اطبع هذه الصفحة


سلسلة : أفكار في مواجهة الإسلام
أولا : تيار الحداثة

المقال العاشر : كيفية مواجهة الخطر الحداثي

د/ أحمد محمد زايد

 
في خاتمة هذا البحث الموجز، وبعد بيان الخطر الحداثي الداهم على عقيدة ماذا يمكن أن يقدمه أهل الإسلام عموما وأهل العلم والدعوة خصوصا لرد هذا الظلام الحداثي والتضليل الغربي الوافد والذي يقدمه لنا الحداثيون؟ إنني هنا أحاول وضع تصور وجيز يمثل في نظري المحاولة الجادة لمن أراد أن يقدم شيئاً إعذاراً إلى ربه، وخدمة لدينه، وحماية لأمته، وهذه بعض المقترحات في كيفية المواجهة:

أولاً: إبراز الثوابت الإسلامية والتركيز عليها:

إذا كان الحداثيون يؤمنون بتغير كل شيء، فلا شيء عنهم اسمه الثبات، فإنه لابد من التركيز في مقابل ذلك على أن لابد من ثوابت لكل أمة، ولنا نحن المسلمين ثوابت عقائدية وأخلاقية وتشريعية وفكرية هي محل إجماع الأمة، جعلها الله تعالى ركائز ومعالم تعبر عن حقيقة الأمة، تجتمع عليها من مشارق الأرض ومغاربها، وتوحد بينها على اختلاف قومياتها وأجناس أبنائها وألوانهم ولغاتهم، فعلى الدعاة وأهل العلم ألا ينشغلوا بالفروع عن تلك الأصول والقطعيات، وأن يبرزوا في مجامعهم وخطابهم ومكتوباتهم وأحاديثهم المختلفة هذه الثوابت ويركزوا عليها ليحفظها المسلمون فلا يقبلون تمييعها أو تجاوزها بحال، ويتعلم المسلمون أن إنكار القطعيات وتجاوزها كفر، حيث قرر علماؤنا أن إنكار المعلوم من الدين بالضرورة كفر وخروج عن الدين.

ثانياً: إحياء اللغة العربية والحفاظ عليها:
لابد من بيان فضل العربية، وضرورة التمسك بها في الخطاب، وأن الحديث بها من شعائر الإسلام، ولأهميتها عد العلماء المعرفة بها من شروط المجتهد، كما يجب إظهار مؤامرة أعداء الإسلام في إحياء اللهجات العامية والقومية كبديل عن اللغة العربية، وبيان أنهم إنما فعلوا ذلك ليقطعوا العرب والمسلمين عن لغتهم مما يؤثر في فهمهم لآيات الكتاب وأقوال نبيهم صلى الله عليه وسلم، ومن هنا نقول:يجب أن تكون العربية هي لغة وسائل الإعلام، والأعمال الفنية، وهي اللغة التي يستعملها المدرسون في المدارس والجامعات والمساجد، وتطبق القوانين التي تنص على عدم جواز كتابة أي إعلانات بغير اللغة العربية، ثم إن من الأمانة الملقاة على وزارات الثقافة والإعلام في البلاد العربية ألا تسمح بأي عمل فكري أو ثقافي يهون من شأن العربية أو يكون بديلا عنها، فإن الحداثيين يتخذون هذه الوزارات منبرا يبثون من خلاله أفكارهم وسمومهم.

ثالثاً: إبراز محاسن الإسلام:

يحاول الحداثيون في أعمالهم أن يعيبوا الإسلام بأي طريقة، جاهدين أن يظهروه سببا للتخلف والرجعية، وفي نفس الوقت يحاولون جاهدين أن يظهروا النموذج الغربي كأنموذج للاقتداء والتأسي، فهم لا يخفون أبدا انبهارهم بالغرب وضرورة أخذ تقنياته وفكره وفلسفته لا فصل بينهما، وتجاهل هؤلاء عن عمد وقصد أن أمتنا تملك المشروع الرباني الحضاري الراقي المبرأ من النقائص لأنه دين الله تعالى، ولهذا وجب على المسلمين قاطبة وأهل العلم خاصة أن يبرزوا محاسن الإسلام الذي حاول الحداثيون أن يرسموا له صورة شائهة منفرة، كما يجب أن يبرزوا عوار تلك الحضارة الغربية التي يتنادى هؤلاء بها، والتي أشقت الإنسان فأهدرت أشواقه الروحية، وخصائصه الإنسانية، وهي وإن وفرت له بعض الجوانب المادية لكنها عجزت عن أن تمنحه الطمأنينة والسعادة، وليس أدل على ذلك من تلك الحروب التي تعم وجه الأرض في العصر الحاضر، تحصد آلاف الأرواح، وتدمر هنا وهناك، "وحسبنا أن نعلم أن القرن العشرين شهد مصرع (12.) مليون شخص قَتلاً في الحروب التي وقعت فيه, والتي بلغ عددها (13.) حربا، وهذا العدد يفوق عدد من قتلوا في كل الحروب قبل سنة (19.)م، وحسبنا أن نرى أنه عندما انتشر مرض " الإيدز" المرعب، لم تهتم الدول الكبرى في أن تعالج أسباب المرض أبدا, وإنما أصرت على بقاء الأسباب وهي في نفس الإنسان، وفي انفلات شهواته وهواه"([1])
إن محاسن الإسلام ينبغي علينا إبرازها ليعود الناس إليه, بعد أن يدركوا ربانيته وعدالته وإنسانيته.

رابعاً: توضيح جوانب المؤامرة على الإسلام والقائمين بها

تأتي الحداثة في سياق سلسلة من المؤامرات المتعددة على الإسلام وأهله، فمرة الشيوعية، ومرة الوجودية، ومرة الاستشراق، ومرة الحداثة إلى غير ذلك من الاتجاهات التي تصاغ في الأروقة الصهيونية، والمجامع الصليبية، والمحافل الشيوعية والوثنية، والله تعالى يقول ] ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء [([2]) ولقد فصل الله تعالى للأمة مؤامرة الأعداء وقال عن ذلك: ] وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين [([3]), وحتى لا ينخدع المسلمون بهذه التيارات الكافرة ينبغي على الدعاة والقائمين على الإصلاح أن يبصروا الأمة بأعدائها، ويبينوا لها تلك الأساليب والشعارات البراقة التي ظاهرها الرحمة أحيانا وباطنها السم الزعاف، ومما ينبغي التنبيه إليه "حرب الألفاظ والمصطلحات" التي تستعمل في هذه الحرب، فالفسوق وتجاوز الحدود الأخلاقية والشرعية تسمى عند هؤلاء (حرية)، وإنكار الغيب والتعدي على مقام الألوهية يسميه هؤلاء فكرا وبحثا ونقدا وعقلانية, والإيمان يكتب الله تعالى وآخرته يسمونه (خرافة وأساطير) بينما الكفر والفسوق هو التحرر والتقدم، وتبديد الدين هو التجديد والحداثة، وقد نصح الله تعالى الأمة بالتنبه لمثل هذه المؤامرة اللفظية فقال سبحانه: ] يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا[([4])، فعلى الدعاة كشف هذا الزيف، وتحذير الأمة من دعاته ليحقق الدعاة في أنفسهم معنى العدالة التي هي من صفات حملة هذا الوحي كما دل على ذلك الحديث الشريف الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين".([5])

خامساً: توفر طائفة من العلماء للرد على شبهات هؤلاء الأعداء:

لابد من جهود تصرف لبيان زيف هذه المزاعم، بل تتخصص في ذلك، فهناك مراكز الأبحاث، وهناك الأقسام العلمية وهناك الكتاب المسلمون والدعاة المخلصون، ينبغي أن يتخصص من هؤلاء نفر يهتمون بهذا الفكر كما اهتم به الأعداء ووفروا له من المال والأفراد والمؤسسات من ينشره ويشيعه في الأوساط المختلفة، وإذا كان هذا زمن التخصصات العلمية الدقيقة فينبغي على الأمة أن تتقن وتتفنن في الرد على أعدائها الذين عندهم جلد في جعل الباطل حقا يصدقه الناس ويلهثون وراءه, فليكن ذلك الجلد والصبر من صفات الدعاة إلى الله. وقديما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: "اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر وعجز الثقة".

سادساً: تفهيم الإسلام

ونقصد بهذا المقترح أن يجتهد الدعاة في شرح حقائق الإسلام، وبيان خصائصه وضرورته لحياة الناس، وهذا من باب التحصين ضد أي فكر منحرف، فعندما يفهم المسلم دينه يكون من المستبعد أن يتقبل تشكيكا في دينه أو الترحيب بأي فكرة تضاد عقيدته، لكن الحاصل الآن أن السطحية التي عليها المسلمون في فهم الدين كانت السبب الأكبر في التأثر بهذه الأفكار الخداعة، فعلى المسلم أن يجتهد في فهم دينه، ويسأل أهل العلم فيما يعن له، وعلى الدعاة بذل أقصى الوسع في مسألة تفهيم الناس الإسلام، ونحن على يقين بأن الخطاب الديني - خاصة الرسمي – يعتريه قصور كبير في الأسلوب والمحتوى والوسيلة مما أوصل الجمهور إلى النفور الكبير من كثير من الدعاة، فليكن الخطاب الإسلامي المعاصر متكافئا مع مستوى المواجهة والمعركة ضد أعداء الإسلام والحاقدين عليه، وليكن من أولويات الدعاة اليوم التركيز على شرح حقائق الإسلام ومدي أحقيته وحضاريته، بدلا من تناول قضايا هامشية تزيد في الجهل بالدين، وتبعث الشقاق بين المسلمين.

سابعاً: بيان المرجعية الإسلامية للأمة

من الضروري جداً التأكيد على مرجعية المسلم في قهم الحقائق والحكم على الأشياء، والمرجعية هي "الكتاب الكريم والسنة المطهرة"، وأن العلماء الثقات هم الذين يرجع إليهم في المسائل الشرعية، ويوضح للمسلمين أن ليس لكل أحد أن يتحدث عن الإسلام، فليس الدين كلأً مباحا لكل من هب ودب، فلقد رأينا – وهذا من البلاء – أن الجميع يتحدث عن الإسلام، ويكفي أن يتابع المرء بعض القنوات التلفزيونية ليجد الجميع يتكلمون عن الدين شرحا وتفسيرا وتقريرا، حتى أعداء الإسلام من العلمانيين والحداثيين وأهل الفسق والفجور كل يتناول هذا الدين بالحديث عنه، لذلك أرى من الضروري أن نبين للناس عدة حقائق منها:
- القران الكريم والسنة المطهرة مرجع كل مسلم في التعرف على أحكام الإسلام، ويفهم القرآن الكريم وفقا لقواعد اللغة العربية من غير تكلف ولا تعسف، ويرجع في فهم السنة المطهرة إلى رجال الحديث الثقات. ([6])
- أن أهل الذكر في المسائل الشرعية هم العلماء الثقات المتخصصون في علوم الشريعة الذين أفنوا أعمارهم وبذلوا جهودهم في تعلمها وتعليمها، وفهم مقاصدها وحقائقها، لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، ولا يخافون في الله لومة لائم، لا يخافون حاكما ولا يداهنون محكوما.
- أن لفهم الشريعة قواعد قررها العلماء هي المرجع في تفسيرها واستنباط الأحكام من نصوصها، أما أولئك الحاقدون الذين يخضعون الشريعة لأهوائهم، ويفسرونها بمقتضى عقولهم مع بالغ جهلهم، وفيض حقدهم فأنى لهم أن يقولوا صوابا، وأنى لهم أن يستمع إليهم.
- الثقة في المسيرة العلمية والفكرية والفقهية للأمة، إذ كيف يجيء إنسان هزيل حاقد يأتي في ذيل التاريخ ليس له نصيب إلا دراهم أو دولارات قبضها في مقابل أن يسفه العلماء والمجتهدين في تاريخنا، فهذا يتهم أبا حنيفة ومالكا والشافعي، وذاك يشكك في البخاري ومسلم، وآخر يتهم حتى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف نقبل من يريد محو تاريخنا بجرة قلم كما يقولون، فلنبين للأمة مدى جهد السابقين وجهادهم في حمل هذه الرسالة، وتوصيلها إلينا، وخيب الله أمة لعنت أسلافها، وتنكرت لتراثها.
- التفريق بين الوحي المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه، وبين الفكر الإسلامي الذي هو اجتهاد العقل المسلم عبر العصور، فهو يعتريه الخطأ والذهول وغير ذلك مما هو من طبيعة البشر، لكن لا يكون ذلك مدخلا للطعن في الدين نفسه ولا مبررا لإهالة التراب على جملة التراث, ولكن القاعدة المعروفة في ثقافتنا الإسلامية: أن كل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم. إذا تقررت هذه المقدمات ففي ظني أنها ستكون ضابطا للعقل المسلم وسط هذه الأعاصير العاتية التي ترد علينا من الشرق تارة ومن العرب تارة أخرى.
بهذا نصل بفضل الله تعالى إلى خاتمة بحثنا الوجيز حول الحداثة، أسال الله تعالى بمنه وفضله، أن يرد عنا كيد الكائدين من الحداثيين وغيرهم، وأن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم وأن ينفع به كاتبه وقارئه إنه على ما يشاء قدير, وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
 

د/ أحمد محمد زايد
جامعة الأزهر –كلية أصول الدين – قسم الدعوة والثقافة الإسلامية .
جامعة الملك خالد  -كلية الشريعة  وأصول الدين – قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة.
ث-     azayd@hotmail.com
ahmadzayd@yahoo.com
 

----------------------------------------
([1]) تقويم نظرية الحداثة 98.
([2]) سورة النساء جزء من آية رقم (89).
([3]) سورة الأنعام آية (55).
([4]) سورة البقرة جزء من آية رقم (104)
([5]) الحديث رواه البيهقي وصححه الأمام أحمد وغيره.
([6]) انظر: مجموعة الرسائل للإمام الشهيد حسن البنا - رسالة التعاليم - ص 3 – ط دار الدعوة – القاهرة – بدون.

 

مذاهب فكرية

  • كتب حول العلمانية
  • مقالات حول العلمانية
  • الليبرالية
  • الحداثة
  • منوعات
  • رجال تحت المجهر
  • الصفحة الرئيسية