اطبع هذه الصفحة


الليبرالية السعودية ... والتأسيس المأزوم ( قراءة منهجية )

سلطان بن عبدالرحمن العميري


يلحظ المراقب للحالة الفكرية في الداخل السعودي نشاطا مكثفا للتيار الليبرالي , فقد أخد بكل ما أوتيه من قوة يعرض نفسه للناس في محافل كثيرة , ويبدو بأصوات متعددة , ويظهر في أشكال مختلفة , باحثا بكل ذلك عن موطئ قدم يبني عليه مشروعه الفكري والاجتماعي .

وقد تناول عدد من المثقفين مخرجات التيار الليبرالي بالتوصيف والتمحيص والنقد , وجاء هذا المقال ليتناوله من جهة معرفية بحتة , وليحاكمه إلى الشروط التي يجب توفرها في كل مشروع ناضج منتِج , وليقارنه بالمشاريع التي استطاعت أن تقدم للمجتمعات حلولا حقيقية تخرجها مما تعانيه من أزمات , وتعيشه من إشكاليات .

وإذا حاول المراقب أن يتعاطى مع التيار اللبيرالي السعودي بهدوء وأن يتعامل مع منتجه الفكري والثقافي بمهنية في التحليل وإتقان في التوصيف .. ليتعرف على مقدار ما يمتلكه من مؤهلات معرفية وفكرية وسلوكية تؤهله للعيش والنمو في الحالة السعودية .. سيخلص منذ المرحلة الأولى من التحليل إلى نتيجة مفادها : أن التيار الليبرالي يعاني من أعراض مرضية حادة تحول بينه وبين أن يكون مشروعا رائدا أو مخلصا أو ملبيا لحاجيات العقل الواعي الذي يميل إلى الانضباط في الاستدلال والعمق في التحليل والاتساق مع المبادئ واحترام القيم وتعظيم التمسك بها .

فالمراقب الواعي إذا تجول في مخرجات التيار الليبرالي وسار في جنباته ووقف على أبرز محطاته التي برز فيها للعيان , وسلط الأضواء على مرتكزاته المعرفية , تصيبه الدهشة بسبب ما يراه من الفقر الشديد في مؤهلات النمو الصحي , وبسبب ما يلحظه من الهشاشة الكبيرة في مرتكزات شرعية وجوده في الساحة الفكرية .

وسيكتشف أن الليبرالية السعودية تعاني من أزمة فكرية ومنهجية عميقة , أزمة في المصطلح، وأزمة في الخلفيات الفلسفية، وأزمة في السلوكيات اليومية، وأزمة في الالتزام بالقيم، وأزمة في الاتساق مع المبادئ , وأزمة في الاطراد، وأزمة في التوافق بين أسس الليبرالية وبين قطعيات الشريعة الإسلامية .

وقد استفحلت تلك الأعراض حتى وصلت إلى حالة مهكلة خرجت عن السيطرة , وتسببت في إنهاك جسده ووصوله إلى حالة مرضية خطيرة , وأضحت تلك الأعراض معوقات حقيقية للحيلولة دون نموه بشكل صحي .
وحتى لا تكون هذه النتيجة مخالفة للواقع , أو متصفة بالاستعجال والتهور , أوالتسرع في استخلاص النتائج , فإنا سنبرز أعقد تلك الأزمات التي اتصف بها التيار الليبرالي , وتسببت في تشوه صورته وتعرقل مسيرته , وسنمارس معها التحليل المنبسط والتفكيك المسترسل والهادئ حتى نتحقق من صدق تلك النتيجة .

الأزمة الأولى : إشكالية التأسيس :


تبدى التيار الليبرالي وهو يحمل اسما نشأ في بيئة مختلفة وتربى في محاضن فكرية مغايرة , ومع هذا فهو يعاني في أصله من اضطراب وقلق في انضباط مفهومه , ومصاب بغموض شديد في تحديد مقصوده , ومشبع بمضامين فكرية وفلسفية تتقاطع مع الإسلام تقاطعا ظاهرا.

فليس خافيا على أحد من المثقفين أن الليبرالية نشأت أول ما نشأت في الفكر الغربي تحت ظروف فكرية واجتماعية محددة وفي أحوال دينية خاصة , وقد تضمنت في حالتها الغربية مبادئ أساسية لا تنفصل عنها , كمبدأ الحرية المطلقة ومبدأ الفردية ومبدأ العقلانية , حتى غدت من المتلازمات في ذهنية القارئ .

وهي بهذه المبادئ تتضمن القول بنسبية الحقيقة وتدعو إلى العلمانية وفصل الدين عن الحياة السياسية والاقتصادية وغيرها , وتقرر المساواة بين الأديان وحرية التنقل بينها , وتسمح بحرية مزاولة المحرمات القطعية في الشريعة , وتقطع الأخلاق والمبادئ عن الأساسات المرجعية لها سواء الدينية أو غيرها , وتعتقد أن الحرية المطلقة هي المبدأ والمنتهى والباعث والهدف والأصل والنتيجة في حياة الإنسان .

ولما كانت الليبرالية الغربية بهذه الصورة حدث انفصام نكد في التيار الليبرالي السعودي , فقد انقسم في موقفه من حالة الليبرالية الغربية إلى قسمين ظاهرين :

القسم الأول : من لم يبد الإنكار لتلك المضامين , وقرر ما تقوله الليبرالية الغربية من أنها الانفلات المطلق والحرية الكاملة ,والتحرر من كل قيد , وكرر بعض منتجاتها , كالقول بنسبية الحقيقة وتاريخية الأحكام الشرعية , والانفتاح الكلي لدلالات النصوص وقابليتها لكل التأويلات .
وفي ضمن هذا القسم ظهرت لنا الليبرالية في مظاهر شاذة جدا , ومقالات شنيعة , وصلت إلى درجة إنكار وجود الإله , والاستخفاف بالنبي والاستهزاء الفاضح بالإسلام ووصفه بكل ذميمه , كل هذا ظهر تحت مسمى "شبكة الليبرالية السعودية " .

القسم الثاني : من ادعى الخصوصية السعودية في مفهوم الليبرالية , وأخذ يقول بأن الليبرالية السعودية تتميز عن غيرها في كل شيء , حتى في المفهوم نفسه , ورفعوا شعار" الليبرالية السعودية ليس كمثلها ليبرالية" .

فقد أدرك هذا القسم فضاعة ما تؤدي إليه الليبرالية في نسختها الغربية الأصلية من مناقضة للإسلام وأصوله , فاضطر إلى أن يمارس نوعا من التهذيب ويجري عمليات تجميلية عديدة ؛ حتى يتخلص من الموروث الغربي لها , ويتوصل إلى نسخة مخففة جدا , فأبقى على المبادئ الأساسية لليبرالية , وأخذ يبحث عما يمكن أن يوافقها في النصوص الشرعية , وغدونا نسمع بأن الليبرالية تعد من صميم الإسلام ؛ لأن الإسلام يحفظ للفرد حريته ويحترم له علقه .

وهذه العمليات التجميلية للمنتجات الغربية ليست جديدة على الساحة العربية , فقد مورست من قبل في الدعوة إلى الحداثة والدعوة إلى البنيوية وغيرها من المناهج النقدية الغربية , وقوبلت بإنكار شديد من قبَل عدد من كبار المفكرين العرب , وعدوا ذلك تشويها وتحريفا مغلفا .

وها هو الحال يتكرر في الليبرالية السعودية , فيبدوا أن عمليات التجميل لم ترض كثيرا من كبار المثقفين , فأنكروا دعوى الخصوص السعودية ووصفوها بالخدعة والأكذوبة , ووصفوا من مارسها بأنهم أدعياء ومتسولون .

وقد أبدى بعض المراقبين تحفظا من جهة أخرى , وهي أن الليبرالية السعودية ادعت الخصوصية , ولم تبين لنا معالم تلك الخصوصية ولا الحواجز الفاصلة بينها وبين النسخة الأصلية , ولا القيم التي تقوم عليها ولا الأسس الفكرية التي تستند إليها , وإنما غاية ما ذكروه ممارسات يومية مشتتة يجمعها وصف واحد وهو المضادة للتوجه الشرعي في السعودية .
فغدت الليبرالية السعودية بدون أسوار ولا أبواب يدخل فيها كل من يريد .

وبهذا كله ازدادت الليبرالية غموضا إلى غموضها وقلقا إلى قلقها واضطرابا إلى اضطرابها , مما يؤكد مدى الأزمة التي تعاني منها في بناء مشروعها وعمق الإشكالية التأسيسية التي أصيبت بها منذ اللحظة الأولى من ولادتها , وهذا كله كانت له أبعاد كثيرة في كيفية توصيفها وفي منهجية تصنيفها .

الأزمة الثانية : التناقضات المتزاحمة :


ركبت العقلية البشرية على التسليم بالمبادئ الفطرية التي تتنافى بشكل قاطع مع الاضطراب والقلق , فالعقل البشري بطبعه يميل إلى الاتساق ويشعر بالارتياح إليه وبالسرور به .

ولكنه يفقد ذلك كله حين يكون متابعا للمنتج الليبرالي في السعودية, فنتيجة لانعدام الرؤية الناضجة في قيم الليبرالية , وضبابية الموقف من الأسس الفكرية , فقد وقعت الليبرالية في ممارسات تناقضية عديدة .. تألم منها بعض إتباع التيار الليبرالي نفسه , وكتب فيها مقطوعات رثائية عديدة , ومنها مقطوعة "المكارثيون السعوديون الجدد" يرثي فيها لحال زملائه ويندد فيها بالأوضاع المزرية التي وصلوا إليها من التناقض .

1-فبينما ينادي التيار الليبرالي السعودي صباح مساء بالحرية الفردية , ويطالب بفتح الباب لحرية الرأي , ويؤكد على أنها الأساس الذي يقوم عليه التطور والارتقاء والوصول إلى النضج المعرفي , فلا يكاد ينتهي من هذا كله إلا وتتهاوى هذه الدعوة في أول محطة من المواجهة , وتجده يتخلى بكل سهولة عما ينادي به , ويمارس الإقصاء ومحاربة الرأي المخالف له بكل صرامة , فكم اشتكى المثقفون من الإقصاء الليبرالي , وكم منعت أصوات جراء الحرب الضارية التي أقمها التيار الليبرالي على الحرية الفكرية .

ولم يكتف التيار الليبرالي بمحاربة الحرية بنفسه , بل انتقل إلى مرحلة أخرى , وهي التحريض على المنافذ الإعلامية التي تتيح للرأي المخالف رؤية النور , والدعوة إلى إغلاقها والتضييق عليها ولو بأسلوب متلوي متعسف , وأقرب مثال على ذلك : ما مارسه التيار الليبرالي من تحريض شديد على قتاة المجد لما ظهر من خلالها رأي يخالف التوجه الليبرالي .

ومع ذلك كله فالمتابع لا يجد لأكثر التيار الليبرالي كلاما عن انتهاك الحرية السياسية وقمع الأصوات التي تنادي بمحاربة الاستبداد وتداول السلطة , وتسعى إلى تحقيق العدالة , ولا نجد لهم كلاما عمن سلبت منهم حرياتهم بسبب انتقاده للاستبداد والتفرد بالسلطة , كل هذه الموضوعات يسكت عنها التيار الليبرالي , وكأنها لا علاقة لها بالحرية الفردية !!

ويبدو أن التناقض بين القيم الليبرالية وبين الممارسات اليومية للتيار الليبرالي بدا يشكل كابوسا مزعجا يلاحقه في كل زمان ويظهر له في كل مكان .

2- ويلاحظ المراقب أن التيار الليبرالي جعل من أبجدياته اليومية الدعوة إلى محاربة التطرف والتشدد والإرهاب , وكرر على أسماع الناس بأن هذه المحاربة هي التي تؤدي إلى الاعتدال والاستقرار .. ولكننا نجده يتناقض في مواقفه من التطرف فقد غض الطرف عن تطرف آخر بلغ من الشطط والشذوذ مبلغا كبيرا , والغريب أن هذا التطرف ظهر للناس وهو يحمل اسم الليبرالية السعودية , فقد مورست شناعات دينية تحت ظل هذا الاسم , فظهر للعيان إنكار وجود الله والاستهزاء بالنبي والتشكيك في القرآن تحت مظلة " الشبكة الليبرالية السعودية " , ولم ير المراقبون من التيار الليبرالي الحماس النقدي ولا الكتابة المكثفة ولا الدعوات المركزة لإنكار هذا التطرف مثل ما رأوه في إنكار النوع الآخر , مع أنه في النوع الثاني أوجب على الليبرالية وألزم لأنه خرج بنفس الاسم الذي يحملونه وتحت المظلة نفسها .

3- ويدعو التيار الليبرالي في كل محفل وعند اقتراب معارض الكتاب إلى ضرورة الانفتاح المعرفي والمجتمعي على العالم والسماح بنشر كل مؤلف من غير تضييق عليه أو تحريض , ويسعى إلى إلغاء الرقابة على المنتجات الورقية وغيرها .. ولكننا نفاجأ بأنه في بعض خطاباته يتبنى الدعوة إلى الرقابة المشددة على منتوجات التوجه الديني من الكتب والمجلات والأشرطة والمواقع والقنوات والبرامج , ويدعو ولو بطرف خفي إلى التضييق عليها , وتكثيف الرقابة والمراقبة .

4- ولا يكاد يهدأ أكثر التيار الليبرالي من توجيه الذم إلى المجتمع ووصفه بأنه متخلف لم يعرف التطور ولم يذق طعم التقدم , ولم يعش الارتقاء , وأنه ما زال يعيش في عصر التقييدات المكانية والزمنية , وأنه لم يخرج عن البداوة والقبيلة .. ثم نجد ذلك الذم يقف عند دائرة المجتمع فقط , ولا يصل إلى السلطة الحاكمة , بل يصل في بعض المظاهر إلى الإطراء من شأن السلطة والإعلاء من رقيها وتقدمها , مع أن السلطة جزء من المجتمع , بل هي أحد الأسباب التي أدت إلى حدوث التخلف في المجتمع وإلى استمراره .

5- ويشن عدد من التيار الليبرالي حملة لا هواة فيها على التصنيف الفكري للمجتمع ويعلن الإنكار القاطع لتقسيم المجتمع إلى تيارات معرفية متدافعة , ويصور ذلك على أنه أحد النواقض الكبرى لمفهوم الوطن الواحد , ولكن المراقب للمنتج الليبرالي يجد حضورا مكثفا للتصنيف والتقسيم , فهو من أكثر التيارات التي تقسم المجتمع إلى متشدد ومعتدل ومتطور ومتحجر ومتفتح ومنغلق وعقل أحادي وعقل تعددي وغيرها من التصنيفات التي لا يكاد تخلو منها الصحافة الليبرالية .

6- وقد اعتبر عدد من التيار الليبرالي الاختلاف الثقافي والمجتمعي والواقعي أحد الموانع التي تمنعنا من الاعتماد على التراث الإسلامي , فهو نشأ في بيئة مختلفة عن بيئتنا وفي نطاق فكري مختلف عن فكرنا , وبالتالي فلا داعي لاجتراره واستهلاك الوقت في إحيائه – كما يقولون - , ولكننا في المقابل نسمع صباح مساء دعوات مؤكدة على ضرورة الاقتراض من التراث الغربي وفتح الأبواب أمام الانغماس في أمواجه المتلاطمة , مع أنه هو الآخر مختلف عنا في كل الجوانب التي ذكرها التيار الليبرالي في تحييد التراث الإسلام!

ومن جهة أخرى يشهد المتابع للمنتج الليبرالي حضورا مكثفا للدعوة إلى الانفتاح على التراث الإنساني وضرورة الاستفادة مما فيه من قيم ومبادئ – ولا شك أن هذه دعوة صائبة في أصلها – ولكننا في المقابل نلمس تقليلا وتحقيرا من التراث الإسلامي وإعراضا ظاهرا عنه , ومحاولة لصرف الأنظار عنه , وكأنه ليس تراثا إنسانيا أيضا , وكأنه لم يقدم أي معنى من معاني الإنسانية .

7- ويستمر التيار الليبرالي في تناقضه , وذلك أنه أكثير من يتهم الآخرين بأنهم يزعمون لأنفسهم امتلاك الحقيقة ويصف من يفعل ذلك بالتحجر وضيف الأفق والخروج عن الواقع ولكن المراقب الواعي إذا تجول في المنتج الليبرالي يجد أنه من أشد التيارات التي تسلك مسلك من يرى أن الحقيقة لا تخرج عما يقول , ومن يرى أنه لا أحد يمتلك الحقيقة غيره , ويتجلى ذلك في عبارات القطع والجزم والتجهيل والتخطئة الجازمة والمؤكدة لأقوال من يخالف توجهاته , فإذا كان هذا الأسلوب لا يمثل امتلاك الحقيقة فما الذي يمثلها إذن؟!

8- ويقلل بعض التيار الليبرالي من أهمية الدعوة إلى المحافظة على الخصوصية الفكرية والمجتمعية , ويهون من أهمية الحفاظ على الهوية المعرفية ويستهجن فكرة الغزو الفكري ويعدها خيالا مصطنعا , بحجة أنا نعيش في عصر العولمة الذي أضحى العالم فيه قرية واحدة , ولكننا في المقابل نجده يقول إن الليبرالية السعودية لها خصوصيتها التي لا يشاركها فيها حتى الدول العربية , فهي ليبرالية ليس كمثلها ليبرالية , لأنها تتمتع بخصوصية وهوية صارمة لا تقبل الاختلاط بغيرها !

إن هذه الممارسات المتناقضة وغيرها مما لاحظها المراقبون استشرت في جسد الخطاب الليبرالي حتى وصلت على درجة الازدحام , وهي تؤكد مدى المعاناة المعرفية التي يعاني منها , وتشير إلى مقدار الأزمة المعرفية المخيمة عليه وتقيس كمية القلق الثقافي الذي تحدثه في الساحة الفكرية , وتظهر الكثافة الضبابية التي خيمت على أسس الليبرالية .

وإذا رجعنا إلى الاستقراء التاريخي لنستجلي الدلالات التي تستخلص من كثرة التناقضات وتزاحمها في مشروع ما فإن نجدها تدل إما على تفتت أصول المشروع وهزالتها وإما على ضعف تصور صاحب المشروع لها وإما على ضعف إيمانه بها وقلة تصديقه بمضمونها وفائدتها , وبالتالي يخالفها في ممارساته اليومية , وكل واحدة من هذه كفيلة بالتسبب في إفلاس المشروع وتعثره .

والتيار الليبرالي بهذه التناقضات يكون فاقدا للمشروعية المعرفية وخاليا من مؤهلات النجاح الفكري ؛ لأنه مفتقر إلى أوليات المنهجية المنتجة وأبجديات الأسس الأصلية التي تقوم عليها المشاريع المقنعة لأصحاب العقول المتسائلة .

ومن المستغرب حقا أن التيار الليبرالي ما زال مصرا على المضيء قدما في مزاولة تلك التناقضات , مع كثرة الأصوات الثقافية المنادية بالإنكار والتشنيع على صنيعهم والمحذرة من الآثار الفكرية والثقافية التي تحدثها تلك المزاولات في الساحة , ولكنه ألقى بكل الأصوات وراء ظهره , وكأنه يقول : ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد .

الأزمة الثالثة : التضليل المعرفي :


من أساسيات الوعي الفكري التي يمثل المساس بها انخراماً خطيراً في البنية التحتية : احترام الفكرة نفسها وصدق التعامل معها , وتقدير عقل المتلقي لها , ومتى ما حدث تجاوز لهذه المبادئ فإن الفكر يتوجه مباشرة إلى التضليل والتزييف والتلاعب والانحطاط والتشويه.

والمتابع للمنتج الليبرالي والمطلع على العملية التفكيرية التي يمارسها في تعاطيه مع القضايا التي يسعى إلى تكريسها ونشرها في الوسط الثقافي السعودي يجد أن لديه انزلاقات خطيرة في تصوير الحالة الفكرية، وفي منهجية التعامل معها، وفي طريقة تركيب النتائج واستخلاصها.

وقد تسببت هذه الانزلاقات في تضليل الوعي المجتمعي، وإبعاده عن الحقيقة، وإقامة حواجز غليظة تحول دون الرؤية الناضجة للواقع.

فالمتابع الواعي يجد أن أكثر التيار الليبرالي لا يفرق بين الغلو والتطرف وبين مظاهر التدين الصحيحة , فيبدو للعيان أنه لا يفرق تفريقاً واضحاً بين من يتبنى فكر التطرف والغلو والتكفير وبين المتدين المتمسك بالشعائر الظاهرة, وأخذ يدخل في التطرف قضايا شرعية صحيحة لا علاقة لها بالتطرف , وأخذ ينقد المتطرفين والغلاة في مسائل شرعية ليست هي سبب حصول الغلو والتطرف لديه , وهذا كله تسبب في تضليل مفتعل لا حقيقة له.

ويجد أيضا أن التيار الليبرالي لا يفرق بين التقدم والتطور والارتقاء الحضاري وبين منتجه الفكري والصحفي , وبالتالي فكل من ينتقد منتجه أو يتحفظ عليه سواء في قضايا المرأة أو غيرها فإنه يُصَوَّر على أنه مخالف للتقدم والتطور، وأنه معاد للمعاصرة ويدعوا إلى التخلف والعيش في الظلام، وأنه محارب للعدالة والمساواة، ولديه أزمة في علقه وقلبه! , وكل هذا نوع من التضليل الفكري المفتعل.

وإذا حاول المتابع أن يقوم بعملية استقرائية للصحافة الليبرالية ليتعرف من خلالها على الهموم المسيطرة على منتجها سيجد أنها في أغلبها منصبة على موضوعات محدودة جدا كموضوع عمل المرأة، والإرهاب، وآراء بعض الدعاة , وهذا الطرق المكثف والتناول المركز يؤدي إلى التضليل الفكري بشكل ظاهر ؛ لأنه يوجه المشهد الثقافي إلى خانات محددة لا تمثل كل إشكالياته الحقيقية ولا كل أزماته الملحة.

وإذا استمر تجوال المتابع في ساحات المنتج الليبرالي سيجد نوعا آخر من التضليل المعرفي , سيجد أن الخطاب الليبرالي انتقى نوعا من العلماء وطلبة العلم ممن يتوافق مع بعض أطروحاته وجعلهم الممثلين للنضج الشرعي , وصور للقراء بأنهم هم الذين يمثلون الاعتدال والعلم الحقيقي , وأنهم المنقذ للأمة مما تعانيه من تخلف , وسعى إلى إبرازهم وإظهارهم , بل وصل الحال إلى عقد تراجم شخصية لبعضهم.

وإذا حاول المتابع أن يتعرف على أسباب ذلك لا يجدها ترجع إلى التمكن العلمي، ولا إلى النضج الاستدلالي، ولا إلى الخبرة في الاستنباط، ولا إلى الإتقان في الملكة العلمية , ولا إلى الثراء في النتاج العلمي , وإنما إلى أنه قال قولا يوافق الخطاب الليبرالي , أليس هذا تضليلا للفكر وتلبيسا على المتلقي ؟!

وتتبدى عليمة التضليل المعرفي في مجال آخر , فإن الخطاب الليبرالي حين أراد أن يبحث عن المؤيدات الشرعية لمواقفه , قام بحملة تشريعية كبيرة , ولكنه وقع في أخطاء بحثية عديدة، نتيجةً لضعف المعرفة بالعلوم الشرعية، ونقص الأدوات البحثية لديه, من أفتكها : الانتقائية الاستدلالية , بحيث إنه لا يستقرئ النصوص الشرعية ليستخرج من مجملها حقيقة ما تدل عليه , وإنما انتقى منها ما يراه يدل على قوله.

ولأجل هذا لما اقتنع بعض الخطاب الليبرالي بأن النص الشرعي منفتح على كل الدلالات وأنه قابل لكل التأويلات , وأراد أن يشرعن لهذه النظرية ويبحث لها عن مستند في التراث , انتقى مقولة علي رضي الله عنه للخوارج , حين قال لهم : " إن القرآن لا ينطق وإنما يتكلم به الرجال " , وتوصل من خلالها إلى أن علياً يقول بنظرية انفتاح الدلالة , ونسي أن عليا رضي الله عنه أرسل ابن عباس ليناظر الخوارج فيما فهموه من القرآن وليبين لهم أخطاءهم , ونسي أن علياً قاتل الخوارج لما كفروا المسلمين بناء على ما فهموه من القرآن , نسي كل ذلك وتوقف عن تلك المقولة فقط.

أليس هذا تضليلا للفكر وتلبيسا على المتلقي ؟!.

ويجد المتابع تضليلا آخر لدى الخطاب الليبرالي , فإنه يجد في المنتج الليبرالي زيادة طافحة في جرعة التضخيم للأمور إلى درجة الخروج بها عن الواقع والتصادم مع المحسوس , فقد مارس عدد من التيار الليبرالي تضخيماً موسعاً لبعض الأفكار التي دعى إليها بعض الدعاة والشرعيين – بغض النظر عن القول بصحته أو خطئه – حتى وصل إلى درجة التمويه على عقلية القارئ والاستخفاف به , وأقرب مثال على ذلك : التشويه المفتعل الذي مورس على الدعوة إلى هدم الحرم وبنائه على شكل يحقق فك الاختلاط بين الرجال والنساء , فقد أصر الخطاب الليبرالي على تصوير هذه الدعوة على أنها دعوة لهدم الكعبة نفسها !!

ومن مشاهد التضليل المعرفي التي يجد لها المراقب حضوراً مكثفاً في الخطاب الليبرالي : السعي إلى تحويل عدد من الشعائر والعبادات الدينية إلى عادات اجتماعية وتفريغها من البعد الديني وربطها بالأوضاع التاريخية والمحلية ؛ حتى يسهل تجاوزها والقدح فيها , كما هو الحال في تصوير الحجاب على أنه عادة من العادات الاجتماعية وليس من الشعائر الدينية.

وهذه العملية التضليلية مارسها الخطاب العلماني العربي في قضايا كثيرة كقضية الميراث، وقضية الحجاب، وقضية الحدود الشرعية، وقضية الطلاق، وقضية القوامة، وقضية تعدد الزوجات، وغيرها , وهاهو الخطاب الليبرالي السعودي يعيد تلك التجربة ولكن بجرعة مخففة.

وإذا تابع المراقب توصيف الخطاب الليبرالي للمشاريع النقدية التي ظهرت في الفكر العربي كمشروع محمد أركون، ومشروع حسن حنفي، ومشروح محمد الجابري، ومشروع نصر حامد أبو زيد، فإنه سيقف على تضليل معرفي من نوع آخر , فبعض الخطاب الليبرالي السعودي وصف أصحاب تلك المشاريع بالأوصاف الاطرائية العالية , وصفهم بأنهم أكبر المجددين في الإسلام وأنهم من حكماء المسلمين الكبار , وأن مشاريعهم تمثل فتحا جديدا للفكر الإسلامي , وهو بذلك كله يمارس تضليلا معرفيا على عقلية القارئ ؛ لأنه لم يراع مقدار الوعي الذي وصل إليه العقل العربي ولا مقدار الحاسة النقدية التي استطاع الارتقاء إليها , ولم يلتفت إلى كمية الجهود البحثية التي قام بها الخطاب العربي بجميع أطيافه – سواء العلمانية أو الإسلامية – في نقد تلك المشاريع.

فالمستقرئ للساحة الفكرية يجد أن تلك المشاريع النقدية قُدِّمت حولها بحوث علمية جادة أظهرت ما فيها من الخلل المنهجي الغائر في البنية المعرفية والبحثية لديها , وأبرزت ما احتوت عليه من الأخطاء التاريخية والتراثية , وأبانت ما فيها من المخالفة الصريحة لقطعيات الإسلام , وما تضمنته من الانزلاقات الاستدلالية والنتائجية , وكشفت مقدار التحريف الذي وقعت فيه سواء في التراث العربي أو الغربي , وبينت آثارها الفكرية المدمرة للفكر والمعرفة , ولكن الخطاب الليبرالي يتعالى على كل هذه الجهود وكأنه ليس لها وجود!

إن شيوع هذه الممارسات التضليلية في الساحة الفكرية له آثار سلبية مميتة , فهي من أقوى الأسباب التي تؤدي إلى حدوث القلق والفوضى بأنواعها , فوضى في تصوير أقوال الآخرين، وفوضى في موزين النقد والتقييم، وفوضى في بناء المواقف وتركيب النتائج.

الأزمة الرابعة : القطيعة المتصلبة :


تحتاج المناهج الإصلاحية في مسيرتها إلى أساسات متينة تبنى عليها , وإلى ركائز قوية تستند إليها , سواء كانت دينية أو اجتماعية أو تاريخية أو فكرية , ومتى ما فقدت شيئا من هذه الركائز فإنها منتهية على السقوط والفشل.

والمتابع للخطاب الليبرالي السعودي بهدوء والمتلمس للأبعاد النفسية والفكرية التي تكمن في مظاهره , يجد أنه فاقد لكل تلك الأساسات , فهو يعاني من قطيعة شعورية متصلبة مع المجتمع , لأنه يعيش حالة انعزال مع بعض أصوله الدينية، وحالة انعزال مع تاريخه وتراثه، وانعزال مع بعض رموزه وقيادته الفكرية , وقطيعة مع كثير من قيمه.

وهناك مؤشرات عديدة تؤكد هذه الحالة الانعزالية :

ومن تلك المؤشرات : أن الخطاب الليبرالي ظهر للمتابعين بالقدح في الرموز الدينية في المجتمع , ومارس معها حالة نقدية واعتراضية عارمة , وزاول عمليات اعتراضية على الحالة الدينية بشكل مكثف , وأظهر الاستخفاف بالعلماء وبموافقهم ووصفهم بأوصاف قاسية , وبذل جهودا في محاولة إسقاط منزلة العلماء واخفاء دورهم.

وقد قامت الأقلام الليبرالية بتوجيه حملات نقدية وإسقاطية متتالية على عدد كبير من علماء الاتجاه الشرعي لما أبدى ما يخالف قولهم , كل ذلك مع فقر شديد في المستندات الشرعية وضعف بـيـِّن في اللغة الشرعية.
وهذه الحملات أدت إلى حدوث القطيعة بين التيار الليبرالي وبين المجتمع ؛ لأن كل مجتمع في الوجود لا بد أن يكون لديه رموز يتعلق بهم ويصغي إليهم.

ونوعية تلك الرموز تختلف باختلاف طبيعة المجتمعات , فالمجتمعات التي تغلب عليها الحالة المادية تتخذ رموزا تمثل هذه الحالة, يعد المساس بها قدحا في مشاعر المجتمع واستخفافا بعقله وذوقه, والمجتمعات التي تغلب عليها الحالة الدينية تتخذ رموزا تمثل هذه الحالة ,يعد المساس بها قدحا في مشاعر المجتمع واستخفافا بعقله وذوقه.

ومن المؤشرات الدالة على القطيعة الشعورية لدى التيار الليبرالي مع المجتمع : غياب الاهتمام بأعقد المشكلات التي يعشها المجتمع , وتهم قطاع عريض منه , فالمتابع للصحافة الليبرالية يجد فيها خفوتا كبيرا في التحدث عن ظواهر تعد من أكبر الهموم التي يتحدث فيها الناس , ويمثل وجودها خللا دينا ومجمعيا كبيرا , كمشكلة الفقر وارتفاع معدلات البطالة في الشباب , وارتفاع معدلات الجريمة والسرقة والسطو وجرائم الزنا , وزيادة معدلات الطلاق , والتلاعب بالمال العام والحقوق المشتركة , واستشراء الفاسد الإداري والرشوة وغيرها من الإشكاليات التي تفاجئنا الصحافة اليومية بمعدلاتها المرتفعة.

والمتابع للخطاب الليبرالي لا يجد حضورا يتناسب مع ضخامة هذه الإشكاليات , وإنما يجده يتمحور غالباً حول إشكاليات عمل المرأة ومواجهة الإرهاب , إلى درجة الإملال , وهذا التمحور يشعر المتابع المدرك للوضع الاجتماعي أن التيار الليبرالي يعاني من الانتقائية الشديدة فيما يطرح ويناقش , وأنه ليس مهموما بالارتقاء بمجتمعه وحل ما يعانيه من أمراض وأزمات حقيقية.

ومن مؤشرات القطيعة الشعورية لدى التيار الليبرالي مع المجتمع : أن الخطاب الليبرالي معرض إعراضا تاما عن التعايش مع الأحداث المؤلمة التي تمر بالأمة الإسلامية , فقد عاشت المجتمعات الإسلامية حالات محزنة , ومواقف مبكية , جراء الأحداث الأليمة التي مرت بإخوانهم المسلمين في فلسطين والعراق وفي غزة وغيرها , وتألموا على ذلك غاية التألم , بينما نجد بعض الخطاب الليبرالي يتغافل عما يحدث وكأنه يعيش في كوكب آخر , ولا يجده الناس إلا في التعليق على فتوى بعض العلماء، أو في التحريض على مظهر من مظاهر التدين في المجتمع , أو في النقد لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , أو في التطبيل لقرار سياسي ولو كان استبداديا , أو في التلميع لمفكر علماني ناقد للفكر الإسلامي.

وحين حزن المسلمون لنبيهم صلى الله عليه وسلم لما تطاول عليه الرسامون , وصوروه بصور لا تليق به , وأظهروا تألمهم وحزنهم عليه , ظهرت من بعض التيار لليبرالي مواقف تقلل من شناعة هذا الحدث الذي هز كيان الأمة , وتنكر على الأمة بأنها أعطت الأمر أكبر مما يستحق , بل حمل بعضهم المسلمين مسؤولية تلك الشناعة , وظهر لدى البعض الآخر ركودا كتابيا كبيرا في التعامل مع هذه الحادثة الأليمة، فهل تحمس الخطاب الليبرالي لنقد تلك الممارسات كما تحمس لنقد بعض الدعاة والعلماء لما أظهورا بعض أقوالهم؟!

إن المراقب الذي يمتلك قدراً بسيطاً من الوعي لا يكاد يجد في مثل هذه الممارسة إلا أنها دليل على مقدار القطيعة التي يعيشها التيار الليبرالي مع مجتمعه.

كان المجتمع يتمنى أن يجد تلك الحماس في التصدي لمن أساء إلى وحي ربهم، وقدح في نبيهم صلى الله عليه وسلم , كان المجتمع يتمنى أن يجد حرفا واحدا في نقد من دعا إلى ضرب الكعبة بقنبلة نووية , ولكنه تفاجأ بأن حماسة التيار الليبرالي ليست موجهة إلا إلى الداخل والشأن الديني فقط!

ومن آخر الأحداث المؤلمة التي زاد فيها بعض الخطاب الليبرالي من القطيعة بينه وبين المجتمع : ما حصل من إغلاق حلقات تحفيظ القرآن في مكة وجدة , فقد مثّل هذا الفعل جرحا عميقا تألم منه المجتمع , وثارت أحزانهم على كتاب ربهم , ومع هذا بادر بعض الخطاب الليبرالي إلى مباركته وتأييده , ودافع عنه ولمعه وكأنه فتح لم يقع للأمة مثله في التاريخ!.

ويزيد من الهوة الانعزالية التي يعيشها الخطاب الليبرالي مع المجتمع : ما يلحظه المراقبون من طغيان روح التبعية للثقافة الغربية , وما يشهده المتابعون من الاستلاب المعرفي للفكر الغربي ولمن تأثر به , فإنا نشهد إطراء عاليا للحالة الغربية وحضورا مكثفا لرموزها , كمثل فوكو وهيجل وكانت وريكور ورسل وجاك دريدا , ونجد في المقابل حالة نقدية للتوجه الشرعي وتقليلا من رموزه من الدعاة والعلماء وتحقيرا بالغا للتراث.

واجتماع هذه الأنواع من القطيعة في الخطاب الليبرالي يدل أنه يعاني من فقدان الأساسات المركزية التي يقوم عليها أي مشروع فكري ناضج مثمر , لأن المشروع الذي اجتمعت فيه تلك الانعزالات يكون فاقدا للبعد الاجتماعي، وفاقدا للبعد التاريخي، خاليا من البعد الديني، وخاويا من البعد الفكري , فهو بنيان لم يقم على أساس ولم يرتكز على قواعد حقيقية.

الأزمة الخامسة : التفتت الأخلاقي :

يجد المتابع للمنتج الليبرالي حضورا طاغيا للنماذج المتنافية مع أخلاقيات الفكر الراقي , ويقف على إزهاقات للمبادئ الأخلاقية التي تمثل العمود الفقري لأي منتج ثقافي ناضج.

فقد وجدت الألفاظ الشوارعية التي يستعملها عادة المراهقون , كلفظ " اللقافة , والصفاقة والخبالة والسذاجة والنذالة " محاضن مريحة في الصحافة الليبرالية , فترعرعت هذه الألفاظ ونمت بشكل ظاهر بسبب استدعاء التيار الليبرالي لها واعتماده إياها في تداوله الصحفي والفكري.

وكم مرت على المتابع مشاهد محزنة انتهكت فيها الصحافة الليبرالية الذوق الثقافي العام وتجاوزت فيه حدود الاحترام للآخرين , ونزلت به إلى مستوى متدني جدا , فإن بعض التيار الليبرالي لا يتردد في وصف من يخالفه , ولو كان شيخا كبيرا أو عالما مشهورا أو مثقفا مرموقا , بأنه مصاب باللقافة أو الصفاقة , أو بأنه " تسيل من وجهه حماقات الدينا " أو أنه " يحمل فكرا متعفنا " أو أنه " ليس لديه إلا ثقافة الصديد والضحالة " أو بأن عقله منتن.

كل هذه الألفاظ وغيرها يقف عليها المتابع في الصحافة الليبرالية وتمر عليه بشكل مستمر.

ولو قمنا باستقراء مبسط للمنتج الليبرالي لنتحقق من الطريقة التي يفكر بها والنفسية التي يتعامل بها مع المخالفين لأطروحاته , والألفاظ التي يستعملها في التعبير عن مشاعره ومواقفه , فإنا سنصل إلى أنه يعاني من التشنج والتوتر وفقدان التوازن , وأنه يسعى غالبا إلى "شيطنة المخالف له ".

ويؤكد هذه النتيجة ما قام به بعض المتابعين من عملية استقرائية، درس من خلالها الحالة النقدية التي مارسها الخطاب الليبرالي ضد د/ سعد الشثري , حين أبدى رأيه في جامعة كاوست , وقد ظهر من خلال الدارسة بأنه أبدى في ذلك المشهد حالة انفعالية شديدة , انتهكت من خلالها كل المقومات الأخلاقية وتجاوزت فيها كل الحدود والمبادئ التي يقوم عليها الفكر الناضج.

فقد وصف د/سعد الشثري بأنه المعطل لمشروع التقدم، وأنه يسعى ضد الحياة , وأنه العاشق للركود والتخلف , والمناقض لأوامر الملك والمبدد لأحلامه! وأنه لا يعرف من الحياة إلا ذيل البعير , وأنه يسير ضمن الأفكار الضلامية , وأنه خرج ضمن سياق التطرف الذي خرجت منه الحركات الإرهابية , وأن موقفه أخطر من إنفلونزا الخنازير , وأنه بموقفه ذلك داخل ضمن دائرة شيوخ المسيار والمسفار , وأنه لا يروق له إلا نموذج الإمارة الطالبانية.

كل هذه الحالة الانفعالية حدثت في مشهد واحد فقط , وقد تكررت هذه الحالة بنفس الصورة في مشاهد فكرية أخرى.

وهذا كله يؤكد مدى الفقر الأخلاقي الذي يعيشه الخطاب الليبرالي , ويصور مقدار التفتت الذي ينخر في بنية ذلك الخطاب وفي مبادئه , ويصور للقارئ حجم الانحطاط السلوكي الذي يمارسه مع المخالفين له.

وما زال الباحثون والمثقفون يرصدون الأزمات الفكرية والسلوكية التي يعيشها التيار الليبرالي السعودي.

ومن آخر العمليات النقدية التي أحدثت حراكا فكريا كبيرا : العملية التي قام بها د/عبدالله الغذامي , فقد تناول المنتج الليبرالي بالتفكيك والنقد , وأبرز ما فيه من التناقضات مع أصول الليبرالية نفسها , وأبدى ما وقع فيه الليبراليون من خلط بينها وبين الإصلاح , وبين بأنهم ادعوا إنجازات ومبادئ قيمية ليست خاصة بهم.

وما قدمه الغذامي يمثل بلا شك حدثا كبيرا، وضربة قوية أبرزت إشكالية عميقة متجذرة في الخطاب الليبرالي , حيث إنه صادر من مفكر يتبوأ منزلة عالية في الساحة, ولديه أصول فكرية واضحة , ويمتلك إيمانا كبيرا بمبادئه.

ولكن يلحظ المراقب أن الغذامي كان متوجها في نقده لليبراليين وليس لليبرالية نفسها , فهو لم يكن ناقدا لليبرالية كفكرة ومنهج , ولم يتعرض لأصول الليبرالية ومبادئها , ولم يفكك ما تتضمنه من أفكار ومضامين معرفية , ولم يبين للقراء مدى اتساقها وصحتها في نفسها ولا مدى معارضتها لأصول الشريعة الإسلامية.

فالغذامي حين نقد الليبراليين نقدهم لأجل أنهم لم يلتزموا بأصول الليبرالية كما هي , ولم ينقدهم لأجل أنهم تبنوا أصولا خاطئة أو تمسكوا بمبادئ تخالف الشريعة , وحين غضب من الشبكة الليبرالية , لم يبن غضبه على ما فيها من شذوذ فكري وديني, إنما لأنهم حاربوا الحرية في الفكر.

ومع أن ما ذكره الغذامي عن الليبرالية صحيح , إلا أنه ليس هو كل ما عند الليبرالية , بل ليس هو أخطر وأفضع ما ظهر في منتجها الفكري.

وحين يستمع المراقب لنقد الغذامي لليبرالية يدور في ذهنه سؤال مشروع , وهو : إذا وجدت الفكرة الليبرالية الحقيقية كما هي في الفكر الغربي , ووجد من يتمثلها بشكل حقيقي وتام , فهل سيوجه الغذامي سهام نقده على هذه الحالة؟!! وهل سيكتب مقالات نقدية فيها ؟!! وهل سيسعى إلى تقويضها وتحجيمها ؟!!

إن المراقب الواعي لن يخرج بجواب واضح من خلال ما قدمه الغذامي في محاضراته ومقالاته عن هذه الأسئلة.


 

مذاهب فكرية

  • كتب حول العلمانية
  • مقالات حول العلمانية
  • الليبرالية
  • الحداثة
  • منوعات
  • رجال تحت المجهر
  • الصفحة الرئيسية