اطبع هذه الصفحة


العلمانية ...هل تصبح خيارا شعبيا في السنوات القادمة ؟

 أحـمـد فـهـمـي

 
قد يعجب البعض من هذا التساؤل ...و يقول: كيف يختار المسلمون العلمانية، وهم يعلمون أنها رفض للإسلام وكفر به ؟ بل كيف يحدث ذلك في الوقت الذي نرى فيه مظاهر متعددة للتفاعل الجماهيري مع القضايا الإسلامية ؟ وهل يمكن أن يتحول هذا التأييد الشعبي للإسلاميين في الانتخابات البرلمانية وغير البرلمانيةإلى رفض وإعراض ؟
و نحن إذ نحاول إزالة هذا العجب؛ لا ندعي أن الإجابة حتماً على هذا التساؤل هي بالإيجاب، بل نرجو من الله عز وجل أن يجعل النفي القاطع هو الإجابة الواقعية عليه، ولكن هناك شواهد وعلامات كثيرة تجعلنا على الأقل نشعر بالخطر من تحقق هذا التحول في مشاعر الجماهير المسلمة، وسوف نتناول هذه القضية بمشيئة الله تعالى في مقالين متتالين:
الأول: مقدمة لابد منهاعن العلمانية .
الثاني: مسوغات القول بالتحول العلماني للجماهير .

أولا : مقدمة لابد منها عن العلمانية:
من الأمور الهامة التي ينبغي لنا استيعابها واستحضارها بصورة دائمة أساليب العلمانيين في ترويج وترسيخ العلمانية في المجتمعات المسلمة، و بالاطلاع على التجارب العلمانية في عدد من البلاد العربية يمكننا استخلاص الأساليب الرئيسة التالية :
الأول: إيجاد النخبة والرموز " طلائع العلمانية: من أمثال الطهطاوي، وخير الدين التونسي، وقاسم أمين، ومحمد عبده، والطاهر الحداد، وقد يتم إعدادهم محلياً أو عن طريق الابتعاث الخارجي، وقد بلغ عدد المبتعثين إلى أوروبا من مصر وحدها في الفترة من 1813-1919: 900 مبتعثاً، عدا من تعلم على نفقته الخاصة .
الثاني: ترويج الشعارات، والمفاهيم العلمانية، والاجتراء على اقتحام المناطق الشرعية المحرمة: وأبرز تلك المفاهيم ما يتعلق بارتباط التخلف بالتدين، والحضارة بالغرب، وكذا تحرير المرأة، وقد راج المفهوم الأول بداية من القرن التاسع عشر الميلادي حتى اعتقد كثيرون أنه:" لم يبق أمام الإسلامي إلا هذا الخيار :إما الانخراط في الحداثة الأوروبية، وإما التهميش والاستتباع".
ويذكر جورجي زيدان عن تحرير المرأة أنه ظل منطقة محرمة "حتى صرح الشيخ محمد عبده بآرائه فكثر مريدوه،وأول أولئك قاسم أمين.." ثم تتابع انتشارها في معظم البلاد العربية، يقول علي عبد الرازق عن السوريين:"أنهم لم يتجاوزوا بعد طور البحث النظري الذي بدأه عندنا قاسم أمين منذ عشرين سنة …"واقتحم الطاهر الحداد ذلك المجال في تونس بكتاب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع ".
الثالث: السيطرة على المؤسسات التربوية والثقافية والدينية ذات البعد الجماهيري:
مثل المؤسسات التعليمية والدينية،وقد بدأ ذلك منذ عهد محمد علي،عندما انقسم التعليم في مصر إلى نظام ديني ونظام مدني لأول مرة،وذلك لتحجيم دور الأزهر كمؤسسة تعليمية دينية،ثم استتبع ذلك بصدور أول قانون لإصلاح الأزهر من الخديوي إسماعيل سنة 1872 .
كما أن معظم وسائل الإعلام من صحافة وسينما وإذاعة، ثم التلفاز وغيره، كانت من بداية نشأتها علمانية .
الرابع: علمنة القانون والنظام : وقد يكون منطقياً أن تتم علمنة القانون، وإلغاء الشريعة في وقت متأخر نسبياً، لكن وجود الاستعمار الغربي في معظم بلاد الإسلام مكنه من التبكير بهذه الخطوة، فتم في بلاد الهند إلغاء الشريعة تدريجيا حتى ألغيت تماماً في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي، وفي الجزائر ألغيت سنة 1830،وفي تونس أدخل القانون الفرنسي سنة 1906،وفي المغرب سنة 1913، وفي مصرسنة1883 وقد برر الخديوي إسماعيل فعله ذلك لعلماء الأزهر بقوله:"إن أوروبا تضطرب إذا هم لم يحكموا بشريعة نابليون ".
والمقصود بعلمنة النظام، قيام الغرب بتدعيم رموز علمانية تستولي على السلطة بعد انسحابه من البلاد الإسلامية؛ لتحفظ مصالحه، وتكمل مسيرة العلمانية، فكانت باكورة أعمال تلك الرموز القضاء على الإسلاميين الذين ساعدوهم على امتلاك السلطة - وكانوا أحق بها وأهلها – حتى وصف بعض الكتاب ذلك الجيل من الإسلاميين بقوله:"وهكذا جاء الجيل الثاني من المناضلين الإسلاميين مكوناً من شهداء ممن قام زملاؤهم - القوميون - بقتلهم وسجنهم أو نفيهم" حدث ذلك في الجزائر سنة 1962 مع جمعية العلماء، وفي مصر سنة 1954مع الإخوان المسلمين .
الخامس: تجريم الدعوة إلى أسلمة المجتمع: يتجلى ذلك بوضوح في النموذج التركي حيث صدر في سنة 1946،ما يسمى بقانون (إقرار السكون) والذي يحاكم كل من ينادي بعودة الدين أو بإقامة حكومة تعتمد على الشريعة الإسلامية، رغم مخالفة ذلك للعلمانية الغربية التي تمثلها تركيا، وكما يقول أربكان "كل واحد في الغرب يملك الحرية الدينية ولا أحد يجبر الآخرين على قبول اعتقاده "، إذ إن علمانية الغرب توصف بأنها ( غير معادية للدين )،في مقابل العلمانية المتطرفة المعادية للدين مثل الدول الشيوعية .
وبالطبع لا يتم استخدام هذه الأساليب كلها دفعة واحدة، بل هناك نوع من الترتيب والتتابع الزمني، رغم ما يظهر بينها من تداخل... وهذه التتابعية تمكننا من بلورة هذه الأساليب في مراحل تبين تطور تغلغل العلمانية في مجتمعاتنا، وارتباط ذلك بوجود وانتشار كل من هذه الأساليب:
أولا: المرحلة التحضيرية : " إيجاد النخبة – ترويج الشعارات والمفاهيم ".
ثانيًا: المرحلة التوسعية : " الأساليب السابقة+ السيطرة على المؤسسات " .
ثالثًا: العلمانية المتأسلمة : " الأساليب السابقة+ علمنة القانون والنظام " .
رابعًا: العلمانية الكاملة : "الأساليب السابقة+ تجريم الدعوة " .
وهذه المرحلية يدعمها تأمل مزدوج، وذلك باستخدام الزمان والمكان ...فلو أخذنا بلدًا مثل مصر (تثبيت المكان ) وتجولنا عبر الزمان لوجدنا تتابعًا واضحًا لهذه المراحل، وكذا لو رجعنا إلى الواقع (تثبيت الزمان ) وتجولنا عبر المكان فسنجد نفس المراحل متمثلة في المجتمعات الإسلامية .
وبعد ما يزيد على المائة والخمسين سنة من العلمانية في بلاد الإسلام، وبكل ما تضمنتها من تجارب وخبرات وسياسات فشل بعضها ونجح البعض الآخر، تمخض ماضي وحاضر العلمانية عن نموذجين يقدمان لباقي الدول والمجتمعات الإسلامية لمحاكاتهما والسير على نهجهما:
الأول: النموذج التركي.
الثاني: النموذج المصري.
ونقصد بكون ذلك البلد نموذجًا:صلاحيته (الوقتية) لأن تقتبس عنه الدول الأخرى الكثير من سياساته المتعلقة بتطبيق العلمانية، والتعامل مع معارضيها، سواء كان ذلك اقتباسًا كليا أو جزئيا، وسواء كان بالاستيراد النظري أو باستجلاب الخبراء .
والنموذج التركي نموذج قديم: يمثل صانعه أتاتورك زعيمًا ملهمًا لكثير من علمانيي السياسة والمجتمع، فقد كان بورقيبة شديد الاهتمام بتجربة أتاتورك في تركيا، وكتب لابنه في استنبول:"فكرت طويلا بتجربة أتاتورك، وهناك أشياء تؤخذ وأشياء تترك " ولما استولى على السلطة في تونس طلب من أستاذه الفرنسي "روبير مانتران " أن يزوده بكل المستندات التي بحوزته عن فكر أتاتورك ...كما صرح كل من عبد الناصر والسادات في أكثر من مناسبة بافتخارهما بأن أتاتورك مثلهما الأعلى .
وأعظم إنجازات النظام العلماني التركي نجاحه في جعل العلمانية خيار ما لا يقل عن ثلثي الشعب التركي المسلم .
إلا أن النموذج التركي فقد بريقه- في البلاد العربية على الأقل - وأصبح نموذجًا محروقًا بالنسبة لهم وذلك لعلمانيته المتطرفة، التي لا تتناسب مع تنامي المشاعر الإسلامية لدى الشعوب حاليًا، وللحرية السياسية النسبية التي لا تتوافق مع الواقع العربي، بالإضافة إلى عقبة اللغة والفجوة النفسية التي نجح الغرب في إحداثها بين الترك والعرب ..وتقتصر صلاحيته-حاليًا - على تسويقه كنموذج للدول الإسلامية المستقلة عن الاتحاد السوفيتي السابق، وان كان ذلك لا يمنع من كونه مصدر إفادة لكل من العلمانيين والإسلاميين على السواء، فيما يتعلق بخبرات المواجهة المستمرة بين السلطة والاتجاه الإسلامي .
أما النموذج المصري : فعلى الرغم من كونه لا يزال مائعًا وغير مكتمل الجوانب، نتيجة التدافع المستمر بين قوى العلمنة من جانب، والإسلاميين ومشاعر الجماهير من جانب آخر، إلا أنه يأتي على رأس قائمة الدول الرائدة في هذا المجال، فبالإضافة إلى عراقة التجربة العلمانية فيه، وتأثير مصر الفكري والثقافي والاجتماعي على الدول العربية، فإنه يستمد رواجه من عدة عوامل:
منها : أنه يرفع شعار الديمقراطية والحريةالسياسية .
ومنها : اتباع سياسة هادئة دؤوبة – بعيدة المدى – في تجفيف منابع التدين، وعلمنة المجتمع والأخلاق .
ومنها : مهادنة المشاعر الإسلامية لتحييد قطاع كبير من الجماهير:" ازدواجية الخطاب " .
ومنها : النجاح النسبي لسياستي الاحتواء والإجهاض للعمل الإسلامي .
وتكمن خطورة هذا النموذج في كونه يفتح باب الأمل نحو مزيد من العلمانية، كما أنه يسعى لتكون العلمانية هي خيار الأجيال القادمة، فإن كانت العقبة هي أن الإسلام الآن خيار جماهيري، فإزالتها بأن تكون العلمانية أيضا خيار جماهيري ولكن ...في المستقبل ....!!!!!
نحتاج في بدء الكلام إلى توضيح المعنى المراد من هذا التساؤل , هل معناه أن الجماهير ستختار العلمانية عن قناعة واضحة بأفضليتها في مقابل الإسلام أم ماذا ؟ الواقع أننا لا نتحدث عن وصول الجماهير إلى هذا المستوى المتدني – و إن كان ليس مستحيلا – بل ما نعنيه أن الجماهير تقترب بصورة تدريجية غير مباشرة من ترجيح الخيار العلماني , دون إدراك حقيقي لمعنى العلمانية, فهم أشبه بقطيع يساق وفق رغبة حاكميه إلى وجهة لا يعلمها و لا يدري شيئا عن الطريق إليها , فقط يعلن ساسة القطيع أنهم يبتغون الخير للجميع .
و هذا الاختيار غير المباشر للعلمانية يتم بمسلكين متكاملين:
أولهما : استبعاد مستمر لأحكام الإسلام وآدابه في معظم مجالات الحياة العامة و الخاصة .
ثانيهما : إحلال الأنماط العلمانية في شتى مجالات الحياة ترغيبا و ترهيبا .
و في رحلة الدول الإسلامية من الإسلام إلى العلمانية تبدو ظاهرة للعيان ثلاث دول أو محطات تمثل خلاصة التجربة العلمانية سعيا نحو الجماهيرية, و هي على التوالي : تركيا – تونس – مصر , و الدولتان الأوليان تمثلان مراحل متقدمة حادة التوجه نحو العلمانية, لذا سيكون التركيز على التجربة المصرية باعتبارها تقود الركب العربي نحو العلمانية الكاملة . ولكن نعرض قبلا للموقف الجماهيري من العلمانية في تركيا، وتونس؛ لتكتمل الرؤية، و يتضح التصور.
التجربة التركية: توفرت للعلمانية في تركيا ظروف داخلية و خارجية – يصعب تكرارها حالياً - مكنتها من الوصول للعلمانية الكاملة في وقت قياسي, و نجحت سياسة أتاتورك في إخراج أجيال من الأتراك اتخذوا من العلمانية ديناً شاملًا , فالدستور التركي ينص على علمانية الدولة، وهذا النص يوافق عليه أغلب الأتراك, و في أحد استطلاعات الرأي عن أكثر الجهات الرسمية حيازة لثقة الشعب حصل الجيش التركي على نسبة لا تقل عن 70%, و معروف أن الجيش هو الحارس المتعصب للعلمانية في تركيا, كما أن تيارات الإسلام السياسي ممثلة في حزب الفضيلة كانت أكبر نسبة تحصل عليها في الانتخابات لا تتعدى 26% , جزء كبير من الناخبين يختار الحزب لنزاهة أعضائه، وأمانتهم و ليس لانتمائهم الإسلامي .
الخلاصة: أن التجربة التركية تمثل إثباتاً لإمكانية تحول الأغلبية إلى الدينونة بالعلمانية في مقابل الإسلام .
التجربة التونسية: رغم علمانية الدستور التونسي, إلا أن تونس تختلف عن تركيا في كونها لا تعلن رفضها لإضفاء أي مسحة دينية على الدولة, بل على العكس يحرص النظام على الاهتمام النسبي ببعض المناسبات الدينية, و تذاع صلاة الجمعة في القنوات الرسمية, و يوضع القرآن الكريم ضمن قائمة الهدايا الرسمية التي يقدمها رئيس الدولة للآخرين, و بخلاف التيارات الإسلامية المقهورة داخل السجون و خارجها, فلا يبدو على الشعب التونسي أنه مستاء من هذا الوضع لدرجة السعي لتغييره, خاصة مع الحديث عن ازدهار سياح و انتعاش اقتصادي في ظل النظام الحالي .
التجربة المصرية: هل الإسلام كمنهج شامل للحياة يمثل خياراً شعبياً في الوقت الراهن ؟
لن نستطيع تحديد موقف الجماهير من العلمانية قبل أن نقدم إجابة شافية على هذا السؤال, لذا فالإجابة عليه تحتاج إلى تأنٍ و تفصيل دقيق, فلا يصلح معها الإثبات أو النفي بإطلاق, فهناك اعتبارات متعددة تعطي نتائج متفاوتة حول مستوى التفاعل الشعبي مع الإسلام، ومن هذه الاعتبارات:
اعتبار التمسك بأحكام الإسلام و شرائعه و آدابه و أخلاقه: ولا جدال في أن الإسلام بهذا الاعتبار لا يعد خيارا شعبيا , إذ الغالب على الناس التهاون في أحكام الدين في معظم مجالات الحياة و هذا أمر لا يحتاج إلى إثبات ....
اعتبار طرح تطبيق الشريعة الإسلامية كمطلب أساسي للجماهير من حكامها: و الواقع يخبرنا أن شعار تطبيق الشريعة يطرح كشعار انتخابي دعائي ليس إلا, دون أن يكون هناك إلحاح واضح عليه، فضلاً عن الاستعداد للمناضلة من أجله, كما أن الجهل بأحكام الإسلام يجعل من الصعب على الجماهير التفرقة بين طبيعة القوانين العلمانية و الأحكام الإسلامية .
اعتبار التفاعل مع القضايا الإسلامية و مشاكل المسلمين في أنحاء العالم: ولا شك أن الفتور الشعبي العام الذي تواجه به قضايا المسلمين الساخنة مثل: أزمة الشيشان، وانتفاضة الأقصى يمثل دلالة واضحة على الابتعاد التدريجي للإسلام كمحرك رئيس لعواطف الجماهير ومشاعرها, و رغم ما يقال عن الضغوط الأمنية و الكبت العام, إلا أن المساحة المتبقية للحركة و التعبير تشكو من الفراغ و السكون, و هذا لا يعني صفرية التأييد الجماهيري للقضايا الإسلامية, و لكن هناك فرق بين إثبات الحالة و الحالة الثابتة.
اعتبار الانتماء العام الرسمي لدين الإسـلام : و لا إنكار لجماهيرية هذا الاعتبار؛ إذ ليس وراءه إلا الكفر و العياذ بالله, و لكن عندما يدعي الإسلام كل إنسان دون اعتبار لفعله أو قوله, و عندما يدعي أشد العلمانيين حقداً على الإسلام أنه مسلم, و عندما يلبس أهل الضلالة على الناس أن ما هم عليه من الانحراف لا يتعارض مع دينهم, و عندما تصل الزندقة بهم أن يقولوا للناس: أن ترك منهج الإسلام هو من الإسلام, عندها هل يصبح إثباتاً كافياً على اختيار المنهج الإسلامي الشامل للحياة أن يقول إنسان أنه مسلم ؟
اعتبار حجم التأييد التصويتي في الانتخابات النيابية و النقابية: والقول بأن ذهاب أناس لا تزيد نسبتهم عن خمس من لهم حق التصويت – جزء كبير منهم من أتباع الحركة الإسلامية - لوضع ورقة مكتوب فيها أسماء مرشحين من التيار الإسلامي في صندوق مقفل كل ثلاث أو أربع أو خمس سنوات , القول بأن ذلك يعني تأييداً جارفاَ من الشعب للمنهج الإسلامي قول لا نشك في مبالغته, نعم قد يمثل ذلك دلالة على التعاطف العام مع الإسلام من قبل فئات من الشعب, إلا أن هذا التعاطف يتسم بالضعف في جانبين :
الأول : اقتصاره على نسبة محدودة من عموم الشعب, بينما يشوب الغموض موقف الأغلبية السلبية.
الثاني : المؤيدون أنفسهم يقف تأييدهم عند مستوى الصندوق لا يتعداه, فليس لديهم استعداد للمطالبة بحق مغتصب, أو النضال من أجل الحفاظ على حق مكتسب .
وبالتأمل في هذه الاعتبارات يتبين لنا أن أكثرها تأثيراً في تصوير شعبية المنهج الإسلامي هو اعتبار حجم التأييد للتيارات الإسلامية في الانتخابات التشريعية و النقابية, و على الرغم من ذلك، فالقراءة المتأنية لمستجدات الأحداث لا تبشر بمستقبل مشرق لهذا التأييد, و هو ما سنبينه تاليا .
إذن ...هل تصبح العلمانية خيار الجماهير في المستقبل ؟!!
لا نقول بذلك و لا نتمناه, و لكن الواقع المر لا يطيب بحلو الكلام, و يكفي للتنبيه على عظم الأمر أن نذكر عوامل أربعة تدق نواقيس الخطر لمن يريد أن يساهم في إيقاف سعي العلمانيين الحثيث للصعود بهذه الأمة إلى الهاوية:
العامل الأول: التنامي المتدرج و المستمر لجهود طمس الهوية الإسلامية، و تذويب الثقافة الإسلامية, و تحقيقها نجاحات متعددة في الفترة الأخيرة, و يشكل الإعلام و التعليم ركنين أساسيين في هذه الجهود التي من شأنها أن تؤدي إلى إيجاد أجيال تجهل كل شئ عن الإسلام, و بالتالي تنكمش لغة التخاطب و التفاهم بينها و بين الدعوة الإسلامية لحساب دعاة النهج العلماني, و من ثم يتضاءل حجم الإحساس و التفاعل بكل ما ينتمي للإسلام, و هذا ولا شك من شأنه أن ينقل العمل الإسلامي إلى مرحلة مختلفة تماماً, و يكفي أن نتأمل نماذج هذه الأجيال في المدارس و الجامعات لنعلم حجم الكارثة المنتظرة .
العامل الثاني: خلو الساحة الفكرية، والثقافية، والسياسية من أي رمز أو فكر أو حركة – حزب ذي جماهيرية ملحوظة- و بخلاف التيارات الإسلامية فلا يوجد أي منافس بمعنى الكلمة, و لكن المؤسف أن الحركة الإسلامية لا تستغل هذا الفراغ، و لا تسعى لملئه بما لديها من الحق ،, بل تعجز أطروحات معظم الحركات الإسلامية عن تحقيق طفرة جماهيرية بعيدا عن موسم الانتخابات, و لن نشعر بخطورة الأمر إلا إذا أفرزت قوافل العلمانيين رموزاً أو أفكاراً أو أحزاباً تتمتع بقدرة على خداع الجماهير و التلبيس عليها, عندها ستزداد الوطأة و نعض أصابع الندم على تفويت الفرصة السانحة, و ما تجربة عبد الناصر عنا ببعيد , فقد استطاع خداع الناس و سرقة عواطف الجماهير و قلب الطاولة على الحركة الإسلامية .
العامل الثالث: اعتماد مبدأ جزئية المشاركة في الانتخابات من قبل تيارات العمل السياسي؛ استجابة للضغوط، و التهديدات الأمنية، و السياسية، وهو سلاح ذو حدين, فهو و إن كان يؤمن للحركة الإسلامية مشاركة مأمونة نوعاً ما , ففي المقابل ينتج عن هذا الأسلوب سلبيات متعددة خاصة على المدى الطويل , منها :
تعظيم حالة الإحباط و اليأس لدى الجماهير المؤيدة؛ لانحسار آمالهم في التغيير عن طريق العمل السياسي في مجرد مشاغبات برلمانية لا تحقق الطموحات المتوقعة, و هذا بدوره يؤثر على قدرتهم النفسية على متابعة التأييد للإسلاميين بنفس المستوى .
إعطاء الفرصة لمن يتهم الإسلاميين بضآلة الحجم وارتفاع الصوت وجودة التنظيم ليثبت صحة كلامه, خاصة مع ضعف الوعي الجماهيري بحقائق الوضع السياسي .
تفريغ الغضب الجماهيري و الإسلامي في مسارات متعرجة تستنزف الطاقة، ولا توصل إلى الأهداف .
العامل الرابع : تتولد مع الأيام و التجارب لدى الجماهير قناعة ذاتية بأمرين متعارضين:
الأول: مصداقية الإسلاميين، و أحقيتهم باستلام الولاية عليهم .
الثاني: يقينهم بصعوبة أو بمجازفة اختيارهم للتيار الإسلامي لما يعلمون من نتائج تترتب على هذا الاختيار مثل:
عدم تمكنهم من قضاء مصالحهم الذاتية عن طريق النواب الإسلاميين لما يتعرضون له من تضييق، وتعسير لأعمالهم من قبل الحكومة العلمانية .
تخويفهم بإدخال البلاد في حالة من الفوضى مشابهة للوضع الجزائري في حالة أقدموا على اختيار الإسلاميين إذا شاركوا بصورة كاملة في الانتخابات النيابية .
شعورهم بعدم قدرة الإسلاميين على تحقيق إنجازات مستمرة، أو ذات بال حتى في حال استلامهم للحكم بصورة مؤقتة, و التجربة التركية ماثلة للأذهان, فحزب الرفاه رغم نجاحه في الوصول للسلطة واعتلائه منصب رئيس الوزراء لم يستطع تحقيق ما كان متوقعاً من إنجازات؛ نظراً للتضييق الشديد الذي تعرض له من قبل الجيش و الرئاسة و الأحزاب العلمانية, فماذا كانت النتيجة؟ انخفضت بشكل ملحوظ نسبة التأييد الجماهيري له في الانتخابات التالية .
و في ظل هذه الصورة القاتمة لابد من الحديث عن دور للحركة الإسلامية يتناسب مع طبيعة الصراع مع العلمانيين وتطوراته, هذا الدور المنتظر يحتاج إلى رؤية تجديدية يعاد فيها النظر في كثير من مفردات العمل الإسلامي، وهذا ما سيتم تناوله لاحقاً -إن شاء الله- .

المصدر مفكرة الإسلام
 

مذاهب فكرية

  • كتب حول العلمانية
  • مقالات حول العلمانية
  • الليبرالية
  • الحداثة
  • منوعات
  • رجال تحت المجهر
  • الصفحة الرئيسية