اطبع هذه الصفحة


الشيخ أحمد ياسين

محمد بن إبراهيم الحمد


كأن القائل يعنيه بقوله:

خَـشَعت لـروعة يومك الأَمْلاءُ * يـا مَـنْ نَـعَتْهُ الكعبةُ الزهراءُ

قُـمْ واسـمع الدنيا فأنت قصيدةٌ * بـفـم الـزمان فـريدةٌ غَـرَّاءُ

حـفلت بـمعناك الأنـامُ وطالما * حـفلت بـطيب فـعالك الآنـاءُ

مـلئت جـواءَ الـخافقين مراثياً * ورثـاءُ مِـثْلك في الجلال جزاءُ

تَـتَرسَّلُ الأحـزانُ فـي نبراتها * وتـسيل فـي عـبراتها الحُوباءُ

مـاجُومل الأحـياءُ فـيك وإنما * شـهدوا بـما لا تُـنكر الأعداءُ

يـأتي على قدر الفجيعات الأسى * وتَـجِلُّ فـي المستعظم الأرزاءُ

أَنَّــى تـفي بـرثائك الـبلغاء * وبـأي لـفظ تـنطق الـشعراءُ

كَـبُر الـنعيُّ عـليّ حتى رابني * وخـرستُ لـما فـاهت الأنباءُ

مـنعاك أم منعى البطولات التي * ضـاقت بـوصف فعالها الأنباءُ

إن الـملاحم والـعظائم والـتقى * هـي فـي مناحة رُزئك البلغاءُ

يا قدس هاتِ الرائعات من الرؤى * وتـفجري بـالسحر يـا بطحاءُ

وصِـفَا لـنا ما دار فوق ثراكما * وتـنـاقلت أنـباءه الـخضراءُ

هـذا الـذي لَقِفَتْ نُهاهُ بسحرها * مـا هـوَّلته بـسحرها الـنبغاءُ

الـعبقري الـفذ فـي عـزماته * ومـضـائه والـهـادمُ الـبناءُ

إن الـذي هـزَّ الـزمان بطولةً * وتـلـفتت لـفـعاله الأحـيـاءُ

يَـفِـعٌ لَـبَناتُهُ الـعلى ولِـدَاتُه * زمـرٌ بـمدرجة الـهوى لَعْباءُ

حَـرَّانُ حـاربه الفراشُ مؤرَّقٌ * مـما يـكابد مـن جوىً ويساءُ

كـالصقر فوق المربأ العالي رنا * بـكـريمتيه وسـاءه الإنـضاءُ

يـاباعث الـتاريخ مـن أجداثه * ومـعيدَ سـيرة مـا بنى الآباءُ

ذهـبت عصورُ المعجزات فجئتنا * مـنـها بـما تـتماثل الـسيماءُ

وإذا صـفت نفسُ العظيم تكرمت * وتـضاءلت فـي عينها الأشياءُ

وسموت بالرأي الأصيل إلى مدى * مـا طـاله مـن قـبلك الحكماءُ

إن الأصـالة في العقول أجلُّ من * عـقل يـفيدك كـسبه الـعلماءُ

أكـبرت فـي برديك أكرمَ ماجد * حَـمَلَتْهُ فـوقَ مـهادِها الغبراءُ

وحَـبَبْتُ فـيك العبقريةَ فاغتدى * لِـهَواكَ بـين جـوانحي إحـفاءُ

أبـقى مماتك في حشاي جِراحةً * مـا إنْ لـها أبـدَ الأبـيد شفاء

فـإذا بـكيتك فالعلى تبكي معي * والـدين والأخـلاق والـحنفاءُ

لعل الأبيات الماضية عبرت عن بعض ما يعتلج في الجوانح من جرَّاء ذلك الحدث الجلل، والرزء الذي خيَّم على بلاد الإسلام.

أَلا وهو ما جرى في صبيحة يوم الاثنين 1 / 2 / 1425هـ من اغتيال الشيخ المجاهد ليث الإسلام، وابن فلسطين البار أحمد ياسين -رحمه الله-.

حيث قتل مغدوراً بعد أن خرج من صلاة الفجر، قتل بشظايا القاذفات التي نالت من جسده الطاهر ما نالت، فأسلم روحه إلى بارئها.

وما هي إلا لحظات حتى عمَّ النبأُ أنحاءَ المعمورة، فغشي المسلمين ما غشيهم من الحزن، والأسى، واللوعة، فكأن سحابة حزن سوداء غشيت عِلْيَةَ القوم، وصغارهم وكبارهم، فاشترك في تجرع المصاب من عرف فضل الشيخ، وجهاده، وثباته، وزكاء نفسه، وطيب معدنه، وصلابة عوده.

وبعد أن تأكد نبأ استشهاده انطلقت العيون بالدموع عليه، والألسنة بذكره والثناء عليه، والدعاء له، وصار حديث الساعة في وسائل الإعلام في جميع أقطار العالم،
وأجمع الناس على إدانة تلك الجريمة النكراء التي تولَّى كبرها شارون - قبحه الله -.

ولم يشذ عن ذلك الإجماع إلا من رضي بتلك الجريمة ممن يحمون إسرائيل، ويثورون إذا نيل منها نيلٌ، وإذا تغطرست، وبغت وأجرمت أوصوا الناس بضبط النفس!.

أما الشيخ الجليل فقد نال الذي طالما ما تمناه، وتاقت نفسه إليه، ألا وهو لقاء ربه شهيداً في سبيله - عز وجل -.
وإلا فهو معذور برخصة الشرع، فهو ليس أعرج فحسب، بل هو أشل، ويعاني من أمراض مزمنة، فلم يفت ذلك من عضده، ولم يجنح إلى الرخصة، بل أخذ بالعزيمة، فأعطى درساً عظيماً في الهمة، والإباء، والشمم، فما كان يرهب من الموت، أو يتوارى منه، أو يقطب جبينه عند لقائه؛ كيف وهو يعيش في فوهة البركان، فكأنه في جفن الردى وهو نائم، كيف وهو يتيقن - ولا نزكي على الله أحداً - أن موته إنما هو انتقال من حياة مخلوطة بالمتاعب والمكاره إلى حياة أصفى لذة وأهنأ راحة، وأبقى نعيماً.


تلك حياة فقيد الأمة الذي سكنت أنفاسه، وحسامه مخضب بدم الجهاد في سبيل الله، فلم يمت على فراشه ملقى السلاح كما يموت ضعيف العزيمة، مزلزل العقيدة.

وما إن جهز ذلك الجسد الطاهر حتى سارت الجموع الغفيرة لتؤدي الصلاة عليه، وما جاء الليل إلا وصلي عليه في الحرمين الشريفين؛ عرفاناً بفضله، ورداً لبعض جميلة.
فيالله !ما أعظم الفرق بين من فارق الدنيا وألسنة المسلمين تلهج بالدعاء له، وبين من هو سادر في غيه، ما شٍ في غلوائه، وألسنة المسلمين تدعو عليه، وتترقب عقوبة الله فيه.
ومع فداحة الخسارة وعظم المصاب وأليم وقع القلوب فإن أملاً يلوح وخيراً ينتظر؛ فإذا كان مقتل الطفل محمد الدرة قد أذكى أوار القضية، وغير كثيراً من مساراته، وأكسب القضية دعماً كبيراً لم يكن بالحسبان-فإن مقتل الشيخ أحمد ياسين أعظم وأجل، وإن الخير المنتظر من جراء ذلك الحدث لمأمول (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).

ولعل من أعظم الخير في استشهاد الشيخ أن يحرك المتكاسلين وينبه الغافلين، ويبعث الهمم من مراقده، ويعيد إلى النفوس عزتها وكرامتها.

وأخيراً لا نقول إلاَّ: إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا على فراقك يا شيخ أحمد لمحزونون، ونقول :اللهم آجرنا في مصيبتنا، وأخلفنا خيراً منها؛ إنك سميع الدعاء، قريب الإجابة.

2 / 2 / 1425هـ
 

أحمد ياسين
  • مقالات ورسائل
  • حوارات ولقاءات
  • رثاء الشيخ
  • الصفحة الرئيسية
  • فلسطين والحل