اطبع هذه الصفحة


خطبة ( وقفات مع الامتحانات )

سامي بن خالد الحمود

 
أما بعد .. مشهد يتكرر آخرَ كل فصل دراسي .. أبناؤنا وبناتنا يدخلون قاعاتِ الامتحان .
غداً ...¬ وما أدراك ما غداً ... يوم الامتحان .. يوم يكرم فيه المرء أو يهان ... يوم يعلم فيه المجتهد نتيجة جهده ، كما يعلم فيه الكسول نتيجة كسله ... وقد قيل : من جد وجد ... ومن زرع حصد .
ومع مشاهد الامتحانات ، كان لنا هذه الوقفات .. والتي نسأل الله أن ينفع بها الآباء والأمهات ، والأبناء والبنات .
الوقفة الأولى: لماذا ندرس؟ ... ولماذا نُمتحن؟ .. لماذا كل هذا العناء؟ .
هل الهدف من الدراسة هي مجرد تلك الشهادة لتعلق على الجدار؟
أم أن الهدف أن يفتخر المرء بأنه درس وتفوق؟
أم أن الهدف وظيفة مرموقة، وكرسي دوّار وثير؟
يا ترى ما هو الهدف الذي نزرعه في نفوس أبنائنا؟
أيها الإخوة : إن الواجب على كل أب أن يزرع في ابنه حب التفوق لأنه لبنة بناء في مجد الأمة، لأنه مصدر إنتاج في الوطن الإسلامي، لأنه مشعل تستضيء به الأمة في هذا الظلام الدامس الذي انتابها في هذه العهود.
لا يكن هم الواحد منا من الآباء والطلاب مجرد تحصيل الدنيا ونيل أجرها ونعيمها .
يجب أن يتربى أبناؤنا على حمل هم المجتمع، بل الأمة كلها، منذ نعومة أظافرهم، ويعلموا أنهم بناة المجد، وهامة العز، والقوة المنتظرة ، والحصن الحصين لهذه الأمة في شتى المجالات .
كيف نبني؟ ، وكيف نصنع؟ ، وكيف نخطط وننتج؟ ، وكيف نعلّم ونطبّب ونهندس؟ .
كيف نستغني عن الأمم الكافرة التي تسلطت على ديننا ومقدساتنا ، وسامتنا سوء العذاب بسبب ضعفنا وتخلفنا والله المستعان .
وإذا أدركنا أهمية التعلم والتحصيل ، وربينا أبناءنا على ذلك وعلمناهم ، فإننا نقدم للأمة عملاً جليلاً يسهم في نهضتها من جهة ، وهو من جهة أخرى قربة وعبادة لمن احتسبه عند الله سبحانه وتعالى .
وإن من العار على المسلم أن يعيش لوحده ، متناسياً هموم أمته ، ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم .
ولهذا ، فإننا نحن نحتاج إلى نوع من الانسجام بين همومنا وهموم أمتنا ، بحيث تكون همومنا الشخصية من الدراسة والوظيفة وغيرها ، لبناتً صالحاتً ضمن الإطار العام لنهضة الأمة ، في شتى المجالات ، من العلم الشرعي والدعوة والطب والهندسة والصناعة وغيرها من فروض الكفايات .
الوقفة الثانية: إخواني الطلاب .. لا تنسوا وصية محمد صلى الله عليه وسلم .. خذوها بقوة ، وصية نبوية عظيمة .. يقول فيها المصطفى صلى الله عليه وسلم : (احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجز ، فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان) رواه مسلم من حديث أبي هريرة .
إخواني .. خذوا بأسباب النجاح والتوفيق .. استذكروا واجتهدوا .. فإن تعبتم اليوم فالراحة بعد أيام ، عندما يحزن المفرطون لتفريطهم ، ويفرح الناجحون بنجاحهم .
وإذا درستم واجتهدتم وأخذتم بالأسباب النافعة ، فاعلموا أن أعظم أسباب النجاح وأجمعها هو التعلق بالله ، بأن تعلموا علم اليقين أنه لا حول ولا قوة للعبد إلا بالله رب العالمين، ثم التوكل على الله وتفويض الأمور كلها له سبحانه، فإن أذكى الناس لا غنى له عن ربه .
ولهذا أوصى النبي ابنته فاطمة أن تقول: ((يَا حَيّ يَا قَيُّوم بِرَحْمَتِك أَسْتَغِيث أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلّه وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَة عَيْن)) والحديث أخرجه النسائي والبزار من حديث أنس بن مالك. وصححه الألباني .
وإن من الظواهر الطيبة التي تكون في هذه الأيام حرص الطلاب على الصلاة في المسجد، وأداء النوافل، وربما قراءة شيء من القرآن ، وكثرة الدعاء والذكر .
إنهم يريدون بذلك التقرب إلى الله سبحانه، عله أن يأخذ بأيديهم فيما هم مقبلون عليه.
وهذا بلا شك أمر حسن، فليس كاشفاً للكرب، ولا ميسراً للخطب إلا الله سبحانه.
ولكن المشكلة أن بعض هؤلاء المصلين الذاكرين أيام الاختبارات لا يعرفون المسجد قبلها ولا بعدها! .. ولا أدري كيف غفل هؤلاء عن قوله عليه الصلاة والسلام: ((تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)).
الوقفة الثالثة : صح عند مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: (( َمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا )) ، ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: (من خادع الله يخدعه الله).
الغش في الامتحان خُلُق قبيح ، وتزوير ممقوت ، بل هو جريمة في حق المجتمع، لأننا نخرج طلاباً زوراً وبهتاناً، نخرج أطباء مزوَرين ومهندسين مزوَرين بل ومعلمين مزوَرين فيوسد الأمر إلى غير أهله، وينتشر الضعف في الأمة .
فاستعن بالله أخي الطالب ، ولا تعجز ، وإياك والغش المحرم فإنه لا خير فيه ولا بركة .
وعليك بتقوى الله عز وجل، فمن اتقى الله جعل له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ومن اتقى الله جعل له من أمره يسرًا، وأحال العسير له يسيرًا ، وآتاه خيرًا كثيرًا.
الوقفة الرابعة: وقفة مع الآباء والامهات .
أيها الأب الرحيم، أيتها الأم الرحيمة، أعرف أن كل واحد منكما قد أجهد نفسه من أجل أبنائه، حتى كأنه هو الذي سيُمتحن غداً وليس ابنُه .
وما إن تدخل فترة الامتحان حتى تُعلِنَ الأسر حالة الطواريء في البيوت ، فاللهو ليلة الامتحان مصيبة عظيمة .. والنوم عن الامتحان جريمة لا تغتفر .. ونحن لا نلوم الوالدين والأسرة على هذا الحرص .. لكننا في المقابل نقول: بالله عليكم أين هذا الاستنفار والحرص على الأبناء في أداء الصلوات وهي ركن الدين ، ولا سيما صلاة الفجر.. هل عملنا مع أبنائنا وبناتنا لامتحان الآخرة ما نعمله الآن معهم لامتحان الدنيا؟
كم في بيوت المسلمين من شباب بالغين مكلفين لا يوقظهم أهلهم لصلاة الفجر؟.. وإن أيقظوهم لم يكن هذا الإيقاظ بنفس الحرص الذي يوقظونهم به لحضور الامتحان؟
أيها الأب .. تذكر أنك مسؤول عن أبنائك وبناتك ، ليس فقط من أجل نجاحهم في امتحان الدنيا، بل أنت مسؤول عن نجاحِهم في الآخرة ، ووقايتِهم من أن يكونوا وقوداً لنارٍ وقودها الناس والحجارة .. أعاذنا الله جميعاً من ذلك ، قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) .
أقول ما تسمعون ، وأسأل الله تعالى لي ولكم ولجميع أبنائنا النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة ، إنه سميع قريب .

الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً كما أمر .. والشكر له وقد تأذن بالزيادة لمن شكر .. والصلاة والسلام على سيد البشر ، وشفيعهم في المحشر ، وعلى آله وأصحابه السادة الغرر . أما بعد . الوقفة الخامسة والأخيرة : وقفة بين الامتحانين .
أيها الأحبة .. أبناؤنا غداً تفتح لهم أبواب قاعات الامتحانات ... ويجلس الواحد منهم يُسأل وحيداً فريداً لا معين له ولا مُسدد إلا الله ثم ما بذله من جهد في الاستذكار.
يُسأل الطالب عما حصله في عامه الدراسي، وحالُهُ في وجل واضطراب .. وما أشبه اليوم بغدٍ ... أتدرون أيَّ غدٍ أعني ... إنه يوم الامتحان الأكبر، يوم السؤال عن الصغير والكبير، والنقير والقطمير .
السائل هو رب العزة والجلال، والمسؤول هو أنت، ومحل السؤال كل ما عملته في حياتك، من صغيرة أو كبيرة، يا له من امتحان!!.. ويا له من سؤال!! وياله من يوم يجعل الولدان شيباً .
روى الإمام مسلم عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّم،َ وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِه، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ)).
عباد الله: تذكروا بهذا الامتحان امتحانَ القبور .. تذكروا سؤال الملكين في تلك الحفرة المظلمة .. تذكروا إِذَا وُضِعَ الواحد منا فِي قَبْرِهِ .. وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ وجاء الممتحِنون، وما أدراك ما الممتحِنون .. ((مَلَكَانِ يقعدانه فَيَقُولَانِ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ ؟ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنْ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنْ الْجَنَّة)) ِهذه حال الفائز الناجح، أما الراسب الذي لم يستعد للامتحان ((فَيَقُول: لَا أَدْرِي، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَال:ُ لادَرَيْتَ وَلاتَلَيْتَ ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلا الثَّقَلَيْن)) .
تذكر يا عبد الله .. ذلك السؤال العظيم ، عندما يدنيك الله يوم القيامة ويسألك: ((تَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟)) .. يقررك بذنوبك ، وأنت لا تستطيع الإنكار أو الهرب .
وبعد الامتحان .. إذا رأيت توزيع الشهادات على الطلاب، فتذكر يا عبد الله ذلك اليوم العظيم الذي توزع فيه صحائف الأعمال ، فآخذ كتابه باليمين ، وآخذ كتابه بالشمال .
نسأل الله تعالى أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، ويجعلنا من أهل اليمين ، ويجعلنا من الفائزين المفلحين ، إنه خير مسؤول ، وأجود مأمول .
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية وأزكى البشرية فقد أمركم الله بذلك فقال : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً )
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم..
اللهم وفق أبناءنا وبناتنا في امتحاناتهم ، اللهم يسر لهم كل عسير ، وافتح لهم كل مغلق .. لا سهل إلا ما جعلته سهلاً ، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً .

 

سامي الحمود
  • كتب وبحوث
  • محاضرات
  • كلمات قصيرة
  • منبر الجمعة
  • مذكرات ضابط أمن
  • تحقيقات ميدانية
  • مقالات وردود
  • معرض الصور
  • قصائد
  • فتاوى أمنية
  • صوتيات
  • الجانب المظلم
  • الصفحة الرئيسية