اطبع هذه الصفحة


خطبة ( تفجير بقيق )

سامي بن خالد الحمود

 
أما بعد ..
في الجمعة الماضية فُجعنا وفجعت بلادنا بالجريمة الشنيعة ، عمليةِ التفجير الفاشلة بمدينة بقيق بالمنطقة الشرقية .
تلك الجريمة التي استهدفت الدماء والأموال ، وروّعت الآمنين ، وأفرحت الأعداء والحاقدين .
ومن المعلوم في شريعة الإسلام أن الله تعالى حرم الاعتداء على الأنفس المعصومة ، فلا يجوز بحال الاعتداء عليها بغير حق ، ومن فعل ذلك فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب العظام ، يقول الله تعالى :  {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً }المائدة32
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" والذي نفسي بيده لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا "رواه الترمذي والنسائي وصححه الألباني.
وعن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار " رواه الترمذي وصححه الألباني.
إنها جريمة شنيعة ، تعبر عن فعلٍ بائس ، كأنما هو ارتعاشة الموت .. وعملٍ يائس ، يحاول لفت الأنظار بعد الفوت .
لقد كشفت هذه العملية عن اضطراب الفكر الذي تقوم عليه هذه الفئة الضالة المنتسبة لتنظيم القاعدة .
فكر شاذ طائش ، لا يرى إلا نفسه ، ويضرب عرض الحائط بنداءات العلماء الربانيين من علماء هذه البلاد وسائر علماء المسلمين .
كان هذا التنظيم يرفع الشعارات الدينية ويقرر المسائل الشرعية ، فلما انفرطَ عَقدُ الأحداثِ ، صارَ الأمرُ فوضويةً لا يحكمها إلا الهوى .. وغوغائيةً لا يدفعها إلا التشفّي والنكايةِ ، كل ذلك باسم الجهاد في سبيل الله .
سبحان الله .. أي جهاد هذا؟
أين الجهاد من عمل يُقتَل فيه الرجال والنساء ، والشيوخ والأطفال ، وتُدَمّر فيه مكتسبات وخيرات بلاد المسلمين؟
أين الجهاد من عمل يؤذي المسلم القريب ،و يصب في مصلحة الكافر البعيد ؟!
أين الجهاد ، من انسان يقتل نفسه وأهله وخيرات بلده في عمل انتحاري متهور .
هل تصور هذا الشاب ، أن لو نجح هذا العمل ، لاسمح الله، كم من مسلم سيحترق في أتون النار التي ستشتعل في المنطقة؟ كم مسلم يعمل هناك ، ليتدفق النفط ، فتُبْنَى مدرسة ، ويقومَ مستشفى ، ويُنشأَ مسجد ، ويُطبَع كتاب ومصحف!.
ما ذنبُ المسلمين تُستباحُ أموالُهم وأنفسُهم ودماءهم ؟ ولماذا البترولُ الذي هو عصبِ الحياةِ في البلادِ؟
أسئلة كثيرة تجعل الحليم حيراناً ، وهو يرى ثلةً من الشباب صغار السنِّ ، ليسَ لهم تجرِبةٌ سابقةٌ أو أهليّةٌ علميّةٌ ، يُزَج بهم وقوداً لهذه العمليات بدعوى الجهاد .
إننا نَدين الله تعالى بأن الجهاد ذروة سنام الإسلام .. وأنه لا تزال في الأمة بقية باقية تجاهد في سبيله الجهاد المشروع في فلسطين والشيشان وغيرها .. أما هؤلاء الأدعياء فليسوا من الجهاد في شيء ، لكنه الهوى إذا استحكم في القلب ، زَيَّن الشيطان للانسان سوءَ عمله ، وصدق الله: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) .
عباد الله .. إذا كنا صادقين في ديننا ، حريصين على مستقبل أمتنا ، فعلينا أن تدبر المفاسد التي تجرها أعمال العنف هذه على أمة الإسلام .
ألم تسئْ هذه الأعمال إلى الجهاد ، وتشوهْ صورة المجاهد في العالم ، حتى تحول إلى رجلٍ متهور ، سفاكٍ للدماء ، مفسدٍ في الأرض؟.
ألم تضرَّ بالدعوة ، وتصدَّ كثيراً من الناس عن الدخول في دين الله تعالى؟
ألم يُضيَّق على الجمعيات والمؤسسات الخيرية باسم الحرب على الإرهاب؟ ألم يُغلقْ عدد من المعاهد والمدارس الإسلامية في أمريكا وأوروبا؟ .
ها هو أحد العرب المسلمين في ألمانيا يتجرع مرارة هذا الأمر ، ويقول: حسبي الله عليهم لأول مرة ابنتي "نهى" تدرس في مدرسة حكومية ألمانية بعدما كانت تدرس في مدرسة إسلامية ، والذي يبكيني الآن أنها تدرس وعلى يمينها نصراني وعلى يسارها نصراني .
وهكذا ينهار ما بناهُ المخلصونَ من رجالِ العلمِ والخيرِ والإصلاحِ يوماً بعدَ يومٍ، بسببِ تواصلِ هذه الأعمالِ التخريبيّةِ .
عباد الله .. وإذا كانت هذه الحادثة قد أثبتت افتقاد هذا الفكر للمنطلقات الشرعية لأعماله ، فإنها أثبتت كذلك أنه يفتقد أدنى درجات التفكير الاستراتيجي وإدراك المصالح .
هل يعرف هؤلاء أن الكافر الذي يحاربونه هو الكاسب الوحيد من هذا العمل؟.
ما الذي سيحدث لو نجحت الجريمة ، واحترقت معامل بقيق لا قدر الله ؟
نعم ، سينخفضُ الانتاج النفطي ، ويُضربُ اقتصادُنا في قلبه ، وتتوقفُ كثير من المشاريع التنموية التي هي من مصالح المسلمين العامة .
وبعد هذا كله ، سيعود الكافر الذي يجاهدون لإخراجه من بلادنا ، سيعود بأضعاف أعداده ، ليبني معامل بقيق ، على حساب أموال المسلمين .. ولا يبعد أن يُفرض التدخل الخارجي والوصاية على بلادنا لأنها غير قادر على حماية النفط وهو السلعة الاسترتيجية في العالم .
عباد الله .. لو تأملنا في تاريخ أحداث التفجيرات في بلادنا ، لرأينا أن هذه الأفكار الضالة التي تستحل الدماء المعصومة لا يمكن أن يَتنبأ أحد بالحد الذي ستصل إليه . فقد بدأت هذه الحلقات المضطربة باستهداف الكفار المعاهدين ، ورفع راية إخراجهم من جزيرة العرب .
في أول الأمر ، لم يبال بعض الناس بهذه الأعمال ، ولم يتشجعوا على إنكارها ، وكان من أسباب ذلك المشاعرُ المحتقنة بسبب الغزو الامريكي لأفغانستان ، ثم العراق ، وسياسةُ العداء التي اتبعتها الادارة الامريكية ضد كل نشاط اسلامي ، بما في ذلك الاعمال الخيرية .
كان سَخَطُ الناس على امريكا ، وكرههُم لممارساتها الاجرامية ، طاغياً على النظر في انحراف الفكر الذي تقوم عليه هذه الاعمال ، وخطورتها على الأمة .
ثم انتقلت هذه الأعمال إلى قتل رجال الأمن في حال المواجهة .. ثم إلى استهداف رجال الأمن في أماكنهم ، وتعدي الأذى إلى المدنيين الغافلين .
وبعد وقوع هذه الأعمال المنكرة ، تغيرت الصورة .. وبدأ الكثير يراجع موقفه يوما بعد يوم ، بعد أن وجد أن مآلاتِ هذا المنهجِ خطيرةٌ على الإسلام وأهله .. وأخيراً كان حادث الأسبوع الماضي الذي كشف تماماً تخبطَ أفراد هذه الجماعة واستهانتَهم بدماء المسلمين وأموالهم ، والله يعلم إلى أين سينتهي بهم المطاف بعد هذا .
عباد الله .. إن النظرةُ الفاحصةُ للأجواءِ المتوترةِ في المنطقةِ، توحي بأنَّ عملياتِ التفجيرِ والعنفِ في البلدانِ الإسلاميّةِ، تعني المزيدَ من التكريسِ للقوى الخارجيّةِ، والضغوط الدولية.
وما أحداث العراقِ الأخيرةِ عنّا ببعيدٍ، فالتناحرُ الداخليُّ الذي وقع مؤخراً بين السنّةِ والشيعةِ هو أعظم وسيلة لفك الخناق عن الجيشَ الأمريكيَّ المحتل الجاثم في بلاد المسلمين ، وتفرغِه لمواصلةِ خططهِ التوسّعيةِ وسيادته في المنطقة ، على قاعدة "فرّق تسد"، وهي قاعدة المستعمر قديماً وحديثاً .
وهذا الكلام لا يعني تصحيحَ ما عليه الشيعة من العقائد الفاسدة ، أو التقليلَ من خطرهم ، فنحنُ نعلمُ ماذا فعلوا بأهل السنّةِ ، وكيف أباحوا أرضَ العراقِ للمُحتلِّ الأجنبيِّ، إلا أنَّ الأعداءَ يتفاوتونَ في المنزلةِ، وقد يكونُ دفعُ بعضِهم أولى من دفعِ البعضِ الآخرِ.
نسأل الله تعالى ان يصلح أحوال المسلمين في كل مكان ، وأن يحقن دماءهم ، وينصرهم على من عاداهم ، إنه على كل شيء قدير .

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ..
عباد الله .. ما الواجب علينا أمام هذه الجريمة المنكرة ، والفتنة التي اكتوينا بنارها في السنوات الأربع الماضية ؟
لا شك أننا بحاجة إلى زيادة وتركيز الجهود المبذولة أمنياً وفكرياً وسياسياً واجتماعياً، حتى نحفظ أبناءنا من هذه الأفكار المضلة .. ليس سهلاً على الواحد منا أن يرى ولده يُقتَل في مثل هذه المحارق والمعارك ، أو يرى فئاماً من أبناء الحرمين يهلكون أنفسهم ، ويخربون بيوتهم بأيديهم .
إن إدانة مثل هذه الأحداث لا بد أن تقال بلغة واضحة لا تلجلج فيها ، فنحن لسنا أمام حدث عادي ، بل هو حدث يستهدف دماء المسلمين ، وأمن بلادهم ، وخيراتهم ، ويفتح للعدو باباً طالما تمناه .
ورحم الله ابن عمر عندما أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا : إن الناس صنعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج؟ فقال : يمنعني أن الله حرم دم أخي . فقالا : ألم يقل الله : {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة}؟ . فقال ابن عمر : قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله ، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله ". والحديث في البخاري .
إننا في حاجةٍ ماسّةٍ إلى كشفِ الخللِ العلميِّ والواقعيِّ لهذه الجماعاتِ التي تبني خطابها على المصادمةِ والعنفِ .
وإذا كان البعد الفكري هو المحرك الأساس لهذه الفئة الضالة ، فلا بد من مواجهته بفكر رشيد ، وحوار حكيم ، يخلخل الأسس والمنطلقات التي تتبناها هذه الفئة ، وتبرر لأجلها أعمالها الفاسدة .
لا بد من الحكمة في النقاش والحوار مع المتعاطفين مع هذه الفئة .. من السهل جداً أن تسب تنظيم القاعدة وترميه بأقذع العبارات ، لكن السب لا يجدي شيئاً ، بل قد يحدث حاجزاً نفسياً لدى بعض المتعاطفين مع التنظيم الذين قد يغترون ببعض ما كان عليه التنظيم في أول أمره .
ولهؤلاء أقولها بكل صراحة : إن إقرارَنا ببعض الأعمال المشروعة التي قام بها تنظيم القاعدة في ساحات الجهاد سابقاً في أفغانستان وغيرها ، وكرهَنا لأمريكا وفرحَنا بانكسار شوكتها التي آذت المسلمين وإن لم نتفق تماماً مع الفاعل ، كلُ هذا لا يمنعنا أن نجرّمَ الأفعال الفاسدة والأفكار المنحرفة التي تبناها هذا التنظيم فيما بعد ، ونبرأَ منها .
لقد تقلبت الأحوال ، وتبنى زعيم تنظيم القاعدة نظرية الفسطاطين بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ، فقسّم العالم كما يزعم إلى فسطاطين لاثالث لهما ، فإما أن تكون معهم في فسطاط الايمان ، أوتكون مع غيرهم في فسطاط الكفر .. وفي عدة مناسبات أبدى اعتزازه وتأييده لبعض الأعمال التفجيرية التي وقعت بين أظهرنا .. ثم جاء الظواهري المعروف بشذوذاته الفقهية في فقه الجهاد ، ليستبيح دماء المسلمين بنظرياته الفاسدة وخلطه في مسائل التبييت ، والقتلِ بما يعم ، وسقوطِ القتلى من المسلمين تبعاً لا قصداً ، وغيرِها من الشبهات مما يضيق المَقام عن ذكره .
ومع إنكار عامة العلماء ، بل يكاد يكون إجماعاً على فساد هذا المسلك ، فإن منظري التنظيم لا يلتفتون إلى مثل ذلك ، مع أن المنكرين عليهم أرسخُ علماً وأذكى عقلاً وأعلمُ بمصالح الأمة من منظري القاعدة .
فهل يصح لأحد بعد هذا أن يسوغ هذه الأفعال، ويقول: دعوهم يعبثون في دماء المسلمين وبلادهم ومصالحهم ، لأنهم مجتهدون؟.
سبحان الله ، لو حكم العلماء المعتبرون في ريال أنه من الربا لم يسغ لأحد أن يأخذ بقول من شذ عنهم ، فكيف بالدماء والمصالح الكبرى للأمة؟ أَوَ كلما جاءت فئةٌ فرضت وصايتها على الأمة ، وألزمتها بمنهجها؟
عباد الله .. لا بد من تظافر الجهود لحل المشكلة ، ابتداء من البيت ، والمدرسة ، والبرامج الاعلامي ، ومواقع النت التي تعتبر ميدانا كبيرا لتبني هذه الأفكار ، لما تتميز به من حرية في الطرح وغياب عن الرقيب .
ولا بد أيضاً من المنهج الوقائي والتحصين ضد الأفكار المنحرفة، فإن كثيرا من الشباب يتلقون هذه الافكار وهم صفحات بيضاء ، ليس لديهم حصانة من الفكر الواعي ، والعلم النافع ، فسرعان ما يقعون في الفخ .
إن الفكر المنحرف لا بد أن يقابل بالفكر الراشد عبر الأنشطة والبرامج الدعوية المنتشرة في بلادنا ، من دروسٍ ومحاضرات ، ومراكزَ وحلقات ، وغيرها .
نسأل الله تعالى أن يحفظ على بلادنا أمنها وإيمانها ، وأن يصلح ولاة أمرها ، وأن ينصر دينه وكتابه وسنة ...
اللهم صل على محمد ...
 

سامي الحمود
  • كتب وبحوث
  • محاضرات
  • كلمات قصيرة
  • منبر الجمعة
  • مذكرات ضابط أمن
  • تحقيقات ميدانية
  • مقالات وردود
  • معرض الصور
  • قصائد
  • فتاوى أمنية
  • صوتيات
  • الجانب المظلم
  • الصفحة الرئيسية