اطبع هذه الصفحة


سلسلة : أفكار في مواجهة الإسلام
أولا : تيار الحداثة

المقال الرابع  :محمد أراكون والتراث "نموذج حداثي تجاه التراث"

د/ أحمد محمد زايد

 
أراكون اسم لامع في سماء أهل الحداثة، بل في الفضاء العلماني عموماً، ويظهر أراكون في هذه الفضاءات تحت عنوان كبير لافت، تظهره مؤلفاته العديدة، على أنه مشروع يرمي إلى "إعادة كتابة جديدة لكل تاريخ الفكر الإسلامي والفكر العربي" على حسب قوله، مشروع نقدي يطوف به أراكون المجامع الغربية محاضراً ومتحدثاً، وفي الناحية الأخرى تصدر كتاباته إلى البلدان العربية والإسلامية لينفث سمومه في كل مكان.

أراكون والقرآن الكريم:

لقد أخذ القرآن الكريم - باعتباره جزءا من التراث – نصيبا موفورا من اهتمامات أراكون الفكرية والنقدية يظهر ذلك من كتبه العديدة, ولم يكن هذا الاهتمام من أراكون بالكتاب دفاعا عنه ولا إظهارا لإعجازه المبهر، ولا دعوة إلى نظامه وأحكامه، إنما كان تشكيكا في صلاحية وثبوته، وزعزعة لإيمان المؤمنين به، وصدا للمقبلين عليه، وإثارة لغبار حسب أركون أنه كفيل بإيقاف مسيرة الكتاب، وتعطيل عمله في الحياة وهيهات هيهات, فأمره كما قال الشاعر:

ما ضرّ بحرَ الفرات يوما أن خاض بعض الكلاب فيه.

ولست فيما أقول زاعماً ولا متجنياً, إنما أقواله الواضحة الصريحة هي التي تدل على ما نقول كما يظهر ذلك في النقاط التالية:
أركون يشكك في القرآن بالتشكيك في مسألة "جمع القرآن" ويرى أن إجماع الأمة على صحة القرآن أمر يحتاج إلى مراجعة ونقد، وما قصة جمع القرآن إلى أسطورة مكذوبة ينبغي مراجعتها وهذا قوله تحت عنوان (النص القرآني كيفية جمعه وإعادة قراءته): "عندما ينقل محمد سورة قرآنية فإنه حينئذ ليس إلا أداة بحتة للتوصيل والنقل دون أي تدخل شخصي، إنه فقط يتلفظ بكلام الله، وهو إذن الناطق بكلام الله في اللغة العربية, كان هناك شهود وصحابة يحيطون به أثناء ذلك، وقد حفظوا عن ظهر قلب السور واحدة بعد الأخرى. يطيب للتراث المنقول أن يذكر أنه في حالات معينة فإن بعض السور كان قد سجل كتابة فورا على جلود الحيوانات وأوراق النخيل أو العظام المسطحة، الخ.. واستمر هذا العمل عشرين عاما.
كان طبيعيا، بعد وفاة النبي، أن تطرح مسألة جمع هذه السور في كل متكامل. ذلك أن زمن الفتح قد ابتدأ وأصبح الصحابة يتبعثرون في الأمصار، فكر الخليفة الأول أبو بكر بتجميع أكبر عدد من السور وكتابتها من أجل حفظها، وتم بذلك تشكيل أول مصحف (مصحف في حالته البدائية) وقد وضع هذا المصحف عند عائشة بنت أبي بكر وزوجة النبي. هذه السور القرآنية سوف تستخدم مباشرة بصيغ جدالية هدفها الصراع على السلطة السياسية. هذا ما يمكن أن نستشفه من التراث المنقول على الرغم من الرقابة الصارمة التي أحيط بها هذا التراث.
راح الخليفة عثمان (أحد أعضاء العائلة المعادية لعائلة النبي) يتخذ قراراً نهائيا بتجميع مختلف الأجزاء المكتوبة سابقا والشهادات الشفهية التي أمكن التقاطها من أفواه الصحابة الأول, أدى هذا التجميع عام 656 م إلى تشكيل نص متكامل فرض نهائيا بصفته المصحف الحقيقي لكل كلام الله كما قد أوحي إلى محمد، ورفض الخلفاء اللاحقون كل الشهادات الأخرى التي تريد تأكيد نفسها (مصداقيتها) مما أدى إلى استحالة أي تعديل ممكن للنص المشكل في ظل عثمان.
هذه هي رواية التراث، وهذه الرواية التي تمثل اليوم الموقف الإسلامي العام والتي لها قوة المسلمة التي لا تناقش ولا تمس، لنعد صياغة هذه الرواية مرة أخرى: كل كلام الله الموحى به إلى محمد كان قد نقل بصدق وإخلاص كامل ثم حفظ كتابة في المصحف المشكل زمن عثمان أي خمسة وعشرين عاما بعد وفاة النبي.
هذه هي المقولة الرسمية التي لا يسمح لأحد من البشر أن يوجه إليها أدنى ذرة من الشك، وليس المسلمون بحاجة إلى جهاز ديني أعلى للحفاظ على هذه المقولة، وإنما يكفي أن يتمثلها الوعي الجماعي الجبار ويكفيها هذا الإجماع (إجماع الأمة) المتشكل خلال القرون الأربعة الأولى للإسلام لكي تصبح حقيقة مطلقة، فهذا الإجماع – إجماع الأمة سنة وشيعة – قوي لدرجة أن من يتصدى له فسوف يعرض نفسه لعقاب الجسد الاجتماعي بأسره، هنا تكمن المشكلة القصوى، هنا الأمر العظيم المحير، إن المسألة ليست مسألة حرية أودغمائية خاصة بالإسلام كإسلام، أبدا أبدا، وإنما هي مشكلة كيفية اشتغال آلية مجتمع بأسره. وحتى القادة السياسيون لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً على فرض أنهم يعون المسألة، لأنهم إذا ما تعرضوا بالشك لهذه المقولات المطلقة فسوف ينالهم عقاب الجمهور مهما تكن رتبهم القيادية".([1])

هذا النص من كلام أراكون نقلته على طوله لبيان خطورة هذا الفكر الضال الذي يعتدي على الثوابت والقطعيات, فأنت تراه يقطر سماً وحقداً وشكًا على كتاب الله العظيم الذي هو روح الأمة وحياتها، ولا يخفى على القارئ الحصيف ما في هذا الكلام من المغالطات وما عليه من الملاحظات فأراكون – هداه الله – ابتداء يتكلم بسوء أدب عن نبي الله صلى الله عليه وسلم وعن صحابته الكرام رضي الله عنهم أجمعين، فهو لا يصلى على الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يترضى عن أصحابه الكرام، وهذا وإن كان أمراً هاماً لكنه ليس محل النظر في كلام أراكون، المهم هي مجموعة الأكاذيب والأغاليط والتمويهات التي يحملها الكلام منها:
* الزعم بأن الصحابة استخدموا القرآن بصيغ جدالية هدفها الصراع على السلطة السياسية, ولا أدري من أين أتى أركون بهذا الكذب؟ ومتى؟ وأين؟ وكيف؟ هو يزعم أنه استشف ذلك من تراث منقول عليه رقابة شديدة مضروبة، فهل اطلع هذا الضال على تراث آخر غير ما اطلعت عليه الأمة، إن تراثنا متداول مطبوع ومخطوط بلا رقابة ولا كهنوت, فمن أين استشف هذا العبقري هذا الهراء والافتراء؟
* الزعم بأن الخلفاء اللاحقين بعد عثمان رضي الله عنه رفضوا آراء أخرى حاولت إحداث تعديلات جديدة وممكنة في القرآن الذي جمعه عثمان, والزعم بأن هذه المطالب كانت مطالب ذات مصداقية، وكان ينبغي عدم رفضها.
* محاولة ضرب وتسفيه إجماع الأمة على صحة كتابها وموثوقيته، وأن هذا الإجماع ليس له ما يبرره ولكنه سيف مرفوع من المسلمين لإرهاب أي رأي جديد حول القرآن حتى ولو كان هذا الرأي من القادة السياسيين ذوي السلطان، ويزعم أن هذه اللغة الواحدة الكائنة في المجتمع الإسلامي كبتت كل رأي متحرر حتى غدا المثقفون يمارسون الرقابة على أنفسهم ويمتنعون عن الخوض في هذه المسائل الحساسة.
ثم يوجه أراكون طعنة أخرى إلى القرآن عندما يعتبر هذا الكتاب الكريم كلاما قابلا للنقد، بل لابد وأن ينقد، وأول النقد النظر في تاريخ جمع القرآن وإعادة النظر في سنده فيقول: "لنذكر الآن المهمة العاجلة التي تتطلبها أية مراجعة نقدية للنص القرآني، ينبغي أولاً إعادة كتابة قصة تشكل هذا النص بشكل جديد كلياً، أي نقد القصة الرسمية للتشكيل التي رسخها التراث المنقول نقداً جذرياً، هذا يتطلب منا الرجوع إلى كل الوثائق التاريخية التي أتيح لها أن تصلنا سواء كانت ذات أصل شيعي أم خارجي أم سني، هكذا نتجنب كل حذف تيولوجي لطرف ضد آخر، المهم عندئذ هو التأكد من صحة الوثائق المستخدمة, بعدها نواجه ليس فقط مسألة إعادة قراءة هذه الوثائق، وإنما أيضا محاولة البحث عن وثائق أخرى ممكنة الوجود كوثائق البحر الميت التي اكتشفت مؤخرا، يفيدنا في ذلك سبر المكتبات الخاصة عند دروز سوريا([2]) أو إسماعيلية الهند([3]) أو زيدية اليمن([4]) أوعلوية المغرب([5])، يوجد هناك في هذه المكتبات القصية وثائق نائمة متمنعة مقفل عليها بالرتاج، الشيء الوحيد الذي يعزينا في عدم إمكانية الوصول إليها الآن هو معرفتنا بأنها محروسة جيدا, هكذا نجد أنفسنا أمام عمل ضخم من البحث وتحقيق النصوص الذي يتبعه فيما بعد - وكما حدث للأناجيل والتوراة - إعادة سيميائية للنص القرآني... إلى أن يقول: إن قراءة كهذه للقرآن تتبدى اليوم عملا شديد الأهمية، ولكن للأسف فإنه ينقصنا العدد الكافي من العمال الباحثين".([6])
هذا الكلام في منتهى الخطورة فأراكون يظهر أنه حتى اليوم مازال متشككا في القرآن، ولذا فإنه لابد أن يجري عملية نقد وبحث في سند القرآن ليعلم هل القرآن حقا هو ذاك الذي بين أيدينا؟ أم أن هناك نصوصاً مفقودة أو موضوعة من قبل البشر ستظهرها لنا وثائق من هنا ومن هناك، حتى ولو كانت تلك الوثائق من وضع أناس كافرين بالقرآن حاقدين على الإسلام كالإسماعيلية والدروز.
ثم إننا نسأل هذا الملحد الضال من الذي ندبه لهذه المهمة التي يقول عنها إنها "تتبدى عملاً شديد الأهمية" هل ظلت الأمة في عماية وضلال أربعة عشر قرناً من الزمان حتى جاءها هذا الكفور ليرشد عقلها، وينير طريقها؟ إنه يضع القرآن المحفوظ مع الكتب المحرفة التي هي لدى اليهود والنصارى في سلة واحدة، وكأن أراكون بذلك يقدم خدمة لليهود والنصارى، إذ أنه يبرر ما وجه إلى كتبهم من نقد، حيث يصير الجميع سواء إذا ما تم مثل الذي ينادي به هذا الأراكون.

أراكون وفكرة تحنيط القرآن:

ويرى أراكون في موضع آخر أن القرآن ما هو إلا فكرة تسكن العقل وتجول في الخواطر وتغذي التأمل والخيال باعتبارها مجازاً لا حقيقة لها يعبر عن ذلك بقوله: "إن القرآن كما الأناجيل ليس إلا مجازات عالية تتكلم عن الوضع البشري، إن هذه المجازات لا يمكن أن تكون قانوناً واضحاً, وأما الوهم الكبير فهو في اعتقاد الناس – اعتقاد الملايين – بإمكانية تحويل هذه التعابير المجازية إلى قانون شغال وفعال ومبادئ محددة تطبق على كل الحالات وفي كل الظروف([7])، هذه الجهالات الأراكونية تناسي بها صاحبها أن القرآن عمل في واقع البشرية أربعة عشر قرنا ما ضاق بجديد، ولا توقف عطاؤه في مرحلة, ولا ادعى أحد أنه مجموعة مجازات لا يمكن أن تطبق، وليسأل أراكون التاريخ: بأي منهج كانت تعيش الأمة  طيلة هذه القرون المديدة، ومن أين استقت هذا المنهج؟ بل ليسأل الأقليات غير المسلمة من يهود ونصارى الذين عاشوا تحت ظلال الحكم الإسلامي أي منهج نعموا فيه بالعدل؟ وأي دين أنقذهم من ظلم الطغاة ورد إليهم حقوقهم إلا هذا القرآن بتشريعاته الربانية؟
الأمر عند أراكون ما هو إلا ترديد لكلام المستشرقين، مغالطة، وافتراء، وتشدق باسم النقد والتجديد, أما الاعتماد على الحقائق التاريخية والعقلية والشرعية فهذا أبعد ما يكون عنه أراكون، إن هذا الافتراء الأراكوني معناه الوصول بالقرآن إلى كتاب محنط يوضع في المتاحف ليكون ذكرى، وغاية عمله - إن عمل -أن يغذي الذهن والخيال.
 ولسنا بصدد الرد التاريخي المفصل على مثل هذه الترهات، ولكن المقام مقام إبراز موقف أهل الحداثة من التراث ومنه في نظرهم القرآن الكريم.
وإذا قرر أراكون أن القرآن لا يمكن أن يتحول إلى واقع يحكم الناس، ويصوغ حياتهم بقانونه الحكيم فإنه بناء على ذلك يتعجب من اعتقاد المسلمين عبر تاريخهم أنهم يسيرون وفق منهج رباني فيقول: "السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو التالي: كيف حصل أن اقتنع ملايين البشر أن الشريعة ذات أصل إلهي؟". ([8])
هذا هو بعض ما نفثه أراكون من سموم حول القرآن.

أراكون والسنة المطهرة:

 أما السنة فحدث ولا حرج عن موقفه منها، فتشكيك في رجالها وأسانيدها بدءا من الرواة الأُول الذين هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وسيرا إلى كل مُحدِّث، لقد حشر أراكون نفسه في هذا الخضم الهائل، والبحر المتلاطم، ونصب نفسه حكماً على هذا التاريخ العريق للحديث وعلومه، يقول أراكون: "إنه من الغريب أن نلاحظ أن الفكر الإسلامي قد بقي حتى اليوم يعيش على أفكار ابن حجر (مات 852هـ/1449م) وأسلافه بخصوص موضوع الصحابة، هذا على الرغم من أن هؤلاء يحتلون موقعاً مفتاحياً وأساسياً فيما يتعلق بنقل النصوص المؤسسة للإسلام ولكل تراثه، ولكننا نلاحظ أن تراجم كتاب الرجال لابن حجر تصور لنا شخصيات مثالية ترتفع بالمخيال الإسلامي الشائع وتجيشه وتنكِّر (= تقنِّع، وتحجب) في ذات الوقت الحقيقة التاريخية المتعلقة بكل شخصية من الشخصيات المترجم لها، لقد آن الأوان لكي نفتح هذه الإضبارة الشائكة على مصراعيها (كلياً) إننا لا نستطيع أن نكتفي بمفهوم "العدالة" الذي بلوره المحدثون (أصحاب الحديث) وإنما ينبغي إعادة تفحص كل "الإسنادات" ليس فقط عن طريق تطبيق المنهجية الوضعية للمؤرخ الحديث الذي لا يهتم إلا بالمعطيات والأحداث التي يمكن تحديدها بدقة ويرمى كل ما عداها في ساحة المزيج المعقد الغامض للخرافات والأساطير الشعبية، وإنما نريد على العكس،أن نبين كيف أن العناصر الأسطورية الزائدة المضافة على سير الصحابة من أجل تشكيل شخصيات نموذجية مقدسة كانت قد دعمت "حقيقة" المعلومات التأسيسية المكونة لكل التراث الإسلامي بشكل أقوى مما فعلته المعطيات والأحداث التاريخية الواقعية التي حصلت بالفعل".([9])

إن محصلة هذا الكلام أن التاريخ الإسلامي بما فيه من شخصيات بدءا من الصحابة الكرام، ثم التابعين ومن تبعهم تاريخ مزور ملفق من وقائع حقيقية وخيالات لعبت دورا في نسج أحداثه, أما الشخصيات فإن المخيال - على حد قوله- ويقصد به الخيال أو الأسطورة لعبت دورا كبيرا في نسج حياتهم التي بدت مثالية بالنسبة لعالم البشر، ونتاج هذا الخيال هو الذي حجب حقيقة الصحابة وقنَّع صورتهم الحقيقية وأظهرهم في صورة العدول، الأمر الذي يمثل زيادة على الحقيقة، هذا ما ينبغي كشفه، وهذا يتطلب على رأي أراكون نبذ كل هذه الزيادات التي أنتجها المخيال ليظهر الصحابة، ثم أهل الحديث بعدهم بصورتهم الحقيقية التي تنتفي فيها فكرة العدالة التي بلورها المحدثون، بل ادعوها للصحابة.
بهذه الفكرة الأراكونية الحداثية تنهدم السنة، ولا يوثق بأي شيء فيها، لأن رواتها في –نظره- جماعة من الكذابين والشهوانيين المقنعين والمحجوبين خلف ستار منسوج ملفق مدعى اسمه "العدالة".
وهنا أيضا ليس موضع الرد على هذه الافتراءات وبيان إجماع الأمة على عدالة الصحابة، أو بيان جهود أهل الحديث في ضبطه نقلا ورواية ودراية، وقد بذلوا في ذلك أعمارهم وأموالهم، وكانوا في غاية الدقة والإتقان والتحري، هذا ما يطول الحديث بعرضه وبيانه، وكما قلت فإن المراد فقط هو إظهار موقف أهل الحداثة من التراث بدءا بأعلى شيء فيه "الكتاب والسنة".

 أراكون والسيرة النبوية:

أما السيرة النبوية في فكر أركون فهي مجموعة من الحكايات الشعبية، ورواتها وكتابها قاموا بأعتى عملية تدليس وتمويه في التاريخ، أظهروا السيرة بمواقفها المتعددة في صورة درامية مؤثرة لتحرك العقلية الإسلامية وتنشطها، يقول تحت عنوان "الخطاب التأريخي والخطاب التيولوجي": "لنتأمل بادئ ذي بدء بخطاب السيرة" أي سيرة النبي بالحالة التي وصلتنا عليها وكما كان قد شكلها ابن إسحاق الذي عاش في عامي"85- 151هـ/ 7.4 – 767م".

كانت الخصائص الشكلية واللغوية لسيرة ابن إسحاق قد استخرجت من قبل، أنه أي ابن إسحاق يتمترس ويختبئ وراء المشروعيات أو السيادات التي تفوقه وتتجاوزه، ولهذا السبب فهو يستخدم العبارات التالية: زعموا، فيما ذكر لي،فيما بلغني... لقد وقع ابن إسحاق تحت ضغط وتأثير الحكايات الشعبية المنقولة عن طريق القصاص والوعاظ وحكايات الأولياء والصلحاء والاستشهادات الشعرية، كما أنه ساهم في عملية التمويه والتعمية الموضوعية ضد الجاهلية التي كان القرآن قد افتتحها، لقد موهت الجاهلية أو قدمت بشكل سلبي من أجل تبيان الحقيقة الساطعة للإسلام بشكل أفضل، إنه يلح عن طريق النوادر والحكايات الملائمة على أهمية العلائم والقيم والرموز المشكلة للهوية الإسلامية الجديدة أنه يشكل صورة رمزية ومثالية مقدسة عن طريق ذكر المعجزات والأعمال الخارقة وأشجار الأنساب والأوضاع الدرامية... إن هذه الصورة المثالية موجهة لملازمة المخيال الجماعي وتحريكه وتنشيطه أكثر مما هي موجهة لتركيب أو كتابة سيرة إنسان يدعوه غالبا برسول الله في حين أن القرآن قد ألح على البعد الإنساني البحت لشخصيته، ولكن يمكننا أن نذهب بعيدا أكثر في تحليل القصة عن طريق تبياننا لحقيقة أنها تكرر إنتاج أو توليد الممارسة المعروفة في علم الدلالات بالتلاعب، نقصد بالتلاعب هنا عمليات الإقناع والكفاءة "أو المقدرة على الاختراع والكينونة" والاستخدام "أي تحويل الأوضاع من حالة إلى أخرى" والإقرار أو التصديق "أي التوصل إلى العملية التأويلية التي أصبحت ممكنة عن طريق التلاعب بالحكاية السردية في مرحلتها الأولى البدائية"([10]) ثم يذكر بعد قليل أن هذا التلاعب تمثل "في المرور من حالة الكلام الشفوي إلى حالة النص المكتوب" ثم أعلن شكه المطلق في القرآن وهو بصدد تشكيكه في السيرة فيقول مصورا عملية التلاعب "لقد حصلت هذه الظاهرة في وقت مبكر جدا بالنسبة للقرآن".([11])
هذا هو موقف أراكون من السيرة النبوية وهو موقف الحاقد على هذا الدين جملة وتفصيلا، لكنه يحاول أن يظهر بمظهر الناقد المفكر الحريص على تصحيح مسيرة الفكر الإسلامي.

أراكون ومصادر التشريع الأخرى:

ينتقل أراكون في حملته الحاقدة على الإسلام إلى مصادر التشريع الأخرى التي اعتمدتها الأمة في تاريخها الطويل، مثل الإجماع والقياس فيشكك فيها، ليستكمل ضربة شاملة يوجهها إلى الدين الحنيف، فيقول وهو بصدد حملته على كتاب الرسالة للشافعي رضي الله عنه، حيث يصور في مضمون حديثه أن القانون والتشريعات الإسلامية التي حكمت الأمة إنما هي إنتاج القضاة، ونشأت بفعل اختلاف العلماء والمجتهدين، وبالتالي لا علاقة لها بالوحي لأن الوحي في نظره خيالات تغذي العقل والخيال لا يمكن تطبيقها في الواقع, في هذا السياق يذكر أن الشافعي حاول أن يلبس هذه التشريعات ثوب الشرعية فأخذ يبرر لها وضعها التي هي عليه فوضع ما يسمى بأصول الاجتهاد متمثلة في قواعد القانون حصرها في أربعة مبادئ, يقول أراكون: "تطرح هذه الرسالة أسس وقواعد القانون في أربعة مبادئ: 1- القرآن 2- الحديث 3- الإجماع (لكن إجماع من؟ هل هو إجماع الأمة كلها، أم إجماع الفقهاء فحسب؟ وفقهاء أي زمن وأية مدينة؟ لا جواب) 4- القياس، هذه هي الحيلة الكبرى التي أتاحت شيوع ذلك الوهم الكبير بأن الشريعة ذات أصل إلهي..." إلى أن يقول: " من جهة أخرى، ينبغي أن نشير إلى حقيقة مهمة وهي أن هذه المبادئ الأربعة غير قابلة للتطبيق"([12]) ثم شرع في هذا السياق يبين لماذا القرآن والسنة والإجماع والقياس كلها غير قابلة للتطبيق.

وهكذا نرى الحداثيين لا يعترفون بأي شيء اسمه ثوابت أو قطعيات، فكل شيء عندهم لابد أنه خاضع للنقد والشك والتشكيك، وأول ما يخضع لهذا في نظرهم كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أما سائر القطعيات فحدث ولا حرج، هذا مجمل موقف الحداثيين من التراث، ظهر مع نموذج لكبير الحداثيين المعاصرين "أراكون.
 

د/ أحمد محمد زايد
جامعة الأزهر –كلية أصول الدين – قسم الدعوة والثقافة الإسلامية .
جامعة الملك خالد  -كلية الشريعة  وأصول الدين – قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة.
ث-     azayd@hotmail.com
ahmadzayd@yahoo.com
 

----------------------------------------
([1]) تاريخية الفكر العربي الإسلامي ص 288- 289.
([2]) الدروز طائفة فرقة باطنية تؤلِّه الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، أخذت جل عقائدها عن الإسماعيلية، وهي تنتسب إلى نشتكين الدرزي. نشأت في مصر لكنها لم تلبث أن هاجرت إلى الشام. عقائدها خليط من عدة أديان وأفكار، كما أنها تؤمن بسرية أفكارها، فلا تنشرها على الناس، ولا تعلمها لأبنائها إلا إذا بلغوا سن الأربعين. انظر/ الموسوعة الميسرة (1/400).
([3]) الإسماعيلية هي فرقة باطنية, انتسبت إلى الإمام إسماعيل بن جعفر الصادق، ظاهرها التشيع لآل البيت، وحقيقتها هدم عقائد الإسلام، تشعبت فرقها وامتدت عبر الزمان حتى وقتنا الحاضر، وحقيقتها تخالف العقائد الإسلامية الصحيحة، وقد مالت إلى الغلوِّ الشديد لدرجة أن الشيعة الاثني عشرية يكفِّرون أعضاءَهَا. انظر/ الموسوعة الميسرة (1/386).
([4]) الزيدية هي إحدى فرق الشيعة, نسبتها ترجع إلى مؤسسها زيد بن علي زين العابدين الذي صاغ نظرية شيعية في السياسة والحكم، وقد جاهد من أجلها وقتل في سبيلها، وكان يرى صحة إمامة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم جميعاً، ولم يقل أحد منهم بتكفير أحد من الصحابة ومن مذهبهم جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل. انظر/ الموسوعة الميسرة (1/81).
([5]) العلوية حركة باطنية ظهرت في القرن الثالث للهجرة، أصحابها يعدُّون من غلاة الشيعة الذين زعموا وجوداً إلهيًّا في علي وألهوه به، مقصدهم هدم الإسلام ونقض عراه، وهم مع كل غاز لأرض المسلمين، ولقد أطلق عليهم الاستعمار الفرنسي لسوريا اسم العلويين تمويهاً وتغطية لحقيقتهم الرافضية والباطنية. انظر/ الموسوعة الميسرة (1/ 393).
([6]) تاريخية الفكر العربي الإسلامي ص 29.- 291.
([7]) السابق 299.
([8]) السابق 296.
([9]) السابق ص 17.
([10]) تاريخية الفكر العربي الإسلامي ص 82- 83.
([11]) السابق 85.
([12]) السابق 297.
 

مذاهب فكرية

  • كتب حول العلمانية
  • مقالات حول العلمانية
  • الليبرالية
  • الحداثة
  • منوعات
  • رجال تحت المجهر
  • الصفحة الرئيسية