر الذي يكون فيه الاختلاف طبيعياً، وحدود خروجه عن القدر الطبيعي إلى العدوان من أحد المختلفَين على الآخر.
أقول: ما هو القدر؟ حيث إن المطالبة بالتعدّديّة والدعوة إلى التسامح الديني والمذهبي لا يمكن أن يكون بلا حدود ولا ضوابط يقتضيها الشرع والعقل. وهذا مما يتفق عليه العقلاء، ولا تخالف فيه الأنظمة التي تعد نفسها دول الحرية والتسامح.
إذن فالمطالبة بقدر تلك التعدّديّة، وما هو المقصود بها، وما هي حدودها المقبولة، ومتى تكون مرفوضة؟ كل ذلك هو الذي يجب أن يدرس ويطرح، قبل تلك الدعوة الجوفاء إلى مطلق التعدّديّة.
فمثلاً: قد يقال في هذا السياق: التعدّديّة المطلوبة هي التعدّديّة الدينية الموجودة في الغرب.
والذي يستبعد هذا الحل هو أن التعدّديّة الغربية لن تكون مقبولة عند المسلم الذي يرى في نصوص الدين ما يعارض هذا النوع من التعدّديّة، كما أن محاولة تطبيق تلك التعدّديّة بكل حذافيرها لا يمكن أن يتم إلا بعد أن تطبق التعدّديّة السياسية أيضاً؛ لأن نظام الحكم كله يجب أن يكون مستعداً لكل التغييرات التي تقتضيها التعدّديّة الغربية، وذلك ينبثق من دستور للدولة شامل لجميع شؤونها.

ثم إن المسلم في الغرب يُعاني من تناقض الحياة الغربية وحريتها مع مبادئه وعقائده وحريته، بل مع أبسط حقوقه (كالحجاب في فرنسا). فكيف سيكون في تطبيق تلك التعدّديّة تطبيق لمبادئ الحرية التي يريدها المسلم؟ وكيف سيسعى إلى تحقيقها في البلاد الإسلامية؟! هل سيرضى المسلمون أن يعيشوا حياة الاغتراب (كالتي يعيشونها في الغرب) في أوطانهم الإسلامية أيضاً؟!
ثم إن الغرب مع تطبيقه لتلك التعدّديّة، فإنه لم تزل للأقليات الدينية والعرقية فيه مطالبات قوية، تصل إلى درجة المواجهات العسكرية. فإما أن تدل هذه المطالبات على فشل التعدّديّة الغربية في تحقيق الحرية والتسامح الديني والمذهبي، فكيف تطالبون بتطبيق هذا النمط الغربي، وإما أن مجرد وجود المطالبات لا يدل على انعدام الحريات وعلى التطرف الديني، فلم كان مجرد وجوده دليلاً على انعدامها وعلى التطرف في السعودية خاصة.
إذاً فنحن لا نلغي فكرة قبول التعدّديّة والتسامح من أساسها (بل ندعو إليها)، ولا نقبلها بلا ضوابط، كما أننا لا نقبلها معلبة مستوردة من الغرب؛ لسبب طبيعي وعادي: وهو أننا مسلمون، لنا دين وقيم وثقافة تختلف عن الغرب في دينه وقيمه وثقافته، وكما لا يقبل الغرب أن يحل ديننا وقيمنا وثقافتنا مكان دينه وقيمه وثقافته، فيحق لنا –من باب العدل والمساواة- أن نرفض نحن ذلك.
وإن وصلنا في نقاش هذه المسألة إلى هذا الحد، وإذا اتفقنا على هذا المنطلق في مناقشة طريقة تطبيق التعدّديّة، وهو: أن التعدّديّة والتسامح الديني له حدوده التي لا بد منها، وأن النمط الغربي له لا يحقق تطلعات المجتمع المسلم؛ لأنه لم يحققها له في الغرب = فيجب علينا أن نحرص على هذه النقطة التي اتفقنا عليها، وأن لا نسمح لأي شيء أن يبعدنا عن هذا الحد من التقارب والاتفاق، وأن نحاول إكمال مسيرة الاتفاق؛ إذا كنا صادقين في إرادة الخير لأنفسنا ولأمتنا.
والذي يجب أن يكون هو الخطوة التالية لنقطة الاتفاق السابقة، هو أن التعدّديّة المطلوبة يجب أن تكون منضبطة بضوابط صحيحة، محققة لتطلعات المجتمع المسلم. وهذا لن يتحقق إلا إذا كان تصور تلك التعدّديّة غير مخالف للإسلام، وإلا فإنه سيكون مرفوضاً من المجتمع المسلم، إذا ما خالف الإسلام.

وهذه نقطة اتفاق ثانية، لا يُستهان بها، ويجب المحافظة عليها.
إذاً فالتصور لمشروع التعدّديّة الدينية والتسامح المذهبي يجب أن يكون تصوراً إسلامياً بحتاً؛ لأنه ينطلق من الإسلام في جميع مراحله؛ وإلا فسيكون تصوراً مستحيل التطبيق؛ باصطدامه بالواقع الإسلامي الذي يريده المسلمون. ولا يعني ذلك أن هذا التصور سيكون مُنبتاً من كل وجه عن التصورات الأخرى؛ لأن ما وافق فيه الغرب أو الشرق التصور الإسلامي سيكون مأخوذاً به؛ لأنه من ديننا.
فإذا أردنا مناقشة التعدّديّة المذهبية أو العقائدية في السعودية، يجب أولاً أن نعترف بوجود قدر منها؛ لأن مجرد بقاء أصحاب تلك المذاهب والعقائد هذا وحده يدل على وجود قدر من التعايش والتعامل، وأن التعدّديّة في السعودية لم تصل إلى حد رفضها تماماً، كما حصل في محاكم التفتيش النصرانية في أسبانيا، فإن هذا الحد من الرفض وعدم التسامح الديني لا يدعي أحد أنه وقع في السعودية، ولا قريباً منه، ولا ادعته الكاتبة نفسها، ولا يستطيع أن يدعيه أحد لمناقضته للواقع الماثل للعيان.
وأنا إنما أهبط إلى هذا الحدّ من التنازل لإثبات أن هناك قدرًا ما من التعدّديّة ما زال ولم يزل موجودًا في السعودية، لأقول بعد ذلك: إن هذا القدر قد يراه البعض غير كافٍ وغير متسامح، وقد يراه آخرون كافيًا متسامحًا، ويراه أيضاً آخرون مبالغًا فيه إلى حدّ الإساءة إلى حريته الدينية؛ لأنه يرى في دينه ما يعارض بعض مظاهر تلك التعدّديّة.
فإذا ما انحصر الخلاف في قدر ذلك التعايش، وفي تلك التعدّديّة الموجودة: هل وصلت حد التسامح المطلوب؟ أم لم تصل إليه؟ أم بالغت في تطبيقه؟ فالمرجع في معرفة الجواب الصحيح على هذه الأسئلة المختلفة التوجهات، هو الإسلام، الذي رضيه الجميع مرجعًا لتصوراته عن التعدّديّة المذهبية والتسامح الديني؛ كما سبق أن اتفقنا عليه؛ لأنه هو الحل الوحيد الذي لا يرفضه المجتمع المسلم، بل يقبله ويريده.
فإن وصلنا إلى هذا الحد من النقاش، أمكننا أن نحاكم ذلك القدر من التعدّديّة والتعايش الموجود حاليًا في السعودية إلى نصوص الكتاب والسنة، مبيِّنين تصورَنا عن التسامح المذهبي والعقائدي الذي يقرُّه الإسلام، وعن الانفلات الذي يرفضه الإسلام؛ لأنه يهدّد الإسلام بالذوبان والفناء التدريجي، إذا ما رضيناه منهجًا للتعددية الدينية والعقائدية.
ومن هنا نعلم: أن أيّ دعوة مطلقة للتعددية والتسامح، لا تضع تصوّرًا واضحًا لها، لا تعدو أن تكون شعارات سطحية، لا تلج إلى لبِّ المسألة، ولا تناقش حقيقة الخلاف. ولذلك فإن مثل هذه الدعوة المطلقة لا تستحقُّ الإهمال فقط، بل تستوجب المحاربة؛ لأنها طريقة أنضجها التاريخ السياسي حتى أحرقها، وأصبحت لعبة مكشوفة لدى العقلاء: أن المطالبة بالباطل لابد أن تكون بشعارات الحق، التي يحتفظ أصحاب الباطل بحق تفسيرها وقتما يجدون الفرصة سانحة لذلك. ولقد أعلنها جدّي علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- قبل ألف وثلاثمائة وثمان وثمانين سنة، عن مثل هذه الشعارات، عندما قال عنها: "كلمة حق أريد بها باطل" [صحيح مسلم 2/749]. فما أقدمها من أسلوب لأهل الباطل! وما أعظم غفلة من ينخدع بها !!! ولذلك قلت: إن المطالبة بالتعدّديّة المذهبية والتسامح الديني دون ضوابط أو تصورات، لا تستحق الإهمال فقط، بل تستوجب المحاربة، خاصة في هذا الوقت، الذي لم يعد الأمر فيه خافيًا، أن هناك مخططًا أمريكيًا للتلاعب بالمنطقة، لكي تحقق المنطقة مصالح أمريكا، على حساب الأمة ودينها ومقدراتها.
هذا ما يتعلق بالمغالطة التي جاءت في عرض كتاب الكاتبة ميّ يماني، أما ما يتعلق بالمخالفة للتاريخ: فهو ما أوهمت الكاتبة أنه كان موجودًا في الحجاز إبّان حكم الأشراف لها، وهو ذلك التنوّع والتسامح الذي أطلقته الكاتبة دون معالم له ولا حدود.
والكاتبة –حسب العرض المنشور- تتحدّث عن تنوّع وتعددية خيالية، لأنها لم تحدّد معالمها (كما سبق). فإثبات وجود ما تقصده أو نفيُهُ غير ممكن، حتى نعرف تصوّرها عن التعدّديّة التي تدّعي أنها كانت موجودة في الحجاز، وحتى نعرف الفرق بينها وبين الموجود اليوم فيها.
وأنا إذ أتكلم عن الحجاز وتاريخها، فأنا ابن تاريخها، وأقولها كلمة حق عن تاريخها: إن الحجاز – كغيرها من مناطق العالم الإسلامي- قد مرّت بمراحل مختلفة، بالنسبة لتحقق التسامح الديني والمذهبي فيها، بحسب الظروف الدينية والسياسية والعلمية التي تمر بها.
فمثلاً: في الفترة التي كانت فيها الحجاز تُعدُّ ولاية من ولايات الدولة العثمانية، وبما أن الدولة العثمانية كانت تتبنى مذهبًا صوفيًا متطرّفا في الغالب، كانت الدعوة السلفيّة في الحجاز وغيرها من ولايات الدولة العثمانية محارَبةً بقوّة وبغير تسامح.
فهذا محمد بن محمد بن سليمان الرّوداني المغربي، والذي توفي قبل مولد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حيث توفي سنة (1094هـ)، وهو أحد علماء الحجاز الذين كانوا غير راضين عن كثير من بدع الاحتفالات الدينية التي كانت تقام في الحجاز حينها، وكان شديد النفرة من بناء القباب على القبور، ويصف ذلك بأنه من بدع الكفار المنكرة. بقي معتزلاً في بيته، لا يستطيع أن يطالب بما يعتقده ويدين الله تعالى به. حتى عرفه وزير الدولة العثمانية الأكبر، وأحبه وعظّمه، فولاّه النظر في الشؤون الدينية للحجاز، فمنع تلك الاحتفالات، وهدم القباب. ولكن ما إن توفي ذلك الوزير، حتى عُزل الروداني من منصبه، وأوذي أشدّ الإيذاء، وطرد من مكّة والحجاز بأسوأ معاملة. ثم أعيدت تلك الاحتفالات، وبنيت القباب من جديد.
فأين التسامح الديني في هذا الحادث التاريخي، الذي يدلّ على الواقع الذي كان يعيشه الحجاز في تلك الفترة، ومناهضته وعداوته للدعوة السلفيّة، وعدم تعايشه معها بأي وجه من وجوه التعايش، والتي وصلت إلى درجة الطرد والإبعاد من الحجاز.
وفي آخر حكم الأشراف كانت الدعوة السلفية محاربةً بكل قوّة؛ لتعلّق ذلك بالصراعات السياسية بين الحجاز ونجد. وما قصة العالم المكي السلفيّ أبي بكر بن محمد عارف بن عبد القادر خوقير (ت1349هـ) عنّا ببعيد؛ الذي أوذي أشد الإيذاء، حتى سجن هو وابنه، وقتل ابنه في السجن، وبقي هو في السجن إلى أن سقط حكم الأشراف في مكّة المكرمة، كل ذلك من أجل معتقده السلفي، والذي لم يكن له فيه أتباع تُخشى شوكتهم في الحجاز، بل هو تيار مكبوت أتباعه، متفرقون، لا يجمعهم تنظيم، ولا يتكلم بلسانهم خطيب. ومع ذلك أوذي هذا العالم بكل تلك القسوة، وبهذا القدر الغالي في مصادرة الرأي الآخر، وكبت الحريات الدينية.
وكل من عرف الحجاز وتاريخها الأخير، يعرف مقدار ما كانت تواجه به الدعوة السلفية من العداء، وعدم السماح لصوتها بالظهور، بل للقلوب أن تنطوي عليها، لو كان ذلك في قدرتهم.
وكما كان هذا هو موقف حكومة الحجاز من الدعوة السلفية، كذلك كان موقفها من الشيعة الإمامية، خاصة وعداء الدولة العثمانية للشيعة الإمامية ( ممثلاً في الدولة الصفوية) عداء سياسي وعسكري وديني مستحكم.
ولديّ من صحائف التاريخ الحجازي ما يدل على مقدار العداء الذي كان مستحكمًا في الحجاز بين المذهب الإمامي والمجتمع الحجازي حكومة وشعبًا.
وبناءً على هذا التاريخ الحقيقي للحجاز، ولمقدار التسامح الديني والتعدّديّة المذهبية الموجودين فيه: ما هو ذلك التسامح الذي كان موجودًا في الحجاز سابقاً، وتطالب الكاتبة بعودته؟!
إن كانت تقصد اضطهاد الدعوة السلفية بها، فهذا ممكن!!
والمغالطة الأخرى للكاتبة: هي أنها صوّرت انتشار الدعوة السلفية في الحجاز بأنه اضمحلال لسلطة الحجاز الدينية لصالح سلطة نجد!
فهل هذا الطرح طرح علمي؟! وهل يمكن أن يكون لمثل هذا الطرح ثمارٌ طيبة؟! أم أنه سيكون داعيًا لإثارة النعرات الجاهلية.
والعجيب في هذا الطرح هو المصادرة والتحكم بغير دليل ولا شبهة دليل الذي بني عليه: فنجْدٌ عند الكاتبة تمثل الدعوة السلفية، والحجاز عندها تمثل الدعوة المناهضة لها، وهي التصوف. هكذا سمحت الكاتبة لنفسها أن تقسِّم المناطق حسب رغبتها، أو حسب فهمها.
إن عدّ منطقة ما ممثلة لمذهب معين، لمجرد أن ذلك المذهب كان منتشرًا فيها خلال فترة تاريخية معيّنة = تصرف غير علمي؛ لأنه يتناقض مع نفسه. حيث إن الحجاز مثلاً قد مرّت في تاريخها بمراحل مختلفة، انتشرت فيها خلالها مذاهب متعددة: من المذهب السني، إلى الزيدي، إلى الصوفي؛ فما الذي جعل الحجاز ممثّلة للمذهب الصوفي خاصة، دون غيره من المذاهب . إن كان ذلك بناءً على الواقع الذي فرض نفسه، فلم لا ترضى الكاتبة بالواقع الحالي. وإن كان غير ذلك، ولن يكون إلا المصادرة على الرأي، فهو أمر مرفوض.
وكذلك منطقة نجد، قد مرّت بمراحل مختلفة في تاريخها؛ فلم تكن الدعوة السلفية دعوة نجديّة يوم دعا إليها شيخ الإسلام ابن تيمية في بلاد الشام ومصر وغيرها من بلاد العالم الإسلامي.
والحق الذي لا مرية فيه: أن الحجاز ونجدًا والأرض كلها لله وحده، يورثها من يشاء من عباده.
والحق الذي لا مرية فيه: أن الحجاز تمثل الإسلام الصافي؛ لأنها مهبط الوحي، ودولة الإسلام الأولى، وإليها يأرز الإيمان في آخر الزمان. فكل رجوع إلى الإسلام الصافي في الحجاز، وكل نصرة لسنة النبي المكي –صلى الله عليه وسلم- = هي انتصار لسلطة الحجاز أيضاً.
ولذلك فلمن يرى أن الدعوة السلفية هي التي تمثل الإسلام الصافي، له أن يرى أن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب هي اضمحلال لسلطة نجد لصالح سلطة الحجاز، خاصة مع ما جاء في كتاب (مصباح الظلام) لحفيد محمد بن عبد الوهاب، وهو عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (ت1293هـ)، الذي قال عن جده محمد بن عبد الوهاب: " وسمع الحديث عن أشياخ الحرمين في وقته، وأجازه الكثير منهم، ومن أعلامهم محدّث الحرمين الشيخ محمد حياة السندي، وكان له أكبر الأثر في توجيهه إلى إخلاص توحيده عبادة الله، والتخلص من رقّ التقليد الأعمى، والاشتغال بالكتاب والسنة".
وكذلك لمن يرى الدعوة السلفية هي التي تمثل الإسلام الصافي، له أن يعدّ عودة هذه الدعوة إلى الحجاز اضمحلالاً لسلطة الأتراك العثمانيين، الذين نشروا التصوّف في العالم الإسلامي، وأن هذا الاضمحلال لسلطتهم كان فيه عودة لسلطة الحجاز إلى الحجاز مرةً أخرى.
وأما اعتراف الكاتبة بانتشار الدعوة السلفية في الحجاز في العقود الأخيرة، فهو وإن كان عندها اضمحلالاً لسلطة الحجاز، إلا أنه اعتراف منها بالواقع الماثِل للعيان، وهو أن الدعوة السلفية في الحجاز اليوم هي معتقد غالب أهل الحجاز (من القبائل والقاطنين أيضاً)، وأن المناهضين لها هم فيها اليوم أقلية.
وأما أن ذلك اضمحلال لسلطة الحجاز، فهو في الحقيقة اضمحلال للسلطة التي تريدها هي للحجاز، لا لسلطة الحجاز الدينية، التي هي الإسلام الصافي، المعتمد على الوحي من الكتاب والسنة.
ولذلك فإني أطالب من يطرح مثل هذا الطرح، أن يتكلّم بموضوعية علمية؛ إذ بأي حقّ تُصَوَّرُ فيه الحجاز، وكأنها وقف خاص على الدعوات المناهضة للدعوة السلفية.
فالموضوعية إذن هي أن ننظر إلى المذاهب الدينية القائمة، ونقيسها بالكتاب والسنة، فأقرب المذاهب إليهما فهو الذي يمثل سلطة الحجاز الدينية.
وهنا أغتنم هذه الفرصة لأعلن عن هذه الحقيقة، التي لم يعد بإمكان الكاتبة ولا غيرها أن يتجاهلها؛ لأنها واضحة وضوح الشمس: وهي أن غالب أهل الحجاز اليوم على الإسلام الصافي، وأنهم غير مخالفين للدعوة السلفية، فإلى متى يسمح المناهضون للدعوة السلفية لأنفسهم أن يتكلموا بلسان أهل الحجاز، وأن يتباكوا على السلطة التي يريدونها هم للحجاز؟ !!
هذا كله لو سلّمنا بمنطق الكاتبة غير المنطقي، الذي أراد أن يربط سلطة الحجاز الدينية بالمذهب الديني الذي ينتشر فيها، وإن كان مذهبًا يشوبه من الكدر بقدر ما يبعده عن الإسلام الصافي. وهذا منطق متناقض كما سبق، لكن أردنا أن نبين أن هذا المنطق لا يخدم الكاتبة فيما تريده أيضاً.
ولذلك.. وانطلاقًا من حرية الكلمة، ومن حرية التعبير عن المعتقد، أقول: (وأنا أحد أبناء الحجاز، بل أحد أعرق أبنائها دينًا ونسبًا وتاريخًا)، إني لا أسمح لأحدٍ مناهضٍ للدعوة السلفية أن يتكلم باسمي، وباسم أغلب أهل الحجاز المخالفين له في مناهضته للدعوة السلفية. له أن يتكلّم باسمه وباسم الموافقين له، أما باسم جميع أهل الحجاز، فهذا ما لا نرضاه لأنفسنا، ولا يرضاه كل مناصر للحرية وللتسامح الديني. بل لو كنا نحن الأقلية، كما هم الآن، لما رضينا بهذا الإلغاء من الوجود، إلى هذا الحدّ البغيض من الإلغاء، الذي لا يقبله حيّ لنفسه.
ومن هؤلاء الذين ألغوا وجودنا كاتبة هذا الكتاب، حينما تصرّ على عدّ الحجاز وقفًا للتيار المخالف للدعوة السلفية، مع أن غالب أهل الحجاز اليوم مع التيار السلفي.
فأين التنوع والتسامح الديني في مثل هذا الإلغاء، يا دعاة التنوّع والتسامح؟!
هذا والله أعلى وأعلم.
والحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا بني بعده، وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثره واتقى حدّه.

المصدر : الإسلام اليوم
 

أرباب الطريقة
  • منوعات
  • من كلام الأئمة
  • كتب عن الصوفية
  • جولات مع الصوفية
  • شبهات وردود
  • صوتيات عن الصوفية
  • فرق الصوفية
  • شخصيات تحت المجهر
  • العائدون إلى العقيدة
  • الملل والنحل
  • الصفحة الرئيسية