اطبع هذه الصفحة


خطبة ( حقوق وواجبات الإمام والبيعة )

سامي بن خالد الحمود

 
الحمد لله ذي العز والجبروت، الحي الذي لا يموت ، بيده مقادير الخلق ، كتب أعمارهم وآجالهم وأرزاقهم قبل أن يخلقهم، وهو على كل شيء قدير ، أحمده وأشكره وأثني عليه وأستغفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين .
أما بعد .. فاتقوا الله عباد الله ، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار .
عباد الله .. ومات الفهد رحمه الله .. وتولى عبد الله سدده الله .. وتلك سنة الله ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير) .
ولنا مع ما مضى من أحداث دروس ووقفات :
الوقفة الأولى) على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم :
إن مما تميزت به هذه البلاد المباركة ما وقع في مراسم التشييع والدفن لجنازة الملك فهد رحمه الله تعالى وفق الكتاب والسنة ، من الغسل والتكفين والصلاة والدفن .
فقد شاهد ملايين الناس هذه التفاصيل الشرعية من غير غلوِّ مُبْتَدِعٍ أو غوايةِ قبوريِّ مفتون ؛ فلا عرباتٍ ولا مدافعَ ولا موسيقى حزينةٍ ولا عقودَ بناءٍ للقباب ، وهي أمور لن تعجز عنها ميزانية من وسَّع الحرمين لو أراد هو أو أهله ذلك ، لكننا شاهدناه بعد أن أحضره أهله ، مسجى على نعش خشبيٍ ، يحمل اسم المستشفى الذي توفي فيه .. مغطى بعباءةٍ رجالية .. وقد رفعه أهله على أعناقهم إلى المسجد ، ومنه إلى المقبرة حيث ووري التراب .
لقد كانت هذه المشاهد أشبه برسالة عملية ، اطَّلع بها المسلمون على يُسْرِ هذا الدين وسماحته ، ومساواته بين الناس . فلله الحمد والمنَّة .. وجزى الله خيرا كل من سلك سبيل الكتاب والسُنَّة .
الوقفة الثانية ) رجال يصنعون التاريخ:
الرجل العظيم الذي يسهم في صنع التاريخ ، هو الذي يُورِّث أعمالاً تشهد لمآثره .. وإنَّ من أعظم مآثر الملك فهد - رحمه الله تعالى - إصدار النظام الأساسي للحكم ، فهو بحق مفخرة تستحق الذكر ، فقد تضمن النظام مقاصد الولاية العظمى في الإسلام ، ونصت مواد النظام على وجوب العناية بها ؛ بالتزام مرجعية الكتاب والسنة ، وسياسة الأمة سياسة شرعية ، والقيام بواجب الدعوة إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، في مواد غاية في الوضوح ودقّة الصياغة .
ثم كانت خدمة الحرمين الشريفين والمسجد الأقصى ، والعناية بالجاليات المسلمة والمراكز الإسلامية ، وتأسيس مجمع الملك فهد للمصحف الشريف ، وهذه الأعمال وغيرها كانت تطبيقاً عملياً لهذا النظام الذي يقوم على الشريعة الإسلامية .
ولا يزال الخير في هذه البلاد ، فقد استبشر المؤمنون وهم يستمعون إلى ولي أمرهم خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وهو يعاهدهم بالسير على هذا النهج ، ويسأل الله عز وجل أن يقويه على تنفيذه ، ويطالبهم بإعانته عليه .
ومن هنا ، يجب على الأمة كلها ، أفراداً ومؤسسات ، أجهزة ووسائل إعلام ، أن تكون معينة لخادم الحرمين وفقه الله في تنفيذ ما عاهد عليه ، وأن تعدل عن كل ما يخالف كتاب الله عز وجل ، وتلتزم المنهج الإسلامي الذي تقوم عليه هذه الدولة المباركة .
لا مكان في هذه البلاد المباركة لدعوات البدعة ، ولا لدعوات العلمنة والليبرالية ، ولا لدعوات الغلو والتطرف بشتى أنواعه ، بل هي بلاد العقيدة الوسطية السمحة .
الوقفة الثالثة : الإمامة حقوق وواجبات :
عباد الله .. إننا حينما نتحدث عن الإمامة أو الرئاسة والولاية ، فإننا نتحدث عن قضية مصيرية من القضايا الكبرى للأمة ، بل هي ضرورة لكل أمة .
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم *** ولا سراة إذا جهالهم سادوا
ودين الله تعالى لا يمكن أن يقوم إلا في ظل دولة تحكم بالإسلام، وتنفذ شريعته ، ولا يمكن أن تقوم الدولة الإسلامية بلا إمام وحاكم يديرها، ولهذا كان من الواجب على المسلمين أن ينصّبوا إماماً عليهم، وهذا بإجماع العلماء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وِلاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع؛ لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد عند الاجتماع من رأس" أهـ.
وقد شرع ديننا العظيم ما للحاكم من حقوق ، وما عليه واجبات، فأوجب على الأمة أن يسمعوا للحاكم ويعينوه على الحق وينصحوه، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر . كما أوجب على الحاكم أن ينشر العدل بين الناس وأن يحكّم فيهم شريعة الله، وأن يحمي حوزة الأمة والدين ، وأن يرفق برعيته، فلا يكلفهم ما يشق عليهم، وأن يوفر لهم ما يحتاجونه من طعام ولباس ودواء ووظيفة وغير ذلك من الحاجيات .
وقد استوفى العلامة ابن جَمَاعَةَ الكناني رحمه الله تعالى الحقوق الواجبة للسلطان ، والحقوق التي تجب للرعية عليه فقال فيما ملخصه : (( .. أما حقوق السلطان العشرة : فالحق الأول : بذل الطاعة له ظاهرا وباطنا .. قال الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ
الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " السمع والطاعة على المسلم فيما أحب – أو كره - ما لم يؤمر بمعصية " رواه الشيخان من حديث ابن عمر.
الحق الثاني : بذل النصيحة له سرا [ وقد روى عياض بن غنم وصححه الألباني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية ولكن يأخذ بيده فيخلوا به فإن قبل منه فذاك وإلا كان قد أدى الذي عليه ].
الحق الثالث : القيامُ بنصرتهم باطنا وظاهرا .
الحق الرابع : أن يُعرف له عظيم حقه وما يجب من تعظيم قدره فيعامل بما يجب له من الاحترام والإكرام .
الحق الخامس: إيقاظه عند غفلته .
الحق السادس : تحذيره من عدو يقصِدُهُ بسوء .. ومن كل شيء يخاف عليه منه .
الحق السابع : إعلامُهُ بسيرة عماله الذين هو مطالبٌ بهم .
الحق الثامن : إعانته على ما تَحَمَّلَهُ من أعباء الأمة .
الحق التاسع : رد القلوب النافرة عنه إليه، وجمع محبة الناس عليه .
الحق العاشر : الذب عنه بالقول والعمل .
وأما حقوق الرعية العشرة على السلطان :
فالأول : حماية بيضة الإسلام والذب عنها ، في القطر المختص به إن كان مفوضا إليه فيقوم بجهاد المشركين ودفع المحاربين والباغين .
الحق الثاني : .. رد البدع والمبتدعين .. ونشر العلوم الشرعية .
الحق الثالث : إقامة شعائر الإسلام كفروض الصلوات والجمع والجماعات .
الحق الرابع : فصل القضايا والأحكام ، بتقليد الولاة والحُكام لقطع المنازعات بين الخصوم وكف الظالم عن المظلوم .
الحق الخامس : إقامة فرض الجهاد .. إن كان بالمسلمين قوة.
الحق السادس : .. يسوي في الحدود بين القوي والضعيف والوضيع والشريف .
الحق السابع : جبايةُ الزكوات والجزية من أهلها .
الحق الثامن : النظر في أوقاف البر والقربات .
الحق التاسع : النظر في قسم الغنائم وتقسيمها .
الحق العاشر والأخير : العدل في سلطانه قال تعالى : {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} ))
عباد الله .. ما أحوجنا وبلادنا مستهدفة من أعدائها أن نصفّي قلوبنا ، ونكون يدًا واحدة مع ولاة أمرنا وعلمائنا.
فتجتمعَ القلوب قبل الأبدان في بناءٍ متماسك ويدٍ واحدة وجسدٍ واحد ، في مجتمعٍ تسوده المحبة والإخاء والإيثار والصفاء .
نسأل الله أن يجمع الأمة .. ويرفع الغمة .. ويسد الخلة .. وينصر الملة ، إنه خير مأمول ، وأجود مسؤول . والحمد لله رب العالمين .

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ...
عباد الله .. وإذا عُلمت منزلة الإمامة والإمارة من الدين، فههنا وقفة رابعة وأخيرة مع البيعة .
فالإمامة لا تتم شرعاً دون عقد البيعة، وهذا العقد يكون بين طرفين ، تنيب الأمة بموجِبه الإمام في إدارة شؤونها .
ولهذا ، أوجب الإسلام على الأمة البيعةَ للإمام الجديد الذي تثبت ولايته ، إما بتولية من قبله له، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه في توليته الخلافة من بعده لعمر ، أو بتوليته من قبل أهل الحل والعقد كما فعل الصحابة ممن خصهم عمر باختيار الخليفة عثمان رضي الله عن الجميع .
وإن من نعم الله على هذه البلاد ما جرى من انتقال المُلك إلى ولي العهد بطريقة شرعية واضحة ، عيَّن فيها الملك الجديد ولي عهده ، وسارت الأمور بهدوء وحكمة ، واجتماع للكلمة ، فلله الحمد والمنّة .
فإذا ثبتت ولاية الملك لزم جميع أهل البلد مبايعته والسمع والطاعة له .
فمن كان من أهل الحل والعقد والشهرة فبيعته بالقول والمباشرة باليد إن كان حاضراً، أو بالقول والإشهاد عليه إن كان غائباً، فقد روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن دينار قال لما بايع الناس عبد الملك بن مروان كتب إليه عبد الله بن عمر: إلى عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين ، إني أُقر بالسمع والطاعة لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين ، على سنة الله وسنة رسوله فيما استطعت ، وإن بنيّ قد أقروا بذلك .
وأما بقية الناس فليس من شرط ثبوت الإمامة أن يبايعه كل أحد، يقول القرطبي : ليس من شرط ثبوت الإمامة أن يبايعه كل من يصلح للمبايعة، ولا من شرط الطاعة على الرجل أن يكون من جملة المبايعين، فإن هذا الاشتراط مردود بإجماع المسلمين أولهم وآخرهم سابقهم ولاحقهم . أ.هـ
فمن هنا نعلم عباد الله أنه بمبايعة وجهاء هذه البلاد من أمراءَ وعلماءَ وأعيانِ قبائلَ وأسرٍ ، فقد ثبتت البيعة للملك في عنق الجميع ووجب على جميع الناس في هذه البلاد السمع والطاعة له وعدم الخروج أو الافتيات عليه .
والبيعة ميثاق غليظ، وحكمها ومعناها عام لازم للرعية كلها، من باشرها بمصافحة يمينه وصفقة يده، فقد أعلن وباشر، ومن لم يمكنه ذلك فليعقد قلبه على ما بايعت عليه جماعة المسلمين .
وقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ، ومن مات ليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)).
إن البيعة عباد الله حكم شرعي ، وليست دعاية سياسية ، ففي حديث عبادة المتفق عليه ((بايعْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره ، وعلى أثرة علينا ، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله)) .
ولهذا نقول : إنَّ ولاءنا لأئمتنا وولاة أمرنا ، ولاء ديني إسلامي ، يوجبه الدين في المنشط والمَكْرَه .. وليس ولاء مصلحياً لا يتحمل نقص المصلحة الشخصية في المنشط ، فضلاً عن الولاء في المَكْرَه.
ألا فالزموا عباد الله نهج المصطفى صلى الله عليه وسلم واتبعوا طريقة صحابته ، وعليكم باجتماع الكلمة ، وألحوا في الدعاء لولي الأمر أن يلهمه الله التوفيق في قوله وعمله ، وأن يهيء له البطانة الصالحة ، التي تدله على الحق وتعينه عليه ، فقد ثبت عند أبي داود عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا أراد الله بالأمير خيرا جعل له وزير صدق ، إن نسي ذكره ، وإن ذكر أعانه ، وإذا أراد الله به غير ذلك جعل له وزير سوء ، إن نسي لم يذكره ، وإن ذكر لم يعنه .
وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية وأزكى البشرية فقد أمركم الله بذلك فقال : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً ) اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم..

 

سامي الحمود
  • كتب وبحوث
  • محاضرات
  • كلمات قصيرة
  • منبر الجمعة
  • مذكرات ضابط أمن
  • تحقيقات ميدانية
  • مقالات وردود
  • معرض الصور
  • قصائد
  • فتاوى أمنية
  • صوتيات
  • الجانب المظلم
  • الصفحة الرئيسية