اطبع هذه الصفحة


جولة في ناصية ملحد!

إبراهيم الرماح

 
عالم النفس الشهير البروفيسور بول فيتز (Paul C. Vitxz) نشر ورقة في مجلة (Truth Journal) بعنوان: علم نفس الإلحاد: (The Psychology of Atheism) .
يقول في ورقته: إن كثيراً من علماء النفس يتبنون موقفاً معارضاً للدين، ولذلك كانوا يعارضون أي محاولة لتسليط الضوء حول سيكولوجية الإلحاد، لأن هذا الموضوع يجعلهم في موقف دفاع عن أنفسهم، ولكن حان الوقت لطرح هذه القضية للدراسة.
يقول: أنا مقتنع تماماً أن أغلب الملحدين ليس عندهم أسباب عقلانية للإلحاد (rational) ، وإنما هي دوافع نفسية (psychological factors) .
ثم يخبر عن قصة إلحاده فيقول: إنه نشأ نشأة مسيحية ضعيفة، ثم أصبح ملحداً عندما كان طالباً في الكلية في الخمسينيات 1950م، ثم إنه استمر ملحداً في بدء حياته العملية في هيئة التدريس بجامعة نيويورك - قسم علم النفس التجريبي. إلا أن الغريب فعلاً، هو رجوعه إلى دين المسيحية في غمرة حياته العلمية آخر الثلاثينيات من عمره.
يقول: وطوال سنوات إلحاده العشرين (18 - 38 سنة) لم يكن عنده أسباب مقنعة للإلحاد، كانت دوافعه سطحية وغير عقلانية، وإلى حد كبير من عدم النزاهة الفكرية أو الأخلاقية .
(superficial, irrational, and largely without intellectual or moral integrity)
وهو مقتنع أن هذه الدوافع اللاعقلانية هي التي وراء إلحاد من ألحد من المفكرين، خصوصاً علماء الاجتماع.
(يصور البعض أن أغلب علماء الطبيعة والأحياء ملحدون، وهذا غير صحيح، بل الإلحاد في أوساط علماء الاجتماع والنفس أكثر شيوعاً. ففي إحصائية للعلماء الأمريكيين ذكرها د. جعفر إدريس في كتابه: "الفيزياء ووجود الخالق": 55% من علماء الفيزياء والأحياء متدينون، و 60% من علماء الرياضيات، و 45% من علماء الاجتماع، و33% من علماء النفس!).

ثم يسوق فيتز أسباب الإلحاد في نظره:

أولاً: النشأة الاجتماعية العامة:
يقول إنه نشأ في أسرة من طبقة متوسطة عادية، ولم يكن هذا شيئاً ذا بريق أو يستدعي الاهتمام، ثم إنه تطلع لِأَن يكون له مكان براق في سماء الفكر العلماني الجديد. ويذكر أنه متأكد أن كثيراً من الشباب المهمشين الذين ألحدوا في القرنين الماضيين كانت هذه دوافعهم، طلب التغيير أو الشهرة والمجد. يريدون أن يصبحوا مثل فولتير الذي عاش حياة ارستقراطية في باريس. وبعض الشباب ألحدوا بسبب إصابتهم بعقدة نفسية لأنهم من أسر أصولية: كالمورمان، والمعمدانية الجنوبية، وكاليهود الذي كانوا يعيشون في مقاطعات منبوذة خاصة بهم (جيتوهات). كان هؤلاء يواجهون بعض السخرية من (العصريين)، فأصبحوا يفرون من الإيمان وكل ما يتعلق به.

ثانياً: النشأة الاجتماعية الخاصة:

يقول: إن التخصص الجامعي الذي درس فيه (علم النفس) كان أغلب أساتذته ملاحدة وكانوا يرفضون الدين، فكان عليه أن يجاريهم حتى يفوز بحظوة عندهم. يقول: كما كنت ألبس رداء الجامعة، كان علي أن أتبع طريقتهم (الإلحادية) في التفكير.

ثالثاً: الراحة الشخصية:

يقول: بالرغم من سطحية هذا السبب، إلا أنه لم يستطع أن يقاوم الحياة المادية ومغرياتها، فلو أنه أصبح مؤمناً صادقاً، لفاته الكثير من المتع الجنسية، وكان عليه أن يدفع جزءً من ماله مساعدة للكنيسة وجماعتها. ثم إنه مشغول جداً، فليس لديه وقت للصلاة وقراءة الكتاب المقدس، وليس لديه وقت لمساعدة الآخرين، فَمِنْ غير المريح أن يصبح متديناً!
يقول: قد يظن البعض أن أسباب الإلحاد هذه إنما تجذب فئة الشباب في العشرينيات، والواقع أن ذلك ليس مقصوراً عليهم. ويضرب مثالاً بحالة مورتيمر أدلر، الفيلسوف الأمريكي المعروف، والكاتب، والمثقف. يقول أدلر: إن صيرورته إلى رجل متدين يتطلب تغيير الكثير من طريقة حياته (وهذا أمر متعب وليس بالسهل).
يقول بول فيتز مُخْتَصِراً: بسبب احتياجه للاستيعاب الاجتماعي، و بسبب احتياجاته المهنية ليكون مقبولاً في الأوساط الأكاديمية لعلم النفس، وبسبب احتياجاته الشخصية لحياة مريحة، لجميع هذه الاحتياجات: الإلحاد هو ببساطة أفضل طريقة للحياة !! (نعوذ بالله من الخذلان) .

والنزوع إلى حياة اللهو والمجون سبب من أسباب الإلحاد قديماً، كما ذكر د. عبد الرحمن بدوي في كتابه: (من تاريخ الإلحاد في الإسلام) عن (عصابة المُجَّان)، ، كما سماهم الشاعر أبو نواس، وكان أشهر ما يوجه إليهم مِنْ تُهَم هو ترك الفرائض كالصوم والصلاة، وهؤلاء تزندقوا فراراً من تكاليف الدين ورغبة في الحياة الماجنة المنفلتة، وهم أقرب إلى السخرية والشك والمجون من الإيمان والجِد، وهؤلاء أولى باسم الشكاك العابثين من الزنادقة الجادين.

وقد ذكر فيتز عدة نماذج لمشاهير الملحدين، ممن لم يكن إلحادهم بأسباب فكرية ومنطقية (مُحَال أن يقود المنطق إلى الإلحاد، ولكن هذا للرد على من زعم أن إلحاد الملحد نتيجة نظر واستدلال):
ذُكِرَ عن اليهودي (فرويد) أن أباه كان شخصاً مهيناً، ويحكي فرويد قصة عن أبيه كيف تقبّل الأخير إهانة رجل قال له: (يا يهودي يا قذر) وطرح قبعته أرضًا، ثم كيف ارتبط هذا الضعف بشخصية يعقوب المتدين الذي يقرأ لابنه التوراة والتلمود.
وقد عُرِفَ عن فرويد نبذه للدين، كما عرف عنه جرأته والمفاخرة بهذه الجرأة كردة فعل على جبن أبيه وتخاذله.
وذكر فولتير الذي تملّص من ربّه وأبيه ومَلِكه وطبقته، وتمنّى الانتماء إلى طبقة أعلى وكتب عن هذا في روايته (كانديد)، وقد كتب فولتير في شبابه مسرحية عن (أوديب) الذي قتل أباه في النهاية.
وقد تملص فولتير من بنوّته لأبيه كما فعل فرويد مراراً، حتى إنه غيّر اسمه في آخر الأمر.
وهذا كارل ماركس، الذي تحوّل والده عن اليهودية إلى النصرانية سعياً للاندماج في المجتمع. بالرغم من كون ماركس من سلالة من الأحبار من أبيه وأمّه. وقد أثّر تحوّل الأب عن اليهودية في ابنه كثيراً.
ومن المشاهير الذين فقدوا آباءهم في الطفولة سارتر وراسل ونيتشه، فأصابهم ذلك بالإحباط والسخط على الحياة، وأصبحوا من كبار منظري الإلحاد. و كذلك الملحد الشهير أنتوني فلو كان يتعرض له من ضغط من والده و خلافات معه. لكن الفيلسوف (فلو) عندما وصل عمره ثمانين سنة: أقر بوجود الخالق، استناداً إلى برهان (التصميم الذكي).

وذكر د. بدوي أن من دوافع الزندقة عند بعض الفرس: أنهم يريدون أن يحيوا تراثاً قومياً خلفه الآباء، لا لصلاحيته في ذاته، وإنما إرضاءً للنعرة القومية، والإشباع للنزعة الشعوبية، ولتكون مادة للتفاخر ومجالاً لكي يقارنوا دين العرب بدين آباءهم الفرس. وطائفة أخرى من الزنادقة كانت تتخذ من الزندقة وسيلة من وسائل العبث الفكري التي يلجأ إليها الشكاك دائماً ليعبثوا بعقائد الناس، بأن يعقدوا حلبات النضال بينها، ويساعدوا الضعيف منها على القوي السائد، ويظهروا ميلهم إلى الأول. وكل هذا لا لشيء إلا ليجدوا السلوى حيث لا سلوى، فهي حالة نفسية عنيفة تدفعهم إلى ما هو أشبه باللهو الفكري والمجون منه إلى أي شيء آخر.
لم يُدْلِ المتفلسفون الملاحدة الجدد برأي ذي قيمة في القضايا المتعلقة بمفهوم الربوبية، بل نجد منهم تهرباً عجيباً في هذه القضايا. فهذا كبيرهم ريتشارد دوكنز يصف نشأة الحياة والعقل بأن ذلك كان (حادثاً عرضاً نتيجة لضربة حظ)!! و(يعتقد) أن الكون نشأ تلقائياً من العدم، وأن الحياة وجود مادي، وأن العقل البشري من نتاج الانتخاب الطبيعي كما وصفه داروين. أي أن دوكنز انطلق في كل القضايا الجوهرية من (الاعتقاد) بدون دليل علمي أو فلسفي! وكمحاولة يائسة يعلن الفيزيائي إدوارد تريون، أنه يمكن تفسير بداية الكون ببساطة بأنه أحد الأشياء التي يمكن أن تحدث تلقائياً من وقت لآخر!! [ رحلة عقل: د. عمرو شريف]

نظرية (الانفجار العظيم) التي تفسر نشأة الكون، هي النظرية المقبولة في أغلب الأوساط العلمية اليوم، إلا أن بعض الملاحدة يضيق ذرعاً بها؛ لأنها تقوض الأساس الفلسفي الإلحادي الذي يقوم عليه تصورهم للعلم الطبيعي. فقد كانت فكرة الكون الذي ينفجر تزعج أينشتاين؛ لأن لازمها أن للكون بداية! ويقول: (إن مسألة كون يتمدد هذه تقلقني)، يقول جاسترو: (إنها تقلق أينشتاين لما لها من لوازم لاهوتية)!! ونقل عن إدنجتون قوله: (إن فكرة بداية الكون مما أشمئز منه)!!

وهناك نظرية أخرى تفسر نشأة الكون، هي: (الكون ذي الحال الثابت)، يقول واينبيرج: (إن هذه النظرية -فلسفياً- هي الأكثر جاذبية؛ لأنها الأقل شبهاً بما جاء في العهد القديم)!! فهذه هي ردة فعلهم العاطفية مع ما ينقض إلحادهم!!

إن الإلحاد ليس موقفاً عقلانياً ولكنه سوء خلق، سببه الأساس هو الاستكبار، كما صرح (ماركس) بذلك وإن حاول أن يكسوه بالحجة العقلانية. [ الفيزياء ووجود الخالق: د. جعفر إدريس]

نظرية داروين، التي جُعلت ذريعة للإلحاد، قد أُلِّفَ الكثير في زيفها وبطلانها، فما هي إلا أوهام وتخيلات، إلا أن الملاحدة يعتقدون بها اعتقاد الأعمى، حتى أصبحت مذهباً لأهل الأهواء منهم، كما تسمع (بالداروينيين) أو (الدراونة) !!

الملحد يفضل الإيمان بنظرية داروين وإن كانت تنص على أن الإنسان والقرد من أصل واحد، يفضل ذلك على الإيمان بالخالق الثابت بالعقل والفطرة حتى يرتاح من التكاليف، ويرد أي دليل علمي يثبت قضية الخلق بحجة أن ذلك يتوافق مع الدين !!

كتب العالم النفساني كارل يونج: (إنه لم يكن من بين كل مرضاي الذين هم في النصف الثاني من عمرهم أحد لم تكن مشكلته في النهاية هي الظفر بنظرة دينية إلى الحياة) !! [ الفيزياء ووجود الخالق: د. جعفر إدريس] . قال تعالى: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ".

تخبر كاترين تيت عن أبيها الفيلسوف الملحد برتراند راسل أن أباها كان يشعر دائماً بوجود مكان شاغر في عقله وفي قلبه. مكان كان يشغله الرب عندما كان راسل صغيراً، ثم أصبح خاوياً ولم يجد شيئاً يملؤه!

يقول مصطفى محمود في رحلته من الشك إلى الإيمان: (ولو أني أصغيت إلى صوت الفطرة وتركت البداهة تقودني لأعفيت نفسي من عناء الجدل، ولقادتني الفطرة إلى الله). "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا".
(مَنْ دعاك إلى الإسلام؟) سألتُ ذلك الأمريكي الذي كان تائهاً حائراً، فقال: (الله)! دعوتُ: (يا الله إن كنتَ موجوداً فأرشدني إلى الحق) .. فيسر الله له الأسباب وقاده الله سبحانه إلى المسجد ، فسمع فيه الأذان لأول مرة في حياته، يقول: اهتز فؤادي ووقفت كل شعرة في جسدي، فشهدت شهادة الحق (أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله).

أختم فأقول: إذا دعوتَ أحداً إلى الإسلام فأرشده إلى هذا الدعاء أو إلى معناه: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطرَ السماوات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، فإنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).
وكل من في قلبه شك فليدع بهذا الدعاء، فإنه لن يوفق إلا إلى الحق إن كان صادقاً في تضرعه؛ فإن اللطيف سبحانه لا يُضل من استهداه، هو الرحمن الرحيم.


 

مذاهب فكرية

  • كتب حول العلمانية
  • مقالات حول العلمانية
  • الليبرالية
  • الحداثة
  • منوعات
  • رجال تحت المجهر
  • الصفحة الرئيسية