|
مقدمة:
الحمد لله الواسع العليم .. الرزاق الكريم .. (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا
ممسك لها ، وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم) .. وأشهد أن لا
إله إلا الله وحده لا شريك له ، (له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن
يشاء ويقدر ، إنه بكل شيء عليم) .. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله
عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ، أما بعد .
قبل أشهر .. كان الناس يتهافتون على الدخول في سوق الأسهم .. حتى أصبحت همهم
الأول، شغلهم الشاغل .. فترى الشباب وكبار السن وهم خارجون من صالة تداول
الأسهم ، وأحدهم يمشي بلا وعي ، وربما تعرض لخطر الدهس في الشارع وهو لا يشعر،
وهذا يمشي منكساً رأسه ، وآخر يحدث نفسه .
وفي أحد الأيام ، توقف نظام تداول الأسهم ، فكادت بعض القلوب أن تتوقف عن
الحياة .
وإذا فتح باب الاكتتاب في هذه البلاد أو في الدول المجاورة رأيت التزاحم
والتدافع ، في أحوال هي للاكتئابٌ ، أقربُ منها للاكتتاب؟
وفي إحدى مناطق المملكة .. كان مدرس مادة التاريخ يشرح الدرس للطلاب ، وكان
الموضوع عن غزوة تبوك، وفي آخر الدرس سأله الطلاب: هل غزوة تبوك مهمة، هل يمكن
أن تأتي ففي الامتحان؟ ما رأيك في تبوك؟
طبعاً الأستاذ، كان من مدمني التداول .. قال: نعم مهمة، فيها محفزات قوية،
عليها تجميع كثير، واحتمال عليها زيادة راس مال، ادخلوا فيها بنصف السيولة أو
أكثر !!.
اندهش الطلاب، بعضهم بدأ يضحك، وبعضهم طارت عيونه من العجب .. أما الأستاذ،
فارتبك ثم خرج من الفصل .
هكذا كانت أحوال الناس مع الأسهم وتعلقهم بها.. ومضت الأيام ، وفجأة ، هوى
السوق ، وبدأ المؤشر ينزل وينحدر ، وينزف ويحمرّ .. ظهر اللون الأحمر على شاشات
التداول، فسقط الآلاف من الناس، وانهار العديد من البيوت، واكتظت المستشفيات
بالحالات والإصابات، وامتلأت المحاكم بالقضايا والنزاعات.
حلَّت بصغار المساهمين خسائرُ فادحة، وجوائحُ فاجعة، أصبحوا فيها صرعى ،
يتجرعون غصص البلوى ، ويرفعون أكف الشكوى .. فهذا مهموم محزون ، وآخر مثقلٌ
بالديون .. ارتفع ضغط الدم أو السكري عند بعضهم فأدخلوا المستشفيات ، وعظم
المصاب بآخرون فأصبحوا في عداد الأموات .
وبسبب الانهيار السريع فقد بعض المغامرين جميع ما يملك ، وصفَّى آخرُ محفظتَه
التي كان قد اقترض نصف رأس المال فيها من أحد البنوك ، فكانت الخسارة مضاعفة .
وبدأ الناس يتساءلون ويتلهفون .. أين أموالنا؟ من المتسبب؟ ماذا نعمل؟ .. وتحسر
آخرون وضاقت بهم السبل: ليتنا ما دخلنا .. ليتنا تخلصنا من الأسهم قبل الانهيار
.. ليت وليت ، حتى انهار الكثير منهم وأصيبوا بأمراض نفسية .
وفي مشهد فيديو نشر بالانترنت ، يظهر أحد ضحايا الأسهم، وهو يتعرى في الشارع،
وتحاول الشرطة ستر عورته بالقوة وهو يرفض .
ووفقاً لمصادرَ طبيةٍ مسؤولة، ارتفع عدد مراجعي العيادات النفسية بسبب الأسهم،
حتى فاقت الأعدادُ طاقةَ تلك العيادات .. وسجلت إحصائيات وزارة الصحة زيادة
ملحوظة في حالات الإصابة بالاكتئاب والأمراض النفسية الأخرى بين المواطنين
بمعدل سبعة وثلاثين ألف حالة خلال تسعة أشهر في مختلف مناطق المملكة، وأن سرعة
الاستثارة والعصبية أثرت سلباً على استقرار أسرهم .
أخبار الضحايا كثيرة جداً، ولعلي أذكر بعض ما وقفت عليه منها:
- في مكة ، أقيم العزاء على رجل وجده أهله ملقى على الارض في مكتبه في المنزل
بجوار جهاز «الكمبيوتر» ، وينقل إلى المستشفى ليقرر الأطباء أنه توفي بسكتة
مفاجئة ، والسبب المؤشر الأحمر، وانهيار السوق .
وذكر شقيق الفقيد: إن أخاه خسر أكثر من نصف مليون ريال، وخلف وراءه عشرة أيتام
.
- ويقول أحد المعلمين: كان عندنا زميل، معلم بإحدى المدارس، اقترض مبلغا من
المال واقتحم البورصة بمائة ألف ريال ،حتى استطاع أن يجمع خلال فترة وجيزة نصف
مليون ريال، نصحناه بالانسحاب من السوق بالغنائم ، إلا أن الطمع كان أقوى،
استمر الرجل في المضاربة حتى وصل ماله إلى سبعمائة ألف ريال، كان الرجل في قمة
النشوة، كان يحدثنا أنه سيتزوج في أفخم القاعات، وسيشتري منزلاً محترماً .. وما
هي إلا أيام وهبط المؤشر حتى هبط المبلغ إلى مئة وثلاثين ألف ريال ، فتغيرت
أحواله .. لم يعد يطيق الأكل ، عيناه في بكاء دائم .. أخذناه إلى العيادة
النفسية .. ثم ازداد غيابه عن المدرسة، حتى صدر بحقه خطاب من مدير المدرسة
ينذره بالفصل في حالة استمرار غيابه عن المدرسة .
- وأخت مدرسة، تجاوزت الأربعين سنة تقول: أشار علي أخي بتجارة الاسهم، فدخلت
البورصة بمبلغ مائة وخمسين ألف ريال .. وبعد ثلاثة أشهر فقط، دخل علي أخي
والحسرة على وجهه، وتحدث معي عن أشياء لا أفهمها، قلت له: ماذا يعني هبط
المؤشر؟ فقال: يعني المائة والخمسين ألف ريال أصبحت اثنين وثلاثين ألف ريال ..
تقول الأخت: اعتقدت أنه في باديء الأمر يمزح، حتى اكتشفت الحقيقة المرة، وأصبحت
لا أطيق رؤية أخي .
- ورجل في الخمسينات من عمره ،متقاعد عن العمل وأب لعشرة أولاد ، كان يعمل في
نقل الركاب من جدة إلى مكة .. دفعته ظروفه المعيشية الصعبة للدخول في سوق
الأسهم .. بدأ يجمع رأس المال .. كان عنده أرض فباعاها، ثم اشترى سيارة
بالتقسيط .. وبعد أن جمع مئة الف ريال دخل السوق، ثم كانت النكبة .
لتتحطم أحلام هذا الرجل، ويدخل مستشفى الصحة النفسية بسبب الانهيار العصبي .
- وهذا أحد الموظفين يقول: أغراني أحد زملائي في العمل ، وقال: ادخل السوق ،
ادخل وستصبح مليونير خلال سنتين فقط .
يقول الأخ: اقترضت مليون ريال مقابل رهن منزلي، واقتحمت السوق قبل الانهيار،
وما هي إلا أيام، وهوى السوق، فلا الأسهم ربحت، ولا منزل أبنائي أبقيت .
وإذا انتقلنا عن أنواع المساهمات الأخرى .. فإن الأمر لا يقل سوءاً في بعض
المساهمات العقارية الموهومة التي ذهبت أموال مساهميها أدراج الرياح ، أو تعسرت
أو خسرت ، وقل مثل ذلك في مساهمات بطاقات سوا ، ومساهمات التجارة والاستيراد
الدولية ، وتجارة العملات ، وغيرها مما كان سبباً للمزيد من الخسائر والنكبات .
أمام هذه المصائب والنكبات ، نذكر أنفسنا وإخواننا بعدة قضايا ، علها أن تساهم
في تسلية الخاسرين من جهة ، وعلها من جهة أخرى أن تساهم في تصحيح المسار وضبط
الاستثمار .
هذا ما سنحاول بيانه في الوقفات التالية:
1) هل طلب المال مذموم؟
إخوتي الكرام .. هل رؤيتنا للمال وطلبِه واللَهَفِ عليه، رؤيةٌ صحيحة؟ ، لا شك
أن طلب المال ليس بمذموم؛ فهو يُعِفُّ صاحبه ويغنيه عن سؤال الناس .. ونعم
المال الصالح للرجل الصالح .
وقد جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لأن يغدوَ أحدكم فيحطِبَ على ظهره،
فيتصدقَ به، ويستغنيَ به عن الناس، خيرٌ له من أن يسأل رجلا، أعطاه أو منعه
ذلك؛ فإن اليد العليا أفضلُ من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول".
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته يمشون في الأسواق، ويبيعون ويشترون ، ويبتغون من فضل
الله ، وكان لبعض الصحابة تجارات واسعة كأبي بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف،
ولبعضهم مزارع وقصور .
كل هذا ليس بمذموم .. إنما المذموم في المال أمرين ، أولَهما: أن يكون المال
حراماً، وثانيَهما: أن يكون المال أكبرَ هم الإنسان ، وشغلَه الشاغل، بحيث
يطغيه أو يلهيه .. لماذا يطغيه؟ (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) ..
ولماذا يلهيه؟ (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله)
.. وتعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم .
من الحوادث المحزنة، أن إحدى الأخوات أرسلت برسالة ذكرت فيها أنها رأت عمها وهو
يَحْتَضِر .. كان لا يهتم بالصلاة ، ويتعامل بالربا ، ثم دخل في تجارة الأسهم
قبل وفاته بسنة ، وبعد ما حصل له حادث، جلست هذه الأخت فوق رأس عمها تذكره
بالشهادة .. فبدأ العم يردد: لا تتركوا الأسهم ، لا تبيعوا الأسهم ، فكانت آخرَ
كلمة قالها: لا تبيعوا الأسهم .
فيا جامِعَ الدُّنيا لِغَيرِ بَلاَغِةٍ / سَتَتْرُكُهَا فانظُرْ لِمَنْ أنْتَ
جَامِع
وَكم قد رأينا الجامِعينَ قدَ اصْبَحَتْ /لهم بينَ أطباقِ الترابِ مَضاجع
أخي الحبيب ، احرص بارك الله فيك على أن تكون ممن قال الله فيهم : ((رِجَالٌ لا
تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ
وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ
وَالْأَبْصَارُ)) .
2) الخيرة فيما اختاره الله:
هل تعلم أخي أن خسارتك للمال قد تكون خيراً لك من الربح؟
نعم، المال خير ونعمة .. ولكن قد يكون في حق بعض الناس نقمة ، والله يعلم وأنتم
لا تعلمون .
ولذلك قال تعالى (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدرٍ ما
يشاء إنه بعباده خبير بصير) .. لماذا هذا فقير وهذا غني؟ لماذا هذا يربح وهذا
يخسر؟ ذلك بحكمة الله عز وجل التي قد لا يعلمها العبد المسكين .
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : ((ولكن قد يكون الفقر لبعض الناس أنفع
من الغنى، والغنى أنفع لآخرين كما تكون الصحة لبعضهم أنفع كما في الحديث الذي
رواه البغوي وغيره:( إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك،
وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك..)) اهـ وهذا الحديث
في إسناده ضعف ، ومعناه صحيح .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : إن العبد ليهم بالأمر من التجارة والإمارة حتى يُيَسّر له،
فينظر الله إليه فيقول للملائكة: اصرفوه عنه، فإني إن يسرته له أدخلته النار،
فيصرفه الله عنه، فيظل العبد يتطيّر، يقول: سبقني فلان، دهاني فلان، وما هو إلا
فضل الله عز وجل .
أنت يا أخي لا تعلم الغيب .. وأين يكون الخير .
تأمل معي هذه القصة العجيبة ، لتدرك أن كثرة المال قد تكون بلاءً وسخطاً على
العبد .
جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال:
إِنَّ ثَلَاثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى،
فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا فَأَتَى
الْأَبْرَصَ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ
وَجِلْدٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ عَنِّي الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ، قَالَ:
فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ، وَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا
حَسَنًا, قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْإِبِلُ ، قَالَ:
فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ(يعني حامل في عشرة أشهر) ، فَقَالَ: بَارَكَ
اللَّهُ لَكَ فِيهَا .
قَالَ: فَأَتَى الْأَقْرَعَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ:
شَعَرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ،
قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ، وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا، قَالَ:
فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْبَقَرُ، فَأُعْطِيَ بَقَرَةً
حَامِلًا، فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا .
قَالَ: فَأَتَى الْأَعْمَى، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ:
أَنْ يَرُدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرَ بِهِ النَّاسَ، قَالَ:
فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ، قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ
أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْغَنَمُ، فَأُعْطِيَ شَاةً وَالِدًا .
فَأَنْتَجَ هَذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا، فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنْ الْإِبِلِ،
وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ الْبَقَرِ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ الْغَنَمِ .
قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الْأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ:
رَجُلٌ مِسْكِينٌ قَدْ انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلَا بَلَاغَ
لِي الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ
اللَّوْنَ الْحَسَنَ وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ، بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ
عَلَيْهِ فِي سَفَرِي، فَقَالَ: الْحُقُوقُ كَثِيرَةٌ، فَقَالَ لَهُ: كَأَنِّي
أَعْرِفُكَ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ فَقِيرًا، فَأَعْطَاكَ
اللَّهُ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا الْمَالَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ،
فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ .
قَالَ: وَأَتَى الْأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ
لِهَذَا، وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَى هَذَا، فَقَالَ إِنْ كُنْتَ
كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ .
قَالَ: وَأَتَى الْأَعْمَى فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ
مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ، انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلَا
بَلَاغَ لِي الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي
رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي، فَقَالَ: قَدْ
كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ وَدَعْ مَا
شِئْتَ، فَوَ اللَّهِ لَا أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ شَيْئًا أَخَذْتَهُ لِلَّهِ،
فَقَالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ، فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رَضِِيَ الله
عَنْكَ وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ .
إذن يا أخي، لا تغتر بالمال والغنى، فإنه قد يكون وبالاً على صاحبه، متى ما
أطغاه، وأشغله عن مولاه .
3) رفعت الأقلام وجفت الصحف:
أيها الأخ الكريم .. إذا ابتلاك الله بالخسارة في سوق الأسهم أو في غيره من
أبواب التجارة ، فاعلم أنه سبحانه إنما يبتليك، ليعرف إيمانك وصبرك، ويعظم
ثوابك وأجرك، كما قال تعالى : ((لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ
وَأَنفُسِكُمْ)) ، وقال سبحانه : ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ
الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ
وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ )) .
تذكر أخي أن الصبر على أقدار الله المؤلمة أحد أصول الإيمان، "واعلم أن ما
أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك" .
دعك من البنوك التي يقال أنها تسيل المحافظ الاستثمارية ، ودعك من الهوامير
الذين يقال أنهم يتلاعبون في السوق .. كل ما تراه هو أسباب ، والمسبب هو الله
جل وعلا، ووالله لو اجتمع كل من في الأرض لم ينفعوك بربح أو يضروك بخسارة إلا
ما كتبه الله لك أو عليك .
وكل شيء بقضاء وقدر *** والكل في أم الكتاب مستطر
إياك أن تتسخط على أقدار الله ، أو تشكو الخالق إلى المخلوق، أو تقع في سب
الدهر أوالزمن ، أو تلطم وجهك ، أو تشق جيبك .
حبيبي .. لن يعيد الجزع أموالك، فاصبر واحتسب فهو أولى لك .
احذر أن تفتح على نفسك باب الشيطان الكبير ، وهو كلمة "لو" ؛ لو أني ما فعلت ،
لو أني ما ساهمت ، ولكن قل: قدّر الله وما شاء فعل ، فإن لو تفتح عمل الشيطان)
كما في صحيح مسلم .
إن المؤمن يصبر بإيمانه ، وطوعه واختياره ، ومن لم يصبر صبر الكرام ، سلا سلو
البهائم .
قال عمر رضي الله عنه : وجدنا خير عيشنا بالصبر .. وهذا هو شأن المؤمن .
يجرى القضاء وفيه الخير نافلةٌ *** لمؤمنٍ واثقٍ بالله لا لاهي
إن جاءه فرحٌ أو نابه ترحٌ *** في الحالتين يقول الحمد لله
وإذا صبر المؤمن زاد إيمانه ،وترقى إلى مرتبة الرضا ،وهي أعلى من الصبر .
قال ابن القيم رحمه الله: الرضا باب الله الأعظم ، وجنة الدنيا ، ومستراح
العابدين وقرة عيون المشتاقين ، ومن ملأ قلبه من الرضا بالقدر ، ملأ الله صدره
غنىً وأمناً ، وفرَّغ قلبه لمحبته والإنابة إليه والتوكل عليه ، ومن فاته حظُّه
من الرضا ، امتلأ قلبه بضدِ ذلك واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه . اهـ
فالحمد لله .. الحمد لله على كل حال .
فاصل:
كانت هذه أيها الأحبة بعض الوقفات .. وبقي أمامنا العديد من الوقفات، لكن، قبل
أن نواصل ، بودي أن نقف مع هذا الفاصل .
في هذا الفاصل نحاول أن نروح عن النفوس بالشعر الطريف .. مع حرارة الصدمة،
اشتعلت مشاعر الكثير من الشعراء الذين اكتووا بنار الأسهم .
نظم بعضهم قصيدة هزلية على غرار قصيدة كعب بن زهير (بانت سعاد فقلبي متبول)،
فقال: هوى المؤشر فقلبي اليوم مقتولُ من الهوامير والشاشات مهبولُ .
وقال آخر : قفا نبك من ذكرى نزول المؤشر وسوق بأنواع الخسائر ممتلي .
ومن الأبيات الجميلة والطريفة، هذه القصيدة التي نظمها الشاعر سعيد الشبيب على
لسان أحد ضحايا الأسهم، لعل فيها شيء من التسلية ، يقول:
جلست مع القوم في زاوية = كأني غريب من البادية
أراقب أسهم سوق وقد = بُهِرْتُ بشاشتها الزاهية
إذا بَرِقت أخضراً صفقو = وصارت زغاريدهم عالية
وإن نزفت أحمراً لا ترى = لديهم سوى أدمعٍ جارية
أُحَمْلِقُ في كل سهم وم = عرفت اللجين من الماشية
خجِلت أسائل هذا وذاك = ولم أدر عن سوقهم ما هيه
ولكنني هِمْتُ عِشقاً به = وأدمنت جلستها السامية
فقررت في لحظةٍ خوضه = وأودعت في سهمها ماليه
فجاءت بأرباحها جملةً = تَدُرُّ كما السيل من رابية
فأدركت أن الغنى فرصةٌ = وضاربت في الأشهر التالية
أنام الليالي قريراً على = وسادةِ آمالي الراقية
(هو الآن جالس يحلم أنه بيصير غني ومليونير)
وأحلم كالطفل أني أطير = وأمرح في جنةٍ عالية
وعندي قصورٌ على شاطئٍ = قطوف حدائقها دانية
هنا "لكزسٌ" وهنا "كدلكٌ" = كذلك "مرسيدسٌ" غالية
وزوجاتي الأربع الطيّعات = تغازلن قلبي على الساقية
سأذهب للسوق رغم العن = وأجمع أرباحي الآتية
فلما وصلت بشوقي له = ونفسي بما حققت راضية
ضربت قسمت جمعت وم = طرحت فأسهمنا نامية
وفاجأني الانهيار الذي = أتى مثلما صرصرٍ عاتية
تدحرجت الأسهم الواهيات = هباءً لتسقط في الهاوية
وصفق قلبي بين الضلوع = وهُدَّتْ قوايَ وأركانيه
نُقِلْتُ إلى البيت في غَشْوَةٍ = وكانت هي الضربة القاضية
فها أنا خرّفت في ساعةٍ = وصُغْتُ من الخَرَفِ القافية
إذا طلب الأهل "كرتون ماء" = أروح إلى السوق في ثانية
وأرجع كالبرق في لحظة = بكرتون زيت من "العافية"
نسأل الله لنا ولكم العافية .
أيها الأحبة .. أعود بكم إلى المحاضرة من جديد ، ومع الوقفة الرابعة .
4) الخسارة ليست بالمال:
لا شك أن المال هو عصب الحياة وشقيق الروح ، وبقدر ما يتمنى المرء الحياة
والبقاء فهو يتمنى المال ، كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يهرم
ابن آدم وتشب معه اثنتان ، الحرصُ على المال ، والحرصُ على العمر)) متفق عليه .
وإذا كان لكل أمة فتنة ، فما هي فتنة هذه الأمة؟ يجيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله : ((إن
لكل أمة فتنة ، وفتنة أمتي المال )) رواه أحمد والترمذي بسندٍ صحيح .
نعم .. المال نفيس، ومحبوب للنفوس ، ومع هذا نقول: إن الخسارة في المال مهما
كانت، لا تعادل خسارةَ الدين ، ولا تعادل خسارةَ الأنفس .
يقول أحد علماء السلف : " ما أصابتني مصيبة إلا حمدت الله عليها لأربع : أن لم
يجعلها في ديني ، وأن رزقني الصبر عليها ، وأن لم يجعلها أكبر منها ، وأن رزقني
الاسترجاع عندها " .يعني قولك : إنا لله وإنا إليه راجعون .
إي والله .. اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا، الخسارة الحقيقية أيها الأحبة هي
خسارة الدين ، هي خسارة النفس والأهل يوم القيامة ، كما قال سبحانه: (قل إِنَّ
الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ).
بل وحتى في النعم الدنيوية من المال والصحة والولد .. لا تنظر أخي إلى النعم
المفقودة ، وإنما انظر إلى النعم الموجودة واستمتع بها ، واشكر الله عليها .
كم لله علينا من نعمة .. صحة في الأبدان ، أمن في الأوطان ، أنس بالأهل
والولدان، تنوع وتعدد في المطاعم والمشارب والملابس والمراكب .. (وإن تعدوا
نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار) .
نعم عظيمة ، كل نعمة منها لا تقدر بثمن ، والله إن أموالَك كلَّها لا تساوي
ليلةً واحدة تسهر فيها مريضاً ، مع المرضى على الأسرة البيضاء .
تخيل يا أخي ، لا سمح الله ، وحفظك الله، أن إحدى رجليك أو يديك أصيبت بمرض
شديد، وقرر الأطباء بتر هذه الرجل أو تلك اليد ، ثم قيل لك إن هناك علاجاً في
أقصى الدنيا ، وقيمتُه جميعُ ما تملك ، هل تدفع كل أموالك لصحتك؟!
نعم ، لا يمكن أن يتردد عاقلٌ في ذلك .. أفلا تحمد الله أن عافاك في بدنك
وأطرافك ، وأعطى كثيرا وأخذ قليلا ، ورزق وأنعم ، ووسَّع في الرزق ، فله الحمد
على ما أعطى وله الحمد على ما منع .
تأمل معي هذا الموقف العظيم في قصة عروةَ بنِ الزبير رحمه الله، أحدِ علماء
وعباد التابعين ، (قصة والله يا اخواني، فيها تسلية ، وفيها ترويح عن نفوسنا)،
فقد طلب منه الخليفة الوليد بن عبد الملك زيارته في دمشق مقرِ الخلافة الأموية
, فأخذ عروة معه أحب أبنائه السبعةِ إليه، فلما كان في الطريق إلى الشام, أصيب
في الطريق بمرض الآكلة في رجله (وهو ما يسمى في عصرنا بالغرغرينا) ، حتى قرر
الأطباء بتر رجله من الساق .. فلما اجتمع الأطباء عليه، قالوا: اشرب كأساً من
الخمر حتى تفقد شعورك، فأبى عروة وقال : كيف أشربها وقد حرمها الله في كتابه؟
قالوا: فكيف نفعل بك إذاً؟ قال : دعوني أصلي فإذا أنا قمت للصلاة فشأنكم وما
تريدون .. ( وكان رحمه الله إذا قام يصلي سهى عن كل ما حوله، وتعلق قلبه بالله
تعالى) ، فقام يصلي، فلما سجد، كشفوا عن ساقه وأعملوا مشارطهم في اللحم حتى
وصلوا العظم، ثم أخذوا المنشار فنشروا العظم حتى بتروا ساقه وفصلوها عن جسده،
وهو ساجد لا يحرك ساكناً, ثم أحضروا الزيت المغلي وسكبوه على ساقه ليوقف نزيف
الدم , فلم يحتمل حرارة الزيت فأغمي عليه .
وفي هذه الأثناء، أتى الخبر من خارج القصر أن ابن عروة كان يتفرج على خيول
الخليفة , فرفسه أحد الخيول فقضى عليه ومات .
فلما أفاق عروة اقترب إليه الخليفة وقال: أحسن الله عزاءك في رجلك . فقال عروة:
اللهم لك الحمد وإنّا لله وإنّا إليه راجعون . قال الخليفة: وأحسن الله عزاءك
في ابنك . فقال عروة: اللهم لك الحمد وإنّا لله وإنّا إليه راجعون , أعطاني
سبعة من الأولاد وأخذ واحداً , وأعطاني أربعة أطراف وأخذ واحداً , إن ابتلى
فطالما عافا , وإن أخذ فطالما أعطى , وإني أسأل الله أن يجمعني بهما في الجنة
.. ثم قدّموا له طَستاً فيه ساقهُ وقدمهُ المبتورة، فأخذ الساق يقلبها بين يديه
ويقول: إنّ الله يعلم، أني ما مشيت بك إلى معصيةٍ قط، وأنا أعلم .
ومضت الأيام، وكان الخليفة الوليد يجلس في مجلسه , فدخل عليه شيخ طاعن في السن،
مهشّم الوجه، أعمى البصر, فسأله عن قصته، فقال الشيخ : إني بِتُّ ذات ليلةٍ في
وادٍ , وليس في ذلك الوادي أغنى مني، ولا أكثرَ مني مالاً وحلالاً وعيالاً ،
فأتانا السيل بالليل، فأخذ عيالي ومالي وحلالي , فطلعت الشمس وأنا لا أملك إلا
طفلاً صغيراً وبعيراً واحداً , فهرب البعير فأردت اللحاق به , فلم أبتعد
كثيراً، حتى سمعت خلفي صراخ الطفل، فالتفتُّ فإذا برأسه في فم الذئب، فانطلقت
لإنقاذه فلم أقدر على ذلك، فقد مزقه الذئب بأنيابه , فعدت لألحق بالبعير فضربني
بخفه على وجهي , فهَشَم وجهي وأعمى بصري، فأصبحت لا مال لي ولا أهل، ولا ولد
ولا بصر .. قال: وما تقول يا شيخ بعد هذا ؟ فقال الشيخ: أقول: الحمد لله الذي
ترك لي قلباً عامراً، ولساناً ذاكراً .
فقال الوليد لما سمع قصته: انطلقوا به إلى عروة ليعلم أن في الناس من هو أعظم
بلاءً منه .
أخي المبارك .. تخيل، لو انك أصبت بمثل ما أصيب به هذا الأعمى، وفقدت كل مالك
وكل عيالك، كيف يكون حالك؟
إذن يا أخي ، لا تحزن، لا تحزن أبداً، وقل الحمد لله، الحمد لله على كل حال .
5) (لعلهم يرجعون) :
إن في نزول المصيبة عبرةً لقلوبنا، وعظةً لنفوسنا، تستوجب الخروجَ من المظالم ،
والتوبةَ من المآثم .. قال سبحانه: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي
الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون) .. وفي غزوة أحد ، خالف الصحابة
الرماة أمراً واحداً من أوامر النبي صلى الله عليه وسلم، فعاقبهم الله بالهزيمة ، ثم عاتبهم
الله فقال: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا ، قل هو من عند
أنفسكم ، إن الله على كل شيء قدير) .. إذا كان الله يقول للصحابة: (قل هو من
عند أنفسكم) ، فماذا نقول نحن لأنفسنا الضعيفة؟
أحبابي .. لنكن صرحاء مع بعضنا ، ولنبدأ بإصلاح أنفسنا .
في زحمة انشغال الناس بالأسهم، تُرِكت الصلاة أو أُخِّرت عن وقتها في الصالات
وأمام الشاشات ، وتساهل الناس بالربا والمشتبهات ، ناهيك عن الكذب والتزوير
والإشاعات .. أليست هذه كلها من كبائر الذنوب التي تستوجب التوبة والإنابة؟.
في سوق الأسهم .. كم ماطل أقوام بحقوق غيرهم ؟ ، وتحايلوا على أموال الناس أو
أسمائهم ، رغبة في الثراء السريع والتجارة العاجلة ، فمنعوا حقوقاً لأصحابها
طمعاً في المال ، وربما كتموا عنهم مقدار الأرباح واستأثروا بها ، مستغلين جهلم
بحقيقة الاكتتاب وحركة الأسهم .. وكم ولغ الناس في الأسهم المحرمة الربوية منها
أوالمختلطة ، وتساهلوا في ذلك ولم يبالوا بأي تحذير أو توجيه ...
سبحان الله .. أليس الربا شؤمٌ وبلاء؟ أليس الربا مؤذن بالحرب من رب الأرض
والسماء؟ .. أليس الربا يمحق الخيرات والبركات؟ (يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا
وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) .
وإذا انتقلت إلى المساهمات الأخرى في العقار أو السلع أو التجارات الداخلية أو
الدولية، وجدت في بعضها الكذب والتلاعب، والغش والتدليس، وإعطاء المواعيد
الموهومة، وقد ثبت في الصحيحين من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: البيعان
بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا
محقت بركة بيعهما .
قال ابن مسعود رضي الله عنه: لا يكتسب عبدٌ مالاً حراماً فينفقُ منه فيُبارَكُ فيه ، ولا
يَتَصدق به فيُتَقَبَل منه ، ولا يترُكه خلف ظهره إلا كان زادَه إلى النار ، إن
الله لا يمحو السيءَ بالسيء، ولكن يمحو السيءَ بالحسن ، إن الخبيث لا يمحو
الخبيث" .
وكانت المرأة من السلف توصي زوجها عندما يخرج للعمل وطلب الرزق فتقول له "يا
هذا اتق الله فينا : إنا لنصبر على الجوع ولا نصبر على النار" .
6) (إن الله هو الرزاق) :
إن من دروس هذه الحادثة تذكير العبد بالتعلق بالله ، والتوكل عليه .
أخي المبارك، لا تنظر إلى الأسباب المادية وحدها ، وتنسى سؤالَ الله تعالى ،
وطلبَ الرزق منه ، وتعليقَ الأمور بمشيئته تبارك وتعالى .
توكل على الله .. فالرزق من الله تعالى لا من الناس .. (( إِنَّ اللَّهَ هُوَ
الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)) .
واعلم أنك إذا حافظتَ على صلاتِك، وداومتَ على طاعةِ ربك، فتحَ لك الرزاقُ
الكريم أبوابَ فضلِه، وجاءكَ الخيرُ من حيثُ لا تحتسب .. يقول الله تعالى:
((وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ
لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ
بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)) .
7) لا توسع دائرة الخسارة:
إن هذه المصائب والخسائر المالية لا يجوز أن تنعكس آثارها على الأسرة والأولاد
.
فترى بعض الناس هداه الله يتغير مزاجه، فيغضب لأتفه سبب ، وتتبدل أخلاقه على
والديه أوزوجته أو أولاده .
أيها المبارك ، لقد قُضي الأمر، فلا تضاعفْ خسارتك ، بالإساءة لمن حولك .
8) (ولنا بعد الله في المسؤولين رجاء) :
لم يكن وقودُ انهيار الأسهم هم الأثرياءُ وحدهم ، بل اصطلى بنارها الضعفاء
والنساء ، ودخلت فيها أموال المساكين واليتامى والأرامل والأيامى ، طلباً للرزق
الحلال .. والإحصائيات تتحدث عن ما يزيد على ثلاثة ملايين مواطن قد دخلوا في
سوق الأسهم .. مما يوجب على ولاة الأمر والمسؤولينِ وفقهم الله أن ينظروا في
هذه القضية باهتمام، ويحفظوا أموال المسلمين، وألا يدعوها تنزف يومياً بعد يوم،
وتذوب كما يذوب الجليد وهم يتفرجون .
نسأل الله أن يوفق جميع المسؤولين والمعنيين في جميع الجهات، لما فيه صلاح
البلاد والعباد .
فاصل :
دعونا نأخذ هذا الفاصل ، ثم نواصل:
سنأخذ في هذا الفاصل قصيدة طريفة، نظمها أحد ضحايا الأسهم على غرار قصيدة
الأصمعي : (صوت صفير البلبل هيج قلبي الثمل) ، تعرفون قصيدة الأصمعي؟ طيب، لا
بأس نملح الجو بهذه القصة والقصيدة .
يقولون : كان أبو جعفر المنصور حريصاً على أموال الدولة .. فاشترط على الشعراء
أنه لا يعطيهم شيئاً إلا إذا كانت القصيدة من مقولهم، أما إن كانت القصيدة من
منقولهم فلا يعطيهم شيئاً .. وكان أبو جعفر يحفظ القصيدة من أول مرة، وعنده
غلام يحفظ القصيدة من مرتين، وجارية تحفظ القصيدة من ثلاث مرات، فيأتي الشاعر
المسكين وقد نظم قصيدته بنفسه، فإذا قالها قال أبو جعفر: إنني أحفظها منذ زمن،
ويقول القصيدة .. ثم يقول: لا، وهناك غيري يحفظها، أين الغلام؟ فيحضرون الغلام
من خلف الستارة، تعرف القصيدة؟ فيقول: نعم ويقولها .. ثم يأتي بالجارية
فتقولها، فيخرج الشاعر من الخليفة وقد جن جنونه .
اجتمع الشعراء، وشكوا الأمر إلى الأصمعي، فقال: إن في الأمر مكراً وحيلة , دعوا
الأمر لي .
فقام ونظم قصيدته، ثم تنكر في زي أعرابي ولبس جلد شاة وجر ناقته خلفه ، ثم دخل
على الخليفة .
السلام عليك يا أمير المؤمنين .. وعليك السلام .. أنا شاعر من أعراب المُوصل .
قال الخليفة: تعرف الشروط ؟ .. قال نعم . أن كانت من قولي أعطيتني وزن الذي
كتبتها عليه ذهباً ، وإن كانت من منقولي لا تعطيني عليها شيئاً .. قال الأمير:
لك ذلك، قل .. قال:
صوت صفير البلبل " " هيج قلبي الثملي
الماءُ والزهرُ معاً " " مع زهر لحظ المقلي
وأنت يا سيدلي " " وسيدي وموللي
فكم فكم تيمني " " غزيلٌ عقيقلي
قطفته من وجنة(ن) " " من لثم ورد الخجلي
فقال لا لا لا لا لا " " فقد غدا مهرولي
والخود مالت طرباً " " من فعل هذا الرجل
فولولت وولولت " " ولي ولي ياويللي
فقلت لا تولولي " " وبيني اللؤلؤلي
وفتيةً سقونني " " قهوةً كالعسللي
شممتها بأَنَفي " " أزكى من القَرَنفُلي
في وسط بستانٍ حلي " " بالزهر والسرورُ لي
والعُود دن دن دنلي " " والطبلُ طب طب طبلي
طَبْ طبي طب طب طبي طب " " طب طبي طب طب طبلي
والسقف سق سق سقلي " " والرقصُ قد طاب إلي
شوى شوى وشاهشو " " على ورق سفرجلي
ولو تراني راكباً " " على حمار(ن) أهزلي
يمشي على ثلاثة(ن) " " كمشية العرنجلي
والناس تَرْجُم جملي " " بالسوق بالُقل ُقللي
والُكُل كعْ كعي كع " " خلفي ومن حويللي
أنا الأديبُ الألمعي " " من حي أرض المُوصلي
نظمتُ قطعا زُخرفت " " يعجزُ عنها الأَدْبُلي
أقولُ في مطلعها " " صوتُ صفير البلبليْ
حاول الخليفة أن يتذكر القصيدة فما استطاع، قال: احضروا الغلام .. هل سمعت بهذه
القصيدة؟ قال: لا والله ماسمعت بها من قبل يا أمير المؤمنين .. الجارية، كذلك.
قال الخليفة : يا أعرابي أحضر ما كتبتها عليها نزنه ونعطيك وزنه ذهباً .. قال
الأصمعي: ورثت عمود رخام من أبي، نقشت عليه القصيدة، وهو على ظهر الناقة لا
يحمله إلا أربعة من الجنود ، فانهار الخليفة , وجيء بالعمود فوضع بالميزان،
فأخذ الأصمعي كل ما في الخزنة .. فلما هم بالخروج قال الوزير: يا أمير المؤمنين
ما أظنه إلا الأصمعي، فقال الأمير: انزع لثامك يا أعرابي .. فأزال الأعرابي
لثامه فإذا به الأصمعي .. أتفعل ذلك بأمير المؤمنين يا أصمعي؟ قال: يا أمير
المؤمنين قد قطعت رزق الشعراء بفعلك هذا. قال: أعد المال يا أصمعي، قال لا
أعيده إلا بشرط، أن تعطي الشعراء على نقلهم ومقولهم . قال: لك ما تريد .
هذه قصيدة الأصمعي، فجاء أخونا أصمعي التداول، فقال:
صوت صفير البلبلي ... بالمحفظة يا بو علي
ملأتها بأسهم ... من كل سهم أهزلي
وغرني المؤشرُ ... و اخضر ثم اخضر لي
فقلت لا لا لا لا لا ... تكفا لا لا لا تنزلي
بقيت وحدي جالساً ... و أسهمي تدودلي
وأنا بدينٍ غارقٌ ... من هامتي لأرجلي
الدين دب دب دبلي ... و الفقر جا جا جائلي
و كنت حقاً جاهلاً ... في اللعب بالتداولي
في نقطة المقاومةْ ... و في نقاط الدعم لي
شريت و تّك تك تكلي ... مضارب صح صح صحلي
أدركت إني خاسر ... و المحفظة لن تمتلي
في حد ظل طلحةٍ ... يحلو لـي التأمل
أقول تحت ظلها ... صوت صفير البلبل
طيب .. دعونا نعود إلى المحاضرة .
9) (لا تضع بيضك في سلة واحدة) :
في هذه المصيبة دعوة إلى التعقل والتوازن وتنويع التجارة والاستثمار لئلا تتعطل
مصالح المسلمين أو تذهب أموالهم هدراً وهباءً في يوم وليلة .
إن جمع الأموال في مجال واحد وموضع واحد إضافة إلى كونه عرضةً للزوال والخسارة
في أي لحظة ، ففيه أيضاً تعطيل لمصالحَ وتجاراتٍ وصناعاتٍ أخرى .
وإنك والله لتعجب وتحزن لأناس صفَّوا أموالهم ، وباعوا منازلهم ، بل واقترضوا
لمدد طويلة ، وجمعوا مدخراتهم ليركموها جميعا في سوق الأسهم ، فكان ماكان والله
المستعان .. نسأل الله تعالى أن يبصرنا جميعاً بعيوبنا ، وأن يدلنا على خير
الدنيا والآخرة .
10) (من أنظر معسراً أظله الله في ظله) :
أذكّر إخواننا الدائنين والمقرضين : أن يرحموا إخوانهم المعسرين ، وأن
يُنظِروهم، أو يتجاوزوا عنهم ، ليتجاوز الله عنهم يوم القيامة، وليستبشروا
ببشارة النبي صلى الله عليه وسلم: "من أنظر معسرا أو وضع عنه، أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا
ظله" . أخرجه مسلم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه .
وثبت عند الأمام أحمد وابن ماجه والحاكم من حديث بريدة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله رضي الله عنه
يقول: من أنظر معسرا فله بكل يوم مثلُه صدقة قبل أن يحل الدين، فإذا حل الدين
فأنظره، فله بكل يوم مثلاه صدقة" .
الله أكبر .. إذا أنظرت المعسر وأمهلته، يكتب الله لك أجر الصدقة كل يوم بمقدار
الدين، هذا قبل حلول موعد السداد ، فإذا حل موعد السداد وأمهلته كتب الله لك
أجر الصدقة كل يوم بمقدر الدين مرتين .
ليس هذا فقط ، بل إن الله يتجاوز عنك يوم القيامة إذا تجاوزت عن عباده في
الدنيا .
ففي الصحيحين من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( حُوسِبَ رَجُلٌ
مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ شَيْءٌ، إِلَّا
أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَكَانَ مُوسِرًا، فَكَانَ يَأْمُرُ
غِلْمَانَهُ أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنْ الْمُعْسِرِ، قَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ، تَجَاوَزُوا عَنْهُ) .
11) (وفي أموالهم حق معلوم):
المال مال الله ، وعندما وهبك الله هذا المال، واستخلفك فيه ، جعل فيه حقاً
لإخوانك الفقراء والمحتاجين .
وحق المال أمران: حق واجب بالزكاة ، وحق مستحب بالصدقة .
أما الزكاة: فيجب عليك أخي المساهم أنْ تُخرِجَ زكاة أسهمك، لأنك أنتَ المطالبُ
بذلك .
وقد ذكر أهل العلم أن زكاة الأسهم فيها تفصيل :
1]فإن كنت اشتريت الأسهم بقصدِ الاستثمار وجنيِ الأرباح كلَّ سنة: فإن كانت
الشركة تزكي فلا زكاة عليك ، وإن كانت لا تزكي فتزكيها بحَسَب مال الشركة من
حيث الحول و النصاب و مقدار الواجب .
2] وأما إن كنت مضارباً في صالات الأسهم قد اشتريت الأسهمَ بقصدِ المتجارة:
فزكاة الأسهم زكاةُ عُروضِ التجارة، فإذا مضت سنة كاملة والأسهم في ملككَ،
زَكَّيتَها بقيمتِها الحاليةِ في السوقِ لا بقيمة شرائك لها، وإذا لم يكنْ لها
سوقٌ زَكَّيتَ قيمتَها بتقويمِ أهلِ الخبرة ، فتُخرِجُ ربعَ العشرِ من القيمةِ
والربحِ ، إذا كان للأسهمِ ربح .. هذا إذا بقيت الأسهم عندك حولاً كاملاً ..
أما إن بعت الأسهم في أثناءِ الحولِ فإنك تضم ثمنَها إلى مالِك وتزكّيها معه،
عندما يجيءُ حولُ زكاته .
أما الصدقة .. فهي مطهرة للمال ، وبركة فيه .. كما قال سبحانه: (( خُذْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)) ، وعن قيس بن أبي
غرزة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( يا معشر التجار، إن البيع يحضره اللغو والحلِف،
فشُوبوه بالصدقة )) رواه أصحاب السنن وصححه الترمذي والألباني .
وكان عثمان رضي الله عنه يتصدق كثيراً، مع تورُّعه في تجارته، وجاءت تجارة له
يوماً، فقال: من يساومني عليها، فأعطي الضعف يعني كم؟ 100% ، فلم يرضَ، فزِيد،
فلم يرضَ، حتى قال: إني أعطيت فيها عشرة أضعاف يعني 1000 % ، فتعجبوا، وقالوا:
نحن تجار المدينة، ولم يسبقنا أحدٌ إليك، فمن أعطاك ؟ فقال: الله أعطاني ،
فتصدق بها لوجه الله تعالى .
فإذا أردت يا أخي البركة فعليك بالصدقة، وأكل الحلال ، وهذا أمر مجرَّب بحمد
الله .
12) حتى لا تتكرر النكبة :
اعلم يا أخي أن المال أمانة بيدك ، يجب عليك أن تتقي الله تعالى فيه ، وتجنبه
النكبات والمصائب .
وحتى لا تتكرر هذه النكبات ، ينبغي على العاقل أن لا يتسرع في الدخول في
المساهمات، قبل استشارة الثقات وأهل الخبرة، وقبل السؤال عن الشركة،
ومعاملاتها، وواقعها من الناحية الشرعية، والمالية .. ويستخير الله تعالى في
الدخول في المساهمة .
فإذا استشرت واستخرت وقررت الدخول، فإياك، إياك والمغامرة بمالك الضروري.
التجارة مبنية على المغامرة والمخاطرة .. ونسبة المخاطرة في الأسهم كبيرة جداً،
فإذا أردت الدخول فيها فليكن من الفائض من أموالك، وإياك أن تدخل في هذه
التجارة أموالك الضرورية ، فتبيع بيتك أو سيارتك، أو تغتر بتسهيلات البنوك
فتتحمل الديون في سبيل المساهمة .
مشكلتنا أيها الأحبة أن نفوسنا تعمى عن هذه الحقائق، بمجرد أن ترى تهافت الناس
على المساهمة ، أو تذوق شيئاً من الربح السريع الذي ينسيها النظر في مآلات
الأمور .
كم تهافت الناس على مساهمة، أو شركة ، ثم تبين أنها فاشلة ، أو وهمية؟
قال : وين، قال معهم يا شيخ، الحق ، لا تفوتك المساهمة .
أين العقول؟ .. حال كثير من المساهمين يذكرني بقصة أو مثل يضرب في إحدى البلاد
الإسلامية ، لرجل اسمه مكعيل .. مكعيل هذا رجل بسيط رأى الناس يبيعون الخردوات
والحاجات .. فجاء بعلبتين قديمتين ، وملأ العلبتين بالتراب ووضعها أمامه وجلس
مع الناس .
رأى بعض الناس هذا المسكين ، الناس يبيعون ويشترون ، وهو كل يوم جالس أمام
العلبتين .. لا أحد يشتريها منه، ولا هو راضي يغير النشاط .
فجاءه أحد المحسنين ، وكأنه عطف عليه ، قال له : ماذا عندك يا مكعيل؟ ، قال:
أبيع .. ماذا تبيع؟ قال: علب التراب .. اندهش الرجل! قال : لو اشتريتها منك
ماذا استفيد؟ قال مكعيل : لو ما اشتراها منك أحد، أنا اشتريها منك! .. استغرب
الرجل أكثر وقال : هذا الرجل، الظاهر إنه مسكين وما عنده غير العلبتين ، لعلي
أتصدق عليه وأشتريها منه .. بكم العلبتين؟ قال: العلبة بريال .. قال: وهذي
ريالين ، هات العلبتين .
أخذ الرجل العلبتين وقبل أن يدخل بيته، رمى العلبتين على يمين الباب .. ما إن
دخل البيت حتى طرق الباب .. من؟
مكعيل عند الباب .. ماذا تريد؟ قال: أين العلب اللتي اشريتها مني؟ .. قال: هذه
موجودة عند الباب .. قال: تبيعها؟ .. قال: كيف؟ .. قال: سأعطيك في كل علبة خمسة
ريالات .. جن جنون الرجل : قال ، تفضل ، خذ العلب من تحت رجلك، أخذ مكعيل العلب
، وأعطى الرجل عشرة ريالات .
في نفس اليوم ، بدأ الخبر ينتشر، مكعيل يبيع العلب ، وإذا ما اشتراها منك أحد ،
تراه يشتريها منك بضعف السعر .
اندهش الناس، وفي صباح اليوم التالي: مكعيل الآن عنده مخطط رهيب ، يبيع أن يبيع
فيه هذه العلب الذهبية .. دخل السوق ، ومعه عشرون علبة مليئة بالتراب .. اجتمع
عليه الناس: بكم العلبة؟ قال: العلبة الواحدة بخمسة ريالات .. انهال الناس على
العلب في لحظات .. وفي نفس اليوم، يطرق عليهم مكعيل بيوتهم، ويشتري منهم العلب
بضعف القيمة، عشرة ريالات للعلبة .
انتشر خبر مكعيل في البلد، وكثر الطلب على العلب .. بدأ مكعيل يجمع العلب
القديمة من أنحاء البلد، ويملؤها بالتراب .. ثم أقبل الناس عليه، بكم العلبة؟
قال: العلبة بـ 95ريال!! .. الناس تهافتوا على العلب، ولم يترددوا في الشراء،
بعضهم باع بضاعته، وبعضهم باع ثيابه، حتى يتمكنوا من شراء العلب الذهبية .
وازدحم الناس، وانتهت العلب بسرعة، وبقي بعضهم يشير بنقوده ، ومكعيل يقول:
انتهت البضاعة .
ومضت الأيام .. وارتفعت أسعار العلب ووصلت إلى أرقام فلكية وغير منطقية .. ثم
اختفى مكعيل، بحثوا عنه فلم يجدوه ، وبدأ التذبذب في الأسعار ثم الانهيار، كانت
العلب في كل يوم تفقد جزءاً من قيمتها .
وأخيراً ، ظهر مكعيل، فقالوا له: أين أنت يا رجل؟ عسى ما شر ، هل فيه بضاعة
جديدة؟ لماذا لم تشتر العلب منا؟
فرد عليهم بكل هدوء: يا إخوان، أرجو المعذرة ، لأني غيرت النشاط، وليس لي حاجة
في العلب، لكني متأكد أنكم ستجدون من يشتريها منكم .
جن جنون الناس .. وعادوا إلى علب التراب التي دفعوا فيها أموالهم الطائلة ..
فتحوا العلب لعلهم يجدون بداخلها ما يعوضهم عن الخسارة ، فلم يجدوا فيها سوى
التراب .. وهوت أسعار العلب، وأصبحت العلبة الواحدة مثل الجمرة في يد أحدهم
ويحاول يرميها على الثاني بأي ثمن، حتى تلاشت قيمتها الوهمية وعادت إلى قيمتها
الحقيقية التي تساوي صفر .
هدأت العاصفة .. وبدأ الناس يفكرون ، فوجدوا أنهم كانوا بلا عقول .. أين
عقولنا؟ كيف نشتري علباً قديمة ليس فيها إلا التراب .
وعلى كل حال .. هذه القصة أو المثال ، بعيداً عن واقعيته أو انطباقه تماماً على
الأسهم أو غيرها من التجارات، يعطينا دلالة على غفلتنا وسذاجتنا التي ربما
تجعلنا نجري خلف الجزرة، دون أن نفكر في الحفرة .
خاتمة :
وختاماً .. إخواني ، ما أجمل أن نتسلح بالرضا والصبر، واحتساب الأجر .. ثقوا يا
إخواني بالله ، وكونوا على يقين أن المؤمن على خير، على خير، على خير، في كل
حال .. إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له
.. (وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون).
والله يعلم كم في هذه المحنة من منحة ، وكم في هذه النقمة من نعمة ، من تطهير
المؤمن من الذنوب ، وتقويةِ قلبه وتعويده على الصبر ، ونظرِه إلى قهر الربوبية
وذل العبودية ، وخضوعِه لربه وانطراحه بين يديه ، فلولا هذه النوازل لم يُرَ
الإنسان على باب الالتجاء والمسكنة .
قال سفيان بن عيينة: (وما يكره العبد خير له مما يحب ، لأن ما يكرهه يهيجه
للدعاء ، وما يحبه يلهيه) .
فاللهم اجعلنا عند البلاء من الصابرين ، وعند النعماء من الشاكرين ، اللهم إنا
نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة ، نسألك العفو والعافية في ديننا
ودنيانا وأهلينا وأموالنا ، اللهم آمن روعاتنا واستر عوراتنا ، اللهم احفظنا من
بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا ، ونعوذ بعظمتك أن
نغتال من تحتنا، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك ، يا رب
العالمين ، وصلِّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .