اطبع هذه الصفحة


تراقص الأحرف الليبرالية..
بين محنة طالبان ونكبة الإخوان
15/11/1434

جمعة عيد الخطيب


بسم الله الرحمن الرحيم


قبل عشر سنوات ونيف وقعت أحداث سبتمبر التي ضربت فيها أمريكا لأول مرة في عقر دارها ضربة موجعة، واختلف الناس فيها، وامتلأ الإعلام وقتها ضجيجا؛ فمن الناس من رأى أنها صناعة أمريكية لإيجاد الذرائع للتدخل الأمريكي في دول العالم بحيث لا تقف قوة أمام الغضبة الأمريكية، وألف في هذا السياق الصحفي الفرنسي (تيري ميسان) كتابه [الخديعة الكبرى]، فانتشر انتشارا واسعا، وترجم إلى لغات عدة، ومكث مدة يحصد المركز الأول في قائمة أكثر الكتب بيعا وتداولا. ومن الناس من كان يرى أن القاعدة وحدها قامت بذلك العمل، وغدرت بالأمريكان.

وبين هذين الرأيين توسط قوم فجعلوا القاعدة هي من قامت بالعملية مع تسهيلات قدمت لهم من داخل البيت الأمريكي لتحقيق مآرب سياسية.

ما يهمنا هنا هو الموقف الليبرالي في الخليج؛ فإنه آنذاك انحاز الليبراليون في الخليج للرأي الثاني على اعتبار أنه فرصة لاستئصال القاعدة، بل لاستئصال الإسلام جملة وتفصيلا؛ لأن الليبراليين أدخلوا وقتها في قائمة الإرهاب الأمريكية المتشنجة آنذاك: الخطاب الإسلامي كله من مناهج التعليم إلى كراسي المحاضرات إلى منابر الجمعة، والعمل الخيري كله. وبعضهم كشف الحقيقة الليبرالية فأدخل القرآن والسنة، في الآيات والأحاديث التي تكرس كراهية اليهود والنصارى، وتثبت كفرهم وعداوتهم للمؤمنين، حتى قال قائل من الليبراليين آنذاك: كل من يزعم أن الجنة حكر على المسلمين وأن غيرهم في النار فهو إرهابي يجب أن تطوله الحملة العالمية على الإرهاب.

حشدت أمريكا حشودها، وانحنت دول العالم كلها خوفا من الغضبة الأمريكية، وكان الإعلام الليبرالي في دول الخليج بصحفه وفضائياته ينقل الحدث لحظة بلحظة، وحروفه تتراقص فرحا وغبطة.

نشرت بعض الصحف الخليجية صورة لأفغاني نحيل الجسد، حافي القدمين، ممزق الثياب، علق رشاشه على كتفه، وبجوار صورته صورة أمريكي من المارينز ضخم الجثة، مدجج بأنواع الأسلحة والمناظير وأجهزة الاتصال، وكتب تحت الصورة بسخرية: هذا يريد أن يحارب هذا!!
فأفرد بعض أساطين العلمانية السعودية مقالة يقارن فيها بين الجيش الأمريكي بأسلحته وطائراته وصواريخه واستخباراته، وبين الأفغان وهم على الحمير والدواب؛ ليصل إلى نتيجة مفادها أن جنون الإيدولوجيا جعل هؤلاء المتخلفين يظنون أنهم يستطيعون الوقوف أمام التقدم والتكنولوجيا والحضارة.

كانت شاشات التلفزة تستضيف الليبراليين الخليجيين وهم في أشد حالات الحبور والسرور بعد إعلان بوش أن حملته ستطول ثلاثا وستين دولة لاقتلاع الإرهاب، وتهيئتها للتحضر والتقدم ونشر الحرية وفرض القيم الأمريكية، وكان أي شخص يضع احتمال أن عمليات سبتمبر صناعة أمريكية، أو يحاول التذكير بالجرائم الأمريكية فهو عرضة للإرهاب الفكري الليبرالي؛ إذ يوضع منتميا للقاعدة أو مدافعا عنها، أو متعاطفا معها، حتى قيل وقتها: قوم ولكن.. هم قوم ابن لادن.
والمقصود: أنه يجب دعم الحملة الأمريكية على الإرهاب (أي: الإسلام) بلا قيد ولا شرط ولا مناقشة.. يجب عليك أن تسير خلف راعي البقر وأنت أعمى، وتتكلم بلسانه، وتكتب بقلمه وإلا فأنت إرهابي يجب تصفيته.. وكم نال الصحفيين الغربيين الذين شككوا في أحداث سبتمبر من التقريع والتوبيخ والسخرية في الإعلام الليبرالي العربي، حتى أفرد أحدهم مقالة عن الفرنسي (تيري ميسان) صاحب كتاب [الخديعة الكبرى]، سخر من رأيه، وعده من الصحفيين المغمورين الذين يريدون الشهرة بهذا الطرح الغريب الآثم.

صرح بوش الصغير أن الحملة صليبية فأحرج قافلة النفاق التي سارت وراءه، وأعلن عن بدئها بعد صلوات الأحد في الكنائس، فدكت أفغانستان بالصواريخ وقنابل الطائرات العملاقة (بي 52) فأحرقت الأرض ومن عليها، وكانت عدسات الليبراليين تنقل ذلك، فسقطت كابل ودخلها تحالف الشمال الرافضي ففعل الأفاعيل بأهل السنة، وأضحى جنود طالبان والقاعدة بين قتيل وسجين ومتخفي..

طالعتنا الصحف الليبرالية صبيحة سقوط كابل بصور من قلب الحدث تعطي رسالة بأن الأفغان يرحبون بالغزو الأمريكي، ومتذمرون جدا من طالبان، وصور لأناس عند الحلاقين يحلقون لحاهم حسب إيراد الصحيفة، وصور نساء متبرجات سافرات خلعن الحجاب، وتقارير أنه بانتهاء حقبة طالبان المتوحشة ستنتهي اللحى والحجاب، وسيبدأ عصر الحرية والسينما، ولقاء مع ممثلة أفغانية تبشر ببزوغ فجر السينما الأفغانية حتى تصورت وقتها أن أفغانستان ستنقلب إلى هوليود.

وبعد أيام بثت قناة العربية -لسان الليبرالية السعودية الاستئصالية- تقريرا مطولا عن طالبان، وحياة الأفغان في حكمهم، وكله حملة تشويه فيها من الغباء ما فيها؛ حتى إنهم حصلوا على مقاطع لإقامة القصاص والحدود من قطع السارق وقتل القاتل وحد الحرابة، وعرضوها، وكان المعلق يعلق بغباء على أن هذه الحدود وحشية، وانتقام من الإنسانية، وربما كان يجهل أو نسي أنها تقام في السعودية أيضا..

سلم ملف أفغانستان لحلف النيتو -أقوى حلف على الأرض- وحطت قواته في أرضها، فكانت أصعب مهمة منذ إنشاء الحلف باعتراف عدد من قادته المتعاقبين عليه خلال عقد كامل، وكان جنود النيتو يعودون لبلادهم في توابيت أو بعاهات جسدية أو نفسية فقد حلت عليهم (اللعنة الأفغانية) كما عبر أحدهم بذلك.

وانتقلت الحملة الأمريكية من أفغانستان للعراق، وعادت الأحرف الليبرالية للتراقص في الصحف العربية مبشرة بفجر الحرية الذي سيشرق من بغداد، وكانت مقالات الليبراليين في الخليج تستبطن داخلها تهديدا لحكام العرب، وتشفيا منهم، باعتبار أن الحملة الأمريكية لن تتوقف في بغداد، وسقط نظام صدام حسين وأعدم، وقام سوق الجهاد في البلدين المحتلين أفغانستان والعراق،وصارت رحلات التوابيت الأمريكية من العراق وأفغانستان شبه أسبوعية، وازداد مقطعو الأقدام من الأمريكيين حتى اضطر بوش للجري معهم بعد زراعة أرجل صناعية لهم من أجل التخفيف عنهم وعن أسرهم..

وانتهى مشروع الحلم الأمريكي وغرقت غرقا اقتصاديا لا نجاة لها منه رغم عمليات الإنعاش المستمرة من الدول الخاضعة لها بشراء السندات الخاسرة بمئات المليارات، ولكن الجسد الفاسد إذا دخله الدم الصحيح فسد فيه، وضخ الأموال لن يستمر إلى ما لا نهاية حتى يموت الجسد وتتقطع أوصال أمريكا.

بعد خمس سنوات من الحملة الأمريكية على الإسلام تحت شعار الحملة العالمية على الإرهاب التي شاركت فيها دول العالم كله ظهر -للإعلام المتصهين ممثلا في قناة العربية وجريدة الشرق الأوسط وصحف السعودية المحلية- أن طالبان والقاعدة قويتا وأن أمريكا عاجزة عن القضاء عليهما، فنشرت قناة العربية فيلما وثائقيا يشكك في أن عمليات سبتمبر من صنع القاعدة، مع أن المتصهين عبد الرحمن الراشد كتب مقالات من قبل يسخر فيها من (تيري ميسان) لأنه شكك في عمليات سبتمبر، ويحرض فيها على كل من يشكك في صنع القاعدة لهذه العملية أو يسوغ لها فعل ذلك، وأنه يجب أن يكون إرهابيا لأن المحرض على الإرهاب أشد من الإرهابي نفسه حسب فكرة الراشد.

فما الذي غير فكر الراشد؟
الجواب: ظن في البداية أن أمريكا قادرة على استئصال طالبان والقاعدة خلال أيام.. ثم خلال أسابيع.. ثم خلال أشهر.. لكنه اكتشف أن الكفة باتت ترجح لطالبان والقاعدة، فأراد أن يقلل من شأن القاعدة، وأن عملية ضخمة (عملية سبتمبر) لا يمكن أن يقوم بها أناس بدائيون يعيشون في كهوف تورا بورا، يعني: أراد أن يحفظ جلال معبودته أمريكا، حين مُرغ أنفها في أوحال العراق، وتراب الأفغان.

والحقيقة أن مقالات الليبراليين في أحداث سبتمبر، وخاصة أثناء الغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق جديرة أن تقارن بمقالاتهم بعد الفشل الأمريكي الذريع، فقد انتصر الأفغاني الحافي بحماره وكسر جبروت المارينز الأمريكان المدعومين بالنيتو وبي 52 وجميع أنواع الأسلحة الحديثة. وها نحن وبعد سنوات من الغزو الهمجي الأمريكي على أفغانستان، والحملة الليبرالية الخليجية التخويفية آنذاك، وتراقصها على جراح الأفغان، نرى أن الأفغان بقوا كما هم في عزتهم وشموخهم، فلم يحلق رجالهم لحاهم، ولم تخلع نساؤهم حجابهن، ولم توجد صناعة السينما فضلا عن أن تزدهر.. وذهب كذب اللبراليين الخليجيين أدراج الرياح؛ إذ حافظ أسود الأفغان على دينهم وهويتهم، ولقنوا راعي البقر درسا لن ينساه.

وفي هذه الأيام يتكرر نفس المشهد الذي كان قبل عشر سنوات ولكن هذه المرة في مصر ودول الخليج؛ فبعد الانقلاب على مرسي الحاكم الشرعي لمصر، ثم حملة استئصال الإسلام من مصر بذريعة مكافحة الإرهاب الإخواني عادت الأحرف الليبرالية في الخليج عامة وفي السعودية خاصة للرقص من جديد، يظنون أن الحكومات الهزيلة قادرة على استئصال الإسلام وقد عجزت عنه أمريكا بجبروتها وتقدمها.. ففي مصر يبشرون بانتهاء الوهابية والإخوان، وفي السعودية يحذفون الوهابية ويقتصرون على انتهاء الإخوان لكن الحملة الصحفية ترقص على جراح الإسلام عامة..وتريد من الحكومات العلمانية أن تستأصل الإسلام بأكمله..وقبل أيام كتب أحدهم أن المذهب الوهابي صار عبئا على الدولة السعودية العلمانية..

علينا ونحن نشاهد هذه الحملة على الإسلام وشعائره في نكبة الإخوان هذه الأيام أن نتذكر ذات الحملة قبل عقد من الزمن في محنة طالبان لتطمئن قلوبنا، ونثق بوعد الله تعالى لنا.. فلن ينجح العرب في استئصال الإسلام وإن تراقصت أحرفهم طربا بانقلاب السيسي كما لم ينجح الأمريكان من قبل، وإذا كان الجهاد بكلمته وسيفه قد كسر السيف الأمريكي وكلمته حتى صارت تتوسل طالبان للتفاهم معهم، وهم من قبل إرهابيون لا كلام معهم، وأسقط الإسلام بكلمته القيم الأمريكية وأظهر عورتها للعالم، حتى سقطت ديمقراطية أمريكا وأوربا سقوطا مدويا فلن يستطيع حثالة العرب أن يطفئوا نور الله تعالى.. بل سيتمدد الإسلام، ويقوى عوده، وتظهر شعائره في كل شبر من أرض العرب رغم أنوف الصهاينة والمارينز العرب.



 

مذاهب فكرية

  • كتب حول العلمانية
  • مقالات حول العلمانية
  • الليبرالية
  • الحداثة
  • منوعات
  • رجال تحت المجهر
  • الصفحة الرئيسية