صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







قصص بعنوان : «من غير كلام»

د. عبد الله بن صالح العريني


أصدر الدكتور عبد الله بن صالح العريني مجموعة قصص قصيرة، بعنوان «من غير كلام»، سننشر ثلاث قصص منها، هنا:
 



من غير كلام - 1
الطابق التاسع من مستشفى (سان آرثر) في برايتون- ببريطانيا)
الجناح الرابع
الغرفة: (3 ب)

كنت أحد ثلاثة مرضى منومين في هذه الغرفة، كان سريري إلى جهة الواجهة الزجاجية للمبنى. وبجانب سريري سرير (ديفيد)، وسرير (إلن) على التوالي، قضيت في المستشفى سبعة عشر يوماً خرج (ديفيد) قبلي بخمسة أيام، أما (إلن) فإلى اليوم الذي خرجت فيه من المستشفى لم يكن قد خرج بعد.
لقد قدمت للدراسة في بريطانيا... وفي الطريق من مدينة (لندن) إلى (برايتون) وقع لي حادث مروري... معي إثنان من أصدقائي، لم يصابا بأذى، بقيا في المستشفى بضع ساعات للتأكد من سلامتهما، ثم خرجا بعد ذلك.
وطوال إقامتي في المستشفى كنت أخجل كثيراً حين أوازن بين وضعي، ووضع كل من (ديفيد) و (إلن)، وخجلت من كثرة ردِّي لمكالمات الأصدقاء وزملاء البعثة، وسؤالهم عن صحتي، لم تكن هذه الزيارات في يوم دون آخر.
أما (ديفيد) و(إلن) فلم يسأل عنهما أحد. المكالمات لي وحدي، وباقات الورد- وإن كنت لا أحبها- لي وحدي، بل أصبحت الورود، وكروت التهنئة بالسلامة تملأ الغرفة، وتمتد حتى سريرى (ديفيد) و(إلن)، وما خلت فترة زيارة من زوَّار لي. بالرغم من أنني ليست لي أهمية تذكر؛ إذ كنت مجرد طالب صغير في دراسة جامعية لا أكثر.
كان عجب (ديفيد) كبيراً. وكان أحد الأصدقاء يدفع لي بنقـــود، ويضعها في كفي، ويضغط عليها برفق لكي لا أردها. وشعرت بحرج شديد فأنا لدي ما يكفيني. ولست بحاجة إلى مساعدة. ولكنه يرفض ذلك ويصرُّ على الرفض.
قال لي:
- خذ هذه الآن.. وبعد ذلك نتحاسب أنا وأنت، ولم يتركني أتكلم بل ذهب من فوره.. لم يكن مناسباً أن أرمي النقود في أثره.
أحد أقاربي ممن جاء للسياحة حين علم بما حدث لي. اتصـل بإدارة المستشفى وأخبرهم أن تكلفة العلاج على حسابه.
وآخر عندما عدَّلت وضعي على السرير بعد ذهابه، وجدته قد وضع تحت المخدة مبلغاً من المال.
شعرت بالخجل الشديد من زوَّاري. كل ذلك و(ديفيد) لا يكاد يصدق ما يجري أمامه.
قال لي:
- يبدو أنك شخص مهم.
أجبته:
- لا.. لست مسؤولاً كبيراً ولا ثرياً من الأثرياء حتى أكون مهما، لكن الأمر لا يتوقف على المركز الاجتماعي فقط، فربما لقي الفقير عناية أكبر..؛ لأن الجميع يزورونه، ويقدمون له المساعدة رجاء أجر الله سبحانه وتعالى.
- لم أفهم!!
- هذا جزء من عقيدتنا، اختلط هذا المبدأ بدمنا وعظمنا ولحمنا، وما تراه دليل على ما أقول.
قال لي:
- لقد حضر إليك أصدقاء بعضهم ليسوا عرباً مثلك.
رددت عليه بأن المسلمين أخوة مهما كانت جنسياتهم وبلادهم وألوانهم.
وطوال بقاء (ديفيد) معي في الغرفة، وعجبه يزداد مما يرى من المودة والحنان اللذين أتلقاهما كل يوم.
وخرج (ديفيد) قبلي وقد أخذ عنواني، ثم خرجت بعده بخمسة أيام حينما شفيت من الإصابة.
وبعد مضي مدة من الزمن فوجئت برسالة من (ديفيد) في صنـدوق بريدي. وفتحتها، وهالني أن تبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم، وأن يبدأ الخطاب بأخي الكريم، ثم يكتب بعدها السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لم يكن الأمر يحتاج إلى كثير توقع، لقد كانت رسالة من (ديفيد) يخبرني بإسلامه. وأنه قد غيَّر اسمه إلى عمر ثم يقول:
- إنني مدين لتلك الأيام التي قضيتها معك في المستشفى، ورأيت فيها ما جعلني أصمم على القراءة حول الإسلام، كنتُ بالقياس إليك كأنني منبوذ... لا أحد يحبني.. لا أحد يزورني، لا أحد يسأل عني.. بالرغم من أن أقاربي في نفس المدينة، أما أنت فعالم آخر يبدو لي غير معقول أبداً:
باقات من الورد والزهور بألوان مختلفة.
رسائل تحية.
مكالمات كثيرة..
زوَّار لك من داخل المدينة ومن خارجها.
كنت أحسدك على ذلـك، وأحسدك أكثر على الحب الذي ألحظه في علاقتهم بك، واستعداد الواحـد منهم أن يقدم لك ما تريد من مساعدة.
لقد قلت لي جملة واحدة: إنه الإسلام.
كان ذلك الموقف الذي رأيت يغني عن أي كلام منك لي.
كلمة واحدة بدأت بها مشوار تعرفي على هذا الدين الذي أنا في أشد الحاجة إليه، إنني سعيد جداً... لا تكاد تعرف حدود سعادتي وأنا أزف إليك خبر إسلامي
 



من غير كلام - 2
د. عبد الله بن صالح العريني

لم تكن هنالك أدنى علاقـــة بيني وبين جيــراني في الحيِّ
الذي نزلته في مدينة (روكفورد) في ولاية (إلينوي) إحدى ولايات أمريكا.
ولم يكن هنالك ما يدعو إلى مدِّ جسور تعارف بيني وبينهم، فأنا غارق حتى أذني، في دراستي وبحوثي المتعددة. وجيراني هم قبل كل شيء غربيون لا يقبلون أن يتدخل أحد في شؤونهم، ويقدسون الحرية الشخصية إلى درجة العبادة.
ولذا لم تكن هنالك دلائل تشير إلى صلات اجتماعية بهذا الشأن، لكن الغيب لـه عجائب كما يقولون، فمن كان سيصدق أن ذلك الجار سيكون أحد أصدقائي المقربين؟ وأنني سأرى فيه من اللطف ودماثة الخلق وحب الخير ما لم يكن يخطر لي على بال؟؟
تبدأ القصة في ذلك اليوم، الذي لفت نظري أن زجاجات الحليب التي تضعها شركة الحليب كل يوم، عند باب جاري قد بدأت تتكاثر لدرجة لافتة لنظر من يمرُّ أمام هذا البيت.
والشركة لا يهمها، أُخذت تلك الزجاجات أم لا؟؟ فمسؤوليتها تنتهي بإحضار الحليب للمنزل، لكن تركها على باب منزل جاري يدل دلالة أكيدة على أنه غير موجود، ولعله نسي أن يطلب من شركة الحليب إيقاف اشتراكه طوال غيبته عن المنزل.
وشعرت بحيرة شديدة، إزاء ما يحدث، لأن بقاء تلك الزجاجات، ووجودها دائماً أمام باب المنزل يعني رسالة صريحة لأي لص من اللصوص لدخول المنزل مستغلاً غيبة صاحبه عنه.
لقد مضت الأيام السابقة على خير، وستر الله على المنزل، ولكن من ذا يضمن أنها لن تكون في عين أحد المجرمين فينتهزها فرصة، ويأخذ من البيت ما شاء؟ فقد غدت الفرصة سانحة أكثر من أي وقت سابق.
كنت أحاول أن أطرد مسألة التفكير فيما سيحدث لمنزل جاري، وما شأني أنا بالموضوع من أوله إلى آخره؟ والرجل لا يعرفني ولا أعرفه، وحتى لو سرق منزله فلن يضرني هذا شيئاً أبداً؟؟!، ولكنني سرعان ما أستبعد ذلك من ذهني، وأرى من واجبي أن أعمل شيئاً، فليكن ذلك الرجل شخصاً لا أعرفه، ولكنه على الأقل جاري.
ثم إن أخذ هذه الزجاجات ووضعها عندي لن يكلفني خسارة، فإن جاء وهي ما زالت جيدة استفاد منها، وإن جاء وقد انتهت مدة صلاحيتها، فلا ذنب لي في هذا الموضوع.
ومضى قريب من أسبوعين،وأنا آخذ زجاجات الحليب من أمام منزل جاري وأضعها عندي.. وتكدست في ثلاجة منزلي الصغيرة، وكلما انتهت مدة صلاحية واحدة، تخلصت منها لكي يتسع المحل لغيرها، وقد تضايقت زوجتي وأبنائي بعض الشيء، إلا أنني شعرت أنه لا بد من إكمال المشوار، فأخبرتهم الحقيقة التي لا مفرَّ منها، وهي أنني جاد فعلاً في هذا العمل حتى أصل فيه إلى ما أريد.
وحين جاء جاري إلى منزلـه، ذهبت إليه، وقصصت عليه ما عملته. أخبرته بالقصة كاملة.. وأن زجاجات الحليب قد ملأت ثلاجتي، فضحك ضحكة صافية..
قال لي: ولماذا فعلت هذا حقيقة؟
- هو ما قلته لك.. كنت خائفاً على منزلك من السرقة.
- هذا عمل عظيم.. أشكرك عليه..
كانت حادثة الزجاجات سبباً في كسر الحائط الجليدي بيني وبين جاري، حيث دعاني إلى منزلـه أكثر من مرة، وعـرَّفني بزوجته ماري: قال إنها راهبة في مدرسة القديس يوحنا.
شعرت بانقباض شديد في نفسي، لا أدري لماذا؟ ولكن هذا ما حدث، فأنا ما تعودت طيلة حياتي أن أكون وجهاً لوجه مع راهب وراهبة، لم تكن لي رغبة في ذلك، ولم أضطر إليه حتى جاء هذا اليوم قالت بعد أن حيتني، ورحبت بي:
- لقد فعلت خيراً أيها الجار العزيز.
- هذا واجبي ( ثم أضفت):
- إن الجار لـه حق عندنا.. إننا حينما نفعل ذلك فلأن ديننا يأمرنا بذلك.. نعم إنه أمر بكل معنى الكلمة.. مأمورون فعلاً أن نحترمه، ونتعاون معه، ونكف الأذى عنه، ونساعده بقدر ما نستطيع... لقد تألمت حقيقة، حين تذكرت أن من الممكن أن يدخل لص من اللصوص بيتكم ويسرق ما يشاء، مع أني قادر على منع هذه الجريمة.
والتفتت زوجته الراهبة إليه قائلة:
- إنها غلطتك يا سميث.. !!
- دعينا من اللوم في مسألة انتهت دون مشكلة تذكر، لقد نسيت أن أطلب من الشركة أن توقف الاشتراك طيلة غيابنا، هذا كل ما في الأمر.
وحين توقف سيل الاتهامات المتبادلة بينهما، رحت أشرح لهما معنى قولـه تعالى: (والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل) وشرحت لهما معنى قولـه صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ... ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه".
ومضيت أذكر ما أحفظه عن حب الجار والعناية به وإكرامه، مما حدث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والقرون الفاضلة الأولى، وطوال حديثي كنت أحسُّ منهما إصغاء غير عادي، شجعني على الاستمرار، فوجدتها فرصة أن أشرح لهما، قول الرسول صلى الله عليه وسلم، والله لا يؤمن.. والله لا يؤمن..
- والله لا يؤمن..
قيل: من يا رسول الله؟
- قال: من لا يأمن جاره بوائقه..
وختمت حديثي بقولي:
- وبعد هذا فما تصورتماه شيئاً مدهشاً.. فإنه أمر عادي نمارسه بتلقائية وعفوية.
أثار ذلك دهشة الزوجة وبخاصة ماري الراهبة التي صرخت قائلة:
- أوه.. !! هذا رائع.. هذا غير عادي.. لقد كنت أعتقد أن المسيحية وحدها هي دين المحبة فقط.
قال سميث معقباً:
- هذا جيِّد ...
ثم نظر إلى ماري وهو يقول:
- هل ستغضب ماري إذا طلبتُ من جارنا معلومات أكثر عن دينه الذي حدثنا عنه، يبدو لي أن هنالك خطأ في تصورنا عن الإسلام.
قالت:
- بكل سرور.. هذا يرجع إليك..
نظرت إلى تغير وجهها، وصعوبة هذا الأمر عليها، فحمدت الله تعالى على نعمة الإسلام، لأن تقبل عقيدة أخرى ليست أمراً سهلاً على النفس. ووعدت بإحضار ما طلبه سميث و ماري.
في اليوم التالي، وفي طريق عودتي من الكلية إلى المنزل مررت على مركز إسلامي، وأحضرت عدداً من الكتب المبسطة عن الإسلام.
كنت أعتقد أن لدى المركز مكتبة غنية بكتب التعريف بالإسلام والدعوة إليه، لكني حينما ذهبت وجدت أن أكثر الكتب قد نفذت، بل إن نسخ ترجمات القرآن الكريم قد نفذت من المراكز الإسلامية والمساجد لكثرة الطلب عليها. فاستعرت من الكتب الخاصة بالمكتبة، ووعدت بإعادتها على مسؤوليتي، وقدمتها لجاري وزوجته وأعطيتهما رقم المركز إذا رغبا في معلومات أكثر.
بعد فترة ليست بالطويلة، كان أحد الأصدقاء في المركز يتصل بي ويقول إن لدينا حفلة إسلام كل من سميث وماري جيرانك الذين حدثتنا عنهم، ونريدك أن تساعدنا في إعداد الحفلة، وتوفير ما تحتاج إليه، فأنت تعرف ظروف المركز.
دمعت عيناي من الفرحة.. شعرت بأطياف السعادة تحوم حولي.. اعتقـدت أنني محظوظ.. أن أكـــون ســـبباً في الدعــوة إلى الله، رغم أني لــم أبــذل في ذلك شيئاً يُذكر، لقد قمت بــأمـر بسيط.. بسيط جداً انتهى بتوفيق الله إلى هذه الغاية النبيلة.
قلت له: سوف أتكفل أنا بكل شيء في هذه الحفلة، سوف أستأذن من الكلية ذلك اليوم، وسوف أعدُّ لهما بنفسي حفلة مناسبة.!!
 



من غير كلام - 3
د. عبد الله بن صالح العريني

لم أكن بحاجة لتذكيري أن البر بالوالدين فـــرصـة ذهبية لا تعوض لدخول الجنة ولذا أصررت على أن أصحب معي أسرتي وبخاصة والدتي المريضة، وأن يكون ذلك شرطي الأول والأخير لقبول الابتعاث إلى المانيا في دورة مدتها سنة وبضعة أشهر لدراسة مواد تخصصية في مجال عملي.
أكد لي المدير أنه لا يمكن ابتعاثي بهذا الشرط، وأن هناك ثلاثة موظفين ليس عندهم ظرفي الذي يستوجب ذلك الشرط.
سألته: هل تراني أكفأ المتقدمين أم لا؟
قال: بصراحة نعم !
- أليس في نظام الابتعاث شيء بخصوص ظرف مثل ظرفي مع والدتي؟
- أظن .
- لا .. !! بل فيه!! أنا متأكد أن واضع النظام قد راعى مثل هذا الظرف المهم في مجتمعنا، ومع ذلك فأنا من كل قلبي أخبرك أنه لا رغبة لي في الابتعاث إلا باصطحاب والدتي، وثق أنني لا أقبل المساومة على هذا الشرط .
وانتهى النقاش عند هذا الحد بيني وبين المدير، نسيت الموضوع تماماً، فلم أكن أطمح إلى الابتعاث لأن دبلوم الابتعاث يحتاج إلى معاناة، ثم إن مردوده الوظيفي لا يستحق كل هذا العناء، ولذا شعرت حين أخبرني المدير بقرار ابتعاثي أني أقدم على شيء ليس مريحاً.
لم تفرح زوجتي كثيراً بخبر هذا السفر، ولم تُخفِ والدتي ضيقهــا ،وإن كانت لا تبدي أي اعتراض وذلك من طبيعة ودها ولطفها بي، فهي تلقي وجهة نظرها بأسلوب خفيف بعيدا عن الإحراج، لأنها تعرف أن أي وجهة نظر منها سأعده أمراً أمتثله مهما كان، ولذا لم تكن تتضجر أو تبدي تأففاً لأي أمر تراني مقدماً عليه أو في مصلحتي، وكانت تثق كل الثقة باختيـاري ورأيي، وهو شيء أعتز به، وتوفيق من الله أشكره عليه.
وعلى الرغم من ذلك الجفاف والبرود الذي صاحب قبول الابتعاث إلا أنني أشعر داخل نفسي بأن الابتعاث سيكون من ورائه خير ما... لا أدري ما هو؟! لكنني أحس بأنه سيحدث!!
قلت لوالدتي : نغير جواً، ونزداد خبرة، ومكافأة.
قالت بسماحة نفس:
- الله يدبِّرنا وإياك للخيرة المباركة.
واعتبرت هذا القول منها موافقة ثمينة. وفي الأيام التي سبقت السفر زرت مع والدتي الطبيبة التي تتابع علاجها وأخذت كمية كبيرة من الأدوية التي تتناولها، وكذلك كل ما أتوقع أنها تحبه وستفتقده في السفر.
وصلنا إلى (كولون) بألمانيا المدينة التي سوف أدرس فيها، وأسرعت في البحث عن سكن مريح فوجدته في حي هادئ جداً، لم يكن يعنيني في الدرجة الأولى إلا الراحـة النفسية لوالدتي ولزوجتي وأطفالي الثلاثة.
وسارت أمور الدراسة سيراً حثيثاً، مع حرصي ألا تستأثر بوقتي جميعه، ولذا لم أضغط على نفسي في الجدول الدراسي، لكي يكون لي وقت مع أسرتي، ووالدتي، ولم أجد صعوبة تذكر بالنسبة لعائلتي إذ كانت هنالك مرونة في التلاؤم مع الظروف الجديدة، فسارت الأمور على خير ما يرام.

أما بالنسبة لوالدتي المريضة المقعدة، فلا بد أن تلقى مني ومن الأسرة عناية مضاعفة، وإن كنت على يقين أنها- حتى وإن لم ترتح في الغربة- فلن تبديَ لي شيئاً من ذلك، حتى لا تكون سبباً في إرباكي أو مضايقتي. ولذا لم أدخر جهداً في بذل سبل الراحة لها.
واشتريت سيارة مناسبة، فكنت أوقفها قريباً من باب المنزل ثم أدفع بالكرسي المتحرك الذي تجلس عليه إلى السيارة فإذا حاذيت الباب فتحته، وحملتها برفق بالغ ووضعتها على الكرسي المجاور لكرسي السائق، ولم أنس في كثير من الأحيان أن أمازحها بكلمة تشجيع أو مجاملة.
وكلما خطر في ذهني شيء من التضايق أو التعب استحضرت قصة ذلك الرجل الذي حمل والدته وطاف بها البيت وسأل عمر (رضي الله عنه): هل أدى حقها أو شيئاً من حقها؟ فقال لـه عمر: ولا طلقة من طلقاتها، إنك تحملها وتتمنى موتها حتى تستريح، وحملتك وهي تتمنى لك الحياة..!!
أتذكر هذه الحادثة فأستحي، وأبعد كل غرور يطيف بأرجاء نفسي في أن أكون قد أديت شيئاً من الواجب علي نحوها. ومع ذلك لا أذكر أنني تعمدت إغضابها، وكنت سعيداً لا تكاد الأرض تسعني من الفرح حين أرى مخايل الرضى على قسمات وجهها، وأسمع منها الدعاء الصادق الندي الذي أجده يعطر الأجواء حولي أينما ذهبت..
كنت رفيقا بها، حنوناً عليها كلما أنزلتها من السيارة ووضعتها على الكرسي المتحرك، أو عند التجول بها في الحديقة أو السوق، وقد عرفت زوجتي أن هذا الأمر من مهماتي، فتولت العناية بأطفالي والإمساك بهم في مثل تلك التجولات.
كانت هنالك عينان ترقباني في كثير من الأحيان دون أن أشعـر، وكانت تبهرها العناية المدهشة، وسعة صدري في هذه الرعاية التي أقـوم بها لأمي.
وفي إحدى الأيام، وعقب مجيئنا من جولة من جولات التنزه مـــع والــدتي وزوجتي وأطفالي. وجـــدت جـــاري قادماً نحوي، وأنا في طريقي لإنزال بعض الأغراض من السيارة.
إنني أعرفه معرفة خفيفة، فطالما تبادلت وإياه تحايا عابرة حينما نلتقي قريباً من منزلنا، أو في السوق المركزي الصغير للحي الذي نسكن فيه.
كان رجلاً طويلاً، ضخم الجثة، أشيب الشعر، تدل سحنته على شيخوخة وكبر في السن، وإن بدا وافر النشاط جم الحيوية، لكنه أبداً لا يستطيع إخفاء أعراض الشيخوخة التي تبدي زحفها القوي على بدنه وتترك بصماتها الواضحة في انحناء ظهره، وتجعد بشرته، وضعف بصره، لكن روحه بالفعل كانت شابة، تتجلى في نظراته المتفائلة، وابتسامته الصافية البسيطة التي لا يتكلفها، يحيي بها كل قادم حتى ولو كان غريباً مثلي.
قال لي:
- لقد تعارفنا منذ مدة أليس كذلك؟
- سعدت بذلك.
- لا أحب الفضول أو التدخل في شؤونك الخاصة، ولكن هنالك شيء يثيرني وأتعجب منه كثيراً.
- ... ؟؟
- هذه العجوز التي تعتني بها، كم تدفع لك من الأجرة مقابل هذه العناية الشديدة بها..؟؟ لا بد أنها تجزل لك المكافأة.
-... ؟؟
ثم أضاف:
- لقد رأيتك تعتني بها عناية فائقة، وذهلت لاستمرارك على هذا المستوى، دائماً تحملها في السيارة ثم تنزلها منها، تقبل رأسها ويدها، وتتجول بها، وترفه عنها، لم أرك في يوم من الأيام متضايقاً من خدمتها، لقد أثار هذا فضولي كثيراً، لا مؤاخذة!! ولكن هذا ما حدث بالفعل، وهو ما دفعني بالفعل إلى هذا السؤال؟!
ورأيت أن أزيل الكلفة بيننا فقلت له:
- سأجيبك على تساؤلك، ولكن ليس هنا، ونحن وقوف على باب المنزل. أرجو أن تتفضل وتشرب معي قدحاً من القهوة..
- أنا حريص على وقتك.. ربما لا تعلم أنني متقاعد ولدي وقت فراغ أكثر منك بكثير.. وأكثر مما أريد.. ولا أريد أن أضايقك.
- لا مضايقة أبداً.
ودخل معي إلى المنزل، وبينما كنا نرتشف القهوة، رحت أجيبه عن تساؤله الذي أفضى به إلي، أخبرته أنها أمي، وأنني أخدمها بدون نقود، بل إنني أنفحها في كل شهر بمصروف خاص، تنفق منه ما تريد مع تغطية جميع ما تحتاج إليه بكل معنى الكلمة.
ذهل وهو يسمع هذه المعلومات قلت:
- ليس هذا هو المهم.
نظر إليَّ بتعجب وقال:
- وهنالك ما هو أهم من ذلك؟
- نعم.. !! إنني أقوم بكل ذلك في سعادة غامرة، ورضى يعمر قلبي بالحب والسرور، إنني لا أشعر أنها مشكلة على الإطلاق!! بل نعمة موفورة أتاحها القدر لي. وهنالك شيء أؤمن به وهو أن ما سأقدمه لوالدتي سوف أجده من أبنائي، والأمر الأعظم من ذلك كله أنني أريد رضى الله تعالى. ولدينا إيمان نحن المسلمون بأن رضى الله من رضى الوالدين وسخطه من سخطهما، فهما أو أحدهما سبيل لنعيم خالد، أو لعذاب خالد مستمر بعد الموت، هذا أمر الله تعالى ويجب أن نمتثله ولا نعارضه.
قال بلهجة ونبرة فيها تأسف:
- أنا لا أصدق أن مثل ذلك يحدث لولا أن رأيتك بعيني!!
وتنهد بحسرة بالغة وهو يقول:
- لقد أحلت إلى المعاش منذ ثلاث سنوات، ولو لم يكن لدي هذا المنزل وراتب المعاش لرمى بي ولدي وابنتي إلى دار المسنين، لأني لا أجد عندهما أي عاطفة نحوي، لقد أنفقت مالاً كثيراً في تربيتهما وتعليمهما، ومع ذلك فقد نسيا ذلك كله (ثم توقف ليقول):
- أتصدق أن ابني قد زوَّر توقيعي عدة مرات وسحب من رصيدي في المصرف عدة مرات؟ كان يعلم أنني أحبه، وأني لن أعاقبه، وقد غضبت منه وقتها، ولكنني لم أستمر في غضبي لأنني رغم كل شيء أحبه، والمشكلة أنه يعرف ذلك!! لقد خدمت في الشرطة زهرة شبابي حتى وصلت إلى رتبة جيدة، والآن أعيش وحدة قاتلة، ولو كانت زوجتي بجانبي الآن ربما كانت المشكلة أقل، لكننا كنا قد افترقنا بالطلاق منذ عدة سنوات. وعاش كل منا وحده. لا أدري ما حدث لها بعدي... آسف!! (... ثم أضاف بلهجة حزينة!!) لقد أشغلتك بأمور لا تعنيك.
- لا.. أبداً ... أنا سعيد أن تختارني بالذات لتكشف لي عن معاناتك.. وهذه ثقة أعتز بها.. أعتز بها كثيراً..
- حقَّاً .. أنت تبالغ في مجاملتي..
- هذا ما أعتقده .. أنا لا أجاملك..
وسار الحديث هادئاً هانئاً، ثم تجدد اللقاء بعد ذلك.. حيث دعاني إلى منزلـه عدة مرات، وحين عرف أن ديني الإسلام هو الذي يجعلني أحترم والدتي وأحبها وأبذل الكثير لإسعادها رأيته يطلب مني أن أحدثه عن الإسلام.. قال: إنه لا يعرف إلا القليل عنه، وأن هذا القليل لا يشجع مطلقاً على الدخول فيه .
وجدتها فرصة.. قلت له:
- لماذا لا تتعامل مع المصدر الأصلي لتعاليم الإسلام؟
- ما هو؟
- القرآن الكريم!
وناولته في اليوم التالي نسخة من القرآن الكريم، وعددا من الكتب الإسلامية المتميزة، وتركته يقرأ على مهل، ويفكر بهدوء، وأنا أدعو من صميم قلبي أن يهديه الله على يدي، ولم يخيِّب الله رجائي، إذ لم تمض ثلاثة أشهر، إلا وهو يأتي إليَّ يعلن فيه رغبته باعتناق الإسلام.. هذه الرغبة التي أشعلتها في نفسه بعد توفيق الله رؤيته لرعاية والدتي بكل حب وحنان. لقد جاءت به المشاهد التي رآها لمعاملتي لوالدتي ليكون من المسلمين من غير أن أكلمه وقتها بأي كلمة عن الإسلام!!.

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك

قصص مؤثرة

  • قصص الرسول
  • قوافل العائدين
  • قصص نسائية
  • قصص منوعة
  • الحصاد المر
  • مذكرات ضابط أمن
  • كيف أسلموا
  • من آثار الدعاة
  • قصص الشهداء
  • الصفحة الرئيسية