اطبع هذه الصفحة


سلسلة : أفكار في مواجهة الإسلام
أولا : تيار الحداثة

المقال الثالث من مباديء الحداثيين   ً: العقلانية

د/ أحمد محمد زايد

 
وتلك أكذوبة أخرى من أكاذيب الحداثيين، حيث صوروا وتصوروا في نظريتهم أن الحديث ضد القديم، فأخذوا الحديث وعادوا القديم، وصوروا وتصوروا أن النقل ضد العقل فساروا مع العقل وحاربوا النقل, بل وصور بعضهم الإنسان بأنه ضد الإله فأخذوا الإنسان وحاربوا الإله.

العقلانية التي هي محل حديثنا هنا في هذا المبدأ أمر مصرح به على ألسنة أهل الحداثة كأساس لنظريتهم، يعرض أحد الحداثيين العرب بعض فكر الحداثة وأسسها عند أحد فلاسفة الحداثة الغربيين فيقول: "تعد العقلانية مبتدأ الحداثة وخبرها ولا توجد حداثة من غير أساس عقلاني كما يؤكد آلان تورين A. Tourain والحداثة كما يرى تورين هي عملية انتشار المنتجات العقلية والعلمية والتكنولوجية وهي بالتالي حالة رفض للتصورات القديمة التي تقوم على أساس ديني طوباوي وتمثل في الوقت ذاته حالة قطيعة مع الغائية الدينية التقليدية، إنها انتصار للعقل في مختلف مجالات الحياة والوجود، في مجال العلم والحياة الاجتماعية، وغاية الحداثة هي بناء مجتمع عقلاني. وهذا يعني أن الحداثة هي حالة ولادة جديدة لعالم يحكمه العقل وتسوده العقلانية. وبعبارة أخرى الحداثة وضعية اجتماعية وحضارية تجعل من العقل والعقلانية المبدأ الأساسي الذي يعتمد في مجال الحياة الشخصية والاجتماعية. وهذا يقتضي وجود حالة رفض لجميع العقائد والتصورات وأشكال التنظيم الاجتماعي التي لا تستند إلى أسس عقلية أو علمية. وهذا هو التصور الذي اعتمدته فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر والتي نادت بوجود الإنسان على أساس التوافق مع العقل والعقلانية، وذلك سعيا إلى تحرير الإنسان من العبودية والظلم ومن المخاوف الأسطورية والجهل والعبودية والتسلط وقد اتجهت هذه الحركة إلى إزالة العقبات التي تقف في وجه المعرفة العلمية.

وتأخذ الحداثة ملامحها الأساسية في الفلسفة الوضعية Positivisme La التي أحدثت نوعاً من القطيعة مع التصورات الأبوية والكنسية التقليدية مؤكدة أهمية المعرفة العلمية والعقلانية في شتى مناحي الحياة الاجتماعية واتجاهاتها. وفي هذا السياق تتبدى الحداثة أيضا في عطاءات المنهج العلمي التجريبي الذي أخذ هيئة العقلانية الأداتية التي اتسمت بالموضوعية والتماسك والتي بدأت تسجل حضورها العارم في مختلف مجالات المعرفة العلمية بفروعها المختلفة".([1])
وكنت أحسب أن هذه التعبيرات عن العقلانية وأنها أساس الحياة، وأن الدين محكوم عليه بهيمنة العقل، كنت أحسب ذلك عند أهل الغرب فقط، لكننا وجدنا الترجمة شبه حرفية عند أولئك الحداثيين الأقزام من العرب فهذا "محمد محفوظ" يجعل الحداثة تستند إلى عدة خصائص منها "العقلانية حيث يتجلى العقل بسيادته وهيمنته في مختلف جوانب الوجود الاجتماعي والسياسي تجلياً لمبادئ التنوير وقيمه"([2]) ويرى "قسطنطين زريق" أن الحداثة تنطلق من عدة مواقف منها: "الإيمان بأن العقل هو مصدر تفوق الإنسان وتفرده في مملكة الكائنات الحية، ومن ثم الإيمان بأن الإنسان يستطيع عبر هذا العقل أن يطور العلوم والمعارف باتجاه السيطرة على الوجود والمصير".([3])
هذه بعض أقوال الحداثيين حول كون العقلانية أساسا من أسس الحداثة، وواضح عند التحليل أن الدين قضية ذات حساسية شديدة لدى هؤلاء فهو في نظرهم مناقض للحرية والعقل معا، بينما العلمانية هي العقلانية والحرية معا.

ثالثاً: الانفلات من التراث والانقلاب عليه

التراث الإسلامي هو: "نتاج العقل البشري المسلم عبر القرون"([4]) وقانون الآثار المصرية المعمول به الآن يحدد مائة سنة سابقة عن الآن حتى نعتبر الشيء في عالم الأشياء أثرا"([5]), والتراث الذي هو نتاج العقل المسلم في كل الفنون والعلوم إنما كان بقصد خدمة النص (القرآن والسنة) بكل ما اشتملت عليه هذه الخدمة من معان ومقاصد، وقد جعل "المسلمون النص محوراً لحضارتهم، ومحور الحضارة معناه: أنهم جعلوه معيارا للتقويم، وجعلوه منطلقا للخدمة، وجعلوه مرجعا يرجعون إليه، ولذلك نجد أنهم قد ولدوا علوماً كثيرة كعلم الفقه وعلم الأصول وعلم النحو وعلم الصرف وعلم الوضع وعلم البلاغة، وهكذا يريدون بهذه العلوم أن يخدموا النص"([6]) فالتراث إذاً نتاج عقل مسلم ينطلق من النص ويعود إليه, فليس ذلك العقل عابثا أو ماجنا وإنما هو عقل جاد منضبط هادف، بل كان من جديته وانضباطه وإبداعه أنه عقل عرف التخصص واحترمه وعرف المشاركين في العلوم, فكان في تراجم علمائنا أن فلانا برع في كذا وكذا من الفنون، وهو مشارك في كذا، أي لم يكن على نفس درجة إتقان البارع المتفنن، وهكذا تميز ذلك العقل الذي أنتج التراث بما يلي:
1-   أنه عقل منطلق من الوحي، خادم له.
2-   الجدية والانضباط والهادفية.
3-   احترام التخصص وعدم اقتحام تخصص الغير.
4-   الاجتهاد والإبداع فيما من شأنه أن يعمل العقل فيه.

هذه أبرز صفات ومميزات العقل المسلم الذي أنتج التراث، وهذا التراث الإسلامي بكل فنونه وعلومه "هو روح الأمة التي تسري في كيانها عبر العصور والأجيال، إنه الدعامة الأساسية والركيزة الثابتة التي تميز ملامح الأمة عن سواها، وهو الذي يمدها بالاعتزاز والفخر، ويزودها بالكبرياء الذي يعينها على تجاوز الصعاب، وتخطي العقبات، ويعطيها القوة والطاقة التي تزيد من سرعة خطاها، وتثبت أقدامها على طريق التقدم والانطلاق والرقي الحضاري".([7])

هذا التراث على أهميته التي ذكرنا، وبينا كيف نتج، ومن أنتجه، ولماذا أنتج، وما محوره, مع كل هذا يرى الحداثيون فيه غير ما نرى، فهم يرون التراث والعقلية التراثية، بل والعودة إلى التراث مبعث انحطاط وتخلف، فلابد إذا من الانفلات من هذا القيد، بل لا يكفي هذا, لابد من الانقلاب عليه ومحاربته، يرى زكي نجيب محمود "أن تراثنا لا يشكل مصدر الثقافة العلمية المطلوبة، حيث يتوجب علينا أن نبحث عن قيم هذه الثقافة ومعاييرها في ثقافة الغرب المعاصرة وفي حضارته، ويجب أن ننهل منها ما استطعنا إليها سبيلا([8])ويقول كمال أبو أديب: "الحداثة انقطاع معرفي ذلك أن مصادرها المعرفية لا تكمن في المصادر المعرفية التراثية، في كتب ابن خلدون الأربعة، أو في اللغة المؤسساتية والفكر الديني، وكون الفن محاكاة للعالم الخارجي، الحداثة انقطاع، لأن مصادرها المعرفية هي اللغة البكر، والفكر العلماني"([9])، وفي مقال للحداثي جواد طعمة بعنوان "الشاعر العربي المعاصر ومفهومه النظري للحداثة" يعدد فيه خصائص الحداثة فيقول: "إن الحداثة الغربية في جوهرها, تعكس معارضة جدلية ثلاثية الأبعاد: معارضة التراث، ومعارضة للثقافة البرجوازية بمبادئها العقلانية والنفعية"([10]), ويفرق ناصيف نصار بين الحداثة التي هي مذهبه وبين التقليد الذي هو اتباع المنهج الإسلامي والتراث الإسلامي فيقول "الحداثة هي المفهوم الدال على التجديد والنشاط الإبداعي... إلى أن يقول: وتتحدد الحداثة في هذا المعنى بعلاقتها التناقضية مع ما يسمى بالتقليد أو التراث أو الماضي، فالحداثة خروج عن التقاليد وحالة تجديد".([11])

هذه بعض نماذج من أقوال هذه الشرذمة والتي يمكن القول إنهم في الجملة مجمعون على هذا المبدأ تصريحا أو تلميحا, وهنا لابد من تنبيه ألا وهو أن التراث في استعمال هؤلاء تعبير خبيث يقصدون به كل ما هو غير حديث وعلى رأس ما يقصدون القرآن والسنة ابتداء لكنهم يستعملون لفظ التراث من باب تخفيف الوطأة على الجمهور المسلم الذي يحاولون تغريبه, والذي لا يمكن أن يتحمل فكرتهم لو صرحوا بها، فالقرآن في نظرهم كلام أو ظاهرة ليست فوق النقد، فليس له من القداسة ولا الاحترام ما يجعله معصوما في نظرهم على ما سنبين بعد قليل، إن الثورة على التراث بكل مكوناته يسمونها أسماء عديدة تزيد في اللبس والتعمية مثل مصطلح "التفكير، والنقد، والبحث وغير ذلك، وسنسوق هنا مثالا لواحد من شياطين الحداثة وأربابها كنموذج يبين لنا موقف الحداثيين من التراث.
 
وفي المقال التالي بإذن الله تعالى نسوق نموذجا لموقف الحداثيين من التراث ( محمد أراكون)
 

د/ أحمد محمد زايد
جامعة الأزهر –كلية أصول الدين – قسم الدعوة والثقافة الإسلامية .
جامعة الملك خالد  -كلية الشريعة  وأصول الدين – قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة.
ث-     azayd@hotmail.com
ahmadzayd@yahoo.com
 

----------------------------------------
([1]) من بحث مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة ص 15- 16.
([2]) السابق 12.
([3]) السابق 14.
([4]) المدخل د/ علي جمعة محمد - ص 9 ط الأولى – 1996م - المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
([5]) السابق ص 9.
([6])السابق ص 1. لعل من المفيد سوق تعريف لكل علم من هذه العلوم, لكن لشهرتها أحسب أن طلاب العلم في غنى عن هذه التعريفات خاصة للعلوم المتداولة, عدا علم الوضع فيما أحسب, فإنه لم يعد علما متداولا اليوم للأسف الشديد, ولذا سأعرف به هنا.
([7]) مجلة جذور ص 464 مجلة فصلية تعنى بالتراث وقضاياه من مقال الأستاذ الهادي الرزيني بعنوان (تراثنا العربي وأبعاده) عدد محرم 1424هـ- مارس 2003 م.
([8]) مقاربات بين مفهوم الحداثة وما بعد الحداثة ص 9.
([9]) تقويم نظرية الحداثة ص 39 مصدر سابق.
([10]) السابق ص 41.
([11]) مقاربات ص 3- سابق
 

مذاهب فكرية

  • كتب حول العلمانية
  • مقالات حول العلمانية
  • الليبرالية
  • الحداثة
  • منوعات
  • رجال تحت المجهر
  • الصفحة الرئيسية