اطبع هذه الصفحة


خمسون دليلا على بطلان دعاء غير الله

ماجد بن سليمان الرسي

 
مقدمة

الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد،
فإن الغاية التي من أجلها خلق الله الجن والإنس هي أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، قال تعالى ]وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون[ ، والعبادة تشمل كل ما يحبه الله ويرضاه ، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة .
فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار والمنافقين ، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكـين وابن السبيل والمملوك ، والإحسان إلى البهائم ، والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة .
وكذلك حب الله ورسوله ، وخشية الله والإنابة إليه ، وإخلاص الدين له ، والصبر لحكمه ، والشكر لنعمته ، والرضا بقضائه ، والتوكل عليه ، والرجاء لرحمته ، والخوف من عذابه ، وأمثال ذلك ؛ هي من العبادة لله .
وضد العبادة الشرك في عبادة الله ، بأن يجعل الإنسان لله شريكا يعبده كما يعبد الله ، ويخافه كما يخاف الله ، ويتقـرب إليه بشيء من العبادات كما يتقرب لله ، من دعاء وصلاة أو ذبح أو نذر أو غير ذلك .
والكلام في هذا البحث المختصر منصب على مسألة صرف عبادة الدعاء لغير الله ، وبيان وجوه بطلان دعاء غير الله العقلية والنقلية ، وقبل البدء في مناقشة هذه المسألة أقول إن الدعاء عبادة جليلة ، قد خصها الله بالذكر في كثير من الآيات ، وبـين النبـي صلى الله عليه وسلم شرفها في كثير من الأحاديث الصحيحة ، إلا أنه من أكثر العبادات التي شرّك الناس فيها بين الله وبين خلقه ، فإنك تجد - مع الأسف الشديد - كثيرا ممن ينتسب إلى الإسلام قد وقعوا في دعاء غير الله والاستغاثة بهم ، سواءً كانوا من الأنبـياء أو الصالحين ، كمن يقول يا نبـي الله ، أو يا عبد القادر الجيلاني ، أو يا بدوي ، أشكو إليك ذنوبـي ، أو نقص رزقي ، أو تسلط العدو علي ، أو أشكو إليك فلانا الذي ظلمني ، أو يقول أنا نـزيلك ، أنا ضيفك ، أنا جارك ، أو أنت تجير من يستجير ، أو أنت خير معاذ يستعاذ به ، أو ارزقني الولد ، أو قول القائل إذا عثر : يا جاه محمد ، يا ست نفيسة ، أو يا سيدي الشيخ فلان ، ونحو ذلك من الأقوال التي فيها تعلق وتوجه ودعاء لغير الله ، وبعضهم يكتب على أوراق ويعلقها عند القبور ، أو يكتب محضرا أنه استجار بفلان ثم يذهب إلى أحد المقبورين بذلك المحضر ليغيثه ، وما يدري المسكين أنه قد خلع بفعله هذا ربقةالإسلام من عنقه ، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم .
وفي هذه الوريقات ؛ نقلت ما يسر الله نقله من أدلة نقلية وعقلية على بطلان دعاء غير الله ، لعلها تكون معونة للعاقل وتذكرة للجاهل ، والله أسأل أن يوفق المسلمين جميعا لإخلاص العمل لله وحده ، وأن يجنبهم طرق الشرك والضلال ، والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد ، وآله وصحبه وسلم تسلميا كثيرا .

وكتبه ، ماجد بن سليمان الرسي
 
Readquran1000@hotmail.com
هاتف : 00966505906761
المملكة العربية السعودية
http://www.saaid.net/kutob/
 



 تأصيل ، الدعاء عبادة


الدعاء عبادة جليلة ، قد خصها الله بالذكر في كثير من الآيات ، وبـين النبـي صلى الله عليه وسلم شرفها في كثير من الأحاديث الصحيحة .
وقد جاءت الأدلة في بيان عِظم شأن الدعاء فمنها :
حديث سلمان الفارسي عن النبـي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله حيـي كريم يستحيـي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين .[1]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يرد القضاء إلا الدعاء .[2]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء .[3]
وقد جاء تصريح النبـي صلى الله عليه وسلم في أن الدعاء عبادة في قوله : الدعاء هو العبادة ، وقرأ }وقال ربكم ادعوني استجب لكم( إلى قوله )داخرين{ .[4]
وحصْر العبادة في الدعاء - وإن كان حصْراً ادعائيا - فإنه يدل على عظـم الدعاء وشرف مكانته ، وأنه لب العبادة وخالصها ، وركنها الأعظم ، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم : الحج عرفة .[5]
كما سمى الله الدعاء عبادة في قوله }قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البـينات من ربـي{ ، وقال تعالى }وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين{ ، فعبر الله عن الدعاء بالعبـادة في الآيتين ، فدل ذلك على عِظم شأنه .
وقد سمى الله الدعاء ديناً كما في قوله تعالى }وإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون{.
فجعل الله سبحانه الدين بدلا من الدعاء ، وعرفه بالألف واللام التي تفيد  العهد ، فدل ذلك على أن الدعاء دينا ، وما كان دينا فهو عبادة .
وقد أمر الله بدعائه ، وكل ما أمر الله بفعله فهو عبادة واجبة أو مستحبة ، قال تعالى }وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين{ ، وقال تعالى ]ادعوا ربكم تضرعا وخفية[ .
وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالدعاء كما في قوله : فأما الركوع فعظموا فيه الرب تعالى ، وأما السجود فأكثروا من الدعاء ، فقمـِِنٌ[6] أن يستجاب لكم .[7]
قال الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله :
وكل ما أمر الله به أمر إيجاب أو استحباب فهو عبادة عند جميع العلماء ، فمن قال إن دعاء العبد ربه ليس بعبادة له فهو ضال ، بل كافر .[8]


فصل في الأمر بدعاء الله وحده والنهي عن دعاء غيره

القرآن والسنة يأمران بإفراد الله بالدعاء ، وينهيان عن دعاء غيره ، ومن ذلك قوله تعالى }ادعوا ربكم تضرعا وخفية{[9] ، وقوله تعالى }أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض{[10] ، وقوله تعالى }وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان{[11] ، وقوله تعالى }واسألوا الله من فضله{[12].
قال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله :
وأما إفراد الله بالدعاء فجاء ذكره في نحو ثلاثمائة موضع منوعاً ، تارة على صيغة الأمر به ، كقوله }أدعوني استجب لكم{[13] ، }وادعوه مخلصين له الدين{ [14].
وتارة يذكره الله بصيغة النهي كقوله }فلا تدعوا مع الله أحداً{ [15].
وتارة يقرنه بالوعيد كقوله }فلا تدع مع الله إلـٰهاً آخر فتكون من المعذبين{[16].
وتارة بتقرير أنه هو المستحق للألوهية والتعبد كقوله }ولا تدع مع الله إلـٰهاً آخر لا إلـٰه إلا هو{[17].
وتارة في الخطاب بمعنى الإنكار على الداعي كقوله }ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك{[18].
وتارة بمعنى الإخبار والاستخبار }قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات{[19].
وتارة بالأمر الذي هو بصيغة النهي والإنكار }قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض{[20].
وتارة أن الدعاء هو العبادة ، وأن صرفَه لغير الله شرك }ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة{ إلى قوله }وكانوا بعبادتهم كافرين{[21] ، }وأعتزلكم وما تدعون من دون الله{ إلى قوله }فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله{[22].
وفي الحديث : (الدعاء هو العبادة)[23] ، صححه الترمذي وغيره ، وقد أتى فيه بضمير الفصل ، والخبر المعرَّف باللام ليدل على الحصر ، وأن العبادة ليست غير الدعاء ، وأنه مُعظم كل عبادة[24] ، ونهى ألا يشرك معه أحد فيه ، حتى قال في حق نبيه صلى الله عليه وسلم }قل إنما أدعوا ربي ولا أشرك به أحداً{ [25] ، وأخبر أنه لا يَغفر أن يشرك به .[26] انتهى .
ومن أدلة وجوب إفراد الله بالدعاء ؛ حديث ابن عباس رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله .[27]
فلو جاز سؤال غير الله لقال : واسألني واستعن بـي ، بل أتى صلى الله عليه وسلم بمقام الإرشاد والإبلاغ والنصح لابن عمه بتجريد إخلاص السؤال والاستعانة على الله تعالى .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ينـزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ، يقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ .[28]
وقال رسول الله : إذا تمنى أحدكم فليستكثر ، فإنما يسأل ربه عز وجل .[29]
وقال تعالى {يسأله من في السماوات والأرض}
سورة الرحمن ، الآية 29 . ،  قال ابن سعدي رحمه الله في تفسير الآية الكريمة:
أي هو الغني بذاته عن جميع مخلوقاته ، وهو واسع الجود والكرم ، فكل الخلق مفتقرون إليه ، يسألونه جميع حوائجهم بحالهم ومقالهم ، ولا يستغنون عنه طرفة عين ولا أقل من ذلك ، وهو تعالى )كل يوم هو في شأن( ، يغني فقيرا ويجبر كسيرا ، ويعطي قوما ويمنع آخرين ، ويميت ويحيي ، ويخفض ويرفع ، لا يشغله شأن عن شأن ، ولا تغلُطه المسائل ، ولا يبرمه إلحاح الملحين ، ولا طول مسألة السائلين ، فسبحان الكريم الوهاب الذي عمت مواهبه أهل الأرض والسماوات ، وعم لطفه جميع الخلق في كل الآنات واللحظات ، وتعالى الذي لا يمنعه من الإعطاء معصية العاصين ولا استغناء الفقراء الجاهلين به وبكرمه . انتهى .

 



فصل في بيان أن دعاء غير الله باطل من خمسين وجها


وبالرغم من عِظم مكانة الدعاء بـين سائر العبادات ؛ إلا أنه من أكثر العبادات التي شرّك الناس فيها بين الله وبين خلقه ، فإنك تجد - مع الأسف الشديد - كثيراً ممن ينتسب إلى الإسلام قد وقعوا في دعاء غير الله والاستغاثة بهم ، سواءً كانوا من الأنبـياء أو الصالحين ، كمن يقول يا نبـي الله ، أو يا عبد القادر الجيلاني ، أو يا بدوي ، أشكو إليك ذنوبـي ، أو نقص رزقي ، أو تسلط العدو علي ، أو أشكو إليك فلاناً الذي ظلمني ، أو يقول أنا نـزيلك ، أنا ضيفك ، أنا جارك ، أو أنت تجير من يستجير ، أو أنت خير معاذ يستعاذ به ، أو ارزقني الولد ، أو قول القائل إذا عثر : يا جاه محمد ، يا ست نفيسة ، أو يا سيدي الشيخ فلان ، ونحو ذلك من الأقوال الشركية التي فيها دعاء وتعلق بغير الله ، وبعضهم يكتب على أوراق ويعلقها عند القبور ، أو يكتب محضراً أنه استجار بفلان ثم يذهب إلى أحد المقبورين بذلك المحضر ليغيثه !
وقد وصف الله دعاء غيرِه بأنه باطل في موضعين من القرآن ؛ الموضع الأول قوله تعالى في سورة الحج ]ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل[ .[1]
والموضع الثاني قوله تعالى في سورة لقمان ]ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل[.[2]
وكذلك مدح النبي صلى الله عليه وسلم من قال بأن غير الله من المعبوادت باطلة ، قال عليه الصلاة والسلام : أصدق كلمة قالها الشاعر ؛ كلمة لبيد[3] :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل[4]
وصدق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فدعاء غير الله باطل من خمسين وجهاً ، هذا أوان الشروع في ذكرها ، فاللهم يسر وأعن .
 

------------------
[1]  آية : 62 .
[2]  آية : 30 .
[3] هو لبيد بن ربيعة العامري ، ذكره البخاري وابن أبي خيثمة في الصحابة ، سكن الكوفة ، وتوفي في خلافة عثمان ، عاش مائة وخمسين سنة ، وقيل أكثر ، وهو القائل:
ولقد سئمت من الحياة وطولها ***  وسؤال هذا الناس : كيف لبيد
انتهى مختصرا من «فتح الباري».
[4] رواه البخاري (3841) ومسلم (2256) عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وتمام البيت : وكل نعيم لا محالة زائل .

 

الوجه الأول : أن الله سبحانه أمر بأن تصرف العبادات كلها له وحده ، الدعاء وغيره ، فمن صرف شيئاً منها لغير الله على سبيل المشاركة أو الاستقلال فقد أشرك بالله العظيم ، ودليل ذلك قوله تعالى ]وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون[ ، وقال تعالى ]وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إلـٰه إلا أنا فاعبدون[ ، ونهى عباده عن أن يشركوا معه في عبادته أحدا غيره فقال ]ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين[ ، وبـين لنا أن الشرك أعظم الذنوب وأن الله لا يغفره إذا مات العبد عليه ، قال تعالى ]إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء[ .

الوجه الثاني :
أن القرآن والسنة قد خصا الدعاء بتأكيد الإخلاص فيه ، والنهي عن صرفه لغير الله ، ومن ذلك قوله تعالى }ادعوا ربكم تضرعا وخفية{ ، وقال }أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض{ ، وقال }وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان{ وقال تعالى }واسألوا الله من فضله{ ، وقد تقدم في «فصل في الأمر بدعاء الله وحده والنهي عن دعاء غيره» تقرير أن مسألة إفراد الله بالدعاء ذكرت في نحو ثلاثمائة موضع منوعاً في القرآن بصيغ متعددة .

الوجه الثالث : أن الله والملائكة وأولوا العلم شهدوا أنه لا يستحق العبادة غير الله ، قال تعالى }شهد الله أنه لا إلـٰه إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إلـٰه إلا هو العزيز الحكيم{[30] ، ,شهادة أن لا إلـٰه إلا الله هي أعظم شهادة في الوجود من أعظم شاهد جل وعز ، وشهادة رب العالمين لا ينقصها شيء البتة ، فلم يبق بعد هذه الآية معبود يعبده الأولون والآخرون من دون الله إلا بطلت عبادته بهذه الشهادات الثلاثة .

الوجه الرابع : ومن وجوه بطلان دعاء المخلوقين إجماع المسلمين قاطبة - بما فيهم علماء المذاهب الأربعة وغيرهم - على أن دعاء غير الله شرك أكبر مخرج من ملة الإسلام ، وإجماع المسلمين حجة شرعية كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى لا يجمع أمتي على ضلالة ، ويد الله على الجماعة .[1]

------------------
[1]
رواه الترمذي (2167) ، عن ابن عمر ، وصححه الألباني ، وكذا الحاكم في « مستدركه »  (392 ، 397) ، وحكى بعد ذكره للحديث إجماع أهل السنة على هذه القاعدة ، وأنها من قواعد الإسلام .

أما كلام الحنفية ؛ فقال الشيخ قاسم في « شرح درر البحار » : النذر الذي يقع من أكثر العوام ، بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلاً : يا سيدي ؛ إن رُدّ غائبي ، أو عُوفي مريضي ، أو قُضيت حاجتي ؛ فلك من الذهب أو الطعام أو الشمع كذا وكذا ؛ باطلٌ إجماعاً ، لوجوه منها :
أن النذر للمخلوق لا يجوز .
ومنها ، أنه ظنَّ الميت يتصرف في الأمر ، واعتقاد هذا كفر ، ... ، وقد ابتُـلي الناس بذلك ولاسيما في مولد الشيخ أحمد البدوي .
وقال الشيخ محمد عابد السندي الحنفي في كتابه « طوالع الأنوار شرح تـنوير الأبصار مع الدر المختار »:
ولا يقول : يا صاحب القبر ، يا فلان ، إقض حاجتي ، أو سلها من الله ، أو كن لي شفيعا عند الله ، بل يقول : يا من لا يشرك في حكمه أحدا ؛ اقض لي حاجتي هذه .
وقال الشيخ صنع الله بن صنع الله الحلبـي الحنفي رحمه الله ما نصه :
هذا وإنه قد ظهر الآن فيما بـين المسلمين جماعات يدَّعون أن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات ، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات ، وبهم تنكشف الـمُهمات ، فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات ، مستدلين على أن ذلك منهم كرامات !
وهذا كلام فيه تفريط وإفراط ، بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي ، لما فيه من روائح الشرك المحقق ، ومصادرة الكتاب العزيز المصدّّق ، ومخالفة لعقائد الأئمة ، وما أجمعت عليه هذه الأمة ، وفي التـنـزيل ]وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً[[31].[32]
وبهذا قال من أئمة الحنفية المتأخرين الإمام أحمد السرهندي ، والإمام أحمد الرومي ، والشيخ سجان بخش الهندي ، ومحمد بن علي التهانوي ، ومحمد إسماعيل الدهلوي ، والشيخ أبو الحسن الندوي ، وشدد في ذلك .[33]
وللشيخ الدكتور شمس الدين الأفغاني رسالة عظيمة جمع فيها أقوال علماء الأحناف في إبطال عقائد القبورية ، وأسماها «جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية» ، تقع في ثلاث مجلدات ، نال فيها رسالة الدكتوراة العالمية .
وأما كلام المالكية ؛ فقال أبو بكر الطرطوشي في كـتاب « الحوادث والبدع » لما ذكر حديث الشجرة المسماة بذات أنواط : فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ، ويُعظمون من شأنها ، ويرجون البُـرء والشفاء لمرضاهم من قِـبَلِها ؛ وينوطون بها المسامير والخرق ؛ فهي ذات أنواط ، فاقطعوها .[34]
وأما كلام الشافعية ؛ فقال ابن حجر الشافعي في « شرح الأربعين النووية » : من دعا غير الله فهو كافر .[35]
وقال الإمام محدث الشام أبو شامة في كتاب « الباعث على إنكار البدع والحوادث » :
لكن نُبين من هذا القسم ما وقع فيه جماعة من جهال العوام ، المنابذين لشريعة الإسلام ، التاركين للاقتداء بأئمة الدين من الفقهاء ، وهو ما يفعله طوائف من المنتمين إلى الفقر ، الذي حقيقته الإفتقار من الإيمان ، من مؤاخاة النساء الأجانب والخلوة بهن ، واعتقادهم في مشايخ لهم ، ... ، وبهذه الطرق وأمثالها كان مبادئ ظهور الكفر من عبادة الأصنام وغيرها ، ومن هذا القسم أيضا ما قد عم الابتلاء به ؛ من تزيـين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعُمُد ، وسرج مواضع مخصوصة في كل بلد يحكِـي لهم حاكٍ أنه رأى في مـنامه بها أحداً ممن شُهِـر بالصلاح والولاية ، إلى أن يَعظُم وقعَ تلك الأماكن في قلوبهم ، ويعظمونها ، ويرجون الشفاء لمرضاهم ، وقضاء حوائجهم بالنذر لها ، وهي ما بين عيون وشجر وحائط ، وفي مدينة دمشق ، صانها الله تعالى من ذلك ، مواضع متعددة .
ثم ذكر – رحمه الله – الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال له بعض من معه : (اجعل لنا ذات أنواط) ؛ قال : الله أكبر ، قلتـم والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسى ]اجْعَل لناَ إلـٰهاً كَمَا لهَمُ آلهة[ [36]. [37]انتهى كلامه رحمه الله .[38]
وقال الإمام العلامة أحمد بن علي المقريزي المصري الشافعي رحمه الله :
وشرك الأمم كله نوعان : شرك في الإلـٰهية وشرك في الربوبية ، فالشرك في الإلـٰهية والعبادة هو الغالب على أهل الإشراك ، وهو شرك عُباد الأصنام وعباد الملائكة وعباد الجن وعُباد المشايخ والصالحين الأحياء والأموات ، الذين قالوا )إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى( ، ويشفعوا لنا عنده ، وينالونا بسبب قربهم من الله وكرامته لهم قرب وكرامة ، كما هو المعهوم في الدنيا من حصول الكرامة والزلفى لمن يخدم أعوان الملك وأقاربه خاصته .
والكتب الإلـٰهية كلها من أولها إلى آخرها تبطل هذا المذهب وترده وتقبح أهله ، وتنص على أنهم أعداء الله تعالى .
وجميع الرسل صلوات الله عليهم متفقون على ذلك من أولهم إلى آخرهم ، وما أهلك الله تعالى من أهلك من الأمم إلا بسبب هذا الشرك ومن أجله .[39]
وسيأتي كلام الإمام ابن النحاس الشافعي قريبا إن شاء الله .
وأما كلام الحنابلة ؛  فقال الشيـخ تقي الدين رحمه الله لما ذكر حديث الخوارج :
فإذا كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ممن قد انتسب إلى الإسلام ؛ من مَرق[40] منه مع عبادته العظيمة ، فيُعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة قد يمرق أيضاً ، وذلك بأمور ، منها الغلو الذي ذمه الله تعالى ، كالغلو في بعض المشائخ ، كالشيخ عدي ، بل الغلو في علي بن أبي طالب ، بل الغلو في المسيح ، ونحوه .
فكل من غلا في نبي أو رجل صالح ، وجعل فيه نوعاً من الإلـٰهية ، مثل أن يدعوه من دون الله ، بأن يـقول : (يا سيدي فلان أغثني ، أو أجرني ، أو أنت حسبي ، أو أنا في حسْبك) ؛ فكل هذا شرك وضلال ، يستتاب صاحبه ، فإن تاب وإلا قتل ، فإن الله أرسل الرسل ليُعبد وحده ، لا يُـجعل معه إلـٰه آخر ، والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى ، مثل الملائكة أو المسيح أو العزير أو الصـالحين أو غيرهم ؛ لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق وترزق ، وإنما كانوا يدعونهم ، يقولون ]هؤلاء شفعاؤنا عند الله[ ، فبعث الله الرسل تنهى أن يُدعى أحد من دون الله ، لا دعاء عبادة ، ولا دعاء استغاثة .[41] انتهى .
وقال أيضا : لم يقل أحد من علماء المسلمين أنه يستغاث بشيء من المخلوقات في كل ما يستغاث فيه بالله تعالى ، لا بنبـي ولا بملَـك ولا بصالح ولا غير ذلك ، بل هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز إطلاقه .[42]
وقال أيضاً : ومن قال إن ميتا من الموتى ، نفيسة أو غيرها ؛ تُجير الخائف وتُخلص المحبوس وهى من باب الحوائج ؛ فهو ضال مشرك فإن الله سبحانه هو الذى يجير ولا يجار عليه ، وباب الحوائج إلى الله هو دعاؤه بصدق وإخلاص كما قال تعالى }وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان{ ، والله أعلم .[43]
وقال أيضا : سؤال الميت والغائب - نبياً كان أو غيره - من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين ، لم يأمر الله به ولا رسوله ، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ، ولا استحسنه أحد من أئمة المسلمين ، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين المسلمين .[44]
وقال أيضا في كتابه  « اقتضاء الصراط المستقيم »[45]: ولما كان للمشركين شجرة يعلقون عليها أسلحتهم ويسمونها ذات أنواط ؛ فقال بعض الناس : يا رسول الله ، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط !
فقال : الله أكبر ! قلتم كما قال قوم موسى ]اجعل لنا إلـٰها كما لهم آلهة[ ، إنها السنن ، لتركبن سنن من كان قبلكم .
فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم مجرد مشابهتهم الكفار في اتخاذ شجرة يعكفون عليها ، معلقين عليها سلاحهم ، فكيف بما هو أعظم من ذلك ، من مشابهتهم المشركين ، أو هو الشرك بعينه ؟
وقال أيضا رحمه الله :
والمرتد من أشرك بالله تعالى ، أو كان مبغضا للرسول صلى الله عليه وسلم ولما جاء به ، أو ترك إنكار منكر بقلبه ، أو توهم أن أحدا من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم قاتل مع الكفار أو أجاز ذلك ، أو أنكر مجمعا عليه إجماعا قطعيا ، أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم ، ومن شك في صفة من صفات الله تعالى ومثله لا يجهلها فمرتد ، وإن كان مثله يجهلها فليس بمرتد ، ولهذا لم يُكفر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الشاك في قدرة الله وإعادته لأنه لا يكون إلا بعد الرسالة .[46]
وقال أيضا : فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط ، يدعوهم ، ويتوكل عليهم ، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار ، مثل أن يسألهم غفران الذنب ، وهداية القلوب ، وتفريج الكروب ، وسد الفاقات ؛ فهو كافر بإجماع المسلمين .[47]
ونقله عنه الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب[48] من علماء الحنابلة في كتابه «تيسير العزيز الحميد» ثم قال :
نقله عنه غير واحد مقررين له ، منهم ابن مفلح في « الفروع »[49] ، وصاحب «الإنصاف»[50] ، وصاحب «الغاية»[51] ، وصاحب «الإقناع »[52] ، وشارحه[53] ، وغيرهم ، ونقله صاحب « القواطع »[54] في كتابه عن صاحب «الفروع» .
قلت[55]: وهو إجماع صحيح معلوم بالضرورة من الدين ، وقد نص العلماء من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم في باب حكم المرتد على أن من أشرك بالله فهو كافر ، أي عبد مع الله غيره بنوع من أنواع العبادات ، وقد ثبت بالكتاب والسنة والاجماع أن دعاء الله عبادة له ، فيكون صرفه لغير الله شركا .
وقال الإمام ابن النحاس الشافعي[56] رحمه الله : (ومنها[57] ؛ إيقادهم السرج عند الأحجار والأشجار والعيون والآبار ، ويقولون إنها تقبل النذر ، وهذه كلها بدع شنيعة ومنكرات قبيحة تجب إزالتها ومحو أثرها ، فإن أكثر الجهال يعتقدون أنها تنفع وتضر ، وتجلب وتدفع ، وتشفي المريض وترد الغائب إذا نُـذِر لها ، وهذا شرك ومحادة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم).[58]
قلت : فصرح رحمه الله أن الاعتقاد في هذه الأمور أنها تضر وتنفع وتجلب وتدفع وتشفي المريض وترد الغائب إذا نَـذر لها ؛ أن ذلك شرك ، وإذا ثبت أنه شرك فلا فرق في ذلك بين اعتقاده في الملائكة والنبيين ، ولا بين اعتقاده في الأصنام والأوثان ، إذ لا يجوز الإشراك بين الله تعالى وبين مخلوق فيما يختص بالخالق سبحانه ، كما قال تعالى ]ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون[.
وهذا بعينه هو الذي يعتقده من دعا الأنبياء والصالحين ، ولهذا يسألونهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات وشفاء ذوي الأمراض والعاهات ، فثبت أن ذلك شرك} . انتهى كلامه رحمه الله .[59]
وقال ابن القيم رحمه الله في « مدارج السالكين » في معرض كلام له عن أنواع الشرك :
ومن أنواعه ؛ طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم والتوجه إليهم ، وهذا أصل شرك العالم ، فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ، فضلاً عمن استغاث به وسأله قضاء حاجته ، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها ، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع له عنده كما تقدم ، فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلا بإذنه ، والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سببا لإذنه ، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد ، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن ، وهو بمنزل من استعان في حاجة بما يمنع حصولها ، وهذه حالة كل مشرك .
والميت محتاج إلى من يدعو له ويترحم عليه ويستغفر له ، كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم ، ونسأل لهم العافية والمغفرة ، فعكَس المشركون هذا ، وزاروهم زيارة العبادة واستقضاء الحوائج والاستغاثة بهم ، وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد ، وسموا قصدها حجا ، واتخذوا عنده الوقفة وحلق الرأس ، فجمعوا بين الشرك بالمعبود الحق وتغيير دينه ، ومعاداة أهل التوحيد ، ونِسبة أهله إلى التنقص للأموات ، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك ، وأولياءه الموحدين له الذين لم يشركوا به شيئاً ، بذمهم وعيبهم ومعاداتهم ، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص ، إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا ، وأنهم أَمروهم به ، وأنهم يوالونهم عليه ، وهؤلاء هم أعداء الرسل والتوحيد في كل زمان ومكان ، وما أكثر المستجيبين لهم ، ولله خليله إبراهيم عليه السلام حيث يقول )واجنبني وبني أن نعبد الأصنام * رب إنهن أضللن كثيرا من الناس( .
وما نجا من شَركِ هذا الشرك الأكبر إلا من جرَّد توحيد الله ، وعادى المشركين في الله ، وتقرب بمقتهم إلى الله ، واتخذ الله وحده وليه وإلـٰهه ومعبوده ، فجرّد حبه لله ، وخوفه لله ، ورجاءه لله ، وذُله لله ، وتوكله على الله ، واستعانته بالله ، والتجاءه إلى الله ، واستغاثته بالله ، وأخلص قصده لله ، متبعا لأمره ، متطلبا لمرضاته ، إذا سأل سأل الله ، وإذا استعان استعان بالله ، وإذا عمِل عمِل لله ، فهو لله وبالله ومع الله .[60]
وله رحمه الله في باب تعظيم أصحاب القبور كلام طويل في كتابه النفيس « إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان » ، ذكر فيها الجذور التاريخية لتعظيم أصحاب القبور والغلو فيهم ، كما عرض لذكر المظاهر والعلاج ، رحمه الله رحمة واسعة .[61]
وقال الإمام أبو الوفاء علي بن عقيل الحنبلي رحمه الله : إن من يعظم القبور ويخاطب الموتى بقضاء الحوائج ، ويقول : يا مولاي ويا سيدي عبد القادر : (إفعل لي كذا) ؛ هو كافر بهذه الأوضاع ، ومن دعا ميتا وطلب قضاء الحوائج فهو كافر .
وقال أيضا في « الفنون » : لما صعُبت التكاليف على الجهال والطَغَام[62] ؛ عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها ، فسهُلت عليهم إذ لم يَدخلوا بها تحت أمر غيرهم ، وهم عندي كفار بهذه الأوضاع ، مثل تعظيم القبور ، وخطاب الموتى بالحوائج ، وكَـتب الرقاع فيها : (يا مولاي ، افعل لي كذا وكذا) ، أو إلقاء الخرق على الشجرة اقتداء بمن عبد اللات والعزى .
وقال ابن رجب الحنبلي رحمه الله :  إن قول العبد (لا إلـٰه إلا الله) يقتضي أنه لا إلـٰه له غير الله ، والإلـٰه هو الذي يطاع فلا يُعصى ، هيبة له وإجلالا ، ومحبة وخوفا ورجاء ، وتوكلا عليه وسؤالا منه ودعاء له ، ولا يصلح ذلك كله إلا لله عز وجل ، فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلـٰهية ؛ كان ذلك قدحا في إخلاصه في قول : (لا إلـٰه إلا الله) ، ونقصا في توحيده ، وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك ، وهذا كله من فروع الشرك .[63]
وقال الشيخ عبد الله أبا بطين[64] رحمه الله : ورأيت من جملة فتاوي للقاضي أبي يعلي منها : أنه سئل عمن يقول : (يا محمد ، يا علي) ، فقال : هذا لا يجوز لأنهما ميتان .[65]
وقد ذكر الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن أن المسلمين قد أجمعوا على تكفير من ارتكب الشرك الأكبر وكفر بآيات الله ورسله أو بشيء منها بعد قيام الحجة وبلوغِها المعتبر ، كمن عبد الصالحين ودعاهم مع الله ، وجعلهم أنداداً له فيما يستحقه على خلقه من العبادات والإلـٰهية ، وذكر أن هذا مجمع عليه بين أهل العلم والإيمان ، وأن كل طائفة من أهل المذاهب المقلَّدة يفردون هذه المسألة بباب عظيم يذكرون فيه حكمها وما يوجب الردة ويقتضيها ، وينصون على الشرك ، وأن ابن حجر قد أفرد هذه المسألة بكتاب سماه : « الإعلام بقواطع الإسلام » .[66]
وقال الشوكاني في كتابه « الدر النضيد » : إعلم أن الرزية كل الرزية ، والبلية كل البلية ؛ أمر غير ما ذكرنا - من التوسل المجرد والتشفع بمن له الشفاعة - ، وذلك ما صار يعتقده كثير من العوام وبعض الخواص في أهل القبور ومن المعروفين بالصلاح من الأحياء ، من أنهم يقدِرون على ما لا يقدر عليه إلا الله جل جلاله ، ويفعلون ما لا يفعله إلا الله عز وجل ، حتى نطقت ألسنتهم بما انطوت عليه قلوبهم ، فصاروا يدعونهم تارة مع الله ، وتارة استقلالا ، ويصرخون بأسمائهم ، ويعظمونهم تعظيم من يملك الضر والنفع ، ويخضعون لهم خضوعا زائداً على خضوعهم عند وقوفهم بـين يدي ربهم في الصلاة والدعاء ، وهذا إذا لم يكن شركا فلا ندري[67] ما هو الشرك ، وإذا لم يكن كفرا فليس في الدنيا كفر . انتهى .[68]

الوجه الخامس :
أن عبادة غير الله انحراف عن الفطرة التي خلق الله الناس عليها وهي عبادة الله وحده ، والدعاء نوع من أنواع العبادة ، بل هو لبها وخاصها وروحها ، فإن الله خلق الناس حنفاء كلهم ، والحنيف هو المائل ، أي المائل عن الشرك إلى التوحيد ، ثم أتــتهم شياطين الإنس والجن فاجتالتهم[69] عن التوحيد إلى الشرك ، كما قال النبـي صلى الله عليه وسلم : ألا إن ربـي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا ، كل مال نحلته[70] عبداً حلال ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم[71] ، وإنهم أتــتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرّمت عليهم ما أحللتُ لهم ، وأمرَتهم أن يشركوا بـي ما لم أنـزل به سلطانا .[72]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما من مولود إلا يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، كما تـنتج البهيمة بهيمة جمعاء[73] هل تحسون فيها من جدعاء[74] ؟ ، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه }فطرة الله التي فطر الناس عليها{ الآية .[75]
فشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم المولود الذي يولد على فطرة التوحيد ثم يحرفه أهله إلى الشرك بالبهيمة التي جدع أهلها أذنها – أي قطعوها – بعد أن ولدت لا جدَع فيها ، وإذا كان اليهود والنصارى والمجوس يدعون غير الله ، فالفطرة عكس ذلك ، وهي دعاء الله وحده ، وهو المطلوب .
ومما يدل على أن دعاء الله وحده هو مقتضى الفطرة ؛ أن الداعين لغير الله ينسون من يدعونهم وقت الشدائد تماما ، ويتجهون لدعاء الله وحده ، فالفطرة تدعوهم لدعاء الله وحده اضطرارا ، فدل هذا على بطلان ضده وهو دعاء غير الله ، قال تعالى عن المشركين الأولين }هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم قد أحيط بهم دعوا لله مخلصين له الدين لئن أنجيتـنا من هذه لنكونن من الشاكرين * فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق{ .
وقال أيضاً سبحانه في سورة الأنعام )قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين * بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون( .
 ولما أقبل أبرهة على مكة وهرب أهلها منها خوفاً منه ؛ قام عبد المطلب – جد النبي صلى الله عليه وسلم - ونفرٌ من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة ، فأخذ عبد المطلب بحلقة باب الكعبة وهو يقول :


يا رب لا أرجو لهم سواك *** يا رب فامنع منهم حماك
إن عدو البيت من عاداك *** فامنعهم أن يخربوا قُـراك[76]

تنبيه :
كان المشركون الأولون إذا أصابتهم شدة دعوا الله وحده ، وإذا كانوا في رخاء دعوا غير الله ، أما مشركو زماننا فإنهم أسوء حالا من المشركين الأولين ، فإنهم يدعون غير الله في الرخاء والشدة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وقد ذكر الشيخ صديق حسن خان رحمـه الله ، وهو من علماء القرن الثالث عشر ، في كتابه « رحلة الصديق إلى البـيت العتيق » قصة تتعلق بهذا الموضوع حصلت له لما ذهب للحج عن طريق البحر وفيها :
ومن العجائب التي لا ينبغي إخفاؤها أن الملاحين إذا ترددوا في أمر المركب من جمود الريح ، أو هبوبها مخالفة[77] أو شيئا من الخوف على السفينة وأهلها ، كانوا يهتفون باسم الشيخ عيدروس وغيره من المخلوقين مستغيثين ومستعينين به ، ولم يكونوا يذكرون الله عز وجل أبدا ، أو يدعونه بأسمائه الحسنى ، وكنت إذا سمعتهم ينادون غير الله ويستعينون بالأولياء خفت على المركب خوفا عظيما من الهلاك … وصدق الله }وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون{ .[78]

الوجه السادس: ومن وجوه بطلان دعاء غير الله أن هذا الفعل هو  فِعْلَ المشركين الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم سواء بسواء ، فقد كان المشركون يدعون الأنبياء ويدعون الملائكة ويدعون الصالحين وغيرهم ، ويقولون : هؤلاء يقربوننا ويشفعون لنا عند الله ، قال الله تعالى عنهم }ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون{ .
وقال تعالى عنهم في سورة الزمر )والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم يوم القيامة إن الله لا يهدي من هو ظالم كفار( ، فانظر كيف حكم عليهم بالشرك في الآية الأولى ، وبالكفر في الآية الثانية .
بل إن دعاء غير الله تعالى هو فعل جميع أصناف المشركين قاطبة في الماضي والحاضر ، من لدن نوح إلى يومنا هذا ، مرورا بقوم إبراهيم الذين كانوا يدعون الأصنام ، والنصارى الذين يدعون عيسى وأمه ، وكذلك البوذيين والهنادكة وغيرهم من الوثنيين .
وقد وقع في هذا اللون من الانحراف فئام ممن ينتسبون لدين الإسلام ، وأشهرهم ثلاث طوائف ، الأولى هي الرافضة ، الذين غلو في تعظيم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبعض آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى آل بهم الأمر إلى دعائهم وطلب الحاجات منهم ، وهم الآن يحجون إلى قبر علي في كربلاء ، ويسألونه الحاجات من رزق وولد كما يسألون الله تعالى ، قبحهم الله .
والطائفة الثانية هم غلاة الصوفية ، الذين غلوا في تعظيم من وصفوهم بالأولياء والأقطاب ، ويدعونهم لكشف الكربات وإغاثة اللهفات .
والطائفة الثالثة هم القبورية ، الذين يأتون إلى قبور بعض الصالحين ، وربما إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، ويدعونهم كما يدعون الله ، ويأتون أيضا إلى بعض القبور المنسوبة لبعض آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا شرك في العبادة ، وخروج من دين الإسلام ، عياذا بالله .

الوجه السابع: أن دعاء غير الله من الأنبـياء والصالحين لو كان صواباً لأمر به الله ولفعله النبـي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم ، لأنهم أحرص الناس على الخير وأعلمهم بالحق ، وقد رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وأعدّ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، وفيهم الخلفاء الأربعة ، وفيهم أهل بيته ، وفيهم المشهود لهم بالجنة ، وفيهم الذين غفر الله لهم ما تقدم من ذنبهم وما تأخر ، ومع هذا فلم يحصل منهم بتاتا أن دعوه وطلبوا الحاجات منه ، بل لم يرد عن الصحابة أو أحد من القرون الثلاثة المفضلة أثر صحيح حسن أو ضعيف أو منقطع أنهم كانوا إذا كانت لهم حاجة قصدوا القبور .
قال ابن تيمية رحمـه الله : والمؤمن يرجو ربه ويخافه ويدعوه مخلصاً له الدين ، وحق شيخه عليه أن يدعو له ويترحم عليه ، فإن أعظم الخلق قدراً هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه أعلم الناس بأمره وقدره وأطوع الناس له ، ولم يكن يأمر أحداً منهم عند الفزع والخوف أن يقول : يا سيدي يا رسول الله ، ولم يكونوا يفعلون ذلك لا في حياته ولا بعد مماته ، بل كان يأمرهم بذكر الله ودعائه والصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى ]الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل . فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم[ .[79]
وقال أيضا : سؤال الميت والغائب - نبياً كان أو غيره - من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين ، لم يأمر الله به ولا رسوله ، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ، ولا استحسنه أحد من أئمة المسلمين ، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين المسلمين ، فإن أحداً منهم ما كان يقول إذا نـزلت به تـِرة[80] أو عرضت له حاجة لميت : يا سيدي فلان أنا في حسبك ، أو اقض حاجتي ، كما يقول بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين ، ولا أحداً من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته ، ولا بغيره من الأنبياء لا عند قبورهم ولا إذا بعدوا عنها ، وقد كانوا يقفون تلك المواقف العظام في مقابلة المشركين في القتال ، ويشتد البأس بهم ويظنون الظنون ، ومع هذا لم يستغث أحد منهم بني ولا غيره من المخلوقين ، بل ولا أقسموا بمخلوق على الله أصلاً ، ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء ، ولا الصلاة عندها . [81]
وقال ابن القيم رحمه الله :
فهذه سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في أهل القبور بضعا وعشرين سنة حتى توفاه الله تعالى ، وهذه سنة خلفائه الراشدين ، وهذه طريقة جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، هل يمكن بشر على وجه الأرض أن يأتي عن أحد منهم بنقل صحيح أو حسن أو ضعيف أو منقطع أنهم كانوا إذا كان لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها وتمسحوا بها ، فضلا أن يصلوا عندها ، أو يسألوا الله بأصحابها ، أو يسألوهم حوائجهم ؟
فليوقفونا على أثر واحد ، أو حرف واحد في ذلك .[82]

الوجه الثامن : أن الذي يتوجه إلى غير الله بالعبادة والدعاء قد ساوى هذا المعبود بالله عز وجل في الحب والتعظيم ، وشبهه به ، لكونه توجه له كما توجه لله ، وهذه المساواة والتشبيه هي حقيقة الشرك ومعناه ، وقلبه وقالبه ، قال تعالى مبـينا حقيقة الكفار }ثم الذين كفروا بربهم يعدِلون{ ، أي يجعلون له معادلاً ومساوياً .
ومساواة الله بخلقه باطلة ، لأن الله ليس له كفؤ ولا ند ، ولا مثيل ولا نظير ، قال تعالى }ولم يكن له كفوا أحد{ ، وقال }فلا تجعلوا لله أندادا{ أي أمثالا ونظراء .
ولما كانت مساواة الله بخلقه هي الكفر بعينه ؛ لام الكفار أنفسهم على ذلك وهم في النار ]تالله إن كنا لفي ضلال مبـين * إذ نسويكم برب العالمين[ .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
وأما الشرك فهو نوعان : أكبر وأصغر .
فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه ، وهو أن يتخذ من دون الله نداً ، يحبه كما يحب الله ، وهو الشرك الذي يتضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين ، ولهذا قالوا لآلهتهم في النار ]تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين[ ، مع إقرارهم بأن الله وحده خالق كل شيء ، وربه ومليكه ، وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق ولا تحيي ولا تميت ، وإنما كانت هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة كما هو حال أكثر مشركي العالم ، بل كلهم يحبون معبوداتهم ويعظمونها ويوالونها من دون الله ، وكثير منهم – بل أكثرهم – يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله ، ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذُكر الله وحده ، ويغضبون لمنتقص معبوديهم وآلهتهم من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحدهم رب العالمين ، وإذا انتهكت حرمة من حرمات آلهتهم ومعبوداتهم غضبوا غضب الليث إذا حرَد[83] ، وإذا انتهكت حرمات الله لم يغضبوا لها ، بل إذا قام المنتهِك لها بإطعامهم شيئاً رضوا عنه ولم تتنكر له قلوبهم ، وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة .
وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلـٰهه ومعبوده من دون الله على لسانه ديدنا له إن قام وإن قعد ، وإن عثر وإن مرض ، وان استوحش ، فذِكر إلـٰهه ومعبوده من دون الله هو الغالب على قلبه ولسانه ، وهو لا ينكر ذلك ، ويزعم أنه باب حاجته إلى الله ، وشفيعه عنده ، ووسيلته إليه ، وهكذا كان عُباد الأصنام سواء .
وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم ، وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم ، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر ، وغيرهم اتخذوها من البشر ، قال الله تعالى حاكياً عن أسلاف هؤلاء المشركين ]والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون[ .
ثم شهد عليهم بالكفر والكذب ، وأخبر أنه لا يهديهم فقال ] إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار[ .
فهذه حال من اتخذ من دون الله ولياً يزعم أنه يقربه إلى الله ، وما أعز[84] من يخلُص من هذا ، بل ما أعزُ من لا يعادي من أنكره .[85]
وقال الشيخ الشريف محمد بن ناصر الحازمي رحمه الله :
وقد علم كلُّ عالِم أن عبادة الكفار للأصنام لم يكن إلا بتعظيمها واعتقاد أنها تضر وتنفع ، والاستغاثة بها عند الحاجة ، والتقرب إليها في بعض الحالات بجزء من أموالهم ، وهذا كله قد وقع من المعتقدين في القبور ، إنهم قد عظموها إلى حد لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى ، بل ربما يترك العاصي منه فعل المعصية إذا كان في مشهدِ من يعتقده أو قريباً منه مخافة تعجيل العقوبة من ذلك الميت ، وربما لا يتركها إذا كان في حرم الله تعالى ، أو في مسجد من المساجد أو قريباً من ذلك .[86]
قال الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله :
فمن سوَّى بين الحي والميت بقوله : يُطلب من الميت ما يطلب من الحي ، فقد سوَّى بين ما فرَّق الله والناس بينهما ، حتى المجانين يفرقون بين الحي والميت ، فلو قصد مجنون بيت إنسان ليطعمه فوجده ميتا وأهله عنده ، لعدل إلى الطلب من أهله الأحياء الحاضرين عنده ولم يلتفت إلى الميت .[87]
وقال أيضا : ويقال لهذا المُساوي بين الأحياء والأموات : من المعلوم أن أهل الدنيا يستقضون حوائجهم بعضهم من بعض ؛ برهم وفاجرهم ، مسلمهم وكافرهم ، وقد استعار النبي صلى الله عليه وسلم أدراعاً من صفوان بن أمية وهو مشرك ، واستعان في بعض غزواته بأناس من المشركين ، وما زال المسلمون يستقضون حوائجهم من المسلم والذمي والبر والفاجر ، فيلزم المساوي بين الأحياء والأموات أن يساوي بين أموات المذكورين كما كانوا في الدنيا كذلك .[88]
وقال أيضا : ويقال أيضاً لهذا المـُساوي بين الحي والميت : لو أَعطى إنسان آخر مالاً وقال : أودِعه عند ثقة ، فذهب به الوكيل وأودعه عند قبر رجل صالح كالشيخ عبد القادر وقال : هذا وديعة عندك لفلان ، واستحفَظه إياه فضاع ؛ لعده الناس مجنوناً جنوناً لا يرفع التكليف ، وألزموه بالضمان ، ويلزم هذا الذي ساوى بين الحي والميت أن يقول : هو مصيب فيما فعله ولا ضمان عليه ، وربما أنه لا يلتزم هذا خوفاً من الفضيحة عند الناس ، وحينئذ يقول له الوكيل في الإيداع : أنا ما فرطت على مذهبك في التسوية بين الحي والميت ، لأنك تقول : ما جاز طلبه من الحي جاز طلبه من الميت ، وأنا طلبت من الشيخ عبد القادر حفظ هذه الوديعة وهي حاجتي عنده ، وأنت تُجوز طلب الحاجات من الأموات فكيف تخطئني ؟![89]

فصل في بيان أن دعاء غير الله يستلزم تشبيه الخالق بالمخلوق

قال ابن القيم رحمه الله :
فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق في خصائص الإلـٰهية ، فإن من خصائص الإلـٰهية التفرد بملك الضر والنفع ، والعطاء والمنع ، وذلك يوجب تعليـق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل به وحده ، فمن علَّق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق ، وجعل ما لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، فضلاً عن غيره ، شبيهاً لمن له الأمر كله له ، فأزِمَّـة الأمور كلها بيديه ، ومرجعها إليه ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، لا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع ، بل إذا فَتح لعبده باب رحمته لم يمسكها أحد ، وإن أمسكها عنه لم يرسلها إليه أحد ، فمِن أقبح التشبيه تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات .
ومن خصائص الإلـٰهية الكمال المطلق من جميع الوجوه ، الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه ، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده ، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوبة والتوكل والاستعانة ، وغاية الذل مع غاية الحب ، كل ذلك يجب عقلاً وشرعاً وفطرةً أن يكون له وحده ، ويمتنع عقلاً وشرعاً وفطرةً أن يكون لغيره ، فمن جعل شيئاً من ذلك لغيره فقد شبّه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا مثيل له ولا ند له ، وذلك أقبح التشبيه وأبطله ، ولشدة قبحه وتضمُّنه غاية الظلم ؛ أخبر سبحانه عباده أنه لا يغفره مع أنه كتب على نفسه الرحمة .
ومن خصائص الإلـٰهية ؛ العبودية التي قامت على ساقين لا قِوام لها بدونهما ؛ غاية الحب مع غاية الذل ، هذا تمام العبودية ، وتفاوُت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين ، فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغيره فقد شبهه به في خالص حقه ، وهذا من المحال أن تجيء به شريعة من الشرائع ، وقبحُه مستقِـرٌ في كل فطرة وعقل ، ولكن غَيّرت الشياطين فِطَر أكثر الخلق وعقولهم ، وأفسدتها عليهم واجتالتهم عنها ، ومضى على الفطرة الأولى من سَبقت له من الله الحسنى ، فأرسل إليهم رسله ، وأنـزل عليهم كتبه بما يوافق فطرهم وعقولهم ، فازدادوا بذلك نوراً على نور ، )يهدي الله لنوره من يشاء( .
إذا عُـرف هذا ؛ فمن خصائص الإلـٰهية السجود ، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به .
ومنها التوكل ، فمن توكل على غيره فقد شبهه به .
ومنها التوبة ، فمن تاب لغيره فقد شبهه به .
ومنها الحلِف باسمه تعظيماً وإجلالاً له ، فمن حلف بغيره فقد شبهه به ، هذا في جانب التشبيه .[90]

الوجه التاسع : أن الله عز وجل لا يقبل عملاً دخله الرياء ، لأنه سبحانه وتعالى غني عن أن يكون له شريك ، فيكون الشرك في الدعاء مردود أيضا ، لأن بابهما واحد ، وهو التقرب للمخلوقين ، ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :
قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ .1
وقد بَيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الرياء شرك أصغر ، يحبط العمل الذي خالطه ، فعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ :
إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ .
قَالُوا : وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟
قَالَ : الرِّيَاءُ ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمُ :
اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا ، فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً .[91]
فإذا كان الرياء شركاً يحبط العمل ؛ فكيف بالدعاء الخالص لغير الله ؟
لا شك أنه أشد خطراً وضرراً  .
وإذا كان المرائي يقال له يوم القيامة : (اطلب ثواب عملك ممن عملت لهم) ، فالذي يدعو غير الله يقال له ذلك يوم القيامة ، بل يتبرؤون منه .
نسأل الله العافية من الشرك ، دقيقه وجليله .

الوجه العاشر : أن الله قد صرح في كتابه بأنه لا يستجيب الدعاء إلا الله وحده ، فوجب الإيمان بذلك ، وترك دعاء من لا يستجيب الدعاء ، وإلا كان الراد لهذه الآيات كافرا بها ، قال تعالى ]أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء[ ، وقال )قل أرءيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين * بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون( ، وقوله تعالى )له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبسط فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال( .
فمن قال إن أهل القبور يجيبون دعاء من دعاهم فهو على خطر عظيم ، وهو الكفر بآيات الله ، لأنه لم يصدق بخبر القرآن الناص على أنه لا يجيب الدعاء إلا الله وحده .

الوجه الحادي عشر : ومن أعظم وجوه بطلان دعاء المخلوقين هو تصريح الله بأن دعاء غيره باطل ، وفي هذا كفاية وشفاء لمن أراد الحق ، وذلك في قولـه تعالى في سورة الحج ]ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل[[92]، وقوله تعالى في سورة لقمان ]ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل[[93].
أما دعاء الله فقد وصفه الله بأنه حق كما في قوله تعالى )له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال(.

الوجه الثاني عشر : أن الله قد حكم على من دعا غيره أنه لا أضل منه فقال }ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون{ .
قال البيضاوي رحمه الله : هذا إَنكار أن يكون أحدٌ أضل من المشركين ، حيث تركوا عبادة السميع البصير المجيب القادر الخبير إلى عبادة من لا يستجيب لهم ، فضلاً أن يعلم سرائرهم ، ويراعي مصالحهم .
)وهم عن دعائهم غافلون( : لأنهم إما جمادات ، وإما عِبادٌ مسخرون مشتغلون بأحوالهم .[94]
 

الوجه الثالث عشر :
أن ترك دعاء الله من أسباب غضب الله ، هذا إذا كان الداعي لا يدعو غير الله إذا دعا ، فكيف بمن يدعو غير الله إذا دعا؟
فعن أبـي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من لم يسأل الله يغضب عليه .[95]

الوجه الرابع عشر : أن الله توعد من دعا غيره بالنار ، فعن عبد الله بن مسعود قال : قال النبـي صلى الله عليه وسلم كلمة وقلت أخرى ، قال النبـي صلى الله عليه وسلم : من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار ، وقلت أنا : من مات وهو لا يدعو لله نداً دخل الجنة .[96]
وعن أبـي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تخرج عنق من النار يوم القيامة ، لها عينان تبصران ، وأذنان تسمعان ، ولسان ينطق ، يقول : إني وُكلت بثلاثة : بكل جبار عنيد ، وبكل من دعا مع الله إلـٰها آخر ، وبالمصورين .[97]
قال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله :
لا نعلم نوعاً من أنواع الكفر والردة ورد فيه من النصوص مثل ما ورد في دعاء غير الله ، من النهي والتحذير عن فعله ، وكُفر فاعله ، والوعيد عليه بالخلود في النار ، وقد أُفردت هذه المسألة بالتصنيف ، وحكى الإجماع عليها غير واحد من أهل العلم ، وذكروا أنها من ضروريات الإسلام ؟[98]

الوجه الخامس عشر : أن هؤلاء الذين يدعون الأنبـياء والصالحين يقرون بأن الله تعالى وحده هو الرب الخالق الذي بـيده ملكوت كل شئ ، وهذا يستلزم أن يوحِّدوه بالعبادة كما وحَّدوه بالربوبـية ، والدعاء من أعظم أفراد العبادة .
قال تعالى ]يا أيها الناسُ اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تــتقون * الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناءً وأنـزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون[ ، فكما أن الله لا شريك له في ربوبـيته فكذلك لا شريك له في أحقيته وحده بالعبادة ، لأن توحيد الربوبـية يقتضي توحيد الألوهية ويدل عليه .
قال ابن سعدي رحمـه الله : وكثيرا ما يقرن تعالى توحيد الإلـٰهية بتوحيد الربوبـية لأنه دال عليه ، وقد أقر به أيضا المشركون في العبادة .[99]

الوجه السادس عشر : ومن أعظم الأدلة على بطلان دعاء غير الله أن تلك المعبودات التي تدعى من دون الله عاجزة من جهة العلم ، وبيان ذلك أن الموتى لا يعلمون شيئا من حاجات الناس ولا أحوالهم ، وقد قرر الله ذلك في مواطن كثيرة من القرآن كقوله تعالى }وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور {.
قال ابن القيم رحمه الله :
العبد المخلوق لا يعلم مصلحتك حتى يُـعَرِّفه الله تعالى إياها ، ولا يَقدر على تحصيلها لك حتى يُقـَدِّره الله تعالى عليها ، ولا يريد ذلك حتى يخلق الله فيه إرادة ومشيئة ، فعاد الأمر كله لمن ابتدأ منه ، وهو الذي بيده الخير كله ، وإليه يرجع الأمر كله ، فتعلُّـق القلب بغيره رجاءً وخوفاً وتوكلاً وعبوديةً ضررٌ محض لا منفعة فيه ، وما يحصل بذلك من المنفعة فهو سبحانه وحده الذي قدّرها ويسّرها وأوصلها إليك .[100]
وقد أتى التصريح من النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يعلم شيئا مما سيحصل بعد مماته في حديث الحوض ، فكيف بمن دونه صلى الله عليه وسلم من الموتى ، قال صلى الله عليه وسلم : إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة }كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين{ ، ثم إن أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم ، ثم يجاء برجال فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : يا رب أصحابي ، فيقال : لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول كما قال العبد الصالح ]وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد[ .[101]
قال الشيخ أحمد بن يحيى النجمي رحمه الله :
ففي هذا الحديث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يعلم بعد موته شيئاً من أعمالهم ولا أحوالهم ، بل قد كان في حياته شهيداً عليهم بأعمالهم الظاهرة ، والتزامهم العلني بمتابعته أو عدمها ، فلما توفاه الله كان هو وحده الرقيب عليهم والعليم بأحوالهم وأعمالهم .
وبالتأمل يظهر الفرق بين الكلمتين ، أي : كلمة ( الرقيب ) وكلمة ( شهيد ) ، فالمعبّـر بها في حق النبي صلى الله عليه وسلم كلمة (شهيد) وهي مأخوذة من المشاهدة ، وهي الرؤية البصرية ، فقوله : )وكنت عليهم شهيداً ما دمتُ فيهم( أي : حال حياتي في حال مشاهدتي لهم ، علِمتُ من أحوالهم ما يجعلني أشهد عليهم بما رأيت وسمعت وعلِمت من أحوالهم وسلوكهم ، من إيمان ومتابعة ، أو كفر ومنابذة .
أمّا بعد وفاتي فقد فات ذلك بغيابي عنهم ، ولم يبق إلا علمك بهم ورقابتك عليهم ومشاهدتك لأحوالهم وضمائرهم ونياتهم ، ذلك لأنك على كل شيء شهيد وبكل شيء محيط ، فهم خلق من خلقك ، ينفذ فيهم أمرك وتحيط بهم قدرتك ورقابتك ، وتحصي أعمالهم بعلمك الذي لا يفوته شيء ، فكلمة ( رقيب ) تفيد السيطرة التامة والهيمنة الكاملة والعلم الشامل الذي يحصي دقائق الأمور فضلاً عن جلائلها ، وصغار الأعمال فضلاً عن كبارها .[102]
فإذا كان هذا هو حال النبي صلى الله عليه وسلم ، لا يعلم من أحوال الناس شيئا ؛ فكيف بغيره من الأموات ؟
أفيجوز أن يقال أنهم يعلمون أحوال الناس؟! حاشا وكلا .
ومما يدل أيضا على أن الأصل في الأموات عدم السماع والإدراك لما يدور خارج الحياة البرزخية ؛ قوله تعالى عن عزير عليه السلام - وكان نبـياً من أنبـياء بني إسرائيل - }أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيـي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام{ .
فهذا نبـي كريم ، لبث مائة عام ميتاً ، فلم يدر بما يدور حوله البتة ، ولا كم لبث في قبـره ، فكيف يصح أن يقال أن الأموات يسمعون نداء من ناداهم ؟
وقال الشيخ محمد سلطان المعصومي الحنفي رحمه الله في كتابه «المشاهد المعصومية عند قبر خير البرية» :
ومن عرف ما وقع له صلى الله عليه وسلم من أن جرو الكلب الميت كان تحت سريره وهو لا يدري ، فلما تأخر جبريل عليه السلام وبين أن سبب تأخره أن تحت سريره جثة كلب ميت ؛ علم بذلك فأخرجه[103] ، وكذا واقعة خلع نعله في الصلاة[104] ، وكذا واقعة فقد عائشة في السفر عن هودجها[105] ، فهو صلى الله عليه وسلم لم يعلم ما غاب عن بصره في حياته إلا إذا أعلمه الله تعالى بالوحي ، فكيف يعلم ما غاب عنه بعد موته وهو في عالم البرزخ ؟
أما يعلم هؤلاء الغلاة أنه حينما ترد طائفة من أمته عن حوضه الكوثر وتطرد فيقول صلى الله عليه وسلم : يا رب ، إن هؤلاء من أمتي ! فيقول الله تعالى : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك .
فقد صرح الله تعالى بأنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم ما يقع في عالم الدنيا .
فمن يزعم أنه صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب بعد موته ، أو يُعين من استعان به ، أو يغيث من استغاث به ؛ فقد خالف الكتاب وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان رضي الله عنهم ، فلا شك أن هذا وأمثاله صار محروما من هداية الله وتوفيقه ورحمته وجنته ، ولكن من كمال جهله ونهاية غلوه لا يشعر بذلك ، فقد أعماه التقليد ، فلعنة الله على من احدث هذه البدع الشركيات ، والخرافات والضلالات ، أعاذنا الله منها بفضله ومنِّه وإحسانه . انتهى باختصار .
وقال أيضا : فالميت أيّا كان قد انقطع عمله في هذه الحياة الدنيا ، وهو لا يعلم ما يقع ويجري في الدنيا من الأعمال والأقوال ولو عند قبره ، لأن روح الميت إما في عليين إن كان من السعداء ، كالأنبياء والمؤمنين المفلحين ، أو في سجين وأسفل السافلين إن كان من المشركين والكفرة والملحدين ، وقد تحولوا عن هذه الدار الدنيا ، ودخلوا في عالم البرزخ ، وحال وحُـكم عالم البرزخ غير حال عالم الدنيا البتة .
ولو فرضنا أنه يعلم بالواقع ، فإنه لا يقدر على الجواب والرد كما تفيده الآيات الصريحة ، فتنبه .
ولا شك أن الميت - أيّاً كان - محتاج إلى رحمة الله تعالى ، ودعاء الأحياء لهم بالرحمة والمغفرة ينفعهم ، وكذا صدقة الأحياء لهم ، فالنتيجة من زيارة القبر حصول العبرة والاعتبار ، وتذكر الموت والآخرة للزائر ، وحصول ثواب الدعاء والصدقة للميت ، وهذا سر الترغيب في زيارة القبور لا غير ، فمن فعل غير ذلك أو اعتقد غير ما قلنا فقد خالف الله ورسوله ، وعكس الأمر كما لا يخفى . انتهى كلامه بتصرف يسير .
وقال الشيخ حافظ الدين محمد بن محمد شهاب المعروف بابن البزاز الكردري الحنفي في « الفتاوى البزّازية» : من قال إن أرواح المشايخ حاضرة تعلم ؛ يكفر .[106]
والحاصل ، أن من تتبع الكتاب والسنة سيجد من الأدلة ما لا يحصى على أنه لا النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره من الأموات يعلمون شيئا ، بل إن كل ما آتى الله البشر من قدرات وحواس تعينهم على المعرفة والادراك كالأذن والعين فإنها تتلاشى وتضمحل ، ولا يبقى إلا عجب الذنب - وهو الفقرة الأخيرة في ظهر الإنسان - ، فهل يقال بعد هذا أن الأموات يعلمون أحوال الأحياء ؟ الجواب لا بالطبع ، ومن قال خلاف هذا فقد قال على الله بغير علم .

الوجه السابع عشر : ومن أدلة بطلان دعاء غير الله أن تلك المعبودات التي تدعى من دون الله عاجزة من جهة القدرة ، فإن المعبودات التي تعبد من دون الله ليست قادرة على نفع عابديها ، لأن تلك المعبودات إن كانت من الأحياء فإنها لا تقدر إلا على فعل ما كان في طاقة البشر ، وهذا يتحصل بدون دعاء ، وإن كانت من الأموات فإنها لا تقدر على شيء البتة ، قال تعالى على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم }قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله{ ، فإذا كان هذا حال النبي صلى الله عليه وسلم ، فمن دونه لا يملك شيئا من النفع والضر من باب أولى .
وقال تعالى }قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد أن هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران{ .
وقال تعالى }يدعوا من دون الله ما لا ينفعه ولا يضره ذلك هو الضلال البعيد * يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير{ .
وقال تعالى }قل أرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون{ .
وقال تعالى }والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون * وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون * إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين * ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تـنظرون{ ، أي اجتمعوا أنتم ومن تدعونهم من دون الله على إيقاع السوء بـي من غير إمهال ولا إنظار ، فإنكم لن تستطيعوا شيئا ، لأن ذلك ليس بأيديكم ، بل بـيد الله وحده لا شريك له ، القادر على كل شيء .
فتأمل ما في الآية الأخيرة من التحدي لمن تعلق بغير الله.
وقال ابن جرير رحمـه الله في تفسير قوله تعالى }والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء{ :
والأوثان والآلهة التي يعبدها هؤلاء المشركون بالله من قومك من دونه لا يقضون بشيء ، لأنها لا تعلم شيئا ، ولا تقدر على شيء ، يقول جل ثناؤه لهم : فاعبدوا الذي يقدر على كل شيء ، ولا يخفى عليه شيء من أعمالكم ، فيجزي محسنكم بالإحسان ، والمسيء بالإساءة ، لا ما لا يقدر على شيء ، ولا يعلم شيئا .[107]
وقال الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله في تفسير قوله تعالى }والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير * إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم{ :
والذم إنما توجه إلى من دعا مَن هذه صفته ، سواء كان بشراً أو ملَكاً أو صنماً ، وهو من لا ينفع من دعاه ، ولا يضر من لم يدعه .[108]
وقال البيضاوي في تفسير قوله تعالى }ءأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون{ :
أي لا تنفعني شفاعتهم ، )ولا ينقذون( بالنصر والمظاهرة ، }إني إذا لفي ضلال مبين{ ، فإن إيثار ما لا ينفع ولا يدفع ضرا بوجه ما على الخالق المقتدر على النفع والضر وإشراكه به ضلال بين لا يخفى على عاقل . انتهى .
وقال ابن القيم رحمه الله في معناها : إن العابد يريد من معبوده أن ينفعه وقت حاجته إليه ، وإنما إذا أرادني الرحمن الذي فطرني بضرٍّ لم يكن لهذه الآلهة من القدرة ما ينقذوني بها من ذلك الضر ، ولا من الجاه والمكانة عنده ما يشفع لي إليه لأتخلص من ذلك الضر ، فبأي وجه يستحق العبادة ؟ وإني إذاً لفي ضلال مبين إن عبدت من دون الله مما هذا شأنه .[109]
ومن الأدلة أيضا على عجز المخلوقين ؛ أن النبـي صلى الله عليه وسلم لم يستطع أن يدفع الضر عن نفسه في حياته ، فكيف بمن ليس بنبي من الأموات ؟!
ففي غزوة أحد جُرِح وجه النبي صلى الله عليه وسلم ، وكُسرت رَبَاعيته[110] ، فكانت فاطمة تغسل الدم وعلي يسكب عليها ، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة حصير فأحرقتها ، ثم ألصقتها بالجرح فاستمسك الدم.[111]
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد ، وشُج في رأسه ، فجعل يسلت الدم عنه ويقول: )كيف يفلح قوم شجوا بنبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله( ، فأنـزل الله )ليس لك من الأمر شيء( .[112]
وفي تلك الغزوة جُحِشت ركبته ، أي تقشر جلدها ، وكُسرت البـيضة - أي خوذة الرأس - على رأسه .[113]
فإذا حصل هذا البلاء للنبي صلى الله عليه وسلم ولم يستطع دفعه وهو حي ، فمن باب أولى لا يصح أن يُقال أنه يستطيع دفع الضر عن غيره وهو في قبره ، وكذلك الأمر بالنسبة لسائر الأموات .
بل هناك ما هو أعظم من ذلك ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم سُحر ، سحره لبيد بن الأعصم ، حتى أنه يُخيل إليه أنه يفعل الشيء وهو لم يفعله[114] ، ولم يستطع دفع البلاء عن نفسه .
وقد وردت أخبار كثيرة في ربط النبي صلى الله عليه وسلم الحجر على بطنه من الجوع ، فهل يصح بعد هذا أن يطلب الحاجات منه أو ممن هو دونه بعد الموت ؟
بل أعظم من ذلك بكثير ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من الشاة المسمومة فكانت سبب وفاته ، فأي ضر دفع عن نفسه قبل أن يأكل ، وأي ضر رفع عن نفسه بعد أن أكل ؟!
فعن جابر بن عبد الله أن يهودية من أهل خيبر سمَّـت شاة مصلية ثم أهدتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذراع فأكل منها ، وأكل رهط من أصحابه معه ، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ارفعوا أيديكم ، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهودية فدعاها فقال لها : أسممت هذه الشاة ؟
قالت اليهودية : من أخبرك ؟
قال أخبرتني هذه في يدي ، للذراع .
قالت : نعم .
قال : فما أردت إلى ذلك ؟
قالت : قلت إن كان نبيا فلن يضره ، وإن لم يكن استرحنا منه .
فعفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبها ، وتوفي بعض أصحابه الذين أكلوا من الشاة .[115]
وقد بـين لنا النبـي صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة - حقيقة فقر المخلوقين – بيانا عمليا ، ليزيل من قلوب الناس عقيدة التعلق بالمخلوقات ويخلصوا التعلق بالله عز وجل ، فقد قام صلى الله عليه وسلم على جبل الصفا حين أنـزل الله عليه ]وأنذر عشيرتك الأقربـين[ فقال : يا معشر قريش – أو كلمة نحوها – ، اشتروا أنفسكم ، لا أغني عنكم من الله شيئا .
يا عباس بن عبد المطلب ، لا أغني عنك من الله شيئا .
يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا أغني عنك من الله شيئا .
ويا فاطمة بنت محمد ، سليني من مالي ما شئت ، لا أغني عنك من الله شيئا .[116]
فإذا كان سيد المرسلين لا يغني شيئا عن سيدة نساء العالمين ، والتي هي أقرب الخلق إليه ، فكيف بمن هو أبعد منها ؟ بل كيف يظن ذلك بمن هو دون النبـي صلى الله عليه وسلم في المنـزلة ؟!
ولما حضرت عمه أبا طالب الوفاة ؛ جاء إليه النبـي صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبـي أمية وأبو جهل فقال صلى الله عليه وسلم لعمه : يا عم : قل لا إلـٰه إلا الله ، كلمة أحاج لك بها عند الله ، فقالا له : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فأعاد عليه النبـي صلى الله عليه وسلم فأعادا ، فكان آخر ما قال : هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول لا إلـٰه إلا الله .[117]
ففي هذين الحديثين رد قوي على من يعتقد أن النبـي صلى الله عليه وسلم يقدر على شيئ من المنافع الأخروية ، حيث أن النبـي صلى الله عليه وسلم - وهو أفضل الخلق على الإطلاق وأعظمهم عند الله منـزلة وأقربهم إليه وسيلة – لم يقدر على نفع أقرب الناس إليه من قرابة وعشيرة ، فكيف يظن ذلك بمن هو دون النبـي صلى الله عليه وسلم كالصالحين ونحوهم ؟
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمـه الله : من براهين التوحيد معرفة أوصاف المخلوقين ومن عُبد مع الله ، فإن جميع ما يُعبد من مَلَك وبشر ، ومن شجر وحجر وغيرها ، كلهم فقراء إلى الله ، عاجزون ، ليس بـيدهم من النفع مثقال ذرة ، ولا يخلقون شيئا وهم يخلقون ، ولا يملكون ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً ، والله تعالى هو الخالق لكل مخلوق ، وهو الرازق لكل مرزوق ، المدبر للأمور كلها ، الضار النافع ، المعطي المانع ، الذي بـيده ملكوت كل شيء ، وإليه يَرجع كل شيء ، وله يَقصِد ويَصمِد[118] ويخضع كل شيء ، فأي برهان أعظم من هذا البرهان الذي أعاده الله وأبداه في مواضع كثيرة من كتابه وعلى لسان رسوله ؟ فهو دليل عقلي فطري كما أنه دليل سمعي نقلي على وجوب توحيد الله وأنه الحق ، وعلى بطلان الشرك .
وإذا كان أشرف الخلق على الإطلاق لا يملك نفع أقرب الخلق إليه وأمسهم به رحمة فكيف بغيره ؟ فتبا لمن أشرك بالله وساوى به أحداً من المخلوقين ، لقد سلب عقله بعدما سلب دينه .[119]
ومما يستدل به أيضا في هذا المقام – مقام إثبات عجز المخلوقين - قوله تعالى }قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا * أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا{ .[120]
قال ابن جرير رحمه الله : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لمشركي قومك الذين يعبدون من دون الله من خَـلقِه : ادعو أيها القوم الذين زعمتم أنهم أرباب وآلهة من دونه عند ضر يـنـزل بكم ، فانظروا هل يقدرون على دفع ذلك عنكم ، أو تحويله عنكم إلى غيركم ، فتدعوهم آلهة ؟ فإنهم لا يقدرون على ذلك ، ولا يملكونه ، وإنما يملكه ويقدر عليه خالقكم وخالقهم . انتهى .
قال ابن سعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية :
يقول تعالى : قل للمشركين بالله الذين اتخذوا من دونه أندادا يعبدونهم كما يعبدون الله ، ويدعونهم كما يدعونه ، ملزِما لهم بتصحيح ما زعموه واعتقدوه إن كانوا صادقين : ادعوا الذين زعمتم آلهة من دون الله ، فانظروا هل ينفعونكم أو يدفعون عنكم الضر ، فإنهم لا يملكون كشف الضر عنكم من مرض أو فقر أو شدة ونحو ذلك ، فلا يدفعونه بالكلية ، ولا يملكون أيضا تحويله من شخص إلى آخر ، ومن شدة إلى ما دونها ، فإذا كانوا بهذه الصفة فلأي شيء تدعونهم من دون الله ؟ فإنهم لا كمال لهم ، ولا فعال نافعة ، فاتخاذهم نقص في الدين والعقل ، وسفه في الرأي .
ومن العجب أن السفه عند الاعتياد والممارسة وتلقيه عن الآباء الضالين بالقبول يراه صاحبه هو الرأي السديد والعقل المفيد ، ويرى إخلاص الدين لله الواحد الأحد الكامل المنعم بجميع النعم الظاهرة والباطنة هو السفه والأمر المتعجب منه ، كما قال المشركون )أجعل الآلهة إلـٰها واحدا إن هذا لشيء عجاب( .[121]
وقال الشوكاني في « فتح القدير » :
)فلا يملكون كشف الضر عنكم( ، أي لا يستطيعون ذلك ، والمعبود الحق هو الذي يقدر على كشف الضر ، وعلى تحويله من حال إلى حال ، ومن مكان إلى مكان ، فوجب القطع بأن هذه التي تزعمونها آلهة ليست بآلهة ، ثم إنه سبحانه أكد عدم اقتدارهم ببيان غاية افتقارهم إلى الله في جلب المنافع ودفع المضار فقال )أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة( .
وقد أوضح الله لنا أتم إيضاح وبين أحسن بيان هذه الحقيقة – أي حقيقة عجز المخلوقين - في قوله تعالى }قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تـنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له{ ، فكل ما يعبد من دون لا يستقل بملك شيء ، ولا يشاركه فيه ، ولا يعين الله في تدبـير شيء من شئون الكون ، ولا يشفع لأحد يوم القيامة إلا بإذن الله ، ومن كانت هذه حاله فإن دعاؤه وطلب الحاجات منه من أسفه السفه وأبطل الباطل .
قال ابن القيم رحمه الله :
المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضر ، ولا عطاء ولا منع ، ولا هدى ولا ضلال ، ولا نـصر ولا خذلان ، ولا خفض ولا رفع ، ولا عز ولا ذل ، بل الله وحده هو الذي يملك له ذلك كله ، قال تعالى ]الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا[[122] ، وقال تعالى ]وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم[[123] ، وقال تعالى ]إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده[[124] الآية ، وقال تعالى عن صاحب يــس ]ءأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون[[125] ، وقال تعالى ]يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إلـٰه إلا هو فأنى تؤفكون[126][ ، وقال تعالى ]أمّن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور . أمّن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجو في عتو ونفور[[127] ، فجمع سبحانه بين النصر والرزق ، فإن العبد مضطر إلى من يدفع عنه عدوه وينصره ، ويجلب له منافعه ويرزقه ، فلا بد له من ناصر ورازق ، والله وحده هو الذي ينصر ويرزق ، فهو الرزاق ذو القوة المتين ، ومن كمال فطنة العبد ومعرفته أن يعلم أنه إذا مسه الله بسوء لم يدفعه عنه غيره ، وإذا ناله بنعمة لم يرزقه إياها سواه .
ويُـذكر أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه : (أدرك لي لطيف الفطنة وخفِي اللطف ، فإني أحب ذلك .
قال : يا رب ، وما لطيف الفطنة ؟
قال : إن وقعت عليك ذبابة فاعلم أني أنا أوقعتها ، فسلني أرفعها .
قال : وما خفي اللطف ؟
قال : إذا أتتك حبة فاعلم أني ذكرتك بها) .
وقد قال تـعالى عن السحرة ]وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله[[128] ، فهـو سبحانه وحده الذي يكفي عبده وينصره ويرزقه ويكلَـؤه[129] .
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبـرنا معمر قال : سمعت وهباً يقول : قال الله تعالى في بعض كتبه : بعزتي ، إنه من اعتصم بي ، فإن كادته السماوات بمن فيهن ، والأرضون بمن فيهن ؛ فإني أجعل له من ذلك مخرجا ، ومن لم يعتصم بي فإني أقطع يديه من أسباب السماء ، وأخسف به من تحت قدميه الأرض ، فأجعله في الهواء ، ثم أكِـله إلى نفسه ، كفي لعبدي ملآى ، إذا كان عبدي في طاعتي أعطيه قبل أن يسألني ، وأستجيب له قبل أن يدعوني ، فأنا أعلم بحاجته التي تَـرفق به منه .
قال أحمد : وحدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا أبو سعيد المؤدِّب ، حدثنا من سمع عطاء الخراساني قال : لقيت وهب بن منبه وهو يطوف بالبيت فقلت له : حدثني حديثا أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجِـز .
قال : نعم ، أوحى الله تبارك وتعالى إلى داود عليه السلام : يا داود ، أما وعزتي وعظمتي ، لا يعتصم بي عبد من عبيدي دون خلقي ، أعرف ذلك من نيته ، فتكيده السماوات السبع ومن فيهن ، والأرضون السبع ومن فيهن ؛ إلا جعلت له من بينهن مخرجا ، أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني ، أعرف ذلك من نيته ؛ إلا قطعت أسباب السماء من يده ، وأسخت[130] الأرض من تحت قدميه ، ثم لا أبالي بأي واد هلك .[131]

 

فصل
ومن طريف ما يُمثل به في باب عجز المخلوقين ما ذكره الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله حيث قال:
لو أن ملِكاً أتاه مظلوم فسأله وسأل عبده أيضا - المملوك له العاجز - ليردَّا له مظلمته ، هل يُـجوِّزه العقل ؟
أو لو أن غنياً كريماً ينفق من أصناف المال ، وله مملوك لا يقدر على شيء ، فجاء محتاج فطلب المملوك العاجز وترك الغني ، هل يجوِّزه العقل ؟
وهل يرضى أحد أن يساوي مملوكه معه في حقه ؟
أو لو أن ملكاً قاهراً له عبيد لا يقدرون على شيء ، ثم يلوذ أحد العبيد بعبد مثله عاجز ، ويدع الملك القادر ، هل يجوزه العقل ؟
ولو أن شخصاً مر على مقبرة ومعه دابة فوقعت في حفرة ، فنادى أهل القبور : يا فلان ، يا فلان ، أعينوني على دابتي ، وعنده رجل حي قوي تركه ولم يدْعُه ، هل يجوزه العقل ؟ ونحو ذلك من الأمثلة المعروفة في حق العاجز المملوك مع القادر ، بل كل عاقل يضحك منه ويقبحه ويوبخه ، وإذا كان هذا يُستقبح من مخلوق يترك مخلوقاً أقدر ، فكيف بمن ترك الحي القيوم القادر الذي بيده ملكوت كل شيء ، ودعا في كشف الكربات وإغاثة اللهفات من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ؟[132]
وقال أيضا رحمه الله مناصحا أحد من قرروا دعاء غير الله :
فإن قلت : هذا إذا دعا الله أجاب دعاءه أعظم مما يجيب إذا دعوته أنا ؛ فهذا إن كان حياً حاضراً وسألته أن يدعو الله لك ، وأما الميت - نبياً كان أو غيره - فسَفهٌ وتيهٌ أن تدعوهم وقد ذهبت حواسهم وخرجوا من الدنيا ، وارتفعت أرواحهم إلى الجنان ، أو ما شاء الله ، وفارقت أبدانهم ، وتدَع الحي القيوم .[133]
وقال الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله :
ومن العجيب أنه لو جاء إنسان إلى ميت على وجه الأرض شهيداً أو غيره يطلب منه أن يدعو له فضلاً أن يطلب منه أن ينصره على عدوه أو يكسوه لقال الناس : هذا مجنون ، فإذا صار رميماً في بطن الأرض زين لهم الشيطان ودعاة الضلال من الإنس الإستغاثة به وطلب الحاجات منه .
والعامي السليم الفطرة يعلم بطلان هذا بفطرته ، كما حُكي لنا أن رجلاً من أهل مكة يُنسب إلى علم قال لرجل عامي من أهل نجد : أنتم ما للأولياء عندكم قدْر ، والله يقول في الشهداء إنهم أحياء عند ربهم يرزقون .
قال له العامي : هل قال يَرزقُون - يعني بفتح الياء - أو قال : يُرزَقون - يعني بالضم - ؟ فإن كان يعني بالفتح فأنا أطلب منهم ، فإن كان يعني بالضم فأنا أطلب من الذي يرزقهم .
فقال المكي : حِجاجكم كثيرة ، وسكت .[134]

الوجه الثامن عشر : ومن أدلة بطلان دعاء غير الله أن تلك المعبودات التي تدعى من دون الله عاجزة من جهة الملك ، وبيان ذلك أن المعبودات التي تُعبد من دون الله لا تستقل بملك شيء ولو كان حقيراً ، فكيف يصح طلب الأشياء منها ؟ قال تعالى }والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير{ ، والقطمير هو الغشاء الرقيق الذي يحيط بنواة التمر ، أما الله تعالى فيملك الكون ملكا مطلقا ، كما قال تعالى ]ولله ملك السماوات والأرض[ ، وقال تعالى ]تبارك الذي بيده الملك[ .
ومن الأدلة على نفي الملك عما سوى الله قوله تعالى في سورة سبأ )قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما له فيهما من شرك( ، أي لا يملك أحد مع الله شيء استقلالا ولا مشاركة ، بل كل شيء لله تعالى ، أما المخلوقين فملكهم قاصر ومؤقت ومحدود ، أي محدود على تملكوه فقط من بيت وسيارة ونحوه ، ومؤقت لكون ما يملكه الإنسان ينتقل بعد وفاته للورثة ، ثم لا ينسب له شيء بعد ذلك البتة ، وقاصر لأنه لا يجوز له أن يتصرف فيه إلا بحدود ما ورد في الشرع ، فلو أراد الإنسان أن يحرق بيته مثلا لكان هذا حراما عليه ، ولو أراد أن يضرب عبده بدون سبب لكان هذا حراما عليه ، أما الله فيتصرف في ملكه كما يشاء ، ولا يكون هذا نقصا في حقه ، من إحداث زلازل وفيضانات ، وإغناء فقير وإفقار غني ، ]لا يسأل عما يفعل وهم يسألون[ ، وكل هذا لحكمة يعلمها الله عز وجل .
فالله له الأولى والآخرة ، وله ميراث السماوات والأرض ، سبحانه وتعالى .
ومما يُستدل به على فقر المخلوقين ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغنِ أحدا ممن جاءه يطلبه مع شديد حاجتهم ، وهو النبي المؤيد من ربه ، الشفيق على أمته ، فطلب الأشياء ممن هم دون النبي صلى الله عليه وسلم في المنزلة باطل من باب أولى .
فقد أتاه بعض الصحابة في غزوة تبوك ليحملهم ، فلم يجد ما يحملهم عليه من الدواب ، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع ألا يجدوا ما ينفقون من مالٍ لشراء دابة تحملهم للغزو ، قال تعالى في حقهم ﴿ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون﴾ .[135]
وعن أبي موسى الأشعري قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في رهط من الأشعريين نستحمله[136] ، فقال : والله لا أحملكم ، وما عندي ما أحملكم عليه ، قال : فلبثنا ما شاء الله ، ثم أُتي بإبـل ، فأمر لنا بثلاث ذودٍ غرِّ الذَرى[137] ، فلما انطلقنا قلنا – أو قال بعضنا لبعض - : لا يبارك الله لنا ، أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نستحمله فحلف أن لا يحملنا ثم حملنا ، فأتوه فأخبروه فقال : ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم .[138]
وقال تعالى )إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق([139] ،  فنكَّر الرزق أولا ، ثم عرَّفه ثانيا ، فدلت الأولى على نفي أن يكون شيء من تلك المعبودات يملك شيئا من الرزق ولو حقيرا ، لأن النكرة في سياق النفي تفيد العموم ، وعرف الرزق في الثانية ، أي ابتغوا عند الله الرزق كله ، فالله هو الرازق وحده دون ما سواه .
وقال ابن القيم رحمه الله :
الله سبحانه غني كريم ، عزيز رحيم ، فهو محسن إلى عبده مع غناه عنه ، يريد به الخير ، ويكشف عنه الضر ، لا لجلب منفعة إليه من العبد ، ولا لدفع مضرة ، بل رحمة مـنه وإحسانا ، فهو سبحانه لم يخلق خلقه ليتكثر بهم من قلة ولا يتعزز بهم من ذلة ، ولا ليرزقوه ولا لينفعوه ولا ليدفعوا عنه ، كما قال تعالى )وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون . ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون . إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين([140] ، وقال تعالى )وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبـره تكبيرا([141] .
فهو سبحانه لا يوالى من يواليه من الذل كما يوالي المخلوق المخلوق ، وإنما يوالي أولياءه إحسانا ورحمة ومحبة لهم ، وأما العباد فإنهم كما قال الله تعالى )والله الغني وأنتم الفقراء([142] ، فهم لفقرهم وحاجتهم إنما يحسن بعضهم إلى بعض لحاجته إلى ذلك وانتفاعه به عاجلا أو آجلا ، ولولا تصور ذلك النفع لما أحسن إليه ، فهو في الحقيقة إنما أراد الإحسان إلى نفسه ، وجعل إحسانه إلى غيره وسيلة وطريقا إلى وصول نفع ذلك الإحسان إليه ، فإنه إما أن يحسن إليه لتوقع جزائه في العاجل ، فهو محتاج إلى ذلك الجزاء ومُعاوض بإحسانه ، أو لتوقع حمده وشكره ، فهو أيضا إنما أحسن إليه ليحصل منه ما هو محتاج إليه من الثناء والمدح ، فهو محسن إلى نفسه بإحسانه إلى الغير ، وإما أن يريد الجزاء من الله في الآخرة ، فهو أيضا محسن إلى نفسـه بذلك ، وإنما أخر جزاءه إلى يوم فقره وفاقته ، فهو غير ملوم في هذا القصد ، فإنه فقير محتاج ، وفقره وحاجته أمر لازم له من لوازم ذاته ، فكماله أن يحرص على ما ينفعه ولا يعجز عنه[143] ، وقال تعالى )إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم([144] ، وقال تعالى )وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون([145] .
وقال تعالى فيما رواه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم :
يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه .[146]
فالمخلوق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول ، بل إنما يقصد انتفاعه بك ، والرب تعالى إنما يريد نفعك لا لانتفاعه به ، وذلك منفعة محضة لك خالصة من المضرة ، بخلاف إرادة المخلوق نفعك ؛ فإنه قد يكون فيه مضرة عليك ولو بتحمل منته .
فتدبـر هذا ، فإن ملاحظته تمنعك أن ترجو المخلوق أو تعامله دون الله عز وجل ، أو تطلب منه نفعا أو دفعا أو تُعلق قلبك به ، فإنه إنما يريد انتفاعه بك لا محض نفعك ، وهذا حال الخلق كلهم بعضهم مع بعض ، وهو حال الولد مع والده ، والزوج مع زوجه ، والمملوك مع سيده ، والشريك مع شريكه ، فالسعيد من عاملهم لله تعالى لا لهم ، وأحسن إليهم لله تعالى ، وخاف الله تعالى فيهم ولم يخفهم مع الله تعالى ، ورجا الله تعالى بالإحسان إليهم ولم يرجهم مع الله ، وأحبهم لحب الله ولم يحبهم مع الله تعالى ، كما قال أولياء الله عز وجل )إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءا ولا شكورا([147].[148]
فإذا تقرر لدينا فقر المخلوقين ، فكيف يصح أن تطلب منهم الحاجات ، ويترك دعاء الغني الذي بيده ملكوت السماوات والأرض ؟
وقد وصف الله نفسه بأنه الغني الرزاق الوهاب المنعم الباسط الجواد المحسن الكريم المعطي النافع المقيت[149] الصمد[150] المنان المرجو المرغوب القادر المدبر القيوم – أي الذي يقوم به أمر السماوات والأرض – فمن توجه لمخلوق مثله ، لم يتصف بواحدة من هذه الصفات ، وطلب منه حاجاته ، وترك من له الأسماء الحسنى والصفات العلى ؛ فهذا قد باع نفسه وعبد هواه .

الوجه التاسع عشر : ومن أعظم الأدلة على بطلان دعاء غير الله أن تلك المعبودات التي تدعى من دون الله عاجزة من جهة الخلق ؛ فإن الله تعالى خالق كل شيء ، وهو الذي أوجد خلقه وأبرزهم من العدم ، أما المعبودات التي تعبد من دون الله فلا تستطيع أن تخلق شيئا ولو حقيراً ، فدعاؤهم والتعلق بهم باطل إذن ، قال تعالى }أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون * وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم * والله يعلم ما تسرون وما تعلنون * والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون * أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون{[151].
وضرب الله تعالى مثلا في آخر سورة الحج فقال ]يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب[ .
وقد احتج إلياس عليه السلام على قومه بهذا الدليل العقلي ، أي دليل عدم القدرة على الخلق ، على بطلان دعاء غير الله ، قال تعالى حكاية عنه ]أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين * الله ربكم ورب آبائـكم الأولين[ ، و « بعل » هو اسم صنم كانوا يعبدونه .
وهذا الدليل ظاهر بحمد الله .

الوجه العشرون : ومن أعظم الأدلة على بطلان دعاء غير الله أن تلك المعبودات التي تدعى من دون الله عاجزة من جهة التدبير ، فإن جميع ما يعبد من دون الله لا يدبر شيئا في السماوات أو الأرض ، بل المدبر والمؤثر هو الله وحده لا شريك له ، كما قال تعالى ]لله الأمر من قبل ومن بعد[ ، وقد نفى الله عن نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكون له من تدبير الأمر شيء ، فقال ]ليس لك من الأمر شيء[ ، فكيف بمن دون النبي صلى الله عليه وسلم ؟!
وقد ثبت في سبب نـزول قوله تعالى ]قل إن الأمر كله لله[ أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت على بعض الأحياء من العرب ودعا عليهم باللعنة ، فأرشده الله إلى أن الأمر كله بيد الله سبحانه ، فقد يستجيب الله دعاءه فيلعنهم ، وقد يتوب عليهم ، ففي صحيح البخاري عن سالم عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الآخرة من الفجر يقول : اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا ، فأنـزل الله ]ليس لك من الأمر شيء[ إلى قوله ]فإنهم ظالمون[ .[152]
وفي رواية لأحمد أنه كان يلعن الحارث بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، وصفوان بن أمية ، فتاب الله عليهم كلهم .[153]
ولفظ ابن جرير : وهداهم الله للإسلام .[154]
قال ابن كثير : اعترضَ بجملةٍ دلت على أن الحكم في الدنيا والآخرة له وحده لا شريك له ، فقال تعالى ]ليس لك من الأمر شيء[ ، أي : بل الأمر كله إلـي . انتهى .
ثم قال الله بعدها ]ولله ما في السماوات وما في الأرض[ ، قال ابن كثير رحمه الله :
أي : الجميع ملك له ، وأهلها عبيد بين يديه ، ]يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء[ ، أي : هو المتصرف فلا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون . انتهى .
وقال الشيخ صنع الله بن صنع الله الحنفي في رده على من يدَّعون أن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد مماتهم ، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات ، وبهم تكشف المهمات ، فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات ، قال رحمه الله :
فأما قولهم : إن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد مماتهم فيرده قوله تعالى ]أءله مع الله[ ، ]ألا له الخلق والأمر[ ، ]له ملك السماوات والأرض[ ، ونحوه من الآيات الدالات على أنه المنفرد بالخلق والتدبـير والتصرف والتقدير ، ولا شيء لغيره في شيء بوجه من الوجوه ، فالكل تحت ملكه وقهره تصرفا وملكا وإحياء وإماتة وخلقا .
وقد تمدح الرب بانفراده بملكه في آيات كثيرة من كتابه ، كقوله تعالى ]والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير[ .
وأما قول من قال بأن للأولياء التصرف بعد الممات فهو أشنع وأبدع من القول بالتصرف في الحياة ، قال جل ذكره ]إنك ميت وإنهم ميتون[ وقوله ]الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون[ وقال في الحديث : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث . . . الحديث " .
وجميع ذلك وما هو نحوه دال على انقطاع الحس والحركة من الميت ، وأن أرواحهم ممسكة ، وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة ونقصان ، فدل على أنه ليس للميت تصرف في ذاته فضلا عن غيره بحركة ، فإذا عجز عن حركة نفسه فكيف يتصرف في غيره ؟ فإنه سبحانه يخبر أن الأرواح عنده ، وهؤلاء الملحدون يقولون إن الأرواح مطلقة متصرفة ! ]قل أءنتم أعلم أم الله[ .
وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات من الكرامات فهو أعظم من المغالطة ، لأن الكرامات شيء من الله تعالى يكرم به أولياءه وأهل طاعته ، لا قصد لهم فيه ولا تحدي ولا قدرة ولا علم ، كما في قصة مريم ابنة عمران وأسيد بن حضير وأبـي مسلم الخولاني .
وأما قولهم (فيستغاث بهم في الشدائد) ؛ فهذا أقبح مما قبله وأبدع ، لمصادرة قوله ]أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أءله مع الله[ ، ]قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر[ ، فإنه جل ذكره قرر أنه الكاشف للضر لا غيره ، وأنه المنفرد بإجابة المضطر ، وأنه المستغاث به لذلك كله ، وأنه القادر على دفع الضر ، القادر على إيصال الخير ، فهو المتفرد بذلك ، فإذا تعين هو جل ذكره خرج غيره من ملك ونبـي وولي .
والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية في قتال أو إدراك عدو أو سبع ونحوه ، كقولهم : يا آل زيد ، يا للمسلمين ، بحسب الأفعال الظاهرة بالفعل .
وأما الاستغاثة بالقوة والتأثير ، أو في الأمور المعنوية من الشدائد كالمرض وخوف الغرق والضيق والفقر وطلب الرزق ونحوه ؛ فمن خصائص الله لا يطلب فيها غيره .
وأما كونهم معتقدين التأثير منهم في قضاء حاجاتهم كما تفعله جاهلية العرب والصوفية الجهال وينادونهم ويستنجدون بهم فهذا من المنكرات ، فمن اعتقد أن لغير الله من نبـي وولي أو روح أو غير ذلك في كشف كربة أو قضاء حاجة تأثيرا ؛ فقد وقع في وادي جهل خطر ، فهو على شفا جرف من السعير .
وأما كونهم مستدلين على أن ذلك منهم كرامات ؛ فحاشا لله أن تكون أولياء الله تعالى بهذه المثابة ، فهذا ظن أهل الأوثان كما أخبر الرحمن ]ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله[ ، ]ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى[ ، ]أءتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر[ ، فإن ذكر ما ليس من شأنه النفع ولا دفع الضر من نبـي أو ولي وغيره على وجه الإمداد منهم ؛ شرك مع الله تعالى ، إذ لا قادر على الدفع غيره ، ولا خير إلا خيره .[155] انتهى .

الوجه الحادي والعشرين : ومن وجوه بطلان دعاء المخلوقين أنها عاجزة من جهة الرزق ، وقد صرح الله في كتابه بأن جميع النعم والأرزاق منه وحده لا شريك له ، وهو المتفرد بإنعامها على عباده ، فلا يصح إذن أن تُطلب من غيره ، قال تعالى ]وما بكم من نعمة فمن الله[ وقال ]وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنه[ وقال ]وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها[ ، فالله سبحانه هو الخالق وهو المالك وهو المعطي حقيقة ، وهو الذي ساق الأرزاق إلى من شاء ومنعها عمن شاء ، فالواجب طلبها منه وحده وعدم طلبها من غيره ، ولهذا قال ]يسأله من السماوات والأرض[ .

خلاصة

وبناء على ما تقدم من وجوه عجز المخلوقين الخمسة ، العجز في العلم والقدرة والتدبير والخلق والملك والرزق ، فإن توجه الداعي لغير الله مستلزم لسوء الظن بالله العظيم ، قال ابن القيم رحمه الله :
الشرك مبني على سوء الظن بالله تعالى ، ولهذا قال إبـراهيم - إمام الحنفاء – عليه السلام لخصمائه من المشركين ]أئفكا آلهة دون الله تريدون * فما ظنكم بـرب العالمين[[156] ، وإن كان المعنى : (ما ظنكم به أن يعاملكم ويجازيكم به وقد عبدتم معه غيره وجعلتم له ندا ؟) ، فأنت تجد تحت هذا التهديد : (ما ظننتم بـربكم من السوء حتى عبدتم معه غيره ؟) ، فإن المشرك إما أن يظن أن الله سبحانه يحتاج إلى من يدبـر أمر العالم معه من وزيرٍ أو ظهيرٍ أو عونٍ ، وهذا من أعظم التنقص لمن هو غني عن كل ما سواه بذاته وكل ما سواه فقير إليه بذاته .
وإما أن يظن أنه سبحانه إنما تتم قدرته بقدرة الشريك .
وإما أن يظن بأنه لا يَعلم حتى يُعلِمه الواسطة .
أو لا يرحم حتى تجعله الواسطة يرحم .
أو لا يكفي عبده وحده .
أو لا يفعل ما يريد العبد حتى يشفع عنده الواسطة كما يشفع المخلوق عند المخلوق ، فيحتاج أن يقبل شفاعته لحاجته إلى الشافع وانتفاعه به وتكثُّره به من القلة وتعزُّزه به من الذلة .
أو لا يجيب دعاء عباده حتى يسألوا الواسطة أن تَرفع تلك الحاجات إليه ، كما هو حال ملوك الدنيا ، وهذا أصل شرك الخلق .
أو يظن أنه لا يسمع دعاءهم لبعده عنهم حتى يَرفع الوسائط ذلك .
أو يظـن أن للمخلوق عليه حقا ، فهو يُقسم عليه بحق ذلك المخلوق عليه ، ويتوسل إليه بذلك المخـلوق كما يَتوسل الناس إلى الأكابـر والملوك بمن يَعِـز عليهم ولا يمكنهم مخالفته .
وكل هذا تنقص للربوبية وهضم لحقها ، ولو لم يكن فيه إلا نقص محبة الله تعالى وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه من قلب المشرك بسبب قسمة ذلك بينه سبحانه وبين من أشرك به ، فينقُص ويضعُف أو يضمحل ذلك التعظيم والمحبة والخوف والرجاء بسبب صرف أكثره أو بعضه إلى من عبده من دونه ؛ لكفى في شناعته .
فالشرك ملزوم لتنقص الرب سبحانه ، والتنقص لازم له ضرورةً ، شاء المشرك أم أبى ، ولهذا اقتضى حمده سبحانه وكمال ربوبيته ألا يغفره ، وأن يخلِّـد صاحبه في العذاب الأليم ، ويجعلُه أشقى البـرية ، فلا تجد مشركا قط إلا وهو متنقص لله سبحانه وإن زعم أنه معظم له بذلك .[157]

الوجه الثاني والعشرون : ومن وجوه بطلان دعاء الموتى أن الكتاب والسنة ينصان على أن الميت ليس له اتصال بالدنيا البتة ، بل هو غافل عنها ، سواء كانت روحه في عليين أو كانت في سجين ، فكيف من هذه حاله يجيب الطلبات ويقضي الحاجات ؟!
وعلى هذا فالداعي للميت في الحقيقة لا يدعو شيئا ، وإنما يكلم نفسه!
وحياة المؤمن في قبره لا تقتضي ما تقتضيه الحياة الدنيوية من إدراك بالحواس الخمس ، بل هو في حياة برزخية غيبية ليست من جنس حياة الإنسان في الدنيا ، وهو بكل حال غافل عما يدور في الدنيا قال تعالى }وهم عن دعائهم غافلون{ .

الوجه الثالث والعشرون : ومن وجوه بطلان دعاء غير الله أن تلك المعبودات التي تعبد من دون الله أو مع الله لا تدوم لعابديها ، بل ستفنى وتـندثر في الأرض ، وهذا من وجوه عجزها ، فدل هذا على بطلان عبادتها ، إذ لو كانت عبادتها حقا لدامت ! فأين قبور الصالحين التي كانت تعبد في الجاهلية ؟ وأين الأشجار والأحجار التي كان الناس يسألونها البركة قبل قرن واحد من الزمان ؟ هي إما زالت وإما ستزول كما زال غيرها بأمر الله الكوني القدري ، قال تعالى }كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام{ .
وقد أشار إبراهيم عليه السلام إلى هذا الدليل العقلي في معرض دعوته لقومه عباد الكواكب ليبـين لهم أن عبادة غير الله باطلة ، قال تعالى عنه }فلما جن عليه الليل رآى كوكبا قال هذا ربـي فلما أفل قال لا أحب الآفلين * فلما رآى القمر بازغاً قال هذا ربـي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربـي لأكونن من القوم الضالين * فلما رآى الشمس بازغةً قال هذا ربـي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين{ .
ففي هذه الآيات نبه إبراهيم عليه السلام قومه إلى فناء معبوداتهم التي يعبدونها من دون الله وعدم ديمومتها ليبرهن بذلك على بطلان عبادتها .
أما الله تعالى فإنه حي قيوم ، دائم باق ، لا يزول ولا يفنى ، كما قال تعالى }ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام{ ، فهو المستحق وحده للدعاء والعبادة دون ما سواه .

الوجه الرابع والعشرون : أن مقتضى فِـعل الذين يدعون غير الله من الموتى أو الجمادات أنهم يعتقدون أن الموتى في مرتبة أعلى من مرتبة الأحياء ، لكونهم – في الغالب جدا - لم يُدعونهم إذ كانوا أحياء ، ولما ماتوا شرعوا في دعائهم !
وهذا مخالف لما دل عليه الشرع والعقل من أن الأحياء في مرتبة أعلى من مرتبة الأموات ، قال تعالى في سورة فاطر }وما يستوي الأعمى والبصير * ولا الظلمات ولا النور * ولا الظل ولا الحرور * وما يستوي الأحياء ولا الأموات * إن الله يسمع من يشاء وما أنت بسمع من في القبور{ ، فواعجبا من أحياء يستغيثون بأموات !

الوجه الخامس والعشرون : ومن أدلة بطلان دعاء غير الله ؛ أن الذين يُعبدون من دون الله سيخذلون من كانوا يعبدونهم يوم القيامة ويتبرؤون منهم ، سواء الراضون منهم بعبادتهم أم الغير راضين ، فهذا عيسى عليه السلام سيتبرأ من النصارى الذين كانوا يعبدونه كما قال تعالى }وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلـٰهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق{ . . . إلى قوله } ما قلت لهم إلا ما أمرتـني به أن اعبدوا الله ربـي وربكم{ .
بل جميع المعبودات التي تعبد من دون الله ستــتبرأ من عابديها ويلعنونهم ويكونون عليهم ضدا ، قال تعالى }واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا * كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا([158] .
وقال تعالى }ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين{ .
وقال تعالى ]إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ومأواكم النار ومالكم من ناصرين[ .
ومما ينبغي أن يعلم أن غالب الذين يدعون أصحاب القبور أو غيرها أن حجتهم أنها تقربهم وتشفع لهم عند الله ، والحق أن تلك المعبودات لن تقربها وتشفع لها عند الله ، بل ستتبرأ منها يوم القيامة ، قال تعالى )ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون * ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بعبادتهم كافرين(
سورة الروم ، الآية 13 . ، قال ابن كثير رحمه الله: أي ما شفعت فيهم الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى ، وكفروا بهم ، وخانوهم أحوج ما كانوا إليهم .
وقال تعالى )ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون(
سورة الأنعام ، الآية 94 ..
وقال تعالى )ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول ءأنتم أضلتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل * قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا * فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا(
سورة الفرقان : 17 – 19 .، قال الإمام الشنقيطي رحمه الله في تفسير هذه الآية:
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه يحشر الكفار يوم القيامة وما كانوا يعبدون من دونه ، أي يجمعهم جميعاً فيقول للمعبودين : أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء ، فزينتم لهم أن يعبدوكم من دوني ، أم هم ضلوا السبيل ؟
أي كفروا وأشركوا بعبادتهم إياكم من دوني من تلقاء أنفسهم من غير أن تأمروهم بذلك ولا أن تزينوه لهم .
وأن المعبودين يقولون : سبحانك ، أي تنـزيهاً لك عن الشركاء وكل ما لا يليق بجلالك وعظمتك .
]ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء[ ، أي ليس للخلائق كلهم أن يعبدوا أحداً سواك ، لا نحن ولا هم ، فنحن ما دعوناهم إلى ذلك ، بل فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم من غير أمرنا ، ونحن براء منهم ومن عبادتهم .
ثم قال ]ولكن متعتهم وآباءهم[ ، أي طال عليهم العمر حتى نسوا الذكرى ، أي نسوا ما أنـزلته عليهم على ألسنة رسلك من الدعوة إلى عبادتك وحدك لا شريك لك .
]وكانوا قوماً بوراً[ ، قال ابن عباس : أي هلكى .
وقال الحسن البصري ومالك عن الزهري : أي لا خير فيهم . انتهى .
وقال ابن القيم رحمه الله :
اعتماد العبد على المخلوق وتوكله عليه يوجب له الضرر من جهته هو ولابد ، عكس ما أمَّـله منه ، فلابد أن يُخذل من الجهة التي قَـدّر أن يُـنصر منها ، ويُـذم من حيث قَـدّر أن يُحمد ، وهذا أيضا كما أنه ثابت بالقرآن والسنة فهو معلوم بالاستقراء والتجارب ، قال تعالى )واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا * كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا( ، وقال تعالى )واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون * لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون([159] ، أي يغضَبون لهم ويُحارِبون كما يغضب الجند ويحارِب عن أصحابه[160] ، وهم لا يستطيعون نصرهم ، بل هم كلٌّ[161] عليهم ، وقال تعالى )وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب([162] ، أي : غير تخسير ، وقال تعالى )فلا تدع مع الله إلـٰها آخر فتكون من المعذبين([163] ، وقال تعالى )لا تجعل مع الله إلـٰها آخر فتقعد مذموما مخذولا([164] ، فإن المشرك يرجو بشركِه النصر تارة ، والحمد والثناء تارة ، فأخبـر سبحانه أن مقصوده ينعكس عليه ، ويحصل له الخذلان والذم ، فصلاح القلب وسعادته وفلاحه في عبادة الله سبحانه والاستعانة به ، وهلاكه وشقاؤه وضرره العاجل والآجل في عبادة المخلوق والاستعانة به .[165]
قلت: وصدق الله القائل )ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق(.
 

الوجه السادس والعشرون :

ومن أدلة بطلان دعاء غير الله ما قصه الله علينا في القرآن من اعتراف الكفار وهم في النار بأن دعاءهم لغير الله ليس بشيء ، قال تعالى عنهم }أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندع من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين{ .

الوجه السابع والعشرين : أنه يلزم من دعاء أصحاب القبور مضاهاتها[166] بالله عز وجل في صفة السمع والعلم ، وذلك أن الموتى يجتمع لدعائهم جماعات كثيرة ، يدعون بلغات مختلفة ، ويطلبون أغراضاً متعددة ، من أماكن متفرقة ومتباعدة ، وفي أزمان شتى ، ولولا أن الداعين لهم يعتقدون فيهم أنهم يسمعون القريب والبعيد وأنهم يعلمون حاجات جميع الناس لما دعوهم أصلاً ، وفي هذا تشبـيه لهم بالله عز وجل في صفة السمع والعلم ، وهذا كفر ، قال نُعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري رحمـهما الله : من شبه الله بخلقه فقد كفر ، ومن أنكر ما وصف به نفسه فقد كفر ، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها .[167]
ورواه عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتابه بسنده - كما قال اللالكائي في « شرح أصول اعتقاد أهل السنة » - عن نعيم قال :
من شبه الله بشيء من خلقه فقد كفر ، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر ، فليس ما وصف الله به نفسه ورسوله تشبيها[168] .[169]
وأخرج اللالكائي في « شرح أصول اعتقاد أهل السنة » عن إسحاق بن راهويه قال : من وصف الله فشبه صفاته بصفات أحد من خلق الله فهو كافر بالله العظيم ، لأن وصف صفاته[170] إنما هو استسلام لأمر الله ولما سن الرسول صلى الله عليه وسلم .[171]
والوجب إفراد الله بكمال صفات السمع والبصر في حقه ، لأن الله ليس كمثله شيء كما أخبر في كتابه .

الوجه الثامن والعشرون : أن المخلوقات لا تستوي مع بعضها البعض ، فكيف يصح مساواتها بخالقها وهو الله عز وجل ، فيطلب منها كما يطلب من الله ، ويلجأ لها كما يلجأ إلى الله ؟
وقد ضرب الله هذا البرهان العقلي في سورة النحل فقال تعالى }ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون * وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كلٌّ على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم{ .
ففي هاتين الآيتين ضرب الله مثلين ، المثل الأول هو مثل العبد المملوك الذي لا يقدر على شيء ، والسيد الحر الغني الذي ينفق ماله سرا وجهرا ، هل يستوون ؟ الجواب لا قطعا ، مع أن كليهما عبد لله سبحانه .
والمثال الثاني هو رجل أبكم لا يسمع ولا ينطق ، ولا يقدر على شيء ، أي ليس عنده مال قليل ولا كثير ، بل هو كلٌّ على مولاه ، أي عاجز عن خدمة نفسه لدرجة أن مولاه هو الذي يخدمه ، هل يستوي هذا ومن هو سليم الحواس يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ، فأقواله عادلة وتصرفاته مستقيمة ؟ الجواب لا قطعا .
فإذا كانت المخلوقات لا تستوي مع بعضها البعض ، فكيف يصح تسويتها مع خالقها جل وعز ، بأن يُطلب منها كما يطلب من الله ، ويُلجأ لها كما يلجأ إلى الله ، كما لو أن صفاتها متطابقة مع صفات الله ، وقدرتها كقدرة الله؟
وقال بعض المفسرين أن المثل الثاني هو مثلُ الله ومثلُ ما يُـعبد من دونه ، فمثَّل الله المعبودات التي تعبد من دون الله - من الأصنام والموتى - بالعبد الأبكم الذي لا يقدر على شيء ، وضرب مثلا لنفسه بالسيد الذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ، وكلا القولين صحيح ويدل على المقصود ، وهو بـيان الفرق بـين الله وبين خلقه ، وإظهار عدم استحقاق المخلوق - أيا كان – لأي لون من ألوان العبادة .
ولما فرغ الله من ذكر المثلين قال }ولله غيب السماوات والأرض{ ، ففي هذا توبـيخ للمشركين لما عبدوا المخلوق الناقص العلم بحاجات الناس ، وتركوا عالم غيب السماوات والأرض .
فالحاصل هو الاستدلال بعدم تساوي الأحياء مع بعضهم البعض على عدم تساويهم مع الله في مسألة اللجوء والتعلق ، وكذا الاستدلال بعدم تساوي الأحياء مع الأموات على عدم تساويهم مع الله في مسألة اللجوء والتعلق ، فعلى هذا فطلب الحاجات من الموتى من أبطل الباطل وأسفه السفه .

الوجه التاسع والعشرون : أن دعاء غير الله يستلزم صرف عبادات أخرى يستلزمها الدعاء لغير الله ، كعبادة الخوف والرغبة والرهبة والرجاء والخشوع والخضوع ، وهذه عبادات قد طالب الله العبد بإخلاصها له تعالى ، قال تعالى}ويدعوننا رغبا ورهبا{ ، وقال تعالى }وإلى ربك فارغب{ .
كذلك فإن الدعاء يتضمن الخوف من الله والرجاء لما عند الله ، وهي عبادات أيضا ، قال تعالى }وخافون إن كنتم مؤمنين{ ، وقوله تعالى }وارجو اليوم الآخر{ .
فثبوت كون هذه الأعمال متلازمة ومصاحبة للدعاء يدل على وجوب صرفه نفسه لله تعالى ، وبطلان صرفه لغيره تعالى .

الوجه الثلاثون : أن دعاء غير الله محرم بالنظر إلى ما أدى إليه ، وهو اعتقاد الربوبية فيمن يدعونهم من دون الله استقلالا أو مع الله مشاركة ، قال الشوكاني في كتابه « الدر النضيد » :
اعلم أن الرزية كل الرزية ، والبلية كل البلية ؛ ما صار يعتقده كثير من العوام وبعض الخواص في أهل القبور ومن المعروفين بالصلاح من الأحياء ؛ من أنهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلا الله جل جلاله ، ويفعلون ما لا يفعله إلا الله عز وجل ، حتى نطقت ألسنتهم بما انطوت عليه قلوبهم ، فصاروا يدعونهم تارة مع الله ، وتارة استقلالا ، ويصرخون بأسمائهم ، ويعظمونهم تعظيم من يملك الضر والنفع ، ويخضعون لهم خضوعا زائداً على خضوعهم عند وقوفهم بـين يدي ربهم في الصلاة والدعاء ، وهذا إذا لم يكن شركا فلا ندري[172] ما هو الشرك ، وإذا لم يكن كفرا فليس في الدنيا كفر . انتهى باختصار يسير .
وقال الشيخ أحمد بن يحيى النجمي رحمه الله :
إن شرك مشركي هذه الأمة تجاوز الشفاعة والوساطة التي كان يعتقدها مشركوا العرب إلى الملك وتدبير الكون والإحياء والإماتة ، فقد وُجد في هذه الأمة من يعتقد أن تدبير الكون بأسره يعود إلى أقطابٍ أربعة ، كما ذكر ذلك العلامة الألباني في مقدمته لكتاب « الآيات البينات في عدم سماع الأموات » للسيد نعمان الألوسي ، حيث قال بعد أن ذكر شيئاً من العقائد الشركية الضالة :
(ولا يستغربَن أحد هذا ممن عافاهم الله تعالى من الشرك على اختلاف أنواعه ، فإن في المسلمين اليوم من يصرِّح بأن في الكون متصرفين من الأولياء دون الله تعالى ممن يسمونهم هنا في الشام بـ (المدرِكين) وبـ (الأقطاب) وغيرهم .
وفيهم من يقول : نظرة من الشيخ تقلب الشقي سعيداً ، ونحو ذلك من الشركيات .
قال العلامة السيد رشيد رضا في تفسيره (11/391) تحت قوله تعالى ]قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله[ :
(أي : لكن ما شاء الله من ذلك كان ، متى شاء ، لا شأن لي فيه[173] ، لأنه خاص بالربوبية دون الرسالة ، التي وظيفتها التبليغ دون التكوين).
وقد بلغ من جهل الخرافيين من المسلمين بتوحيد الله أن مثل هذه النصوص من آيات التوحيد لم تصُد الجاهلين به منهم عن دعوى قدرة الأنبياء والصالحين - حتى الميتين منهم - على كل شيء من التصرف في نفعهم وضرهم ، مما يجعله الله من الكسب المقدور بمقتضى سننه في الأسباب ، بل يعتقدون أن منهم من يتصرفون في الكون كله ، كالذين يسمونهم بالأقطاب الأربعة ، وإن من بعض كبار علماء الأزهر في هذا العصر من يكتب هذا في مجلة الأزهر الرسمية (نور الإسلام) ، فيفتي بجواز دعاء غير الله من الموتى والاستغاثة بهم في كل ما يعجزون عنه من جلب نفع ودفع ضر ، وألف بعضهم كتاباً في إثبات ذلك وكَون الميتين من الصالحين ينفعون ويضرون بأنفسهم ويخرجون من قبورهم فيقضون حوائج من يدعونهم ويستغيثون بهم .)"[174]
وادعاء الربوبية للمعبودين قد وقع فيه بعض قدماء المشركين ، كما قال قوم عاد لهود عليه السلام ]إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء[[175] ، أي أصابتك آلهتنا بسوء ، فهم ينسبون التأثير الكوني وتدبير الأمور لتلك الآلهة ، وفي زماننا هذا يظن بعض القبوريون أن القبر إذا كان في مدينة أو قرية فإنهم ببركتهم يرزقون وينصرون ويندفع عنهم الأعداء والبلاء ، وأن السيدة نفسية خفيرة مصر والقاهرة ، والدسوقي ، والبدوي ، وهكذا ، والشيخ عبد القادر قطب بغداد وخفيرها ، وفلان خفير الشام والحجاز ، ووضعوا لكل بلد خفراء .[176]
وذكر الكوثري أن أرض الشام يحرسها من الآفات والبلايا أربعة من الأولياء الذين يتصرفون في قبورهم ! .[177]
وهي عندهم وسائل دفاع جوي ، فضريح (علي الروبي) بالفيوم بمصر أنقذ المدينة من الدمار خلال الحرب العالمية الثانية ، ببركته التي حولت مسار القنابل إلى بحر يوسف ![178]
وعندما يستدعي الموقف الإمداد بـ (قوات خاصة) لمنازلة عدو شديد البأس يطلب القبوريون المدد من أصحاب الأضرحة أيضاً ، فعندما أغار التتر على بلاد الشام كان القبوريون يخرجون يستغيثون بالموتى عند القبور ، ولذا قال بعض شعراء القبورية :

يا خائفين من التـتـر  *** لوذوا بقبر أبي عمر

أو قال :

عوذوا بقبر أبي عمر  *** ينجيكُـمُ من الضرر[179]

وذكر الشيخ رشيد رضا أنه انتشر بين أهل مراكش عند حلول النوائب بهم وتعدي الأجانب عليهم ؛ الاجتماع حول قبر الشيخ إدريس في فاس ، طالبين أن يكشف ما نـزل بهم من الشدة تاركين ما تقتضيه حال العصر من التربية والتعليم والإعداد العسكري للأعداء .[180]
وترتفع الخرافة إلى ذروتها حينما يعمد القبوريون إلى تعيين تخصصات للأضرحة ، فطلب الشفاعة هو مطلب الجميع ، غير أن بعض (الأولياء) مشتهر بتحقيق رغبات النساء ، كالزواج للعوانس ، والإنجاب للعاقرات[181] ، وآخر لشفاء أمراض الأطفال ، وآخر لشفاء أمراض الروماتيزم[182].
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن ، رحمه الله تعالى[183] :
وأما بلاد مصر وصعيدها وفيومها وأعمالها فقد جمعت من الأمور الشركية والعبادات الوثنية والدعاوى الفرعونية مالا يتسع له كتاب ولا يدنو له خطاب ، لا سيما عند مشهد أحمد البدوي وأمثاله من المعتقَـدين المعبودين ، فقد جاوزوا بهم ما ادعته الجاهلية لآلهتهم ، وجمهورهم يرى مِن تدبير الربوبية والتصريف في الكون بالمشيئة والقدرة العامة ما لم ينقل مثله عن أحد من الفراعنة والنماردة .
وبعضهم يقول يتصرف في الكون سبعة ، وبعضهم يقول أربعة ، وبعضهم يقول قطب يرجعون إليه ، وكثيراً منهم يرى الأمر شورى بين عدد ينتسبون إليه ، فتعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً ]كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا[ .[184]
ثم قال :
وفى حضرموت والشحر وعدن ويافع ما تستك[185] عن ذكره المسامع ، يقول قائلهم : شيء لله يا عيدروس ، شيء لله يا محيي النفوس ! [186]
قلت : وهذا الاعتقاد الأخير ناشىء عن قصور كبير في فهم اسم الله تعالى (الشافي) .

الوجه الحادي والثلاثون : ومن أدلة بطلان دعاء المخلوقين هو أن الأنبـياء ومن تبعهم على الحق من الصالحين[187] لا يرضون بأن يصرف لهم الناس شيئا من العبادات ، لا في حياتهم ولا بعد مماتهم ، لا دعاء ولا استغاثة ولا ذبح ولا نذر ولا سجود ولا غير ذلك ، ومن أمثلة ذلك أنه لما قدم معاذ من الشام سجد للنبـي صلى الله عليه وسلم فقال : ما هذا يا معاذ ؟
فقال : أتيت الشام ، فوجدتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم ، فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلا تفعلوا ، فإني لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها .[188]
وقد تكرر هذا الفعل عدة مرات أمام النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينكره في كل مرة أشد الإنكار .[189]
ومن إنكار الأنبياء على من عبدهم ما قصه الله عن عيسى عليه السلام ]وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلـٰهين من دون الله قال سبحانك ما كان لي أن أقول ما ليس بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا ما أمرتـني به أن اعبدوا الله ربـي وربكم[ .
وهذا علي رضي الله عنه لما أُتِي بالزنادقة الذين غلوا في حبه وتعظيمه حتى عبدوه ؛ أمر بتحريقهم بالنار .[190]
قال ابن تيمية رحمـه الله معلقا على فعل علي رضي الله عنه بالزنادقة الذين عبدوه وعلى بعض الأحاديث الواردة في إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على بعض من غلا فيه :
فهذا شأن أنبـياء الله وأوليائه ، وإنما يُقر على الغلو فيه وتعظيمه بغير حق من يريد علواً في الأرض وفساداً كفرعون ونحوه ، ومشائخ الضلالة الذين غرضهم العلو في الأرض والفساد ، والفتـنة بالأنبـياء والصالحين واتخاذهم أرباباً والإشراك بهم .[191]
وروى البيهقي في « دلائل النبوة » عن ابن عباس قال : قال أبو رافع القرظي حين اجتمع عنده النصارى والأحبار فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام :
أتريد منا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم ؟
فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الربيس : (وذلك تريد يا محمد وإليه تدعو) ، أو كما قال .
فقال رسول الله : معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غيره ، ما بذلك بعثني ولا أمرني ، فأنـزل الله عز وجل في ذلك من قولهما )ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكمة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون * ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون(.[192]
بل إن عبادة المخلوقين فيها استخفاف بهم ، لأنهم أنزلوا في غير منزلتهم ، أرأيت رجلا قال لصاحبه : أنت ملِك !
حتما ذلك الصاحب سيشعر أنه يسخر منه ويقلل من شأنه ، فالذي يفعل بالصالحين كذلك فإنه في الحقيقة يتنقصهم ويحتقرهم ، وإنما يوقرهم الذي يقتدي بهم في فعل الخير ويدعو لهم ، لا الذي يدعوهم وينزلهم منزلة الرب ، تعالى الله عن ذلك .

الوجه الثاني والثلاثون : ومن أدلة بطلان دعاء المخلوقين أن أولئك المدعوين من الأنبـياء والصالحين والملائكة هم أنفسهم عبـيد لله يتقربون إلى الله بالأعمال الصالحة ، ومن كان عبدا فإنه لا يستحق أن يعبد أو يتقرب الناس إليه ، قال تعالى ]قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا * أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا[[193]، أي تلك المعبودات التي تدعونها من دون الله من الملائكة والمسيح ونحوهم ؛ هم أنفسهم يرغبون إلى الله في طلب ما يقربهم إلى ربهم ، ويتقربون إليه بالعمل الصالح ويتـنافسون ليعلموا أيهم أقرب إليه سبحانه بالطاعة والعبادة ، ]ويرجون رحمته[ كما يرجوها غيرهم ، ]ويخافون عذابه[ كما يخافه غيرهم ، ]إن عذاب ربك كان محذورا[ فهو إذن حقيق بأن يحذره العباد من الملائكة والأنبـياء وغيرهم .[194]
وقد كان النبـي صلى الله عليه وسلم يؤكد دائما على هذه العقيدة – عقيدة أنه عبد لله - حتى لا تقع أمته في عبادته ، فقد كان يستفتح خطبه بقوله : وأشهد أن لا إلـٰه إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
ووصفه الله بأن عبد لله في غير ما آية من كتاب الله ، كما في قوله تعالى }سبحان الذي أسرى بعبده ليلا{ ، وقوله }فأوحى إلى عبده ما أوحى{ ، وقوله }وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا{ ، وغير ذلك من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، فالعبد لا يُعبد ، كما أن الرسول لا يكذب ، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم كذلك ؛ فمن باب أولى لا يجوز أن يعبد من هو دون الرسول صلى الله عليه وسلم كالأولياء والصالحين من المقبورين وغيرهم ، والله أعلم .

الوجه الثالث والثلاثون : أن أولئك المدعوين من الأنبـياء والصالحين هم أنفسهم محتاجون للأحياء ، بدعائهم والاستغفار لهم  ، لأن الميت قد انقطع عمله ، كما قال عليه الصلاة والسلام : إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له .[195]
فهذا محمد صلى الله عليه وسلم - أفضل البشر وأقربهم عند الله منـزلة - طلب منا أن نصلي عليه ، حيا وميتا ، والصلاة عليه هي الدعاء له بالرحمة ، قال صلى الله عليه وسلم : إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي ، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منـزلة في الجنة لا تـنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو ، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة .[196]
وكذلك علمنا النبـي صلى الله عليه وسلم بأن ندعو له ولكل عبد صالح في السماء والأرض ، كما في دعاء التشهد في التحيات : السلام عليك أيها النبـي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين … الحديث.
ثم قوله في التشهد الأخير : " اللهم صل على محمد وعلى آل محمد … الحديث .
ومن ذلك أيضا أن النبـي صلى الله عليه وسلم علم أمته أن يدعوا للميت بالرحمة والمغفرة في عموم الأحوال ، وفي صلاة الجنازة ، وبعد الدفن خصوصا ، فعن أبـي هريرة رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى على جنازة يقول : اللهم اغفر لحينا وميتـنا ، وشاهدنا وغائبنا ، وصغيرنا وكبـيرنا ، وذكرنا وأنثانا ، اللهم من أحيـيته منا فأحيه على الإسلام ، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان ، اللهم لا تحرمنا أجره ، ولا تضلنا بعده .[197]
وعن عثمان رضي الله عنه : كان النبـي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال : استغفروا لأخيكم ، وسلوا له التثبـيت ، فإنه الآن يسأل .[198]
فإذا تقرر أن الميت بحاجة للحي ؛ فلا يصح إذن أن نطلب من الموتى شيئا من المصالح الدينية أو الدنيوية . 

الوجه الرابع والثلاثون : أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينهى الناس عن مجرد المبالغة في مدحه وتعظيمه ، فكيف بمن أشركه مع الله في عبادة الدعاء ، أو أشرك غير النبي صلى الله عليه وسلم ؟
فعن ابن عباس رضي الله عنه أنه سمع عمر رضي الله عنه يقول على المنبر : سمعت النبـي صلى الله عليه وسلم يقول : لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، فإنما أنا عبده ، فقولوا عبد الله ورسوله . [199]
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عما هو أقل من ذلك مما فيه نوع غلو فيه ، فإنه لما صلى جالسا ، صلى خلفه الصحابة قياما ، فنهاهم عن ذلك وقال : إن كدتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم ، يقومون على ملوكهم وهم قعود ، فلا تفعلوا .[200]
ففي هذا الحديث نرى أمر النبي صلى الله عليه وسلم للمأمومين بالجلوس إذا جلس الإمام ، مع أن في هذا إخلال بالركن ، ولكن لأجل المشابهة لما يفعله الكفار لكبرائهم في تعظيمهم لهم نهى عن ذلك ، فكيف بمن توجه لميت بالعبادة نفسها ؟![201]
وقال أنس رضي الله عنه : لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك .[202]
فإذا كان النبـي صلى الله عليه وسلم ينهى عن الوقوف خلفه تعظيماً له ، فكيف لو رأى من يدعوه كما يدعو رب العالمين ؟
وعن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال : انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا : أنت سيدنا .
فقال : السيد الله تبارك وتعالى .
قلنا : وأفضلنا فضلا ، وأعظمنا طَولا[203].
فقال : قولوا بقولكم أو بعض قولكم ، ولا يستجرينكم الشيطان .[204]
ففي هذه الأحاديث وغيرها نرى حماية النبـي صلى الله عليه وسلم لحمى التوحيد وسده لطرق الشرك بأن نهى صحابته عن مدحهم إياه بما فيه من الخصال التي هي حق في شخصه صلى الله عليه وسلم ، فهو سيد ولد آدم ، وخير الناس وأفضلهم ، ولكن لما كان ذلك المدح مفضيا إلى الغلو فيه وعبادته من دون الله ؛ نهاهم عن ذلك ، وعدَّ هذا من استجراء الشيطان لابن آدم .
والشاهد هو أنه لما كانت المبالغة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم مخالفة شرعية ؛ فمن باب أولى دعاءه أو دعاء غيره ، لأن دعاء المخلوق أعظم غلوا من الافراط في مدحه ، بل هو أعظم مظاهر الغلو .

الوجه الخامس والثلاثون : ومن وجوه بطلان دعاء الموتى أن النبي صلى الله عليه وسلم مدح من لم يسأله شيئا من الأمور الدنيوية ، وفضَّله على من سأله ، بل ذم كثيراً ممن سأله السؤال الجائز مما يقدر عليه ، وعلمهم ترك سؤال الناس ليربيهم على تمام التعلق بالله وحده ، فماذا يقال لمن توجه له أو لغيره بطلب الحاجات التي لا يقدر عليها إلا رب العالمين ؟
فقد أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب « القناعة والتعفف » أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من يستعفف يعفه الله ، ومن يستغنِ يغنه الله ، ومن سألنا شيئا فوجدناه ؛ أعطيناه وواسيناه ، ومن استعف عنا واستغنى ؛ فهو أحب إلينا ممن سألَنا .
قال العلامة محمد بن طاهر الهندي في كتابه « تذكرة الموضوعات » : إسناده جيد .[205]
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من نـزلت به فاقة فأنـزلها بالناس لم تُسد فاقته ، ومن نـزلت به فاقة فأنـزلها بالله ، فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل .[206]
وعن عوف بن مالك الأشجعي قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال : ألا تبايعون رسول الله ؟ وكنا حديث عهد ببـيعة .
فقلنا : قد بايعناك يا رسول الله .
ثم قال : ألا تبايعون رسول الله ؟
فقلنا : قد بايعناك يا رسول الله .
ثم قال : ألا تبايعون رسول الله ؟
قال : فبسطنا أيدينا وقلنا : قد بايعناك يا رسول الله ، فعلام نبايعك ؟
قال : على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، والصلوات الخمس ، وتطيعوا ، - وأسرّ كلمة خفية - ، ولا تسألوا الناس شيئا .
فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدا يناوله إياه .[207]
ولما سقط خطام ناقة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ؛ أناخ ناقته وأخذه ، فقالوا له : أفلا أمرتنا نناولَكه؟
فقال : إن حببي[208] رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن لا أسأل الناس شيئا .[209]

الوجه السادس والثلاثون : ومن أدلة بطلان دعاء غير الله اعتزال الأنبياء لمن وقعوا في دعاء غير الله ولو كان الفاعل ذلك أقرب قريب للدلالة على بغض هذ الفعل ونكارته ، فهذا إبراهيم قال لقومه ]وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقياً[ ، في هذا تنبيه إلى أنه بادئهم بذكر اعتزالهم أولاً ، ثم عطف عليه باعتزال معبوداتهم .
قال عماد الدين بن كثير ، رحمه الله ، في معنى قوله ]ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه[ :
يقول تبارك وتعالى ردا على الكفار فيما ابتدعوه وأحدثوه من الشرك بالله ، المخالف لملة إبراهيم الخليل ، إمام الحنفاء ، فإنه جرد توحيد ربه تبارك وتعالى ، فلم يدع معه غيره ، ولا أشرك به طرفة عين ، وتبرأ من كل معبود سواه ، وخالف في ذلك قومه ، حتى تبرأ من أبيه ، فقال ]يا قوم إني بريء مما تشركون . إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين[ ، وقال تعالى ]وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون . إلا الذي فطرني فإنه سيهدين[ ، وقال تعالى ]وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم[ ، وقال تعالى ]إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا وما كان من المشركين * شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم . وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين[ ، ولهذا وأمثاله قال تعالى ]ومن يرغب عن ملة إبراهيم[ ، عن طريقته ومنهجه ، فيخالفها ويرغب عنها ، ]إلا من سفه نفسه[ ، أي ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره ، بتركه الحق إلى الضلال ، حيث خالف طريق من اصطُفي في الدنيا للهداية والرشاد ، من حداثة سنة إلى أن اتخذه الله خليلا ، وهو في الآخرة من الصالحين السعداء ، فمن ترك طريقه هذا ومسلكه وملته ، واتبع طريقة الضلالة والغي فأي سفه أعظم من هذا ؟ أم أي ظلم أكبر من هذا ؟ كما قال تعالى ]إن الشرك لظلم عظيم[ . انتهى .[210]
وقد قرن الله بين اعتزال المشركين ومعبوداتهم في موضع آخر من القرآن في سورة الكهف فقال عن أصحاب الكهف ]وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا[ ، وهذا هو حقيقة التوحيد وعلامة الإيمان الصادق.
وهذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة حطم جميع الأصنام التي كانت تعبد وتدعا من دون الله ، من التي كانت في جوف الكعبة والمحيطة بها وغيرها ، وتبعه على هذا أئمة الهدى .

الوجه السابع والثلاثون ؛ أن من حق المنعم شكره على نعمه ، وشكر الله لا يكون إلا بعيادته عبادة خالصة ، ليس له فيها شريك ، كما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً .[211]
فمن عبد غير الله فقد شكر غير الله ، وجحد نعمة الله ، وقد ضرب نبـي الله يحيى بن زكريا صلى الله عليه وسلم مثلا للمشرك الذي يصرف العبادة إلى غير الله بالعبد الذي يعمل ويؤدي الغلة إلى غير سيده ، فعن الحارث الأشعري ؛ أن النبـي صلى الله عليه وسلم ذكر عن يحيى بن زكريا أنه مثّل من عبد غير الله بمثالٍ فقال : إن مثل ذلك كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بورِق[212] أو ذهب ، فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده ، فأيكم يسُـره أن يكون عبده كذلك ؟ وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً .[213]

الوجه الثامن والثلاثون :
ومما يدل على بطلان دعاء غير الله وأن فعلها كفر ؛ أنه لما جحدت بعض أحياء العرب فريضة الزكاة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قاتلهم أبو بكر رضي الله عنه قتال ردة ، فكيف لو رأى من يقول بجواز صرف لب العبادة وخالصها – وهو الدعاء – لغير الله ؟
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أبو بكر رضي الله عنه[214] ، وكفر من كفر من العرب ، فقال عمر : فكيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا « لا إلـٰه إلا الله » ، فمن قالها فقـد عَصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله ؟
فقال : والله لأقتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها .
قال عمر رضي الله عنه : فوالله ما هو إلا أن شرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه ، فعرفت أنه الحق .[215]
ولهذا قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله :
فإذا كان منع الزكاة مِن منعِ حق « لا إلـٰه إلا الله » ؛ فكيف بعبادة القبور ، والذبح للجن ، ودعاء الأولياء وغيرهم مما هو دين المشركين ؟![216]

الوجه التاسع والثلاثون : أن دعاء الميت والتوجه إليه أشد من مجرد اتخاذ قبور الأنبياء مساجداً ، وقد ثبت بل استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن الذين يتخذون قبور الأنبياء مساجد ، أي يصلون عندها ويدعون الله تعالى ، فإذا كان من اتخذها مسجدا يصلى فيها لله تعالى ويدعو الله ملعونا ؛ فالذي يقصدها ليدعو فيها غير الله ، ويتضرع فيها لغير الله ، ويخضع ويخشع فيها لغير الله ؛ أحق باللعنة .[217]

الوجه الأربعون : أن العبد لا يستقيم له أن يكون له أكثر من سيد يملكه ، لأن ستختلف أوامر ونواهي السادة عليه ، فعلى هذا فإنه لا يستقيم له أن يكون له أكثر من إلـٰه يعبده ، قال تعالى ]ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا[ ، أي هل يستوي العبد الذي له سيد واحد بالعبد الذي له أكثر من سيد ؟
فكذلك لا يستوي المشرك الذي آلهة مع الله والمؤمن المخلص الذي لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له ، فأين هذا من هذا ؟
ولما كان هذا المثل ظاهرا بينا جليا قال ]الحمد لله[ أي الحمد لله على إقامة الحجة على كل من أشرك ، )بل أكثرهم لا يعلمون( ، أي فلهذا وقعوا في الشرك .[1]
-------
[1] بتصرف من تفسير ابن كثير لسورة الزمر ، الآية 29 .

الوجه الحادي والأربعون : أن الإنسان لا يرضى على نفسه أن يشاركه أحد من عبيده فيما يملكه ، فكيف يرضى على الله أن يشاركه أحد من عبـيده فيما يستحقه من خالص حقه ، وهو عبادته وحده لا شريك له؟ قال تعالى )ألا لله الدين الخالص( ، وقال تعالى }والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون{ ، وقال تعالى ]هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء[ .
قال ابن القيم رحمه الله :
فمن أقبح الظلم أن يعطي العبد حق الرب لغيره ، أو يُشرِِّك بينه وبينه فيه ، ولا سيما إذا كان الذي جعل شريكه في حقه هو عبده ومملوكه ، كما قال تعالى }ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواءٌ تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون{ ، أي إذا كان أحدكم يأنف أن يكون مملوكه شريكه في رزقه ، فكيف تجعلون لي من عبيدي شركاء فيما أنا منفرد به ، وهو الإلـٰهية التي لا تنبغي لغيري ، ولا تصلح لسواي ؟
فمن زعم ذلك ؛ فما قدَرني حق قدري ، ولا عظّمني حق تعظيمي ، ولا أفردني بما أنا منفرد به وحدي دون خلقي .
فما قَـدر الله حق قدره مَن عبَد معه غيره ، كما قال تعالى }يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب * ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز{ .[218]
ثم قال :
فهذه إشارة لطيفة إلى السر الذي لأجله كان الشرك أكبر الكبائر عند الله ، وأنه لا يغفر بغير التوبة منه ، وأنه يوجب الخلود في العذاب ، وأنه ليس تحريمه وقبحه بمجرد النهي عنه ، بل يستحيل على الله سبحانه أن يشرع لعباده عبادة إلـٰه غيره ، كما يستحيل عليه ما يناقض أوصاف كماله ونعوت جلاله ، وكيف يُظن بالمنفرد بالربوبية والإلـٰهية والعظمة والجلال أن يأذن في مشاركته في ذلك ، أو يرضى به ، تعالى الله عن ذلك علوا كيرا .[219]

الوجه الثاني والأربعون : أن القلوب لا تصلح إلا بإفراد الله بجميع العبادات ، لاسيما الدعاء ، وإذا تعلق بغير الله وأحبه فوق الحد الشرعي ضره ذلك ، قال ابن رجب رحمه الله في « جامع العلوم والحكم »[220] حيث قال :
لا صلاح للقلوب حتى تستقر فيها معرفة الله وعظمته ومحبته وخشيته ومهابته ورجاؤه والتوكل عليه ، وتمتلئ من ذلك ، وهذا هو حقيقة التوحيد ، وهو معنى قول « لا إلـٰه إلا الله » ، فلا صلاح للقلوب حتى يكون إلـٰهها الذي تألهه وتعرفه وتحبه وتخشاه هو الله وحده لا شريك له ، ولو كان في السماوات والأرض إلـٰه يؤلَّـه سوى الله لفسدت بذلك السماوات والأرض ، كما قال تعالى ]لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا[ ، فعُـلِم بذلك أنه لا صلاح للعالم العلوي والسفلي معاً حتى تكون حركات أهلها كلها لله ، وحركات الجسد تابعة لحركات القلب وإرادته ، فإن كانت حركته وإرادته لله وحده ؛ فقد صلح وصلَحت حركات الجسد كلها ، وإن كانت حركة القلب وإراداته لغير الله تعالى ؛ فسد وفسدت حركات الجسد بحسب فساد حركة القلب .
وقال ابن القيم رحمه الله : تعلُّـق العبد بما سوى الله تعالى مضرةٌ عليه إذا أخذ منه فوق القدر الزائد على حاجته ، غير مستعين به على طاعة الله ، فإذا نال من الطعام والشراب والنكاح واللباس فوق حاجته ضره ذلك ، ولو أحب ما سوى الله ما أحب فلا بد أن يُسلَـبَـه ويفارقه ، فإن أحبه لغير الله فلابد أن تضره محبته ويعذب بمحبوبه إما في الدنيا وإما في الآخرة ، والغالب أنه يعذب به في الدارين ، قال الله تعالى ]يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنـزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم . يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنـزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنـزون[[221] ، وقال تعالى ]فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون[ [222].[223]

الوجه الثالث والأربعون : ومن الأدلة على بطلان دعاء غير الله أن العبد كلما كان أكثر توحيدا وذلاً لله وافتقاراً إليه كان أعز له وأعظم لقدره ، قال ابن تيمية رحمـه الله تعالى : العبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقاراً إليه وخضوعاً له ؛ كان أقرب إليه وأعز له وأعظم لقدره ، فأعظم الخلق أعظمهم عبودية لله ، وأما المخلوق فكما قيل : احتج إلى من شئت تكن أسيره ، واستغن عمن شئت تكن نظيره ، وأحسن إلى من شئت تكن أميره .
فأعظم ما يكون العبد قدرا وحرمة عند الخلق إذا لم يـَحتج إليهم بوجه من الوجوه ، فإن أحسنت إليهم مع الاستغناء عنهم كنت أعظم ما يكون عندهم ، ومتى احتجت إليهم – ولو في شربة ماء – نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم ، وهذا من حكمة الله ورحمته ليكون الدين كله لله ، ولا يُـشرك به .[224]
وقال أيضا : وكل من علق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه أو يرزقوه أو أن يهدوه ؛ خضع قلبه لهم ، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك ، وإن كان في الظاهر أميراً لهم مدبراً لهم متصرفاً بهم ، فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر ، فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له ؛ يبقى قلبه أسيراً لها ، تتحكَّم فيه وتــتصرف بما تريد ، وهو في الظاهر سيدها لأنه زوجها ، وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها ، لاسيما إذا درت بفقره إليها وعشقه لها ، وأنه لا يعتاض عنها بغيرها ، فإنها حينئذ تَحكَّم فيه بحكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور الذي لا يستطيع الخلاص منه ، بل أعظم ، فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن ، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن ، فإن من استُعبد بدنه واستُرق لا يبالي إذا كان قلبه مستريحاً من ذلك مطمئناً ، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص ، وأما إذا كان القلب - الذي هو الملِك – رقيقاً مستعبداً مُـتيماً لغير الله فهذا هو الذل والأسر المحض ، والعبودية لما استعبد القلب .[225]
وقال ابن تيمية رحمـه الله أيضا: ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه ، ولا يستعين إلا به ، ولا يتوكل إلا عليه ، ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه ، ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه ، ولا يوالي إلا من والاه الله ، ولا يعادي إلا من عاداه الله ، ولا يحب إلا الله ، ولا يبغض شيئا إلا لله ، ولا يعطي إلا لله ، ولا يمنع إلا لله ، فكلما قوي إخلاص دينه لله كمُلت عبوديته واستغناؤه عن المخلوقات ، وبكمال عبوديته لله يبرئه من الكبر والشرك .[226]
فالحاصل أن العبد إذا أخلص العبادة لله استغنى عن المعبودات الأخرى ، وكفاه الله ووقاه من الشرور والآفات ، كما قال تعالى }أليس الله بكاف عبده{ ، فكلما زادت العبودية زادت الكفاية والوقاية ، أما الذي ينـزل حاجته بمخلوق مثله فإنه لا يزال محتاجاً فقيراً معذباً لا يحصل له مطلوبه ، والعرب كانوا إذا نـزلوا وادياً أو مكاناً موحشاً استعاذوا بعظيم ذلك الوادي من الجن من أن تصيبهم الشرور ، فلما رأت الجن ذلك زادوهم خوفاً ورعباً كما قال تعالى }وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا{ ، وهذا من براهين التوحيد ليكون الدين كله لله ، ولا يشرك معه أحد .

الوجه الرابع والأربعون : ومن وجوه بطلان دعاء المخلوقين هو أن فاعلي ذلك ليسوا واثقين بما يفعلونه ولا ثابتين عليه ، فتراهم يتنقلون بين معبوداتهم ، فتارةً يدعون ميتاً ، وتارةً يدعون ميتاً آخر ، وآخرون يدعون غير الله في الرخاء وإذا أتــت الشدة أخلصوا الدعاء لله وحده ونسوا ساداتهم ومن كانوا يعبدونهم ، كحال المشركين الأولين الذين قال الله فيهم }فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون{.
ومع شعور هؤلاء بهذه المخادعة النفسية إلا أنهم ماضون في دعاء غير الله ، بسبب التقليد وشدة الحاجة وضعف التعلق بالله العظيم ، ثم إن المضطر إذا كان ضعيف الإيمان أو عديمه ؛ فإنه لا يفكر إلا في قضاء حاجته بأي وسيلة ، شرعية كانت أو شركية!
وهذا التنقل بين المعبودات ، والاضطراب في العبادة من براهين التوحيد ، فإن الذي يفرد الله بالعبادة والدعاء دائما لا يقع في شيء من ذلك ، بل هو مطمئن لما يفعل ، إن أجاب الله دعاءه فالحمد لله أن حصل له ما أراده ، وإن لم يحصل عوّضه الله في الآخرة ، أو دفع عنه من السوء في الدنيا ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث : إما أن تُعجل له دعوته ، وإما أن يدخرها له في الآخرة ، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها . قالوا : إذا نكثر ، قال : الله أكثر .[227]
فالحمد لله على نعمة الهداية .

الوجه الخامس والأربعون : أن محبة العابد لمعبوده الذي يعبده من دون الله ليست إلا محبة مؤقتة ، سرعان ما تـنقطع إذا انتقل إلى معبودات أخرى ، أو تعرضت تلك الآلهة إلى الفناء والإندثار ، أما العابد لله وحده فيحب الله دائما ، بل ربما تقوى محبته وتعلقه بالله عند الكروب وبعدها ، وهذا من براهين التوحيد ، لتكون العبادة خالصة لله دوما .

الوجه السادس والأربعون: أن الأمور العظيمة كإنـزال الغيث وكشف العذاب لا تحصل إلا بدعاء الله وحده ، قال الله تعالى ]قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتــتكم الساعة بغتة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين * بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتـنسون ما تشركون[ ، وقال تعالى ]وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا[ ، وقال تعالى ]أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض[ .
بخلاف دعاء غير الله من أصحاب القبور وغيرهم ؛ فإنه لا تحصل به إلا الأمور الحقيرة التي تقوم بها الجن والشياطين ، التي تستمع لدعاء ذلك الداعي عند القبر فتجيبه وتخاطبه لتغويه ، ليظن ذلك الداعي أن صاحب القبر نفسه هو الذي أجاب دعاءه ، أو أنه توسط له عند الله ليجيب دعاءه .
بل ربما خرق الله العادات بسبب دعاء لله وحده قام به مضطر ، كما حصل لزكريا عليه السلام لما دعا الله أن يرزقه الولد ، وكان زكريا كبـيراً وامرأته عاقراً لا تلد ، فاستجاب الله دعاءه .
وروى البيهقي في « دلائل النبوة »[228] عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب جهز جيشا واستعمل عليه العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه ، فلما كانوا ببعض الطريق أصابهم حر شديد ، فجهدوا وجهدت دوابهم ، فدعا الله بالسقيا ، فثارت سحابة وسقوا حتى امتلأت الغدر والشعاب ، فلما أتوا عدوهم - وقد جاوزوا خليجا في البحر إلى جزيرة - وقف على الخليج وقال : (يا علي ، يا عظيم ، يا حليم ، يا كريم) ، ثم قال : (أجيزوا باسم الله) ، قال أنس : فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا ، فأصبنا العدو غِيلة[229] ، فقتلنا وأسرنا وسبينا ، ثم أتينا الخليج فقال مثل مقالته ، فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا .
والحاصل أن من البراهين الدالة على استحقاق الله وحده للدعاء ؛ كون الأمور العظيمة والخوارق والكرامات لا تحصل إلا بدعاء الله وحده .

الوجه السابع والأربعون : أن الذين يدعون أصحاب القبور إنما يُستجاب لهم في النادر ، والغالب تخلف الإجابة ، مع الوضع في الإعتبار أن الذي أجاب دعاءهم هو الله وحده ، وإنما استجاب لهم نادرا مكرا بهم ليتمادوا في الضلال ، جزاء لهم على إعراضهم عن دعاءه أول مرة ، والله خير الماكرين .
وأما الموحدون الذين يدعون الله وحده فإنه يستجاب للواحد بعد الواحد ، ولا تكاد تسقط دعوة لواحد منهم إلا لمانع ، وهذا من براهين التوحيد أيضا ، لتكون عبادة الدعاء خالصة لله .

الوجه الثامن والأربعون : ومن أدلة بطلان دعاء غير الله ؛ إنكار واستغراب بعض الكفار لما يفعله عباد القبور عندها من دعاءها والتقرب لها ، قال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله :
وقد كان كثير من اليهود والنصارى يعيبون على من يدّعي الإسلام ما يُفعل عند تلك المشاهد ، ويقولون : إن كان نبيكم أمركم بهذا فليس بنبي ، وإن كان نهاكم عنه فقد عصيتموه ، والعامة والخاصة - بل اليهود والنصارى والمشركون - يعلمون أن محمد صلى الله عليه وسلم إنما بُعث بالأمر بعبادة الله وحده ، والنهي عن عبادة ما سواه ، وتكفيره[230] .[231]
وقال الكاتب الأمريكي لو ثروب ستودارد وهو من المؤرخين المستشرقين الذين وصفوا انتشار قصد القبور والسفر إليها في القرن الثامن عشر الميلادي في العالم الإسلامي ، قال وهو يصف العالم الإسلامي من الناحية السياسية والاجتماعية :
وأما الدين فقد غشيته غاشية سوداء ، فأُلبست الوحدانية التي علَّمها صاحب الرسالة سِجنا من الخرافات وقشور الصوفية ، وخلت المساجد من روادها ، وكثر عدد الأدعياء الجهلاء وطوائف الفقراء والمساكين ، يخرجون من مكان إلى مكان ، يحملون في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسبحات ، ويرغبون في الحج إلى قبور الأولياء ، ويزينون للناس التماس الشفاعة من دفناء القبور ، وغابت عن الناس فضائل القرآن ، فصار يُشرب الخمر والأفيون في كل مكان ، وعلى الجملة فقد بُدل المسلمون غير المسلمين ، وهبطوا مهبطا بعيد القرار ، فلو عاد صاحب الرسالة إلى الأرض في ذلك العصر ورأى ما كان يدهى الإسلام ؛ لغضب وأطلق اللعنة على من استحقها من المسلمين ، كما يُلعن المرتدون وعبدة الأوثان .[232]

الوجه التاسع والأربعون : ومن وجوه بطلان دعاء غير الله ما نراه من الأثر السيء الذي خلفه تعظيم القبور والأضرحة على الأمة في الناحية الدنيوية في أمور مهمة تتعلق بقوامة الأمة وعمارة الأرض التي أمر الله بها في قوله ]هو الذي خلقكم في الأرض واستعمركم فيها لينظر كيف تعملون[ ، وقوله ]هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور[ .
وبيان ذلك أنه قلت رغبة الناس في بعض المجتمعات التي ينتشر فيها التعلق بغير الله في تعلم العلوم الطبية ، ورغِبوا عن التحصيل العلمي والدراسات الجامعية العليا ، لأنهم صاروا يرَون الطب الحقيقي هو الاستشفاء على يد الموتى بالتقرب لهم بما هو من خصائص الله تعالى ، ليس هذا فحسب ، بل أُهملت الخدمات الاجتماعية للأَحياء لانشغال الناس بإعمار مراقد الأموات ، وليس هذا هو المنهج الذي ابتغاه الله للناس.
وفي هذا يقول الباحث علي الزهراني حفظه الله:
وهكذا انصرف الناس إلى خدمة الأموات بإعمار أضرحتهم وبناء القباب عليها ، وصرفوا جهودهم وأموالهم ، وكان ذلك على حساب الاهتمام بخدمة الأحياء بالتربية والتعليم ، وتوفير وسائل العيش الكريم لهم ، وتقوية الأمة التي كان أعداؤها في الخارج يتربصون بها الدوائر .[233]
بل قد هيأ هذا الانحراف العقدي الخطير الناس في القرن الهجري الماضي لقبول الغزو الفكري متمثلا في نشر العلمانية والشيوعية وغيرها ، كما سهل للأعداء التسلط عليهم واحتلالهم ، لأن أهل البلد اعتمدوا على موتى ، فوكَلهم الله إليهم .

الوجه الخمسون : أن عمدة من يدعون غير الله إما شبهات حديثية ، كأحاديث ضعيفة أو مكذوبة ، أو شبهات عقلية ، أو تجارب وضعية ، أو قصص أو حكايات أو منامات ، وكل هذا لا يُعتمد عليه في فروع الدين فضلا عن أصوله ، قال ابن تيمية رحمه الله :
وأما أولئك الضلال ، أشباه المشركين النصارى ، فعمدتهم إما أحاديث ضعيفة أو موضوعة ، أو منقولات عمن لا يـُحتج بقوله ، إما أن يكون كذباً عليه ، وإما أن يكون غلطاً منه ، إذ هي نقل غير مصدق عن قائل غير معصوم ، وإن اعتصموا بشيء مما ثبت عن الرسول ؛ حرفوا الكلم عن مواضعه ، وتمسكوا بمتشابهه ، وتركوا محكمه ، كما يفعل النصارى .[234]
وربما احتجوا بأمثلة جزئية خاصة لإثبات قضايا كلية عامة ، فيحتجون مثلا لإثبات جواز مطلق الاستغاثة - فيما يقدر عليه المخلوق وما لا يقدر عليه – بسؤال بعض الناس النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم ، ومعلوم أن الذي ثبتت به السنة حق لا ريب فيه ، لكن لا يلزم من ذلك ثبوت جميع الدعاوى العامة ، وإبطال نقيضها ، إذ الدعوى الكلية لا تثبت بمثال جزئي ، لا سيما مع الاختلاف والتباين ، وهذا كمن يريد أن يثبت حل جميع الملاهي لكل أحد والتقرب بها إلى الله ؛ بكون الجاريتين غنتا عند عائشة رضي الله عنها في بيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيد ، مع كون وجهه كان مصروفا إلى الحائط لا إليها .
أو يحتج على استماع كل قول بقوله ﴿فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه﴾ ، ولا يدري أن القول هنا هو القرآن ، كما في قوله ﴿أفلم يدبروا القول[235] أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين﴾ ، وإلا فمسَـلّم أنه لا يسوغ استماع كل قول .[236]

قال مقيده عفا الله عنه : ومن الأحاديث المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم ؛ حديث : (إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا بأهل القبور) ، وحديث : (لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله به) ، وأشباهها .
 

الوجه الحادي والخمسون:
ومن وجوه بطلان اتخاذ الواسطة أن فاعل ذلك قد حرم نفسه من فرح الله بإقباله إليه ، وانطراحه بـين يديه ، واستعاض عن هذا بالانطراح بين يدي ميت ، ليس له من الأمر شيء ، ولا يقربه من ربه بشيء ، ومن المعلوم أن الله أشد فرحا من عبده بإقباله إليه ولو بلغت ذنوب عبده عنان السماء ، قال الله عز وجل في الحديث القدسي الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه: قال النبـي صلى الله عليه وسلم : يقول الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بـي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا ، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة .[237]


والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم تسلميا كثيرا .
 
تمت الرسالة بحمد الله .

 
ثبت لبعض المراجع

« دلائل النبوة » ، أحمد بن الحسين البيهقي ، الناشر دار الكتب العلمية ، ط 2
الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين ، مقبل بن هادي الوادعي ، الناشر دار الآثار - صنعاء ، ط 1426 هجري
الرد على الإخنائي ، ابن تيمية ، تحقيق أحمد بن مونس العنزي ، دار الخراز
الاستغاثة في الرد على البكري ، ابن تيمية ، تحقيق عبد الله السهلي ، ط 1 ، مدار الوطن
الداء والدواء ، ابن القيم ، الناشر دار ابن الجوزي ، ط 1425 هجري
المجموع المفيد في نقض القبورية ونصرة التوحيد ، جمع د. محمد الخميس ، دار أطلس
تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن جرجيس ، عبد الله أبا بطين ، مؤسسة الرسالة
السيف المسلول على عابد الرسول ، عبد الرحمن بن محمد بن قاسم
دمعة على التوحيد ، الناشر المنتدى الإسلامي
جهود علماء الحنفية لإبطال عقائد القبورية ، شمس الدين الأفغاني ، الناشر دار الصميعي
زيارة القبور عند المسلمين » لسالم بن قطوان العبدان ، الناشر دار غراس
 
 

-------------------------------------------
[1] رواه الترمذي (3556) ، وصححه الألباني .
[2] رواه الترمذي (2139) ، عن سلمان الفارسي ، وحسنه الألباني ، انظر «الصحيحة» (154) .
[3]  رواه الترمذي (3370) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وحسنه الألباني .
[4] رواه أبو داود (1479) ، والترمذي (2969) ، وغيرهما عن النعمان بن بشير ، وصححه الشيخ الألباني .
[5] رواه النسائي (3016) ، عن عبد الرحمن بن يعمر ، وصححه الألباني .
[6] أي حريٌّ .
[7] رواه مسلم (479) .
[8] « تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن جرجيس » ، ص 127 .
[9] سورة الأعراف : 55 .
[10] سورة النمل : 62 .
[11] سورة البقرة : 186 .
[12] سورة النساء : 32 .
[13] سورة غافر : 60 .
[14] سورة الأعراف : 29 .
[15] سورة الجن : 18 .
[16] سورة الشعراء : 213 .
[17] سورة القصص : 88 .
[18] سورة يونس : 106 .
[19] سورة الأحقاف : 4 .
[20] سورة سبأ : 22 .
[21] سورة الأحقاف : 5- 6 .
[22] سورة مريم 48 ـ 49 .
[23] تقدم تخريجه .
[24] صدق رحمه الله ، فلا تكاد تخلو عبادة من دعاء ، فالصلاة والحج والأذكار الخاصة والعامة والجهاد كله يشرع فيه دعاء الله عز وجل ، فضلا عن كون الدعاء عبادة مستقلة .
[25] سورة الجن : 20 .
[26] « السيف المسلول على عابد الرسول » ، ص 131 – 132 ، باختصار وتصرف يسير .
[27] رواه الترمذي (2516) ، وأحمد (1/303) ، وهو في « صحيح الترمذي » للألباني (2516) .
[28] رواه البخاري (1145) ، ومسلم (1772) ، وغيرهما .
[29] رواه عبد بن حميد في « المنتخب » (1494) ، وابن أبي شيبة (29360) ، وصححه الألباني في « السلسلة الصحيحة» (1266) .
[30]  آل عمران : 18 .
[31] سورة النساء : 115 .
[32] « سيف الله على من كذب على أولياء الله » ، باختصار ، (ص 15-16) ، الناشر مدار الوطن للنشر .
[33] انظر المراجع المذكور فيها إنكارهم على من دعا غير الله في «المجموع المفيد في نقض القبورية ونصرة التوحيد» ، جمع د. محمد الخميس ، ص 412 – 418 .
[34] ص 39 ، الناشر دار ابن الجوزي .
[35] نقله الشوكاني عنه في « الدر النضيد » .
[36] سورة الأعراف : 138 .
[37] رواه الترمذي (2180) عن أبي وافد لليثي ، واللفظ له ، وأحمد (5/218) ، وصححه الألباني في « صحيح الترمذي » .
[38] باختصار من « الباعث على إنكار البدع والحوادث » ، ص 34 -35 ، الناشر دار المؤيد .
[39] « تجريد التوحيد المفيد » ، ص 52 – 53 ، تحقيق علي بن محمد العمران ، الناشر  دار عالم الفوائد .
[40] المروق الخروج من شيء من غير مدخله ، والمارقة الذين مرقوا من الدين لغلوهم فيه ، والمروق سرعة الخروج من الشيء . «لسان العرب » .
[41] مختصرا من « الرسالة السنية » ، وتقع كاملة في « مجموع الفتاوى » (3/363-430) ، والمنقول مختصر من الصفحات 383- 400 .
[42] « مجموع الفتاوى » (1/103) .
[43] « مجموع الفتاوى » (27/490) .
[44] « الاستغاثة في الرد على البكري » ص 331 ، تحقيق عبد الله السهلي ، ط 1 ، الناشر مدار الوطن .
[45] (2/649) .
[46] « الفتاوى الكبرى » (4/506) ، (اختيارات شيخ الإسلام) ، باب حكم المرتد .
[47] « مجموع الفتاوى » (1/124) .
[48] الشيخ سليمان من فحول علماء نجد ، ولد سنة 1200 هـ ، درس على عدة مشائخ ، وعنده إجازة في رواية الكتب الستة ، درّس وولي القضاء ، وتوفي شابا شهيدا بإذن الله سنة 1234 هـ ، له عدة مؤلفات من أشهرها كتابه «تيسير العزيز الحميد» ، والكتاب على مدى ثلاث قرون ينهل منه العلماء وطلبة العلم إلى وقتنا هذا ، وهو عمدة في علم توحيد العبادة ، ومن بعده عيال عليه ، رحمة الله رحمة واسعة .
[49] (6/165) .
[50] (10/327) .
[51] أي « غاية المنتهى في الجمع بين الإقناع والمنهى » لمرعي الالكرمي (3/355) .
[52] (4/297) .
[53] يعني الشيخ منصور بن يونس البهوتي في كتابه « كشاف القناع في شرح الإقناع » (6/168) .
[54] أي ابن حجر رحمه الله ، واسم كتابه « الإعلام بقواطع الإسلام » .
[55] لا زال الكلام للشيخ سليمان .
[56] أحمد بن إبراهيم بن محمد ، أبو زكريا ، محي الدين ، الدمشقي ، الشافعي ، فقيه مجاهد ، توفي في معركة ضد الفرنجة سنة 814 هـ ، انظر ترجمته في « الضوء اللامع » للسخاوي (1/203) ، و « شذرات الذهب » (7/105) .
[57] أي ومن الكبائر .
[58] « تنبيه الغافلين » ، ص 323 .
[59] « تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد » ، باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره . ص 427 – 428 ، تحقيق أسامة بن عطايا العتيبي ، الناشر دار الصميعي .
وقد نقلت من حاشيته حفظه الله الإحالات على كتب الحنابلة المتقدم ذكرها في أول كلام المؤلف ، وكذا الترجمة المختصرة لابن النحاس رحمه الله .
[60] « مدارج السالكين » ، منزلة التوبة ، ص 605 ، الناشر دار طيبة .
[61] ولكاتبه عفا الله عنه بحث بعنوان « تلاعب الشيطان بعقول القبوريين » ، جمع فيها كلام ابن القيم في هذه المسألة من كتابه المذكور ، ورتبها وفهرسها ، وهو منشور على الشبكة ، نفع الله به .
[62] الطغام هم أراذل الناس وأوغادهم . « النهاية »
[63] « تحقيق كلمة الإخلاص » .
[64] الشيخ عبد الله من فحول علماء نجد ، ولد سنة 1194 هـ وتوفي سنة 1282 هـ ، ولي القضاء والإفتاء ، وله عدة كتب ، رحمه الله رحمة واسعة .
[65] « تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن جرجيس » ، ص 147 .
[66] « الدرر السنية » (1/467-468) .
[67] في المطبوع : تدري ، وأظنه تصحيف .
[68] ص 22 – 23 ، ت محمد علي الحلبي ، دار الفتح – الشارقة .
[69] أي حوّلتهم « القاموس المحيط » .
[70] أي وهبته .
[71] أي على الحنيفية وهي عبادة الله وحده .
[72] رواه مسلم (2865) عن عياض المجاشعي رضي الله عنه .
[73] جمعاء أي سليمة من العيوب ، مجتمعة الأعضاء كاملتها ، لا جدَع فيها ولا كيْ .
[74] الجدع هو القطع ، يقال عبد مجدع الأطراف أي مقطع الأطراف ، والمقصود أن البهيمة تكون سليمة حتى يتعرض لها بقطع ، والجدع أكثر ما يستعمل في الأنف . انظر « النهاية في غريب الحديث » لابن الأثير رحمه الله .
[75] رواه البخاري (1358) ، ومسلم (2658) ، وأحمد (2/275) ، ورواه الترمذي بنحوه (2138) ، وأبو داود (4714) ، ومالك في « الجنائز » .
[76] قُرى بالضم جمع قرية وهي البلد ، وإن كانت بالكسر فالمقصود مكان الضيافة لكون مكة تستضيف الناس من مشارق الأرض ومغاربها ، والله أعلم .
[77] أي لاتجاه السفينة .
[78] ص 171 ، الناشر دار ابن القيم .
[79] « مجموع الفتاوى » (27/87-88) .
[80] تِـرة أي نقص .
[81] « الاستغاثة في الرد على البكري » ص 331 – 332 .
[82] « إغاثة اللهفان » ، ص 202 ، تحقيق حامد الفقي .
[83] حرَد أي غضِـب . « لسان العرب » .
[84] أي ما أقل .
[85] « مدارج السالكين » (1/594 – 595) ، ط دار طيبة .
[86] « إيقاظ الوسنان على بيان الخلل في صلح الأخوان » 37 ، الناشر دار الشريف للنشر والتوزيع .
[87] « تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن جرجيس » ، ص 82 .
[88] « تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن جرجيس » ، ص 88 .
[89] « تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن جرجيس » ، ص 84 – 85 .
[90] « الداء والدواء » لابن القيم ، ص 208 – 211 . الناشر دار ابن الجوزي .
[91]  أخرجه أحمد في «المسند» (5/428 ، 429) ، وقال محققوه : إسناده حسن .
[92] الآية 62 .
[93] الآية 30 .
[94] « أنوار التنـزيل وأسرار التأويل » ، سورة الأحقاف : 5 ، باختصار وتصرف يسير .
[95] رواه الترمذي (3373) ، والطبراني في « الأوسط » (2452) ، وصححه الألباني رحمه الله في « صحيح الترمذي » (3373) .
[96] رواه البخاري (4497) ، وأحمد (1/374) .
[97] رواه الترمذي (2574) ، وصححه الألباني في « صحيح الترمذي » (2574) .
[98] « السيف المسلول على عابد الرسول » ، ص 24 ، باختصار .
[99] « تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان » ، أول سورة الصافات .
[100] « إغاثة اللهفان » ، ص 95-96 ، الناشر دار ابن الجوزي .
[101] رواه البخاري (3197) ، ومسلم (5235) ، وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما .
[102] « أوضح الإشارة في الرد على من أجاز الممنوع من الزيارة » ، ص 360 – 361 ، باختصار يسير .
[103] روى مسلم (2104) عن عائشة أنها قالت : واعد رسول الله e جبريل عليه السلام في ساعة يأتيه فيها ، فجاءت تلك الساعة ولم يأته ، وفي يده عصا فألقاها من يده ، وقال : ما يخلف الله وعده ولا رسله ، ثم التفت فإذا جرو كلب تحت سريره ، فقال : يا عائشة ، متى دخل هذا الكلب ها هنا ؟ فقالت : والله ما دريت) ، فأمر به فأخرج ، فجاء جبريل ، فقال رسول الله e : (واعدتني فجلست لك فلم تأت) .
فقال : منعني الكلب الذي كان في بيتك ، إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة .
[104] روى أبو داود في «سننه» (650) عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ذات يوم يصلي بأصحابه ، فبينما هو في الصلاة إذ خلع نعاله ، فخلع القوم نعالهم ، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال لصحبه : ما حملكم على إلقاء نعالكم؟
فقالوا : رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن جبريل عليه السلام أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا – أو قال : أذى - .
والشاهد من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم ما غاب عنه ، وهو في هذا الحديث القذر الذي كان في نعاله ، حتى أخبره جبريل .
والحديث صححه الألباني ، وكذا الشيخ مقبل الوادعي في «الصحيح المسند» (313) ، رحمهما الله .
[105] قصة الهودج رواها البخاري (4750) ومسلم (2770) عن عائشة رضي الله عنها ، والشاهد منها أن عائشة رضي الله عنها خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ، فلما كانوا ببعض الطريق ذهبت تلتمس عقدا لها ، فلما رجعت فإذا هم قد رحلوا وتركوها ، ظنا منهم أنها كانت في هودجها ، وكانت إذ ذات صغيرة ليست ذات لحم ، فلم يشعروا أنها ليست فيه لخفة وزنها ، فلحقتهم مشيا على أقدامها حتى أدركتهم في الظهيرة ، والشاهد هو أن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان يعلم ما غاب عنه لعلم بأن زوجته وأقرب الناس له قد ذهب الجيش وتركها .
[106] انظر « البحر الرائق » ، (5/143) ، و «مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر» (20/505) .
[107] « تفسير ابن جرير » ، سورة غافر : 20 .
[108] « تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن جرجيس » ، ص 86 .
[109] « الصواعق المرسلة » ، الفصل العشرون ، ص 497 ، الناشر دار العاصمة .
[110] الرباعية هي السن بين الثنية والناب ، وهي أربعة أسنان ، ثنتان في الفك الأعلى ، وثنتان في الفك الأسفل . انظر «المعجم الوسيط» .
[111] انظر البخاري (4075) ومسلم (1790) .
[112] رواه مسلم (1791) .
[113] قاله ابن حجر في « الفتح » ، كتاب المغازي ، باب ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من الجراح يوم أحد .
[114] أنظر تفصيل ذلك في « صحيح البخاري » (3268) ، ومسلم (2189) ، وابن ماجه (3545) ، وأحمد (6/57) .
[115] رواه أحمد (1/305) وأبو داود (4509) ، والبيهقي (8/46) ، وهو في « المعجم الأوسط » (3/103) .
قال مقيده عفا الله عنه : وفي هذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب ، وليس كما يدعي بعض الصوفية ، فاحذر وتنبه .
[116] رواه البخاري (4493) ، ومسلم (206) عن أبـي هريرة رضي الله عنه .
[117] رواه البخاري (4494) ، ومسلم (24) عن المسيب بن حزن رضي الله عنه .
[118] أي يلجأ .
[119] « القول السديد في مقاصد التوحيد » ، حاشيته على باب قول الله تعالى )أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون(.
[120] الإسراء : 57 .
[121] « تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان » .
[122] الفرقان : 2
[123] يونس : 107
[124] آل عمران : 160
[125] يس : 23
[126] فاطر : 3
[127] الملك : 20 – 21 ، ومن الجدير الاستشهاد به في هذا السياق قوله تعالى ]إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير[.
[128] البقرة : 102
[129] أي يحفظه .
[130] في « المعجم الوسيط » السَّـخاخ – بفتح السين وتشديدها وفتح الخاء - هي الأرض اللينة الحرة التي لا رمل فيها ، والمقصود أي خسفت به الأرض ، فيكون المعنى موافق للأثر الذي قبله .
[131] « إغاثة اللهفان » ، ص 82 – 83 ، الناشر دار ابن الجوزي .
[132] « السيف المسلول على عابد الرسول » ، ص 67 – 68 ، بتصرف يسير .
[133] « السيف المسلول على عابد الرسول » ، ص 31 – 32 .
[134] « تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن جرجيس » ، ص 118 – 119 .
[135] انظر تفسير ابن جرير لسورة التوبة ، الآية 92  .
[136] أي نطلب منه أن يوفر لنا ما يحملنا من الإبل ويحمل أثقالنا ، « شرح النووي » .
[137] أي بيض الأسنمة ، « شرح النووي » .
[138] رواه مسلم (4263) وابن ماجه (2107) والنسائي (3789) .
[139] العنكبوت : 17 .
[140] الذاريات : 56 - 58
[141] الإسراء : 111
[142] محمد : 38
[143] وذلك امتثالا لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز . رواه مسلم (2664)
[144] الإسراء : 7
[145] البقرة : 272
[146] رواه مسلم (2577) ، واللفظ الذي ساقه ابن القيم لفظ مختصر .
[147] الإنسان : 9
[148] « إغاثة اللهفان » ، ص 93-95 ، الناشر دار ابن الجوزي .
[149] من قات يقوت قوتا ، والمعنى أنه الذي يعطي الناس أقواتهم .
[150] أي هو الذي تلجأ إليه الخلائق في حاجاتها .
[151] النحل : 17 - 21
[152] رواه البخاري (4559) ، أو باختصار .
[153] رواه أحمد (2/93) ، وصححه محققو «المسند».
تنبيه : في هذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم الغيب ، إذ لو كان يعلم الغيب لما دعا عليهم أصلا .
[154] « جامع البيان في تأويل القرآن » ، تفسير سورة آل عمران : 128 ، و « المعجم الأوسط » (3/101) .
[155] « سيف الله على من كذب على أولياء الله » ، باختصار وتصرف يسير ، تحقيق علي رضا بن عبد الله بن علي رضا ، تقديم الشيخ صالح بن فوزان الفوزان ، الناشر دار الوطن للنشر .
[156] الصافات : 86 - 87
[157] « إغاثة اللهفان » ، ص 129-130 ، الناشر دار ابن الجوزي .
[158] مريم : 81 - 82
[159] يس : 74 - 75
[160] أي في الدنيا كانوا يدافعون عن آلهتهم ويغضبون لها سواء كانت أصناما أو قبورا أو غيرها ، وفي الآخرة تتبرأ منهم .
[161] الكلٌّ هو من كان عبأً على غيره . « المعجم الوسيط » ، والمعنى أنهم في الآخرة سيكونون نقمة عليهم وبلاء إذ لم ينصرونهم كما كانوا يظنون ويحسبون .
[162] هود : 101
[163] الشعراء : 213
[164] الإسراء : 22
[165] « إغاثة اللهفان » ، ص 93 ، باختصار يسير . الناشر دار ابن الجوزي .
[166] أي شابهه وفعل مثل فعله . « المعجم الوسيط » .
[167] أخرجه الذهبي في « العلو » ، برقم (464) ، ص 172 ، الناشر مكتبة أضواء السلف .
[168] في المطبوع : تشبيه ، والصواب أنها منصوبة لأنها خبر ليس .
[169] رقم (936) ، ط دار طيبة .
[170] في المطبوع : لأنه وصف لصفاته ، ولعله تصحيف .
[171] رقم (937) ، الناشر دار طيبة .
[172] في المطبوع : تدري ، وأظنه تصحيف .
[173] والكلام مقدر من النبي صلى الله عليه وسلم .
[174] « أوضح الإشارة في الرد على من أجاز الممنوع من الزيارة » ، ص 342 – 345 ، بتصرف .
[175] هود : 54 .
[176] انظر « حوار مع الصوفية » ، ص 56 ، لأبي بكر العراقي ، نقلا من مقال « أفيون الشعوب الإسلامية ، النتائج والآثار » ، وهو منشور في كتاب « دمعة على التوحيد » ، ص 78 ، الناشر : المنتدى الإسلامي .
[177] انظر « جهود علماء الحنفية لإبطال عقائد القبورية » ، ص 461 .
[178] « موالد مصر المحروسة » ، ص 53 ، نقلا من مقال « أفيون الشعوب الإسلامية ، النتائج والآثار » ، وهو منشور في كتاب « دمعة على التوحيد » ، ص 79 .
[179] ذكره ابن تيمية في « الرد على البكري » ، ص 631 .
[180] قاله محمد أحمد درنيقة ، عن « الانحرافات العقدية » ، ص 218 ، نقلا من مقال «أفيون الشعوب الإسلامية ، النتائج والآثار» ، عن « دمعة على التوحيد » ، ص 80 .
[181] « الانحرافات العقدية » ، ص 336 ، نقلا من مقال « أفيون الشعوب الإسلامية ، النتائج والآثار » ، عن ص 84 من «دمعة على التوحيد» .
[182] من مقال « أفيون الشعوب الإسلامية ، النتائج والآثار » ، خالد أبو الفتوح ، نقلا من ص 82 من « دمعة على التوحيد » .
[183] الشيخ عبد اللطيف من علماء نجد الكبار ، عاش في الفترة ما بين 1225 إلى 1293 هجرية ، رحمه الله رحمة واسعة .
[184] « الدرر السنية » ، (1/383) .
[185] أي صمت وضاقت . «لسان العرب» .
[186] « الدرر السنية » ، (1/384) .
[187] الصالح هو القائم بما أمره الله به ، المنتهي عما نهاه الله عنه .
[188] رواه ابن ماجه عن عبد الله بن أبي أوفى (1853) ، والحاكم (4/190) ، والطبراني في « الكبير » (5/208) ، وقال الألباني : حسن صحيح ، وانظر « الصحيحة » (1203) .
[189] أنظر ما رواه الدارمي في كتاب الصلاة ، باب النهي أن يسجد لأحد عن قيس بن سعد ، والحديث الآخر حديث ابن بريدة عن أبـيه .
وانظر أيضا ما رواه ابن ماجه (1852) وابن أبي شيبة كلاهما في كتاب النكاح عن عائشة رضي الله عنها .
وانظر أيضا ما رواه الترمذي (1159) وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه .
[190] انظر « فتح الباري » شرح حديث (6922) .
والأثر رواه ابن عساكر في « تاريخ دمشق » (الناشر دار الفكر) (42/475-476) في (ترجمة علي بن أبي طالب ) ، والأصبهاني في «طبقات المحدثين بأصبهان» (2/342-343) (الناشر مؤسسة الرسالة) ، وانظر ما قاله السمعاني في كتاب « الأنساب » (5/396) (الناشر دار الكتب العلمية) في النسبة إلى (النصيري) .
[191] « مجموع الفتاوى » (27/81) .
[192] (5/384) ، وأخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسير الآية الكريمة .
[193] سورة الإسراء ، الآيتان 56 – 57 .
[194] « زبدة التفسير من كلام العلي القدير » ، بتصرف يسير .
[195] رواه مسلم (1631) ، والنسائي (3653) ، وأبو داود (2880) ، وأحمد (2/372) عن أبـي هريرة رضي الله عنه .
[196] رواه مسلم (384) ، والترمذي (3614) ، والنسائي (677) ، وأبو داود (523) ، وأحمد (2/168) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه .
[197] رواه ابن ماجه (1498) ، وأبو داود (3201) ، وصححه الألباني .
ورواه أحمد (2/368) ، والترمذي (1024) بدون زيادة : اللهم لا تحرمنا أجره . . . الحديث .
[198] رواه أبو داود (3221) عن عثمان رضي الله عنه ، وصححه الشيخ ناصر في « صحيح أبـي داود » (3221) .
[199] رواه البخاري (3445) واللفظ له ، وأحمد (1/23) ، والدارمي (2787) .
[200] رواه مسلم (928) .
[201] انظر (2/74) من « الدرر السنية » .
[202] رواه الترمذي (2754) ، وصححه الشيخ الألباني في « صحيح الترمذي » (2754) .
[203] أي أعظمُنا عطاءً وعلُواً على الأعداء ، « عون المعبود » .
[204] رواه أبو داود (4806) ، والنسائي في « الكبرى » (10076) ، والبخاري في « الأدب المفرد » (211) ، وأحمد (4/24 – 25) ، وصححه الألباني في « صحيح أبي داود » .
[205] ص 61 ، ط دار إحياء التراث العربي .
   وأخرجه الطيالسي في «المسند» (2325) ، وابن أبي شيبة في «المصنف» (10689) ، والجوهري في مسند ابن الجعد ( ص 195 رقم 1281) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (2/16) من طريقين عن شعبة قال : سمعت أبا حمزة يحدث عن هلال بن حصين قال : نـزلت دار أبي سعيد ، فضمني وإياه المجلس ، فحدثني أنه أصبح ذات يوم وقد عصب على بطنه من الجوع ، قال : فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأدركت من قوله وهو يقول : من يستعفف يعفه الله ، ومن يستغن يغنه الله ، ومن سألنا إما أن نبذل له ، وإما أن نواسيه ، ومن يستغن عنا خير له من أن يسألنا .
قال : فرجعت فما سألته شيئاً .
[206] رواه الترمذي (2326) ، وأبو داود (1452) ، وصححه الألباني رحمه الله كما في « صحيح الترمذي » .
[207] رواه مسلم واللفظ له (1043) ، والنسائي (459) ، وابو داود (1642) ، وابن ماجه (2867) ، وأحمد (6/27) .
[208] الحب هو المحبوب . «النهاية» .
[209] رواه أحمد (1/11) ، وقال محققو «المسند»: حسن لغيره .
[210] « تفسير القرآن العظيم » ، سورة البقرة : آية 130 .
[211] رواه البخاري (2856) ، ومسلم (30) .
[212] الورِق هو الفضة .
[213] رواه الطيالسي في المسند (1161) وأحمد في المسند (4/130) ، والترمذي (2863) وقال : حسن صحيح ، وأبو يعلى في المسند (1571) ، وابن حبان (6233) ، وغيرهم ، وقال الشيخ ابن باز رحمه الله في إجابة شفهية : حديث جيد رجاله ثقات ، وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني كما في « صحيح الترمذي » (2863) . 
[214] أي : كان خليفة المسلمين .
[215] « صحيح البخاري » ، (1399 ، 1400) .
[216] انظر « الدرر السنية » (2/47) .
[217] نقلا من « الرد على الإخنائي » ، لابن تيمية رحمه الله ، ص 466 ، بتصرف يسير .
[218] «الداء والدواء» ، ص 212 – 213 ، بتصرف يسير .
[219] «الداء والدواء» ، ص 217 – 219 ، وبنحوه قال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم في «السيف المسلول على عابد الرسول» ، ص 33 – 34 .
[220] شرح الحديث السادس .
[221] التوبة : 34 - 35
[222] التوبة : 55
[223] « إغاثة اللهفان » ، ص 84-85 ، الناشر دار ابن الجوزي .
[224] « مجموع الفتاوى » (1/39) .
[225] « مجموع الفتاوى » (10/185 - 186) .
[226] « مجموع الفتاوى » (10/198) .
[227] رواه أحمد (3/18) ، والبخاري في « الأدب المفرد » (710) ، عن أبـي سعيد الخدري رضي الله عنه . وقال محققو «المسند» : إسناده جيد .
[228] باب « قدوم ضمام بن ثعلبة » (6/52) .
[229] أي خفية . «النهاية» .
[230] أي تكفير العابد لما سوى الله .
[231] «السيف المسلول على عابد الرسول» ، ص 11 .
[232] « حاضر العالم الإسلامي » ، (12 / 259 – 260) ، نقلا من « زيارة القبور عند المسلمين » لسالم بن قطوان العبدان ، ص 21 – 22 .
[233] « الانحرافات العقدية » ، ص 310 ، نقلا من مـقال « أفيون الشعوب الإسلامية ، النتائج والآثار » ، ص 85 ، من «دمعة على التوحيد» .
[234] « الاستغاثة في الرد على البكري » (2 / 582 – 587) باختصار يسير .
[235] المقصود بالقول هنا القرآن .
[236] « الاستغاثة في الرد على البكري » (2 / 588 – 589) .
[237] رواه البخاري  (7405) ، ومسلم (2675) .

 

ماجـد الرسي
  • كتب عربية
  • رسائل العقيدة
  • "English"انجليزي
  • "Philippino"الفلبينية
  • كتب بلغات أخرى
  • بريد الكاتب e-mail
  • الصفحة الرئيسية