|
|
منصور النقيدان ... (جولة في ردهات نفسه
وضميره) !! |
|
دكتور استفهام |
في تلك الليلة الصيفية دعاني أحد الزملاء الى استراحة للقاء سيتحدث فيه
منصور النقيدان ، وكان الحضور قرابة العشرين او يزيدون قليلا ، وكنت قبلها لم
أجلس مع منصور النقيدان إلا مرة واحدة ، بل ربما قبلها لم أسمع بشي يقال له
منصور النقيدان إلا حين جلست مع أحد الشباب الذين شاركوا مع النقيدان في عملية
التفجير في المركز النسائي في القصيم ..
لا أخفيكم سراَ أني تعجبت أشد العجب من منصور النقيدان في تلك الليلة التي تحدث
فيها ما يزيد عن الساعة والنصف برتابة وقوة عبارة وكأنه يقرأ من ورقة ، وكان
يرفع طرفه الى الأعلى وكأنه يستحضر نصوصا يحفظها عن ظهر قلب ، وكانت كلمته تنضح
بالثورية الشديدة التي تذكرني بالثوريين العرب الذن يجعلون " الثورة " هدفا
بذاته من دون مرجعية دينية واضحة في خطابه ، وكنت في تلك الليلة اتسائل : كيف
وصلت هذه الفكرة الثورية الى منصور النقيدان ، وماهي مراجعه فيها وهو يعيش في
القصيم الذي يغلب على طلبة العلم فيه الاهتمام بالكتب العلمية المدرسية ، وماهي
الغاية التي يريدها النقيدان من هذه الثورية الطافحة في خطابه ، وكان يجلس
بجانبه مشاري الذايدي الذي كان كث اللحية ، متحفزا إلى الكلام ، وكأنه محبوس في
قفص يحاول التخلص منه ، وكان ثوبه قصير الى درجة ملفته للنظر ، وحين انتهى
منصور انقض مشاري بكلام قاس ونبرة تكفيرية حادة ، ومقت للواقع ، يتسلل من
عباراته وقد كانت عباراته أوضح في النقمة ، واقل في المستوى الأدبي من كلمات
زميله منصور !
جالست منصور النقيدان بعد تلك الجلسة عدة مرات ، وزارني في بيتي مرة واحدة او
مرتين – لا أذكر - ، وهو بحق ممتع في مجالسته ، وخاصة حين يطرب للحديث
والذكريات ، مع قلق دائم وهم تجده باديا على ملامحه ، قد صنعه في ضميره الوقت
الذي أمضاه بين مشكلات أوقع نفسه باتونها ، وكنت أجد في منصور نبرة المتحدي
للآخرين ، المحب لأن يكون شيئا مذكورا ، الراكب للموجة الفكرية الحاضرة ، فهو
يتوجه الى المسألة المثارة في الساحة الفكرية والدعوية بشغف ليستعرض كل طاقته
أمام الشباب الخائضين فيها ، وأذكر ان الموجة في ذلك الوقت هي موجة الخلاف حول
قضايا الارجاء ، وموقف الشباب من رأي الشيخ الالباني فيها ، ومخالفة بقية
العلماء له ولتلامذته فيها ، وقد انتشر في ذلك الوقت كتاب الشيخ سفر الحوالي
مخطوطا " ظاهرة الارجاء في الفكر الاسلامي " وكان منصور النقيدان مهتما
بالموضوع ، ومحتدا كذلك فيه الى درجة انه حفظ طبقات المرجئة واقسام الارجاء ،
والخلافات الدقيقة بين اقوالهم ، ومناضلا كبيرا في تقرير قضايا الايمان عند أهل
السنة ، وكان من " غلوه " في هذا الجانب ما حُكي لي أنه دخل مسجدا في أحد
المناطق ، وحين علم بأن الامام يقول بقول الالباني في الايمان من اشتراط
الاستحلال في الكفر ، وانه لا يقع إلا في الاعتقاد لم يصل خلفه ، بل خرج من
المسجد وبحث عن مسجد آخر ..!!
في اعتقادي أن منصور النقيدان يمثل نمطا لكثير من الشباب الذين عرفتهم ، وخاصة
اذا كان الواحد منهم يرى في نفسه قدرات وطاقات لم تقدر من قبل الوسط الذي يعيش
فيه ، فهو يرى أنه " نبي ضيعه قومه " ، وكان جزءا من النقمة التي ينقمها على
التيار العلمي والدعوي العريض هو الاهمال الذي كان يعانيه ، فهو طلب العلم على
الدويش وغيره ، وابتلي وسجن ، وأنكر وقاوم ، ومع ذلك لم يكن له حضوة كبيرة ،
حتى أن شباب القصيم لم يكونوا يكنونه بالشيخ كما سمعت من كثير منهم ، كما ادعى
هو في برنامج " إضاءات " ، بل كانوا يرونه شابا متحمسا طائشا ، كل يوم له مذهب
، وكل ساعة له طريقه ، فهو ينتقل من صورة سلوكية معينة الى مقابلها بأسرع وقت ،
فقد تأتيه وهو جالس في بيت طين ، منعزلا عن الناس ، محرما الدراسة وكارها
للخلطة ، وخجولا لا يكاد يرفع طرفه في نظر زائريه ، ويبدو عليه التعبد والخشوع
، ثم تفاجأ في الزيارة الأخرى او في مجلس آخر ، بذلك الشاب الجرئ المعلن لانكار
المنكرات الحاث عليها ، الجرئ في نظراته وتعابير وجهه ، ثم يصل الامر معه الى
مداه حين يقوم بالتفجير بنفسه ..!
إن الذي يبدو من هذا كله أن منصورا كان يبحث عن موطئ قدم يحقق فيه ذاته ، ويشكل
له حضور ، ولعله كان يظن أن الحضور يصنعه في الساحة الغرابة في الطرح ، والجرأة
فيه ، بعيدا عن مراعاة الجوانب المهمة التي تحقق الحضور والتأثير ، مثل
الاستقامة والاتزان ، والتواضع وترك النزاع والتقليعات التي تنم عن شخصية غير
مستقرة لانفسيا ولا فكريا ،ومراعاة ظروف المرحلة وتقدير رموزها من العلماء
والدعاة ، ولذلك لم يكن منصورالنقيدان مشروعا ناجحا أبدا للدعوة ، ولعل اصدق
عبارة تصدق على وضع منصور ما يفعله بعض المشاغبين في الحارات الذين يقولون (
لعبوني وإلا ابخرّب ) !
لقد كان منصور النقيدان رمزا للشللية العمياء التي تتفق في الليل على فكرة ، ثم
تروج لها في الصباح ، ولذا لم يكن حراكه الثقافي ناضجا في أي مرحلة من مراحل
حياته ، وهذا ما سبب التعثر في كل مرحلة ، وفتح مرحلة من الصراع مع الخصوم الذي
لا يهدأ ، وكان ابرز معالم تلك الشللية " الحدة في حمل الفكرة الى درجة الغلو
فيها " و " الوثوقية في المنهج الى درجة القطع واليقين " ، و " الانتقال من
الفكرة الى نقيضها " بلا أدنى استشعار للحرج من الآخرين ، و " محاولة الاستقلال
" الى درجة المفاصلة ، و " محبة التميز " ولو على أكتاف نقد المعظمين عند
الآخرين ، و " الصراحة " في البوح بما يحمل من فكرة حتى لو أدت الى المصادمة
والمناكفة مع الخصوم ، وفي كل مرحلة يشعر هؤلاء الشلة أنفسهم بأنهم وجدوا
ضالتهم المنشودة ، ووقعوا على طريدتهم الغائبة ، ولا أدري كيف يضمنون الآن
سلامة ماهم عليه ، وهو نفس الشعور الذي يكتنفهم في أي مرحلة يمرون بها ..!
لعل منصور النقيدان مثل كثير من الشباب الذي تضرب عليهم صورة نمطية سيئة ،
وينتشر عنهم سلوكا مرفوضا من الكثير ، ثم يستحيل بعد ذلك ان تتغير تلك الصورة
في ذلك الوسط ، مما يدفع الشاب الى البحث عن بيئة لا تعرف خلفياته، ولا ماضيه
وافعاله ، فهو يتنفس الصعداء حين يجلس في مجلس يعرفه لأول مرة ، فهو يخرج كل
قدارته وطاقاته التي لا يراها اولئك شيئا يذكر ، ويحس بارتياح شديد للبيئة
الجديدة ، وهذا ما حصل فعلا لمنصور حين ترك القصيم قافلا الى الرياض وغيرها في
تنقلات كثيرة ، ولكنه سرعان ما ينكشف أمره من خلال الملاحقين له ، المعارضين
لطريقته ، مما جعل منصور النقيدان يجد ان التيار كله يحتاج الى مواجهة وغسل
وحرب لا هوادة فيها ، وهذا لا يأتي إلا من خلال " التحيز " الى تيار مقابل يشكل
خصومة فكرية ونفسية ، وهذا بالضبط ما وجده منصور النقيدان في التيار "
الليبرالي " الذي يعد خصما تقليديا للتوجه الاسلامي ، ولذلك كانت بداية منصور
النقيدان هو في النكاية بأعظم رمز عند التيار وهو إمام أهل السنة " أحمد بن
حنبل " الذي طالته اول مقالة سطرها منصور النقيدان ، ولذا لم يجد منصور
النقيدان للبداية في هذا المشروع إلا مقالا سرقه الجابري من فهمي جدعان ، فسرقه
هو من ذلك السارق ، حيث جعل الامام أحمد مستبدا ظالما ومتعاظما في مقابل
المسكين الضعيف ابن أبي دؤاد الذي كان يسومه ابن حنبل سوء العذاب ، ففجأة فاذا
الجلاد المعتدي مجلودا ، واذا المجلود الكسير ظالما جبارا ، فكانت فكرته اقرب
الى العبثية واستفزاز المقابل أكثر من كونها دراسة واعية لشخصية كالامام أحمد
الذي كان النقيدان يتغنى بذكره في مجالسه ، وكان أشد المعجبين به ، بل كان
الامام أحمد وموقفه من فتنة خلق القران افتتاحية يفتتح فيها النقيدان خطاباته
النضالية ، ورمزا للصمود والاباء والعزيمة ، وفجأة انقلب عليه .. ونصر خصمه
اللدود ابن ابي دؤواد عليه !
في اعتقادي ان هذا المقال الأول الذي سطره النقيدان يصلح لأن يكون " تيرمومتر "
لفكر النقيدان ، ومقياسا لمدى البعد النفسي الحاضر في كل ما قاله وفعله
النقيدان في ايامه التي تلت ذلك المقال ، وخاصة ان النقيدان يحمل مخزونا من
الافكار التي يمكن ان يجيّر أي طرف من قوليها فيما يريد ، ويعرف مداخل المسائل
ومخارجها التي من خلالها يستطيع النكاية بخصومه ، ولذلك يستطيع ان يجلس في مجلس
ليقرر فيه ان صلاة الجماعة فرض عين اذا كان في المجلس من يراها فرض كفاية ساردا
نصوص القول الأشد ، ثم يستطيع كذلك ان ينتقل الى مجلس آخر بعد عشر دقائق ليقرر
أنها سنة مؤكدة ، مستحضرا قول المقابل ، وتأويلات وتخريجات الفقهاء ، بل
ويستطيع ان يأتي بشبهات كل فرقة على أهل السنة والتي في يوم من الايام كان
يستحضرها للرد عليها ، والدفاع عن الكتاب والسنة ، ولعل مقاله في الدعوة الى
نشر فكر " الإرجاء " خير شاهد على هذا ، فهو كان يرفض الصلاة خلف سني قال بقول
فيه شوبة ارجاء ، ثم هو بعد سنة او أكثر يدعو الناس الى ان يشيعوا في نواديهم
فكرة الارجاء التي تسلخ العمل عن الايان ، وكأن مسائل العلم اصبحت عنده مسرحا
ينتقي منه ما يريد في سبيل النكاية بتيار يعاديه ، ويفرغ حنقه النفسي عليه من
خلال لعبة التأويل في الاقوال ، او ضرب أدله الفرقاء بعضها ببعض ، وهذا ما
رأيته بارزا في حلقة النقيدان في برنامج " إضاءات " حيث ظهر في الحلقة براعة
النقيدان في " التأويل " في الأقوال التي يظهر في بشاعة القول الملفوظ ،
وتخريجاته الباطنة التي لو صادف طالب علم يناقشه فيها لوجد له الف باب يخرج منه
، تماما كما يفعل الجربوع للعارفين بحال الجرابيع وطريقة هروبها من الاصطياد !
أليس عجيبا فعلا ان اسمع النقيدان قبل انتقاله الى وضعه الحالي بأشهر قليلة وهو
إمام مسجد يحتد على شيخ مشهور ويقول حين عرض عليه قول له : " هذه زندقة " ، ثم
بعد ذلك بقليل يركب موجة معادية لا للمتطرفين الارهابيين من التيار ، بل لكل
التيار بأطيافه المختلفة ، ومدارسه المتباينه ، فهل للسرعة في الانتقال دلالة
ومعنى ؟؟
إن الاجابة التي استطيع ان اقولها في مثل هذه الظاهرة هي في الفرق بين حمل "
الاسلام " قناعة راسخة وديانه لله تعالى ، تجعل الانسان يحمل قيمه اختيارا
ويقينا حتى لو اصابه فتور او انحراف في بعض القول والعمل ، وبين من كان الجو
الاسلامي والدعوي هو جو وجد فيه بلا اختيار ، او هو جو يحقق فيه الانسان ذاته ،
او يسعى الى تحقيق ذاته ويجد رغبة ولذة في هذا ، من محبة الشهرة والصدارة
والرياسة ، وهذا يظهر في كثرة الجدل والمناظرة ومحبة الانتصار وكسر الخصوم ،
وخلق المعارك ، وحساب الارباح والخسائر فيها بدقة ، فاذا ما أحس بأنه ينازع في
هذه اللذة ، أو يناكف عليها ،او احس بانطفاء جذوة الحضور والصدارة أو ان حظ
نفسه قد زال ، بحث مباشرة عن جو آخر يحقق له ما يريد، بغض النظر إن كان جوا
إسلاميا او غير اسلامي ، وهذا أمر يتسلل الى النفوس بلا وعي ولا شعور ، ويحتاج
الى محاسبة النفس ، والنظر في الطريق ، ومراجعة الاخلاص في القول والعمل ، فاذا
لم يوفق الانسان الى هذا ، كانت اللذة والرغبة والعاجلة هي المقدمة على كل شي ،
حتى لو كان ذلك في الالحاد ، او الانحراف الفكري والسلوكي ... فنسأل الله
الثبات !
إنني لم أكتب عن النقيدان ، ولم أكن أحب ان اكتب عنه إلا من أجل ان نجعل منه
صورة تعرض طلبا لمراجعة الانفس ، والاتعاظ من حال من ارتكس بعد ان كان مهتديا ،
ولا أقول هذا لأني اخالف النقيدان في بعض المسائل المحتملة للخلاف والاجتهاد ،
ولكني اقول هذا لأني رأيت في النقيدان غلوا في حمل الفكرة المناهضة للديانة
والاستقامة ، وهو طريق خطير على جيل الامة وشبابها ... عصمنا الله من الفتن ما
ظهر منها وما بطن !
|
|
|
|
|