اطبع هذه الصفحة


السرير الأبيض وقصة حافظ لكتاب الله

داود العتيبي


بسم الله الرحمن الرحيم


إن اللون الأبيض على جماله وحلاوته وشفافيته لهو أبغض الألوان في عيني إذا رأيته على السرير .
حتى يصبح أسْوَدَ في عيني من السواد وأشد قتاما من ظلام الليل .

أكره كل ما يذكرني به أو يدعوني إليه، أتحاشى أن أُدعى إليه محمولا أو زائرا ما استطعت إلى ذلك سبيلا ، لأنه على لُطفِه مدفنة للأحياء وأَذانٌ للقبور .
تِلكم النظرة لا تغيب عن عقلي وفكري مهما تباعدت عن أسبابها ..

وكم هو شديد على القلب وأليم على العين أن ترى قريبك أو حبيبك أو من لا تحب رؤيته عليه وقد استلقى على ظهره مسلما روحه إلى ربه بين مشارط الأطباء ومقصات الممرضين .

زوَّرت في نفسي أني زائره لا محالة طوعا أو كرها على مشيئة مني أو إباء ، ولكن متى تكون تلك الساعة العصيبة وذلك الموقف العصيب .

وما كاد يذهب صباح ذلك اليوم ويدخل المساء في أوائله إذ بي أشاهد بكاء هذا الطالب وهو عاض على نواجذه من شدة الألم يتسارع الدمع انحدارا من عينه الضعيفة ليكفكف بيده الصغيرة السيل مندفع .

شِحت بوجهي عنه لانشغالي بأمر مُلِمٍ ظانا أن المسألة سن يؤلم أو طاحونة مُسوِّسة تذهب بعد ساعة أو ساعتين .

وما كادت عقارب الساعة تطوف حول نفسها حتى علمت سبب ألمه وإذا به قد سقط على فكه ولا يستطيع إطباقه فترائى ذلك المشهد أمامي :
سرير أبيض ممتد على طوله وعليه هذا الطالب بجسده الضعيف وقُواه النحيلة .

فاستعذت بالله وقلت إنها بعيدة، وماهو إلا دلع الطفولة !
ثم جائني الخبر الآخر الذي يقول : إن الطالب قد كُسر فكه ولا بد له من جبيرة !
فكان على السمعي كالواقعة .

جاء السرير الأبيض مهرولا ليقف أمامي قائلا :
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوما على آلة بيضاء محمول !!

فقلت له : وإن كان صغيرا وحافظا للكتاب .
قال : إنا لا نعرف هذا التفريق فالخلق عندنا سواء "وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل" .
قلت : فكيف سيقرأ غدا ورده من القرءان وكيف سيذهب إلى طلب العلم عند شيخه، وهل سيترك الحديث النبوي حينا من الدهر ؟ .

يالله ما ذا لو حدث له مثل ذلك لا قدر الله، فإنا نؤمل به خيرا ونظن به الظن الحسن، ونرجو أن يكون للدين منارا وللحق صوتا .

وما حال أمه وهو بكر أولادها وكبيرهم وله في قلبها أكبر الحظ والنصيب .
فقال لي : الله به أعلم وأحلم وفي ءاية البقرة سلوى للمصاب .
فقلت : إنا لله وإنا إليه راجعون .

لم يحلو لي زيارته حينها لأني لا أريد رؤيته على ذلك السرير، بل لم أرد سماع خبره، لأني لا أحب أن يكون إلا بخير .
ولكن الله يسوقنا إلى قدره سوقا !!
فخرجت مع والده لزيارة أحد الخِلان ولما انصرفنا سلك والدُه غير طريق البيت وذهب بعيدا .
فقلت : لا شك إنا ذاهبون إلى ذلك السرير، لنرى ذلك الحافظ مضجعا عليه !!
وكلما اقتربنا من المشفى ابتعد قلبي عني ليذهب مَولِّيا خشية أن يُصدع فيتمزق شر ممزق .
اقتربنا من المشفى وكأنه سجن يكتم الأنفاس ويحبس الأخبار .
إنه سجن ولكنه اختياري، أو سجن لا بد منه، لا يعرف كبيرا ولا صغيرا ولا أميرا ولا مأمورا ولا ذكرا ولا أنثى ولا صالحا ولا طالحا .

ترجلنا من السيارة وسارعنا الخطى وأنا مرتجف القلب مكسور الخاطر مَوْجُوع الفؤاد لأني سأرى عَجبا عُجابا وحالا يرثى لها، وداع إلى البكاء !
دخلناه ومع أنه مُكيف، وهواءهُ معتدل إلا أنه لم يشعرنا بالأمن فهو مأوى المصابين والمكلومين !
حاولت إغضاء بصري كي لا أرى حزينا، وتمنيت أن لا سمع شكوى ولا نجوى فإن بثي وحزني عظيم .

سارعت بين الغرف حتى وصلت إلى أخي فرأيت ما يحزنني ويفرحني ، حزنت على مُصابه، وفرحت على تجمع أحبابه من حوله، فزملاء التحفيظ حوله يسامرونه وشيخهم قائم على رأسه يواسيه ويسليه وكأنه يعلمه دروسا في الحياة لم تُخط في كتاب ولم تسطر في جواب بل هي مما يتوارثه الأفاضل عن الأفاضل .

غبطته على محبة الناس له وإجلال شيوخه له، ولا زلت أرى الأسف بين عيني شيخه الآخر حين أخبر بمصابه وأنه لن يأتي إلى حين، فقد علِم أنه سيفقد عزيزا على الحلقة ومبرزا بين التلاميذ .

ولما صار والد الطالب عند رأسه كلمه إلا أنه لا يستطيع جوابه من الألم .
وكان برفقته فضلاء فرَقَوْه وعوَّذوه من كل شر وتلوا عليه ءايات من الكتاب .. فأغمضت عينه لتلاوة القرءان فهتنت عيني بالدمع رحمة به ورأفة وتماسكت حتى لا أجعل جوهم حزينا كئيبا .
وبعد انتهاء الزيارة أفلنا إلى بيوتنا داعين له، ثم تحسن قليلا بفضل الله، وما هي إلا أيام حتى يخرج معافى من كل سوء بإذن الله .

ولم يكن قصدي إخباركم بنبأ يخص هذا الطالب ولكن أردت أن نعتبر ونتعظ ونشعر بغيرنا ..
فمن ذا الذي يأمن على نفسه أن يصاب بسوء أو يسام بمكروه ؟! لا أحد
فعلينا بالتعويذ والأذكار فإنها حصن حصين لنا ولأبنائنا .

وإني لأعجب من الذي يسعى إلى حتفه بأنفه ويقتل نفسه بيده من المدخنين أو المتعاطين للمخدرات أو الذين يركبون الخطر ركوبا أثناء قيادتهم للسيارات وغيرهم كثير ، فوالله إن الدنيا كلها لا تساوي ساعة حزن وهم .

ثانيا: علينا أن نشكر الله ونحمده على العافية ، فإنها نعمة تستوجب الشكر والحمد ( وقليل من عبادي الشكور ) .

ثالثا : إن إخواننا المصابين لهم علينا حق بالدعاء والزيارة وبث الأمل في صدورهم حتى يهنئوا بما بقي من العيش فلا تنسوهم قال النبي صلى الله عليه وسلم : " حق المسلم على المسلم خمس .. ومنها وإذا مرض فعُده " .
والله يغفر لنا التقصير ويجبر المصاب ويعفو عن السيئات والحمد لله رب العالمين .


داود العتيبي
ashafi3i@hotmail.com
 


 

قصص مؤثرة

  • قصص الرسول
  • قوافل العائدين
  • قصص نسائية
  • قصص منوعة
  • الحصاد المر
  • مذكرات ضابط أمن
  • كيف أسلموا
  • من آثار الدعاة
  • قصص الشهداء
  • الصفحة الرئيسية