اطبع هذه الصفحة


سلسلة : أفكار في مواجهة الإسلام
أولا : تيار الحداثة

المقال الثاني : مبادئ الحداثة عرض ونقد

د/ أحمد محمد زايد

 
اتخذ الحداثيون لنظريتهم – إن صح أن يكون لهم نظرية – عدة مبادئ نذكرها كما هي عندهم، ثم نذكر ما هو حق وما هو باطل من ذلك، وميزاننا في ذلك الكتاب الكريم، والسنة المطهرة وهما ميزان لا يخطئ، ومعيار لا يطيش، وفيما يلي أهم وأبرز مبادئ الحداثة:

أولاً: الحرية المطلقة في التفكير والبحث والتعبير

بالنظر فيما سجله الحداثيون في كتاباتهم المتعددة سواء في كتب أو مقالات، وفيما يثيرونه في مؤتمرات ومناظرات نجد منهم شبه إجماع على مبدأ "أنه لا حداثة بلا حرية". وإذا كانت قضية الحرية والتحرر من أساسيات حياة الإنسان, لا يعارضها دين، ولا يرفضها منطق،إلا أننا نجد الحرية لدي أهل الحداثة ذات مفهوم خاص، ودلالة معينة, وبالتالي نجد تخالفا كبيرا بين الحرية التي يقرها الدين ويعمل على إيجادها ويحارب ما يخالفها، وبين الحرية الحداثية.

الحرية عند أهل الحداثة:

يقول "سارتر" - وهو من آباء وكهنة الحرية - عن الحرية الحداثية: "إننا لا ندرك ذواتنا إلا من خلال اختياراتنا، وليست الحرية سوى كون اختياراتنا دائما غير مشروطة" ثم يضيف هذا الماجن: "أننا لا ننفصل عن الأشياء سوى بالحرية، الإنسان هو وحده حامل الحرية في الكون، بلا حرية لا وجود للإنسان، وبلا الإنسان لا وجود للحرية".([1])
وهذا "كانت" ذلكم الفيلسوف الحداثي الكبير وهو "يحدد طبيعة وماهية عصر التنوير في القرن الثامن عشر، يبين أن عصر التنوير هو منظومة الوضعيات التي يحاول فيها الإنسان أن يحطم الأغلال التي وضعها هو نفسه في معصمه، إنها الحالة التي يسعى فيها الإنسان إلى تحطيم دائرة الوصاية التي تسبب فيها نفسه بنفسه، إنها في نهاية الأمر العملية التي حقق فيها لعقله التحرر من الوصاية التاريخية التي فرضت عليه من الخارج، هذا ويؤكد "كانت" أن شرط التنوير والحداثة هو الحرية, ومن بين الحريات يؤكد على هذه التي تتصل بحرية العقل وحرية التفكير, والجوهري في مقولاته أن العقل لا بد أن يتحرر من سلطة المقدس ورجال الكهنوت والكنيسة وأصنام العقل"([2]), وإذا كان هذا الكلام ولّدته بيئة غلبت فيها الكنيسة على العقول، وكبتت الحريات باسم الدين، فقد يكون كل ذلك مبررا لهؤلاء الغربيين أن يطالبوا بالتحرر من مثل هذا الهراء الذي يعطل عقولهم ويضيع إنسانيتهم باسم الدين، لكننا نجد الحداثيين العرب يتجاهلون الفوارق بين البيئات والظروف والأديان، وينقلون نفس الفكر من بيئة إلى بيئة دون تمييز بين الأجواء، ودون نظر إلى خصوصيات الشعوب العقائدية والثقافية، فنجد محمد محفوظ أحد الحداثيين العرب يؤكد أن من خصائص الحداثة وأسسها: "الحرية الإنسانية، وتأكيد دور الإنسان الحر في مختلف ميادين المجتمع انطلاقا من حقوق الإنسان، وتعزيزا للقيم الديمقراطية"([3]) ويرى حداثي آخر أن "الحرية - تأخذ مكانها المميز في صميم مفهوم الحداثة. فالحداثة هي حالة من المغامرة في عالم الضرورة والحتمية وهي من هذه الزاوية تتجلى في صورة إرادة إنسانية حرة تتحدى وتتقصى وتغامر لتصنع مصير الإنسان على مقياس إرادته وعلى أطياف أحلامه الإنسانية. وتتمثل هذه الحرية في إرادة إنسانية تسعى لهدم عالم الوصاية وتدميره بمختلف تجلياته وحدوده ومرتسماته".([4])
هذه هي الحرية في مذهب الحداثيين، حرية مطلقة من كل قيد وإلا فلا حداثة، حرية التفكير في كل شيء، واقتحامه، والحكم عليه بسلطان العقل والفكر، وحرية التعبير عن كل شيء بأي عبارة، وحرية البحث في كل شيء وكل مجال بلا ضابط ولا حاجز, إنها الحرية غير المشروطة وإلا كيف تكون مدمرة؟

بين حريتين:

إن من الضروري في عالم الفكر تحرير المصطلحات ووضع الألفاظ إزاء المعاني دون تلاعب أو تحريف، وهنا لا بد لنا من القول: إن الحرية أمر شريف عظيم فلا ينبغي أن يخرج عن معناه الراقي إلى استغلالات حقيرة لتحقيق أوضاع عبثية لا أخلاقية.
أقول: إن الحرية قضية خطيرة لكن كما قالت "مدام رولاند الفرنسية" لما رأت ما أقدمت عليه الثورة الفرنسية من انتهاكات باسم الحرية: "أيتها الحرية كم من الجرائم قد اقترفت باسمك!"([5]) لقد ارتكب الحداثيون جرائم عديدة باسم الحرية, فالعبث بالأخلاق والأديان والأعراف السليمة كان باسم الحرية، وانتهاك الحقوق تم باسم الحرية، وخروج الإنسان عن طبيعته وفطرته تم باسم الحرية، وما تتنادى به المؤتمرات العالمية من إلغاء الفوارق بين المرأة والرجل باسم الحرية وحقوق الإنسان، وإباحة الشذوذ الجنسي تم تحت ذلك الشعار إلى آخر ما يعرفه القاصي والداني، ولذلك لا بد لنا من وقفة يستبين بها وجه الحق ليعرف الحداثيون أنهم قالوا بهتانا، وتلاعبوا بهذا المصطلح، فمن حقوق الإنسان إلى حقوق الطفل، إلى حقوق الأقليات، إلى حقوق المرأة، إلى كذا وكذا، فأين صاحب المقصد السليم من المغرض المفسد، وأين كلمة الله الحق وسط هذا العبث الفكري الذي ينادي به هؤلاء في بلاد الإسلام باسم الحرية؟ لابد من البيان.

الحرية في الإسلام:

جاء الإسلام بالحرية الحقيقية من قبل خالق الإنسان، قبل المواثيق الدولية بأربعة عشر قرنا من الزمان، نبين هنا طرفا من هذه الحرية الشريفة المنضبطة ليظهر لنا الفرق بين الحرية في دين الله وحرية العبث الحداثي.
الحرية هي: "الملكة الخاصة التي تميز الكائن الناطق عن غيره, وتمنحه السلطة في التصرف والأفعال، عن إرادة وروية ورضى, دون إجبار أو إكراه أو قسر خارجي، وذلك بإعمال العقل، والتفكير في الأسباب والنتائج والوسائل والغايات".([6])

الحرية إذا هي الوضع الطبيعي الذي خلق الله الإنسان عليه، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً" ومن هنا جاء الإسلام يؤكد هذه الطبيعة التي خلق الإنسان عليها فكفل له جميع الحريات اللائقة به كإنسان ومن هذه الحريات:

1) حرية الاعتقاد:
جاء القرآن الكريم يعلن من أول يوم حرية الاعتقاد, بدا هذا الأمر في مكي القرآن ومدنيه على السواء ففي سورة يونس وهي مكية:
] وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ [([7])وفي سورة الكهف ] فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ [([8])
ثم رأينا أن قضية حرية الاعتقاد ليست منسوخة، ولا هي شعار مرحلة فقط، إنما رأينا ذلك أصلا أصيلا دائما بدوام الإسلام، ظهر هذا في القرآن المدني حيث الاقتراب من مرحلة استكمال البناء التشريعي، واستقرار كافة الأحكام، يقول تعالى في سورة البقرة قوله تعالى:
] لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [.([9])
لقد تأسس هذا المبدأ من أول يوم من أيام الإسلام دون أن يطالب به حزب، أو تقوم من أجله ثورة، أو يحدث في سبيله انقلاب، جاءت الحرية في منظومة الشرع جزءاً لا يتجزأ لإقرار كرامة الإنسان.
وخلاصة معنى حرية الاعتقاد: أن الإسلام لا يسمح بإكراه أحد على اعتناقه مع أنه الدين الحق، ولا يجبر من يؤمن بغيره أن يترك عقيدته مع كونها باطلا محضاً.
ضابط وشرط في حرية الاعتقاد في الإسلام:
هذه الحرية حرية اختيار أو تخيـير كامل عن قناعة لا إكراه معها بين الإسلام وغيره، فإذا وصل المرء بعد البلاغ المبين إلى اختيار الإسلام دينا دون إكراه من أي نوع، ودخل هذا الدين وأصبح من أهله فإن الإسلام قبل ذلك وبعده يضبط المسألة ويعلن:أننا كما أعطيناك حرية الاختيار ولم نجبرك على الاعتقاد نقول لك إن الإسلام بعد اعتناقه ليس ألعوبة في أيدي العابثين، ولا بضاعة تشتريها صباحا وتردها في المساء، فإذا آمنت لزمك الوفاء بالعهد العقائدي والثبات عليه حتى الممات وإلا عرضت نفسك لعقوبة معلومة شديدة هي عقوبة الارتداد عن الدين.
أما الحداثيون فالحرية التي ينادون بها حرية مطلقة - كما زعموا - بمعنى أن الإنسان لا بأس - في فلسفتهم - أن يصبح مؤمنا ويغدو كافرا بدافع الحرية، وأن يتردد بين الأديان بدافع الحرية، وأن يفعل ما يشاء ويقول ما يشاء ويعبر عما يشاء بما شاء.
 
2)   حرية التفكير:
وهذه من أعظم مزايا الإسلام حيث حرر العقل والفكر، ودعا إلى التأمل والنظر في الكون, وإننا نجد ألفاظ العلم, والعقل، والتدبر، والفقه, وغير ذلك كثيرا في كتاب الله تعالى، وورودها يحمل دلالات كثيرة، فليس في الإسلام تقليد بلا دليل بدءا من الإيمان بالله تعالى الذي هو أسمى عقائد الإسلام، حيث قام على البراهين والأدلة العقلية الصحيحة التي وافقتها الأدلة النقلية الصريحة, ثم رأينا القرآن يحارب الأساطير والأوهام، ويذم الظنون والتخرصات، ويطلب حتى من المخالفين التفكر وإعمال العقل: ] قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [([10]), ويطالب كل صاحب ودعوى ببرهان على دعواه ] قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [([11]).
لقد بلغ شأن هذه الحرية الفكرية أن انفتح الإسلام على كل الثقافات، لكنه انفتاح انتقائي يقبل المفيد النافع من كل ثقافة وحضارة، ويرفض الضار، والقاعدة عندنا "الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى الناس بها", والحرية الفكرية – كسابقتها- لم تنشأ بمطالبات بشرية، أو نتيجة تطور المجتمع, أو بعد بذل جهود بشرية لإقرارها إنما أنزلها الله تعالى في كتابه من أو ليوم نزل فيه التشريع، لقد كانت أولى كلمات الوحي المقدس ] اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [([12]).

3)   حرية الرأي والنقد والتعبير:

يعلمنا الإسلام أنه ليس لأحد أن يقول والجميع يتلقى دون تفكير أو تقليب للأمور, فليس عندنا عصمة مطلقة إلا لكلام الله تعالى، وما صح عن رسول الله e, وما سوى ذلك فكلام فيه الصواب والخطأ، نعمل فيه التفكير ونزنه بميزان العقل والمنطق والعلم،نعترف بصوابه ونرد خطأه, فنفكر ونكوِّن رأيا ثم نعلن ما اعتقدناه صحيحا متى كان ذلك وفق قواعد علمية ومنطقية سليمة، نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وهذا من أعلى أنواع التعبير والنقد.
إن من حق المؤمن أن ينكر ما يراه باطلاً متفقاً على بطلانه، بل إن ذلك من واجبه، ومن هذا الباب جعل الرسول e أفضل أنواع الاستشهاد استشهاد رجل قام في وجه سلطان جائر فأمره ونهاه فقتله, ولا خير في أمة لا تقول للظالم يا ظالم، لأنها حينئذ لن تقول للمحسن أحسنت، أمتنا تتعلم من دينها كيف تحاسب نفسها وهذا من أرقى أنواع النقد الداخلي، ثم إن ديننا الحنيف يأبى أن تتحكم طغمة سفيهة في أنفاس الخلق وحركة عقولهم كما فعلت الكنيسة حتى باءت بانقلاب الناس عليها ومحاصرة دَورَها بين جدران أربعة، وفي ساعات وأيام معلومة، إن الأوربيين لم يعرفوا الحرية المزعومة إلا من يوم أن خرجوا على تعاليم تلك الكنيسة البائسة، لكن ديننا جاء بحرية التعبير والنقد من مطلع ظهوره، وحارب في سبيل إقرار هذا المبدأ كل سلطان يعطل تلك الملكة التي وهبها الله تعالى للإنسان "ملكة العقل والتفكير".
وفي الإسلام الحرية بمعناها الشامل فهناك حرية التملك، وحرية العمل مادام في الحلال، وحرية الإنفاق، وحرية العمل... إلى غير ذلك من الحريات التي لا تقوم الحياة ولا تستقيم إلا بها.

حرية بناء لا هدم:

الحرية في المنظور الإسلامي تخالف ما ينادي به الحداثيون من الحرية، فحرية الحداثيين هدم وتدمير لكل مقدس محترم، وكل مفيد بناء، لأنها انخلاع من القوانين والضوابط، وثورة على كل مقدس، وفعل لكل مرغوب دون نظر إلى حلال أو حرام، فمآل الأمر لحرية الحداثيين تحوِّل الحياة إلى صورة حيوانية أو شبهها، أما الإسلام فلكي تكون الحرية المستقاة منه حرية بناء لا هدم، وتعمير لا تدمير فإنه ضبط ذلك بضوابط منها:

* الحرية والمسئولية صنوان في الإسلام لايفترقان، فإذا كانت الحرية من أعظم القيم الإسلامية، لكننا نجد الإسلام يحمل المرء المسئولية الكاملة عن تصرفاته ما دام بالغاً عاقلاً, وهذا لا شك يعلى من قيمة اختيارات الإنسان, ويرقى بمستوى عقليته في كل تصرف واختيار لأنه في النهاية مسئول، وقد تأملت ذلك في سورة الإنسان، ففي قوله تعالى: ] إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [([13]) مفرق طريق أمام الإنسان من حيث إن له حرية الاختيار بين الطريقين، لكنه بعد ذلك يبين عاقبة الاختيار ليكون المرء على مستوى هذه الحرية التي منحت له, فيجيء قوله تعالى يبين العواقب لكلا الاختيارين ] إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً. إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً [([14])، وهنا لا ينبغي أبداً طرح إشكالية القضاء والقدر، ما دام الأمر واضحا في حس الإنسان، فلا داعي لفتح هذا الباب أو الولوج في منحنياته.

* حرية المرء تتوقف عند حرية الآخرين, فإذا كان الإنسان لا يعيش في هذا العالم وحده ولا يمكنه ذلك، فلا بد أن تتوقف حريته عند حرية الآخرين، فإنه عندما يمارس حرية مطلقة يعتدي حينها على غيره، ويمتد في فراغه، وهذا أعظم الظلم والفساد، ثم إنه لا تستقيم الحياة إلا بقانون ضابط يقيد الحركة بقيود المصلحة العامة، بل يقدم المصالح العامة على المصالح الخاصة، وهذا توقيف للحرية الفردية عند حدودها، ومن هنا نقول لأولئك العابثين من الحداثيين إنه ليست هنا في الدنيا حرية مطلقة من كل قيد كما يتشدقون بذلك خداعا للجماهير وإشعارا لهم أنهم جاءوا بنظرية فيها إنقاذ الناس وتحريرهم، إنه بأدنى تأمل نستطيع أن نجزم أنه لابد من التزام بقانون ما مهما ادعى الإنسان الحرية، وإلا لفسدت الحياة وصارت فوضى كفوضى الحيوانات في الغابة.

* مجال حرية العقل عالم الشهادة لا عالم الغيب، وأن العقل لا يسير إلا حيث يسيره الشرع، فإنه على الرغم من المكانة التي أعطاها الإسلام للعقل، إلا أنه حدد له مجال عمله اللائق به احتراما له، وحفاظا على سلامته، فمجال عمل العقل الحقيقي هو عالم الشهادة فله أن يبتكر وأن يبدع ليعمر هذه الأرض، وتلك هي رسالة الإنسان، وحينما يتجاوز المرء بعقله هذا العالم المشهود إلى عالم الغيب فإنه بذلك قد تقحَّم عالما فوق الإدراك وحينئذ يبوء بضلال في النتيجة، وفشل في أمور الدنيا التي هي محل عمله وشغله، يبين الإمام الشاطبي -رحمه الله- أن الإسلام: "جعل للعقول في إدراكها حدا تنتهي إليه لا تتعداه, ولم يجعل لها سبيلا إلى الإدراك في كل مطلوب, ولو كانت كذلك لاستوت مع البارئ تعالى في إدراك جميع ما كان، وما يكون، ومالا يكون، إذ لو كان كيف يكون؟ فمعلومات الله لا تتناهى، ومعلومات العبد متناهية، والمتناهي لا يساوي ما لا يتناهى"([15]) وفي موضع آخر يقول "فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل"([16]), ومن هنا يظهر ضلال الحداثيين الذين يجعلون العقلانية أساس مذهبهم،ويتخذون العقل إلها يعبد من دون الله، فما لا يدخل تحت حكم العقل بحكم مذهبهم يرفض ويكفر به, نقول لهم متى كان العقل مستقلا بإدراك مصالحه من كل وجه؟ وما فائدة إرسال الرسل وإنزال الكتب إذا كان العقل بهذه الدرجة التي يزعمون؟ يقول الشاطبي - وأنا هنا أستشهد بأقواله بالذات لأنهم يستغلون كلام الشاطبي في المقاصد ليبرروا به انفلاتهم من قيود الشرع تحت شعار المقاصد فهلا أخذوا كلام الرجل كاملا - يقول - رحمه الله- "وقد علمت - أيها الناظر - أن ليس كل ما يقضي به العقل يكون حقا" ثم يستدل على ذلك بالمشاهد والواقع من أمر بعض الناس فيقول "ولذلك تراهم - أي أهل التحسين والتقبيح العقليين – يرتضون اليوم مذهباً ويرجعون عنه غداً، ثم يصيرون إلى رأي ثالث! ولو كان كل ما يقضي به حقا لكفى في إصلاح معاش الناس ومعادهم، ولم يكن لبعثة الرسل عليهم السلام فائدة".([17])

* الحرية مقيدة بنصوص الوحي الكريم، وهذا أمر من البداهة بمكان مكين، فالمرء ليس إلها بل هو عبد مأمور، والقول بحرية مطلقة رفع للإنسان عن مرتبته التي وضعه الله تعالى فيها كعبد إلى مرتبة ليست له مطلقا، ومن هنا فالعبد إذا أراد الحرية الحقيقية فإن ذلك لا يكون إلا في قمة العبودية لله تعالى "فقمة الحرية في قمة العبودية" كما يقول أهل التصوف. ومن هنا فالمسلم الفرد والأمة التي ارتضت الإسلام دينا، والقرآن شرعة ومنهاجا لا يمكن بحال من الأحوال أن تنسى وحي ربها وتنجرف وراء نداءات الحداثيين الذين يتشدقون بشعار الحرية، لا يمكن للأمة أن تتجاوز ثوابت وقطعيات دينها الذي هو روحها, إلى تلك الترهات الحداثية الضالة المضللة، إن الأمة والحمد لله ترفض هذا العبث الفكري، لأنها تعلن كل يوم "لا إله إلا الله محمد رسول الله" إعلانا يزلزل أركان الفكر والضلال الحداثي، فأمتنا حرة لكنها في حريتها متمسكة بنصوص الوحي ومقيدة بحدود الدين، "ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه"([18])، إننا على علم أن الحداثيين من خبثهم وإيهامهم وشدة تلبيسهم على الجماهير سيخوفونهم من الإسلام ومن الإسلاميين، حيث يصورون الحياة الإسلامية الملتزمة أنها حياة مكبلة بالقيود، محاطة بحدود وأحكام لا يرى المرء معها حرية ولا تحررا، ويعدون الناس بحياة الحرية الحقيقية، ويخدعونهم بانطلاقة لا ضوابط معها ولا مسئولية، وهذا هو الضلال والتضليل، وبل وقمة التخويف من دين الله تعالى، لكننا نقول لن يفلح هذا الفكر، ولن يلقى رواجا بإذن الله بين المسلمين، فالأمة رغم ضعفها محبة لربها، راضية بدينه، متبعة لرسوله، عما قريب سينقشع غمام هؤلاء الحداثيين، وستدرك الأمة عدوها من صديقها.
هذه أهم ضوابط الحرية في نظر الإسلام كما رأيتها والله تعالى أعلم.

 وفي المقال التالي بإذن الله تعالى نستكمل معا أبرز مباديء الحداثيين ونرد عليها.
 

د/ أحمد محمد زايد
جامعة الأزهر –كلية أصول الدين – قسم الدعوة والثقافة الإسلامية .
جامعة الملك خالد  -كلية الشريعة  وأصول الدين – قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة.
ث-     azayd@hotmail.com
ahmadzayd@yahoo.com
 

----------------------------------------
([1]) من مقال "بحث في الحرية" لكاتبه عبد الرحيم صالح. أحد الحداثيين الليبين من شبكة المعلومات العالمية الانترنت- موقع www.aljabriabd.com
([2]) من بحث مقاربات - ص 11 - مصدر سابق.
([3]) السابق ص 12.
([4]) السابق 13.
([5]) حوار عن بعد حول حقوق الإنسان في الإسلام – الشيخ/ عبدا لله بن الشيخ المحفوظ بن بيه- ص 52 - ط الأولى 2..3 م- دار الأندلس الخضراء – السعودية.
([6]) حقوق الإنسان محور المقاصد الشرعية لمجموعة من المؤلفين ص 75 - كتاب الأمة - العدد (87).
([7]) سورة يونس الآية (99).
([8]) سورة الكهف جزء من آية (29).
([9]) سورة البقرة جزء من آية (256).
([10]) سورة سبأ آية (46).
([11]) سورة النمل آية ( 64).
([12]) سورة العلق آية (1).
([13]) سورة الإنسان آية رقم (3).
([14]) سورة الإنسان آيات رقم (4-5).
([15]) الاعتصام للإمام الشاطبي ص 486- تقديم/ محمد رشيد رضا- ط الأولى – مكتبة المعارف.
([16]) الموافقات للشاطبي (1/6 ) ط الأولى - مؤسسة الرسالة –تحقيق الشيخ /عبد الله دار-وتخريج الأحاديث د/ محمد عبد الله دراز.
([17]) الاعتصام (490)
([18]) سورة الطلاق آية (1)

 

مذاهب فكرية

  • كتب حول العلمانية
  • مقالات حول العلمانية
  • الليبرالية
  • الحداثة
  • منوعات
  • رجال تحت المجهر
  • الصفحة الرئيسية