| 
       | 
      
  	
		
		الحمدلله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد : 
		فلا يشك أحدٌ في فضل العلم ، وشرفه ، فقد جاءت الآيات والأحاديث مُنَوِّهةً 
		بفضله ، والحث عليه، وبيان عظيم قدر أهله ؛ وهي معلومة معروفة ، وهذه 
		إشاراتٌ موجزة مختارة، من كلام الأئمة في العلم ، يحسن بطالب العلم ، أن 
		يفيد منها ، وهي قد لا تنتظم في باب واحد، ولكن يجمعها أنها كلَّها في 
		العلم ، ومن المعلوم أن كلام الأئمة في ذلك كثير وافر، ولكنَّ تجليةَ 
		كلامهم وإبرازَه مهمٌ غايةً ؛ تثبيتاً للعامل ، وتذكيراً للغافل ، وتنبيهاً 
		للوسنان، والله المستعان ، وعليه التكلان : 
		
		الإشارة الأولى: 
		يقول أبو بكر المرُُّوْذي في كتاب الورع ص7 : (سمعت فتح بن أبي الفتح يقول 
		لأبي عبدالله ـ يعني الإمام أحمد ـ في مرضه الذي مات فيه : ادع الله أن 
		يحسن الخلافة علينا بعدك ؟ وقال له : من نسأل بعدك ؟فقال : سل عبدالوهاب بن 
		عبد الحكم . وأخبرني من كان حاضراً ، أنه قال له : إنه ليس له اتساع في 
		العلم ؟! 
		فقال أبو عبدالله : إنه رجل صالح ، مثله يوفق لإصابة الحق) . 
		فهذه كلمة عظيمة خرجت من رجل استبطن دخائل العلم، واستجلى غوامضه ، 
		لتُبِيْن بجلاء أن الصلاح سبيلٌ للتوفيق في العلم، وإصابة الحق فيه. 
		ومصداق ذلك في كتاب الله في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا 
		إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ 
		سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ] 
		{الأنفال:29} 
		قال ابن جريج وابن زيد كما في روح المعاني للألوسي 5/196: ( هداية ونوراً 
		في قلوبكم ، تفرقون به بين الحق والباطل )*. 
		ولا شك أن من أعظم الهداية والنور، هو العلم النافع. 
		
		الإشارة الثانية : 
		يقول الإمام عبدالله بن المبارك كما في السير للذهبي 8/400: ( رب عمل صغير 
		تكثره النية ، ورب عمل كثير تصغره النية ) . 
		فهذا الإمام الكبير يبين أن للنية دوراً في تكثير العمل وتصغيره ، ولا شك 
		أن المعول في ذلك على الإخلاص، والآيات والأحاديث الآمرة به وافرة معلومة .
		
		وقد غفر الله لبغيٍّ ؛ لأجل أنها سقت كلباً ، كان يلهث من العطش ،قال شيخ 
		الإسلام ابن تيمية كما في منهاح السنة6/218 ( فهذه سقت الكلب بإيمان خالص 
		كان في قلبها فغفر لها ، وإلا فليس كل بغيٍ سقت كلباً يغفر لها ...فالأعمال 
		تتفاضل بتفاضل مافي القلوب من الإيمان والإجلال ) . 
		فمن أراد بركة العلم ، فليلزم الإخلاص فثمَّ العلم . 
		والمسألة شديدة المطلب ، وعرة المسلك ، تحتاج إلى معالجة ومجاهدة ، لكن 
		الثمرة هداية السبيل، واستنارة الطريق، [وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا 
		لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا] {العنكبوت:69} . 
		وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 18/261 إلى أن 
		الإخلاص في النفع المتعدي أقل منه في العبادات البدنية . 
		ولعل تعليل ذلك أن حظ النفس في العمل المتعدي أوفر . 
		ومن دقيق ما يذكر في تحري بعض أهل العلم للإخلاص ، والبعد كل البعد عما 
		يخدشه ، ما ذكره ابن عبد الهادي ، المعروف بـ ( ابن الْمَبْرد ) في كتابه 
		الجوهر المنضد في طبقات متأخري أصحاب الإمام أحمد ص52 قال : ( وأخبرت عن 
		القاضي علاء الدين بن اللحام أنه قال : ذكر لنا مرة الشيخ ـ يعني الحافظ 
		ابن رجب ـ مسألة فأطنب فيها ، فعجبت من ذلك ، ومن إتقانه لها ، فوقعت بعد 
		ذلك بمحضر من أرباب المذاهب وغيرهم ، فلم يتكلم فيها الكلمة الواحدة ، فلما 
		قام ، قلت له : أليس قد تكلمت فيها بذلك الكلام ، قال : إنما أتكلم بما 
		أرجو ثوابه ، وقد خفت من الكلام في هذا المجلس ) . 
		قال الذهبي في السير4/494 : (ينبغي للعالم أن يتكلم بنية وحسن قصد ، فإن 
		أعجبه كلامه فليصمت ، فإن أعجبه الصمت فليتكلم ، ولا يفتر عن محاسبة نفسه؛ 
		فإنها تحب الظهور والثناء ) . 
		فاللهم ارحمنا ، وقنا شرور أنفسنا والشيطان . 
		
		الإشارة الثالثة: 
		يقول الإمام مالك كما في السير للذهبي 8/107 ( ليس العلم بكثرة الرواية ، 
		ولكن حيث شاء الله جعله ) . 
		وفي رواية عنه : ( ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم نور يضعه الله في 
		القلوب ) ذكرها القاضي عياض في الإلماع ص217 
		ويقول الإمام أحمد كما في الآداب الشرعية 2/59 ـ60 ( إنما العلم مواهب 
		يؤتيه الله من أحب من خلقه ) . 
		فدلت هاتان الكلمتان من هذين الإمامين، أن نيلَ العلم إنما هو محض توفيق 
		الله وفضله، نسأل الله ألا يحرمنا فضله ، وقد نظم هذا المعنى العلامة ابن 
		القيم في نونيته، فقال : 
		والعلم يدخل قلب كل موفـق من غير بواب ولا استئذان 
		ويرده المحروم من خذلانـــــه لا تشقنا اللهم بالحرمـــان 
		وكلام هؤلاء منطلقٌ من قوله تعالى : [يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ 
		يَشَاءُ...]الآية. {البقرة:269} 
		قال مجاهد كما في تفسير الطبري 5/9( القرآن والعلم والفقه ) . 
		وليس معنى هذه الإشارة أن يترك المرء فعل الأسباب ، منتظراً بين عشية أو 
		ضحاها أن يكون حبرَ الأمة ، وعلامةَ الزمان ! 
		لا، بل يتحتم عليه الطرقُ للباب ، والأخذُ بالأسباب ؛ فإن الله ـ سبحانه ـ 
		قال : [...وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا 
		مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ 
		يَشَاءُ...]الآية. {النور:21} وقال : [...وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا 
		يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ...]الآية. {فاطر:18} . 
		
		وإنما القصدُ من هذه الإشارة أمورٌ أربعة : 
		1ـ ألا يتكل المرء على فعل الأسباب ؛ بل يتوكل على ربه تمام التوكل ، 
		مسلماً إياه زمامه وخطامه ، يدعوه ـ دوماً ـ أن يصلح له شأنه كله، وألا 
		يكله إلى نفسه طرفة عين. 
		2ـ أن يسأل ربه العلم النافع ، كما سأل نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ربه 
		أن يزيده من العلم النافع ، كما في قوله تعالى : [وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي 
		عِلْمًا] {طه:114} 
		3ـ أن يشكر ربه على كل فائدة يستفيدها ، وكل علم يتعلمه ، فالشكر سبيل 
		زيادة النعم، قال تعالى :[...لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ...]الآية. 
		{إبراهيم:7} وقد جاء في تعليم المتعلم للزرنوجي ص 38 عن أبي حنيفة أنه قال: 
		(إنما أدركت العلم بالحمد والشكر ، فكلما فهمت شيئاً من العلوم ، ووقفت على 
		فقه وحكمة ، قلت: الحمد لله ، فازداد علمي ) . 
		4ـ ألا يعجب بنفسه ، ولا يتكبر على الخلق ، إذا أتقن علماً ، أو حفظ متناً 
		؛ لأن ذلك من الله ـ سبحانه ـ قال تعالى: [مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ 
		فَمِنَ اللهِ ...]الآية. {النساء:79} ، وقال : [وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ 
		فَمِنَ اللهِ...]الآية. {النحل:53} . 
		بل عليه أن يلزم الذل والمسكنة لله ، فإنه ليس شيء أنفع له من ذلك ، وهذا 
		سَنَن العلماء الراسخين ، وقد نقل ابن القيم كما في المدارج 1/524عن شيخه 
		ابن تيمية، أنه كثيراً ما يقول : ما لي شيء ، ولا مني شيء ، ولا فيَّ شيء ، 
		وكان كثيراً ما يتمثل بهذا البيت : 
		أنا المكــدي وابن المكــدي وهكــذا كان أبي وجــدي 
		ومن جميل ما يذكر في ذم العجب ، وأنه سبيل عاجل لمحق بركة العلم ، ما ذكره 
		الماوردي ـ أحد علماء الشافعية ـ عن نفسه ؛ إذ يقول في كتابه أدب الدنيا 
		والدين ص 81 : ( ومما أنذرك به من حالي أنني صنفت في البيوع كتاباً جمعت 
		فيه ما استطعت من كتب الناس ، وأجهدت فيه نفسي ، وكددت فيه خاطري ، حتى إذا 
		تهذب واستكمل ، وكدت أعجب به ، وتصورت أنني أشد الناس اضطلاعاً بعلمه ، 
		حضرني - وأنا في مجلسي - أعرابيان ، فسألاني عن بيع عقداه في البادية ، على 
		شروط تضمنت أربع مسائل ، لم أعرف لواحدة منها جواباً ، فأطرقت منكراً ، 
		وبحالي مفكراً ، فقالا : ما عندك فيما سألناك جواب ، وأنت زعيم هذه الجماعة 
		؟ فقلت : لا . فقالا : واهاً لك ! وانصرفا، ثم أتيا من يتقدمه في العلم 
		كثير من أصحابي ، فسألاه ، فأجابهما مسرعاً بما أقنعهما ، وانصرفا عنه 
		راضيين بجوابه، حامدين لعلمه ، فبقيت مرتبكاً ، وبحالهما وحالي معتبراً ، 
		فكان ذلك زاجر نصيحة ، ونذير عظة ، تَذلَّلَ بهما قيادُ النفس، وانخفض لهما 
		جناحُ العجب ، توفيقاً مُنِحتُه ، ورشداً أُوتيتُه...) إلخ ما قال ـ رحمه 
		الله ـ . 
		
		الإشارة الرابعة: 
		أخرج الخطيب البغدادي في الجامع رقم1850 أن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله 
		عنه ـ قال : (إني لأحسب الرجل ينسى العلم ، بالخطيئة يعملها ). 
		كما أخرج الخطيب في الجامع ـ أيضاًـ رقم 1846 أن رجلاً قال للإمام مالك : 
		يا أبا عبدالله، هل يصلح لهذا الحفظ شيء ؟ قال : ( إن كان يصلح له شيء ، 
		فترك المعاصي ) . 
		فينبغي لطالب العلم أن يحاسب نفسه دوماً ، وألا يغفل عنها ، وليحذر كل 
		الحذر من ذنوب الخلوات ؛ فإن لها عواقب وخيمة ، من نزع البركة ، وضياع 
		المقصود ، وحرمان العلم ، فاللهم ربنا لا تجعلنا من المحرومين . 
		
		الإشارة الخامسة : 
		أخرج ابن عبد البر في جامع بيان العلم رقم 2080 عن الأوزاعي أنه قال: ( إذا 
		أراد الله أن يحرم عبده بركة العلم ، ألقى على لسانه الأغاليط ) . 
		ويقول الإمام مالك كما في جامع العلوم والحكم 1 / 248: ( المراء والجدال في 
		العلم يذهب بنور العلم). 
		فينبغي لطالب العلم أن يجتنب الجدل العقيم ،في درسه ، أو منتداه العلمي 
		الذي يكتب فيه، وإنك إذا قلبت طرفك ـ أحياناً ـ في بعض المنتديات العلمية 
		أو في بعض الحسابات في أجهزة التواصل الاجتماعي، فإنك تشمُّ شيئاً من هذا 
		الجدل ، يزكم الأنوف . 
		كما ينبغي له ألا يسأل إلا وهو يريد الفائدة ،آخذاً بأدب السؤال ، لا يريد 
		بذلك الغلبة والاشتهار ، وقد أخرج ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي ص92 عن 
		الشافعي قوله : ( والله ما ناظر ت أحداً فأحببت أن يخطئ ) . 
		وهذا خلق ـ من الإمام الشافعي ـ رفيع لا يسطيعه إلا رجل موفق ،كريم الخليقة 
		، جزل المروءة. 
		وليحذر من السؤال بقصد إعنات الشيخ ، وإظهار عجزه ،فقد قال الحسن البصري 
		كما في جامع العلوم والحكم 1/ 247: (شرار عباد الله الذين يتبعون المسائل 
		يغُمُّون عباد الله ) . 
		وأخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق 29 / 305 عن الزهري ، أنه قال : قال أبوسلمة 
		بن عبدالرحمن : (لو رفقتُ بابن عباس لأفدتُ منه علماً كثيراً ) قال الزهري 
		: ( وكان أبو سلمة ينازع ابن عباس في المسائل ويماريه). 
		
		الإشارة السادسة: 
		يقول الشعبي كما في تهذيب الكمال للمِزِّي 14/38 : ( العلم أكثر من أن يحصى 
		، فخذ من كل شيء أحسنه ). 
		فهذا إمام نبت في العلم وتشربه ، يدفع بهذه النصيحة التي تعطي طالب العلم 
		درساً بأن يأخذ من كل فن أصوله وقواعده ، فإن الإحاطة بالعلوم كلها يكاد أن 
		يكون مستحيلاً ، قال العلامة ابن عثيمين في منظومته في أصول الفقه: 
		
		وبعد فالعلم 
		بحور زاخـرة لن يبلغ الكادح فيه آخـــره 
		ولكنَّ في أصوله تسهيـلا لنيله ، فاحرص تجد ســـبيلا 
		اغتنم القواعد الأصــولا فمن تفتـه يحرم الوصـــــولا 
		وقد قال 
		الذهبي كما في السير 5/260 : ( ومازال في كل وقت يكون العالم إماماً في فن، 
		مقصراً في فنون) . 
		وهذه الكلمة من الإمام الذهبي تبين لطالب العلم ، بأنه ينبغي له بعد أن 
		يأخذ من كل علم طرفاً،أن يتخصص في فن من الفنون ؛ لكي يتقنه ، وليكن تخصصه 
		في فن تميل إليه نفسه ، فإن ذلك مظنة الإتقان . 
		ومن طريف ما يذكر في ذلك ؛ ما ذكره الذهبي في السير 17 /173 أن الحاكم 
		النيسابوري ، طلب من الأديب بديع الزمان الهمذاني ـ حفظ جزء حديثي في أسبوع 
		كامل ، فما استطاع ؛ وذلك لأنه ليس فنَّه ، ولاتخصصَه، مع أنه فيما يروى 
		عنه يحفظ المائة بيت إذا أنشدت بين يديه مرة ، وينشدها من آخرها إلى أولها 
		مقلوبة. 
		
		الإشارة السابعة: 
		يقول سعيدٌ بنُ عبدالرحمن الزُّبيدي ـ قاضي الري ـ كما في تهذيب الكمال 
		للمِزِّي 0 1/533: (يعجبني من القراء كلُّ سهل طلق ، فأما من تلقاه ببشر 
		ويلقاك بعبوس ، فلا أكثر الله في القراء ضرْبَ هذا ) . 
		فربما اختلط الأمر على بعضهم ، حين يسمع أنه ينبغي لطالب العلم ، أن يكون 
		ذا سمتٍ وحشمة ، ودلٍٍّ وتخشع،فيظن أن ذلك يعني الجفاء مع الناس ، وعدم 
		التطلق في وجوههم، وفي هذا مجافاة لهدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ. 
		يقول جرير بن عبدالله ـ رضي الله عنه ـ: ( ما رآني رسول الله ـ صلى الله 
		عليه وسلم ـ إلا تبسم في وجهي) أخرجه البخاري ومسلم. 
		ويقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( تبسمك في وجه أخيك صدقة ) أخرجه أحمد 
		والترمذي . 
		قال الإمام الذهبي في السير10/140 (أعلى المقامات من كان بكاءً بالليل ، 
		بساماً بالنهار ). 
		
		الإشارة الثامنة: 
		ليس لوقت طلب العلم انتهاء صلاحيَّة ، فما دام في الإنسان عين تطرف ، وعرق 
		ينبض ، فهو مهيأ لطلب العلم ، والتوفيق بيد الله ، يختص به من بشاء ، و هذه 
		قصة عجيبة في ذلك ذكرها ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان 5/116 لما تكلم 
		عن مرو الشاهجان ، قال : ( وإليها ينسب أبو بكر القفال المروزي ، وحيد 
		زمانه فقهاً وعلماً ، رحل إلى الناس، وصنف ، وظهرت بركته ، وهو أحد أركان 
		مذهب الشافعي ، وتخرج به جماعة ، وانتشر علمه في الآفاق ، وكان ابتداء 
		اشتغاله بالفقه على كبر السن ، حدثني بعض فقهاء مرو ، أن القفال الشاشي صنع 
		قفلاً وزنه دانق واحد ، فأعجب الناس به جداً ، وسار ذكره ، وبلغ خبره إلى 
		القفال المروزي ، وصنع قفلاً مع مفتاحه ، وزنه طسوج ، وأراه الناس 
		فاستحسنوه ، ولم يشع له ذكر ، فقال يوماً لبعض من يأنس إليه : ألا ترى كل 
		شيء يفتقر إلى الحظ ؟ عمل الشاشي قفلاً وزنه دانق ، وطنت به البلاد ، وعملت 
		أنا قفلاً بمقدار ربعه ، ما ذكرني أحد!! 
		فقال له : إنما الذكر بالعلم ، لا بالأقفال ، فرغب في العلم واشتغل به ، 
		وقد بلغ من عمره أربعين سنة ، وجاء إلى شيخ من أهل مرو ، وعرفه رغبته فيما 
		رغب فيه ، فلقنه أول كتاب المزني ، وهو : هذا كتاب اختصرته ، فصعد إلى سطح 
		منزله وأخذ يكرر على نفسه هذه الألفاظ الثلاثة من العشاء إلى أن طلع الفجر 
		، فغلبته عينه فنام ، ثم انتبه وقد نسيها ، فضاق صدره ، وقال : أيش أقول 
		للشيخ ؟ 
		وخرج من بيته ، وقالت له امرأة من جيرانه : يا أبا بكر ، لقد أسهرتنا 
		البارحة في قولك : هذا كتاب اختصرته، فتلقنها منها ، وعاد إلى شيخه ، 
		وأخبره بما كان منه ، فقال له : لا يصدنك هذا عن الاشتغال، فإنك إذا لازمت 
		الحفظ والاشتغال صار لك عادة . فجَدَّ ولازمَ الاشتغال حتى كان منه ما كان 
		، فعاش ثمانين سنة ، أربعين سنة جاهلاً ، وأربعين سنة عالماً، وقال أبو 
		مظفر السمعاني عاش تسعين سنة ، ومات سنة 417هـ ) . 
		
		وقد ترجم السبكي في الطبقات 5/53ـ54 لهذا العالم ، فقال : ( الإمام ، 
		الزاهد ، الجليل، البحر ، أحد أئمة الدنيا ، يعرف بالقفال الصغير المروزي ، 
		شيخ الخراسانيين وليس هو القفال الكبير ، هذا أكثر ذكرا في الكتب ؛ أي كتب 
		الفقه ، ولا يذكر غالباً إلا مطلقاً ، وذاك إذا أطلق قيد بالشاشي ... كان 
		القفال المروزي هذا من أعظم محاسن خراسان ، إماماً كبيراً ، وبحراً عميقاً 
		، غواصاً على المعاني الدقيقة ، نقي القريحة ، ثاقب الفهم ، عظيم المحل ، 
		كبير الشأن ، دقيق النظر ، عديم النظير، فارساً لا يشق غباره ، ولا تلحق 
		آثاره ، بطلاً لا يُصطلى له بنار ، أسداً ما بين يديه لواقفٍ إلا الفرار 
		... وكان ـ رحمه الله ـ قد ابتدأ التعلم على كبر السن ، بعدما أفنى شبيبته 
		في صناعة الأقفال ، وكان ماهراً فيها . 
		
		قال الشيخ أبو محمد الجويني: أخرج القفال يده ، فإذا على ظهر كفه آثار 
		المجل ، فقال : هذا من آثار عملي ، في ابتداء شبابي ... وسمعته يقول : 
		ابتدأت التعلم ، وأنا لا أفرق بين اختصرتُ ، واختصرتَ. 
		قال ابن الصلاح : أظن أنه أراد بهذا ؛ الكلمة الأولى من مختصر المزني ، وهو 
		قوله : اختصرت هذا من علم الشافعي ، وأراد أنه لم يكن يدرى من اللسان 
		العربي ما يفرق به بين ضم تاء الضمير وفتحها. 
		وقال ناصر العمري : لم يكن في زمان أبي بكر القفال أفقه منه ، ولا يكون 
		بعده مثله، وكنا نقول : إنه ملك في صورة إنسان ) . 
		
		اللهم إنا نعتضد بك فيما نعتمد، ونعتصم مما يصم، ونسترشد الى ما يرشد، فما 
		المفزع إلا إليك، ولا التوفيق إلا منك، ولا الاستعانة إلا بك، إنك ـ يا 
		ربَّنا ـ نعم المعين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
		
		
		---------------------------
		* فإن قيل: أليس الاستدلال بقوله تعالى: ( واتقوا الله 
		ويعلمكم الله...) أصرح في الدلالة؟ فالجواب عن هذا بأن يقال: بأن هذه الآية 
		طعن بعض أهل العلم في دلالتها، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى 
		18/177 ( وأكثر الفضلاء يطعنون في هذه الدلالة؛ لأنه لم يربط الفعل الثاني 
		بالأول ربط الجزاء بالشرط، فلم يقل ( اتقوا الله يعلمكم الله...) ولا قال: 
		( فيعلمكم...) وإنما أتى بواو العطف، وليس من العطف ما يقتضى أن الأول سبب 
		الثاني..) .