اطبع هذه الصفحة


بعدما فازت حماس!

زياد آل سليمان


منذ الفوز الكبير الذي حققته حركة المقاومة الإسلامية حماس في الانتخابات التشريعية والتحليلات والآراء لم تتوقف بين مؤيد لتلك المشاركة أو معارض لها أو متوجس خيفة من نتائجها وتداعياتها، وسواءً أكانت تلك الآراء صدرت من مؤيد للحركة ومتعاطف معها أو غير ذلك، وسواءً أكان الدافع لها تبني رأي فقهي ما، أو استصحاب نتائج وتجارب سابقة وقياسها على واقع التجربة الفلسطينية.

وهنا ينبغي التأكيد بأن مشاركة الحركة لم تكن مجرد قرار غير مدروس، بل جاءت بعد فتوى الجهة الشرعية المختصة، ودراسة كل التوقعات على أرض الواقع، ولم تكن المشاركة الأولى للحركة في الانتخابات بشكل عام، فقد شاركت في ظل السلطة، بل وفي ظل الاحتلال بالانتخابات النقابية والجامعية وغيرها وتفوقت فيها، ولكن الظروف التي كانت قائمة أبرزت الجانب الجهادي للحركة، وساعدت على إخفاء تلك النتائج والتقليل من تأثيرها، مع كونها تشكل الأرضية الراسخة التي تمد المقاومة وتزيدها قوة واستمراراً.

وجاءت مشاركة الحركة في الانتخابات التشريعية بعد فوزها في الانتخابات البلدية ومطالبات عديدة لها من قبل فصائل منظمة التحرير بل حتى من داخل حركة فتح للمشاركة، ووعود لها بقبول النتائج مهما كانت.

كانت حركة حماس في نظرهم كالجريح الذي يسبح في دمائه بعد أن قُتل قادتها واعتقل من تبقى منهم أو أصبح بفعل الإجراءات الأمنية في تعداد المبعدين، بالإضافة لحملة التهديدات الصهيونية أو الدولية المصاحبة للانتخابات لمنع التصويت لها، أما الخصم فهو حركة فتح أي: السلطة والمال والأجهزة الأمنية، بل وغالبية الموظفين الذين أنفقت عليهم بما يزيد عن عشر سنوات، وكل إجراءات الانتخابات ونظامها بيدها.

وسرعان ما تلاشت كل التوقعات التي أصدرتها جهات بحثية واستخبارتية متخصصة بمراقبة الوضع الفلسطيني، والتي كانت قد حددت نسبة فوز الحركة بأنها لن تزيد عن 25%، لتحقق الحركة فوزاً مزلزلاً لا تزال تأثيراته تتصاعد، بعد أن أصبح لديها 74 نائباً في المجلس التشريعي من أصل 132، ولدى حركة فتح 45فقط.

ولكن ما الذي جرى بعد الفوز ؟ وما الذي ترتب على ذلك من نتائج؟

لقد تحققت الكثير من النتائج، ومنها:
أن الشعب الفلسطيني المسلم.. أعلن بذلك موقفه من المقاومة وتمسكه بما تدعو له الحركة من حق للعودة، وعودة للقدس وللأراضي المحتلة، وكذلك وقوفه معها في برنامجها الإصلاحي للقضاء على الفساد ورموزه، وبعدما فازت حماس تعلم الجميع كيف يمكن الجمع بين المقاومة السياسية والمقاومة العسكرية، فتم تنفيذ أقوى وأجرأ وأطول عملية أسر لجندي يهودي في تاريخ الصراع مع اليهود، لتكون حكومتها الحكومة الأولى التي تقوم بخطوات عملية للإفراج عن الأسرى والأسيرات.

وبعدما فازت حماس.. فتحت ملفات الفساد السوداء وقطعت الطريق على أولئك الذين كانوا يقتاتون من جراح الشعب الفلسطيني ويسرقون أمواله، ويتلاعبون بمصيره وبقضاياه ويتاجرون بها في المحافل الدولية.

وبعدما فازت حماس.. ظهرت حقيقة الديمقراطية الغربية والأمريكية، والتي لخصها دينيس روس - الذي كان مبعوثا خاصا للسلام الشرق الأوسط - بقوله " من حق الناخبين (في الشرق الأوسط) أن يختاروا من يشاءون، ومن حقنا أن نتعامل مع من نشاء، فالانتخابات لا تصنع ديمقراطية،وليس علينا أن ندعم من يرفضون معتقداتنا"، ومنذ تلك اللحظة صرح بالمؤامرة القادمة على الشعب الفلسطيني فقال: " إن الإدارة الأمريكية لديها الكثير من أدوات الضغط؛ لأن حماس سيتعين عليها الوفاء بالكثير من الاحتياجات اليومية للفلسطينيين وستحتاج لمن يدعمها ويقدم المساعدات بعد تسلمها السلطة"، وأما ما حذر منه روس من: "أن عدم الضغط على الحركة لكي تعدل مواقفها سيعني أن العالم، وبمرور الوقت، هو الذي سيعدل مواقفه ليصبح خطاب حماس (المتشدد) مقبولاً"، هو ما وقع بفضل الله، وما تلك العريضة التي وقعها مفكرون وأكاديميون في الكيان الصهيوني - خلال الأسبوع المنصرم - للمطالبة بالتفاوض المباشر مع حماس إلا مؤشر على أن حماس أصبحت واقعاً في نظر الصهاينة أنفسهم ناهيك عن حلفائهم.

وبعدما فازت حماس.. ظهر للجميع براعتها السياسية الفائقة في تجاوز الأزمات والتقليل من أضرار الحصار، فاستطاعت أن تقوي علاقاتها واتصالاتها مع الأطراف العربية وغير العربية وتفتح المزيد منها، والتي ترسخت قناعاتها بخيارات الحركة وطريقة إدارتها للصراع مع الكيان الصهيوني، وإن كانت بعض الأطراف لا تزال غير قادرة على أن تتبنى خيارات الحركة جهاراً للضغوط التي تمارسها الإدارة الأمريكية ومقايضتها لها وربطها لمصالح تلك الأنظمة معها بتعاملها ومواقفها من هذا الكيان.

وقد جاءت تصريحات أحد المسئولين العرب لتذكر الغرب بمبادئهم التي طالما دعوا لها وأعرب عن ثقته بأن حماس سوف تتصرف بمسؤولية... وأضاف: "لقد أصر الاتحاد الأوروبي على إقامة انتخابات في فلسطين، وهذه نتيجة ما طالبوا به. أما أن يعودوا ويقولون إنهم لا يقبلون مشيئة الشعب التي تم التعبير عنها بالوسائل الديمقراطية، فهذا موقف غير عقلاني".

وتم حصار الشعب كله لعله ينقلب على حركته، إلا أنه ازداد قوة ووقوفاً مع خيارات الحركة ومنهاجها الإسلامي المعتدل، متناسين أن الحركة فازت في أكثر المناطق تضرراً من قضية الصواريخ، مما يدلل على أن العدوان الصهيوني لن يزيد المستضعفين إلا تمسكاً بالحقوق ودعماً للمقاومة.

وبعدما فازت حماس.. اضطر العلمانيون في فلسطين إلى عقد الاتفاقيات في مكة لا في واشنطن ولو مؤقتاً، ليظهر لاحقاً حقيقة من سرقوا حركة فتح داخلياً وخارجياً، وتخرج تصرفاتهم عن السيطرة ويكشفوا عن وجههم البشع ويفضحوا أنفسهم، ويمهدوا الطريق لتحرر غزة منهم، وليقطع دابر القوم الذين ظلموا بعد غدرهم ونقضهم للاتفاق، ولتنتهي بلا رجعة – بإذن الله – سنوات العمالة للاحتلال المغلفة بغلاف التنسيق الأمني، وفي أحيان أخرى بلا غلاف أصلاً، وحتى بعد التحرير والحسم العسكري فقد تعلم الناس معنى العفو عند المقدرة عندما أصدرت حماس العفو العام عن قادة الانقلاب السابقين، لتشل بعد ذلك حركة العملاء في غزة ولتشل معها يد الاحتلال التي كانت تعتمد عليهم، لتخرج بعد ذلك الوثائق والمستندات ليظهر للقاصي والداني حقيقة المتآمرين وفضائحهم، وتبين من بكى ممن تباكي على القضية والشعب والقدس والحقوق واللاجئين، وأمسى المرابطون والمقاومون يتنقلون في كل مكان دون خوف من الطعنات من الخلف، فقد أضحت السلطة مظلة للمقاومة وحامية لهم.

وبعدما فازت حماس.. أدرك الأعداء والأصدقاء بأن الإسلام الذي تتبناه الحركة هو خيار الشعب الفلسطيني، بل وخيار الشعوب الإسلامية في كل أنحاء العالم الإسلامي، والتي تفاعلت مع فوز الحركة بالقدر الذي سُمح لها به، واستطاعت الحركة أن تطرح نماذج عملية وواقعية لكيفية الحكم والعدل والتعايش مع هموم الناس، ما شكل صدمة للإدارة الأمريكية والغرب وأذنابهم من العلمانيين في العالم العربي، بينما ابتهجت وفرحت القلوب المؤمنة بمشاهد لرئيس الوزارء إسماعيل هنية وهو يعتلي المنبر في خطبة الجمعة، أو يعقد المؤتمر الصحفي لرئاسة الوزراء بعد صلاة الجمعة، أو مؤتمر وزارة الداخلية في المسجد، أو مشهده وهو يصلي إماماً بالناس في صلاة التراويح، وهو لا زال يسكن في مخيم الشاطئ للاجئين، وغيرها من المشاهد التي كانت قائمة في السابق ولم تغيرها السياسة.

وعندما حكمت حماس.. تم تشكيل المجلس الأعلى للعدل، وعادت الأموال والأملاك المغتصبة إلى أهلها، و انتشرت الأنشطة الدعوية وحلقات تحفيظ القرآن الكريم بشكل كبير جداً وغير مسبوق.

ألا يكفي الحركة فخراً أن حكومتها هي الحكومة الوحيدة التي تمسكت بكافة الحقوق والثوابت، وبالهوية الفلسطينية لكامل الأرض المحتلة، وبإسلامية القدس، وبحق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، ورفضت كل المساومات الداعية لإسقاط حقوق الشعب الفلسطيني، لقد أظهرت بجلاء أنه لا شرعية لأي رمز أو قيادة تقدم تنازل عن أي حق من حقوق الشعب الفلسطيني وثوابته، وأن كل الداعين لإسقاط تلك الحقوق لا يمثل الشعب الفلسطيني، ولا شرعية له، فأفسدت المؤامرة السياسة التي كانت تدور عليها، حتى أسمى ما كان يتمنى أن يحصل عليه المتآمرون لم يحصلوا عليه، جيمي كارتر- الرئيس الأمريكي الأسبق - علق بعد فوز حماس قائلاً: " إذا أقرت حكومة حماس الجديدة بأحقية إسرائيل في الوجود، والعيش في حدود 67م فسيُعد ذلك خطوة محورية في الاتجاه الصحيح، وهذا أقصى ما نستطيع انتزاعه منها".

ماذا بعد؟ وهاهو الكيان الصهيوني يهدد غزة بالاجتياح، بينما تقبع القدس والضفة في أسرهم، وتستمر سياسة الحصار والتجويع والاغتيالات والاعتقالات.

ولكي نكون أكثر واقعية وإنصافاً فإن الحصار والاغتيالات والاعتقالات لم تتوقف ضد أهلنا في فلسطين ولم ترتبط بفوز الحركة، إلا أن وتيرتها تزداد أو تقل، ولا زال أهلنا يستذكرون المجازر ومنع التجول أو إغلاق المعابر وغيرها من الممارسات الوحشية في الانتفاضة الأولى والثانية، إلا أن الذي تغير هو أن المقاومة اليوم أصبحت قادرة على توجيه الضربات الموجعة للاحتلال، وأن تجعله يدفع ثمن جرائمه، وأن ينحسر مشروعه بانسحابه من قطاع غزة، والمزيد من الأراضي، وأصبح الاحتلال يتعلق بمؤتمر قادم محكوم عليه بالفشل منذ تم الإعلان عنه، أو يبني الآمال على تبقى من أذنابه الذين لا يملكون شيئاً خارج مقراتهم ومقاطعتهم.

ولنا أن نتصور بعدما وجد في المقرات الأمنية من أسلحة ووثائق ومستندات وخارجها من أوكار للفساد والمخدرات ما كانت ستؤول إليه الأمور لو لم تقم حماس بهذه الخطوة الجريئة والحاسمة والضرورية.

لكن الذي أخشاه حقيقية هو أن يفوتنا شرف المشاركة ونصرة إخواننا المستضعفين، وهنا لابد أن أذكر نفسي وإخواني بأننا لا ينبغي لنا أن نخذل إخواننا وعلينا نتذكر قول نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مِنْ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ وَمَا مِنْ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَه" أخرجه أبو داود، والإمام أحمد في مسنده

 

فلسطين والحل
  • مقالات ورسائل
  • حوارات ولقاءات
  • رثاء الشيخ
  • الصفحة الرئيسية
  • فلسطين والحل