اطبع هذه الصفحة


الشهاب السني في إثبات ضعف حديث العتبي : أو إتمام الكلام على حديث الأعرابي

أبو عمر الدوسري(المنهج)

 
قومٌ مفتونون بالحكايات ، من قصص موضوعة ، ورأيا مقطوعة ، يقيمون الأحكام على مثل هذه التفاهات ، يقيمونها ويصدون بها الآيات ، وما صح من الأحاديث النبوية ، أين هم من قوله تعالى {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} ، أُناس تخبطوا في مصادر التلقي ؛ فأصبحوا يتلقون دينهم عن المنامات ، وأكاذيب الحكايات ، فقبحاً قبحاً لمن لم يرفع بكلام الله رأساً ، وبسنة الحبيب اقتداءً وتأسياً ..

وسنقف بإذن الله مع رواية أخرى لحديث الأعرابي الذي تكلمنا عنه قبل ذلك ،واليوم مع رواية أخرى لهُ والذي يسمونه (بحديث العتبي)

تعدد روايات الحديث

" لقد ورد حديث توسل الأعرابي هذا في روايات عديدة:
بعضها بلا إسناد ، والبعض الآخر بأسانيد مظلمة ، كما أن ألفاظها جاءت مختلفة ومضطربة ، مع زيادة ونقصان في جميع ألفاظ متونه ، وفي جميع رواياته وأسانيده ، مما يدل دلالة واضحة صريحة على أن الحديث في جميع رواياته مختلق موضوع ، وخبر مكذوب مصنوع ، وأن صنعة الكذب والوضع ظاهرة عليه وإنها بينة جليلة واضحة فيه ، وضوح الشمس.

وها أنت يا أخي القارئ ، اطلعت على الحديث في روايته الأولى لفظاً وسنداً وتعليقاً وتحقيقاً ، ولا أخالك إلا مقتنعاً بالنتائج التي تترتب على وضع مثل هذا الحديث ، ولعلك تتوق إلى تفصيل الروايات الأخرى التي ورد فيها على نحو ما تم تفصيله في الرواية الأولى … فأهلاً بك يا أخي على صعيد التحقيق والتدقيق … ثم بعد ذلك ، نترك لك الحكم على هذه الروايات المتعددة ، فيما إذا كانت تصلح للاحتجاج بها ، في خلافنا القائم مع القوم هدانا الله وإياهم سواء السبيل.

الروايـة الأولى
وهي الرواية الأولى المتقدمة عن أبي الحسن الكرخي بسنده إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وحاشاه من نسبة هذه الرواية إليه بعد أن تأكدت يا أخي من كذب نسبتها إليه رضي الله عنه وأرضاه.:
"مقتبس من كلام الرفاعي في (التوصّل) 273"

وهذا رابط الموضوع السابق والذي بعنوان:
البروق السنية في كشف أباطيل حديث الأعرابي سنداً وتمناً وقمع أصحاب الاستغاثات الشركية
وكذلك علقنا على الآية التي يحرف معناها بعض أهل البدع ومحبي الاستغاثات الشركية بعنوان:
إتحاف أهل السنة والجماعة بالرد على من استدل على هذه الآية بجواز الاستغاثة
http://saaid.net/feraq/sufyah/shobhat/3.htm

والله اسأل أن يشرح صدور أصحاب الأهواء للحق ، وأن ينزع من قلوبهم أتباع الأهواء وما عليه الآباء من البدع والانحرافات ، ولا يكونوا ممن قال الله فيهم {إن وجدنا آبائنا على ملة} ، ولا يصدهم الهوى فيكونوا ممن قال الله فيهم: {أفرأيت من أتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على قلبه وسمعه ، وعلى بصره غشاوة ، فمن يهديه من بعد الله ، أفلا تذكرون}
نعم {على علم} يبين له أن ما يستشهد به كذب موضوع ، فتأخذه العزة بالإثم ، وإتباع ما عليه الآباء بأن لا يتزحزح {فمن يهده من بعد الله} لا أحد!{أفلا تذكرون}

الرواية الثـــانية
أما الرواية الثانية المشهورة (بحديث العتبي) ويحسن بي يا أخي أن أثبت لك نص هذه الرواية كما وردت في كتاب (الشامل) لأبي منصور الصباغ بلا إسناد!!!!إذ لو كان إسنادها جيد لذكره كما سنبين.

نص رواية حديث العتبي
( كنت جالساً عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فجـاء أعرابي فقال:السلام عليك يا رسول الله ، سمعت الله يقول: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً} وقد جئتك مستغفراً لذنبي ، مستشفعاً بك إلى ربي ، ثم أنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه … فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه …. فيه العفاف وفيه الجود والكرم)

الكلام على متن الرواية

( إن متن هذه الرواية "حديث العتبي" عللاً مشتركة مع الرواية الأولى –رواية أبو الحسن الكرخي- وعللاً أخرى مختلفة ، فما توافق منها أحلناك يا أخي على إجابتنا على مثلها في ما سبق من تحقيق الرواية فارجع إليها إن أعوزك ذلك.أما ما اختلف عنها واضطرب ، عالجناه وناقشناه على ضوء الشريعة المطهرة:

1- تقول الرواية الأولى: "قدم أعرابي بعدما دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام ، فرمى نفسه فوق القبر وحثا على رأسه من ترابه"
بينما تقول "رواية العتبي" : "كنت جالساً عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله .. "
فالعتبي هذا:
قال عنه المؤرخون أنه توفي سنة 228هجرية فهل يمكن أن يحضر حادثة وقعت بعدما دفن الرسول بثلاثة أيام؟!! .. فهب أنه عاش مائة سنة ، فيبقى بينه وبين الحادثة انقطاع مائة وعشرين سنة فهل يمكن أن يحضر واقعة حدثت قبل أن يخلقه الله بمائة وعشر سنين؟!!
وهل تصح رواية الواقعة عنه؟!
وعلى كل سوف نأتي عند البحث في سند هذا الحديث ، على تفصيل تام لترجمة العتبي.

2- إن الرواية الأولى ورواية العتبي تتفقان في إيراد لفظ تلاوة الأعرابي للآية الكريمة: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً} .
ولقد أجبنا على استدلالهم بهذه الآية الكريمة على جواز التوسل بذوات المخلوقين من أنه في غير محله ، وأنه لا قياس بين حياة الرسول وموته ، فما يمكن أن يفعله في حياته ، قد انقطع بسبب وفاته.فارجع يا أخي إلى معالجة ذلك فيما ذكرناه وعالجناه في الرواية الأولى ، مع العلم أن هذه الآية الكريمة نزلت في بعض المنافقين ، لا من أجل جواز التوسل بذات الرسول صلى الله عليه وسلم.

3- أن رواية العتبي ليس فيها أن الأعرابي رمى نفسه فوق القبر ، وحثا على رأسه من ترابه كما في الرواية الأولى. فهذا اختلاف في اللفظ واضطراب في وصف الحادثة ، فلو كان العتبي حاضراً فيها لوصفها كما وصفت في الرواية الأولى فوقوع هذا الاختلاف والاضطراب بين الروايتين علة طاعنة ومانعة من صحة الحديث والاحتجاج به.

4- قول الأعرابي في الرواية الأولى: "وقد ظلمت نفسي وجئتك مستغفراً" وقول العتبي أن الأعرابي قال: " وقد جئتك مستغفراً لذنبي مستشفعاً بك إلى ربي" ولم يقل فيها: "وقد ظلمت نفسي" .
وفي الرواية الأولى يقول الأعرابي: "وجئتك مستغفراً" وفي رواية العتبي "وقد جئتك مستغفراً لذنبي مستشفعاً بك إلى ربي". إنهما قد ترافقا بين العبارتين المتعلقتين بالمجيء من أجل الاستغفار. وجاءت زيادة في رواية العتبي "مستشفعاً بك إلى ربي" .
وهنا يجــب الوقوف عند قول الروايتين "وجئتك مستغفراً" في الرواية الأولى "وجئتك مستغفراً لذنبي" في رواية العتبي فبصرف النظر عن الاختلاف والاضطراب في لفظ الروايتين ؛ إن خطراً كبيراً يهون بجانبه خطر التوسل بذوات المخلوقين ، قد ذر قرنه من قوله "وجئتك مستغفراً" أو "قد جئتك مستغفراً لذنبي" إن الكلام الوارد في كلا الروايتين يوهم –إن لم نقل يؤكد- أن الأعرابي إنما جاء القبر ليستغفر الرسول من ذنبه! بينما الآية التي يستشهدون بها تقول: {ولو أنهم ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله} لا فاستغفروك!!! لأن الاستغفار عبادة له تعالى ، فلا يجوز استغفار أحد من المخلوقين .. حتى ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستغفار رسول الله عبادة له ، والعبادة لا تليق إلا بالله تعالى وحده لا شريك له.إذاً فاستغفار الرسول شرك بالله تعالى.
أما مراد الآية: فهو المجيء إلى مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإشهاده على استغفارهم الله من الذنب ، ثم الطلب منه صلى الله عليه وسلم أن يستغفر الله لهم ، وليس فيها قطعاً ذكر المجيء إليه صلى الله عليه وسلم من أجل أن يستغفره هو من الذنب.

5- إن الزيادة الواردة في قول العتبي "مستشفعاً بك إلى ربي" ، هذا طلب لا يجوز توجيهه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته. إذا كيف يشفع وهو منقطع العمل بسبب وفاته؟ ثم كيف يشفع ولم يصدر الإذن بالشفاعة من الله تعالى ولن يصدر الإذن إلا يوم القيامة لمن يشاء ويرضى .. وهذه ولا شك عقائد ومعلومات بدهية لا يعذر المسلم في الجهل بها .. فضلاً عن وقوع ذلك في زمن الصحابة الذين هم خير أمة أخرجت للناس وخاصة أمام على علم شامخ من أعلامهم وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه.

6- قول الرواية الأولى: "فنودي من القبر [أنه قد غفر له] " بينما يقول العتبي في الرواية الثانية: "ثم انصرف الأعرابي فغلبتني عيني .. فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال: [ يا عتبي إلحق بالأعرابي فبشره أن الله قد غفر له] " .
لا شك يا أخي أنك قد أدركت الفارق بين اللفظين رواية تقول: أن الرسول قد ناداه من القبر "إنه قد غفر له" رواية تقول: أن الرسول أتى العتبي في المنام وأمره أن يلحق بالأعرابي ويبشره بأن الله قد غفر له.
فإذا كان الرسول قد بلغه شفهياً بأن الله قد غفر له فما حاجته بتكليف العتبي أن يبشره مباشرة منه صلى الله عليه وسلم وأما أن يبلغها من العتبي ، أما من الطرفين فيكون من التكرار الذي لا طائل تحته.
وإذا كان من الممكن نداء الرسول للأعرابي وتبليغه مباشرة فلماذا يستعين بالعتبي ويأتيه بالمنام ويستلحقه بالأعرابي ليبشره؟!
أرأيت يا أخي هذا الاضطراب العظيم بين الروايتين مما يؤكد ولا شك أن الروايتين غير صحيحتين بالنسبة لعلل كل منهما.
على أن واضع هذا الحديث في الرواية الأولى يريد أن يوهم المسلمين إمكانية اتصال النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته بأحد من أمته ، بينما هذا مستحيل وقوعه ولو أمكن لكان من الأحرى والأجدى أن يتصل بأمته صلى الله عليه وسلم في حوادث هامة ، لم يُعرف فيها الحق أين هو .. ومع من هو ..؟ وكم كانت تلك الوقائع المؤلمة سبباً لقتل آلاف من الصحابة.
فيا سبحان الله يكلم رسول الله بعد وفاته الأعرابي .. ولا يكلم المسلمين فيما شجر بينهم من المشـاكل؟!!! إن مثل هذه العلل في متن الروايتين كافيـة للحكم على هذا الحديث بالوضع والسقوط.

الكـلام على سند هذا الحديث

ليس لرواية حديث العتبي أي سند يستأنس به للحكم بصحة الرواية ، أو اعتلالها ؛ ولكن رأينا بصيصاً من الضوء على ذلك ، وهو:
إنه وإن كان العقد منفرطاً إلى العتبي ، وغير معروف من رواه عنه ، إنما نكتفي بالاستدلال على كذب الحديث ، أو على الأقل على علة الانقطاع فيه ، أن العتبي الذي يروي هذه الرواية عن الأعرابي كشاهد عيان!!! أن بينه وبين الأعرابي انقطاعاً يربو على مائتي سنة تقريباً وإليك البيان:

1- قال زين الدين أبو بكر بن الحسين بن عمر أبو الفخر المراغي المتوفي سنة 816 هجرية في كتابه "تحقيق النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة" ص 111 في /ترجمة العتبي/ قال: "أسمه محمد بن عبدالله بن عمر بن معاوية بن عمر بن عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب توفي سنة ثمان وعشرين ومائتين" .

2- وقال ابن الأثير في كتابه "اللباب في تهذيب الأنساب" 1/119:
" والعتبي وهي نسبة إلى عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبدشمس أخي معاوية بن أبي سفيان. وينسب إليه جماعة ، منهم محمد بن عبدالله بن عمر بن معاوية بن عتبة بي أبي سفيان العتبي البصري يكنى أبا عبدالرحمن صاحب أخبار وآداب ، حدث عن أبيه وابن عيينة وروى عنه أبو حاتم السجستاني" .

3- وقال ابن خلكان في "وفيـات الأعيان" 1/522-523:
"أبو عبدالرحمن محمد بن عبدالله بن عمر بن معاوية بن عمر بن عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبدالشمس القريشي الأموي المعروف بالعتبي الشاعر البصروي المشهور كان أديباً فاضلاً ، وشاعراً مجيداً وكان يروي الأخبار وأيام العرب … إلى أن قال:روى عن أبيه وعن سفيان بن عيينة ، ولط بن مخنف وروى عنه أبو حاتم السجستاني وأبو الفضل الرياشي وإسحاق بن محمد النعنعي وغيرهم وقدم بغداد وحدث بها أخذ عنه أهلها … إلى أن قال: وتوفي سنة ثمان وعشرين ومائتين رحمه الله تعالى" .

4- ولعل أحداً من القوم يقول: وما يدريك أن هذا هو العتبي ، المعنى بالرواية عن الأعرابي فأقول:
وإنني أؤكد أنه هو نفسه الذي تزعمون أنه رأى الأعرابي صاحب القصة ودليلنا على ذلك ما حكى عنه المؤرخون وخاصة اعتراف رجل منكم ممن يجوزون التوسل بذوات المخلوقين وهو: الشيخ السبكي مؤلف كتاب "شفاء السقام" الذي رد عليه ابن عبدالهادي في كتابه "الصارم المنكي في الرد على السبكي" قال في ص 136 منه:
" قال السبكي في كتابه /شفاء السقام في زيارة خير الأنام/ العتبي ، وأسمه محمد بن عبدالله بن عمر بن معاوية بن عمر بن عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب كان من أفصح الناس رواية للأدب وحدث عن أبيه ، وسفيان بن عيينة توفي سنة ثمان وعشرين ومائتين يكنّى أبا عبدالرحمن"أهـ .كلام السبكي. وذلك طبعاً بعد أن ذكر حكاية العتبي وروايته عن الأعرابي مستدلاً بها في كتابه على جواز التوسل بذوات المخلوقين.

إذاً فالعتبي الذي تزعمون أنه صاحب الرواية عن الأعرابي ، هو نفسه المترجم له في الكتب المذكورة بشهادة شيخكم السبكي في كتابه /شفاء السقام في زيارة خير الأنام/ [وشهد شـاهــد من أهلها] بينما في الحقيقة أن العتبي هذا ، تأخر عن العتبي الذي يردون إقحامه في الرواية عن الأعرابي ، بما يربو على المائتي سنة تقريباً ؛ فتأمل!

قال ابن عبدالهادي في كتابه [ الصــارم المنكي في الرد على السبكي] :
"وأما حكاية العتبي التي أشار إليها –أي السبكي- حكاية ذكرها بعض الفقهاء والمحدثين ، وليست بصحيحة ولا ثابتة إلى العتبي ..!!

وقد رويت عن غيره بإسناد مظلم ، وهي في الجملة حكاية لا يثبت بها حكم شرعي ، لا سيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان مشروعاً مندوباً ، لكان الصحابة والتابعون أعلمَ به وأعملَ به من غيرهم وبالله التوفيق" أهـ ) .
"أنظر "التوصّل" للرفاعي محمد نسيب ص274-279"

وقال المُحدِّث العلامة محمد بشير السهسواني الهندي في "صيـانة الإنسـان من وسوسة الشيخ دحلان" رداً على استدلال دحلان بحديث العتبي قائلاً:
( أقول: ليست هذه الحكاية مما تقوم به الحجة.
قال في الصارم المنكي: وهذه الحكاية التي ذكرها بعضهم يرويها عن العتبي بلا إسناد ، وبعضهم يرويها عن محمد بن حرب عن أبي الحسن الزعفراني عن الأعرابي ، وقد ذكرها البيهقي في كتاب شعب الإيمان بإسناد مظلم عن محمد بن روح بن يزيد البصري حدثني أبو حرب الهلالي قال: حج أعرابي ، فلما جاء إلى باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أناخ راحلته فعقلها ، ثم دخل المسجد حتى أتى القبر ، ثم ذكر نحو ما تقدم.وقد وضع لها بعض الكذابين إسناداً إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما سيأتي ذكره [أتى ذكره في الرابط السابق] .

وفي الجملة ليست هذه الحكاية المذكورة عن الأعرابي مما تقوم به حجة ، وإسنادها مظلم مختلف ، ولفظها مختلف أيضاً ، ولو كانت ثابتة لم يكن فيها حجة على مطلوب المعترض ، ولا يصلح الاحتجاج بمثل هذه الحكاية ولا الاعتماد على مثلها عند أهل العلم ، وبالله التوفيق ) .

سؤال يفرض نفسـه

وأثناء نقاشنا وبياننا الواضح هناك سؤال يفرض نفسه هل خرجت هذه الحكاية المكذوبة في كتب الحديث المحترمة؟
وهل حين يذكرها هو يحتج بها؟وهل هو يصححها؟
وسؤال آخر هل إذا ذكرت القصة في كتب بعض أهل العلم يعتبر حجة؟

هذه أسئلة كثيرة .. وللإجابة عليها .. أقول:
يقول عبدالله بن علي في "الصراع" بعد أن ذكر الخلاف في الراوي:
( .. ولكن لا يوجد شيء من ذلك إسناد ينظر إليه ، ولم تخرج كتب الحديث المحترمة ، ولم يصححها أو يحسنها أحد من أهل العلم والدراية.
وإنما يذكرها بصيغة التمريض ، فيقولون:يروى عن العتبي كذا.
ومثل هذا لا يقول أحد من أهل العلم:إنه يجوز للاحتجاج به.
فالحكـــــــاية باطلة من الأساس.

ولو فرض أنها صحيحة الإسناد لما دلت على شيء مما يذهبون إليه.
وذلك أن هذا فعل أعرابي من نكرات الأعراب ، والأعراب ليسوا حججاً في دين الله.
ولو أن العتبي نفسه الذي شهرت عنه الحكاية فعل ذلك لما كان فعله حجة ولا مقبولاً ، فكيف بفعل أعرابي يروي عن العتبي والعتبي ليس معروفاً بالحديث ولا بالدين. وقد ذكر الخطيب البغدادي في التاريخ وقال عنه: "كان صاحب أخبار ورواية للآداب ، وكان من أفصح الناس .." ولم يذكره بتزكية ولا بتوثيق ولا بحديث ، وإنما ذكره بالشعر وروايته.وقال بلغني أنه مات سنة 228."

أما الإجابة على السؤال الثاني فيقول عبدالله بن علي في "الصراع":
(وذكرها شيخ الإسلام [كما سيأتي في الإجابة على السؤال الثالث] ابن تيمية في مواضع من كتبه ، وقال:إنها لا تعرف إلا عن هذا الأعرابي.
قال:وبها احتج من احتج من متأخري الفقهاء من أصحاب الشافعي وأصحاب أحمد.
وهذا صحيح فإن صاحب "المغني" وصاحب "الشرح الكبير" الحنبليين ، وهما من كبار الفقهاء ، حينما ذكرا هذا ذكراه عن العتبي عن الأعرابي. ولم يذكرا شيئاً عن ذلك عن مالك رضي الله عنه [وقد بينا كذب القصة على الإمام مالك رحمه الله مع أبي جعفر المنصور رحمه الله] ولو كانت الرواية محفوظة عندهما عن مالك لأسنداها إليه واحتجا بها ، ولكان هذا أفضل من الاحتجاج بفعل ذلك الأعرابي المجهول.ولكن هذا يدل على أنهم ما كانوا يعرفون شيئاً من هذا النوع عن أمثال مالك ثم هم يذكرون الرواية على وجه التوهين ، لا يذكرون لها سنداً ولا يصححونها ، ولا يقولون فيها غير: " يروى عن العتبي" مثلاً فهم لا يعرفون لها سنداً ، ولا يعرفون لها صحة أو ثبوتاً ، وإنما يسوقونها معللة موهنة مرسلة) .

وللإجابة على السؤال الثالث وهو هل حين يذكرها أحد أهل العلم تكون بذكره حجة؟!
فندع الإجابة الشافية لشيخ الإسلام في مصنف "قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق" تحقيق سليمان الغصن ص 111-114:
( وهكذا أهل الزيارات البدعية ، منهم من يطلب من المزور دعاءه وسؤاله لربه ، واستغفاره واستنصاره ،ودعاءه له بالرزق ، وشفاعته ، ونحو ذلك ، وهذا وإن كان قد ذكر بعضه طائفة من العلماء ، وجعلوا قوله: {ولو أنهم ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفروا لهمُ الرسولُ لوجدوا الله تواباً رحيماً} يتناول من يأتيه بعد الموت ، فيطلب منه الاستغفار له ، كما كان أصحابه يطلبون منه الاستغفار في حياته ، وذكروا في ذلك حكاية لبعض الأعراب ، ومناماً رآه العتبي ، وقيل:بل رآه محمد بن حرب الهلالي ، وهم مختلفون في الشعر المذكور فيها ، فجمهور الأئمة لم يستحبوا ذلك ، وإنما ذكره بعض أصحابهم ، ولم يكن الصحابة يفعلون مثل هذا ، ولا هو أيضاً معروف عن التابعين ، ومعلوم أن كل واحد من المسلمين يطلب من مغفرة الله ، وهو مأمور بالاستغفار ، فإنه لا يغفر الذنوب إلا الله ، قال تعالى: {والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون}

وفي حديث الاستفتاح الذي في الصحيح عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم أنت ربي وأنا عبدك ، ظلمت نفسي ، واعترفت بذنبي ، فاغفر لي ، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، واهدني لأحسن الأخلاق ، فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، واصرف عني سيئها ، فإنه لا يصرف عني سيئها إلا أنت)) رواه مسلم .

وفي حديث ركوب الدابة الذي رواه أهل السنن عن علي بن أبي طالب أيضاً ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أُتي بدابة ليركبها إذا وضع رجله في الركاب قال: ((بسم الله)) ثم إذا استوى على ظهرها قال: ((الحمد لله)) ثلاثاً.ثم قال {سبحان الذي سخر لنا هذا وما ما كنا له مقرنين ، وإنَّا إلى ربنا لمنقلبون} ثم يكبر ثلاثاً ، ويحمد ثلاثاً ، ثم يقول: (( لا إله إلا أنت)) ثم يضحك ويقول: ((ألا تسألوني مم ضحكت؟ إن الرب ليعجب إذا قال عبده اغفر لي ، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، يقول: علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب إلا أنا)) رواه أبو داود والترمذي والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.

وكان أصحابه في حياته يأتيه أحدهم فيطلب منه أن يستغفر له كثيراً ، وقد قال تعالى في المنافقين: {وإذا قيلَ لهم تَعَالَوْا يستغفرْ لكم رسول الله لَوَّوْا رؤوسهم ورأيتهم يصدُّون وهم مستكبرون ، سواء عليهم أستغفرتَ لهم أم لم تستغفرْ لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين} .

وقد قال تعالى في حق غير المنافقين: {فاعف عنهم واستغفرْ لهم وشاورهم في الأمر} .

وقال تعالى: {واستغفرْ لذنبكَ وللمؤمنينَ والمؤمنات} ، وقال: {ولو أنهم إذْ ظلموا أنفسَهُم جاؤوك فاستغفروا اللهَ واستغفر لهم الرسولُ لوجدوا الله تواباً رحيماً} .

والمؤمنون شرع لهم أن يستغفر بعضهم لبعض ، وكان الصحابة أيضاً يستغفرون للرسول ، ففي الحديث الصحيح أن الأنصـار قالوا: يغفر الله لرسول الله ، يعطى صناديد نجد ويدعنا.[رواه بنحوه البخاري في كتاب المغازي] .
وفي الحديث الآخر ، أن عبدالله سرجس قال غفر الله لك يا رسول الله .فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولك)) فقالوا:استغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: ((ولكم)) ثم قرأ قوله تعالى: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات}

فلما مات لم يكن أصحابه يأتون قبره فيقولون:استغفر لنا. كما كانوا يأتونه في حياته ، وكذلك لما أجدبوا لم يأتوا إلى قبره فقالوا ادع الله لنا. كما كانوا في حياته إذا أجدبوا أتوا إليه فقالوا:ادع الله لنا ؛ بل كانوا هم يدعون الله ، ويستسقون تارة بالعباس ، وتارة بيزيد بن الأسود الجرشي ، فيقولون له: ادع لنا،ويقولون: اللهم إنا نتوسل إليك به ، أي بدعائه وشفاعته ، وكثيراً من الأوقات لا يستسقون الله بأحد ؛ بل يدعون الله تعالى.

وكذلك الاستنصار ، كانوا في حياته يقولون: يا رسول الله ، ألا تدعوا لنا ، ألا تستنصر لنا؟ وأما بعد وفاته فلم يكونوا يفعلون ذلك ؛ بل كانوا هم يدعون الله تعالى ، ويستنصرونه ، يعتدّون به ، وكان عمر لما غزا النصارى يقنت عليهم في الصلاة ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقنت على الكفار ، وكان عمر يدعو بدعاء يناسب ذلك فيقول: اللهم عذب كفرة أهل الكتاب ، الذين يصدون عن سبيلك ، ويبدلون دينك ، ويكذبون رسلك .[رواه أحمد مرفوعاً]
ونحو ذلك ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقنت يدعو للمؤمنين ، ويلعن الكفار ، ويدعو بدعاء يناسب ذلك مثل قوله: ((اللهم أنج الوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة ، والمستضعفين من المؤمنين)) رواه البخاري،ومسلم واللفظ لمسلم.

وكذلك لما استسقى عمر بالعباس قال:اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقنا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا ، فيسقون.رواه البخاري في صحيحه.

وكان توسلهم في حياته توسلاً بدعائه ، وشفاعته ، واستسقائه لهم ، فلما مات لم يطلبوا ذلك منه بعد موته ، ولا قالوا: ادع لنا ؛ بل توسلوا بدعاء العباس) .

ووقفتنا القادمة في الإتمام للكلام المحتوي، لضعف بقية روايات الأعرابي، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتبه:
أبو عمر الدوسري(المنهج) - شبكة الدفاع عن السنة

 

أرباب الطريقة
  • منوعات
  • من كلام الأئمة
  • كتب عن الصوفية
  • جولات مع الصوفية
  • شبهات وردود
  • صوتيات عن الصوفية
  • فرق الصوفية
  • شخصيات تحت المجهر
  • العائدون إلى العقيدة
  • الملل والنحل
  • الصفحة الرئيسية