اطبع هذه الصفحة


غزة. . الباحثة عن الأكفان

د. أحمد بن راشد بن سعيّد


الحصار والعقوبات الجماعية شكل من أشكال الحرب التي تستوجب الدفاع عن النفس.
هكذا يحدثنا القانون الدولي وهكذا يفهم المواطن المحاصر الذي تسلب منه لقمة العيش وحبة الدواء. لكن في غزة لا يسلب الطعام والدواء فقط, بل حتى الهواء لا تستطيع أن تتنفسه بحريتك, لأنك قد تتعرض لصاروخ ذكي يمزقك إرباً وأنت تمشي في الهواء الطلق.
وحتى لو أردت أن تدخل طعاما عبر نفق تحفره بأظافرك, فإنك بذلك تمارس عملاً إرهابياً, ويجب أن تتداعى الدول المجاورة لردم ذلك النفق وحظر "التهريب" من خلاله.
أما إذا أدخلت مالاً تستعين به على العيش تحت وطأة الحصار الخانق, فأنت في أقل الأحوال ترتكب مخالفة قانونية.
تعلمنا لغة الفوضى الخلاقة أن الحصار ليس جريمة حرب, بل دفاع عن النفس, وتعلمنا أيضا أن المجازر بحق المدنيين العزل رد فعل مشروع, وليست حرب إبادة. هكذا تصبح اللغة أداة من أدوات العنف, تشرّع الحصار, وتبرر القتل, وتملي بقوة الأجندة السياسية والعسكرية.
كان قطاع غزة وما زال شوكة في حلق الكيان الإسرائيلي, طالما أرقه واستنزف موارده البشرية والاقتصادية. ومنذ احتلاله عام 1967 ظل يتعرض لاعتداءات مستمرة, غير أن وتيرة هذه الاعتداءات تسارعت بعيد وصول أرئيل شارون إلى سدة الحكم في إسرائيل.

صعّد شارون سياسة الاغتيالات وتدمير البنية التحتية كالمطار والمرفأ وغيرها من المؤسسات, صادراً عن عقيدة عسكرية مؤداها تقويض المجتمع الفلسطيني وقطع سبل الحياة عنه وتحويله إلى معزل (غيتو). ولما انسحب شارون من القطاع في صيف عام 2005 بدا أنه قدم "تنازلا" كبيرا بوصفه "رجل سلام" كما نعته بذلك الرئيس بوش, لكنه في واقع الأمر فر هارباً من ضربات المقاومة, والتكاليف الباهظة لاحتلال منطقة آهلة بشعب ناقم على حلقات لا تنتهي من العنف والإذلال.
كان الخروج من غزة إذن تلبية لحاجة أمنية إسرائيلية ملحة, وليس اعترافاً بحرية القطاع وأهله. وفقاً للعقيدة الصهيونية لا تمثل غزة جزءاً من أرض إسرائيل, ولذا لا بأس بإخلائها على أن يضرب حولها حصار قاس يجعلها تموت موتاً بطيئا. إخلاء غزة, أو ما تسميه إسرائيل "فك ارتباط" أو "إعادة انتشار" كان تغييراً لطبيعة الاحتلال ليصبح احتلالاً من الخارج. ترك غزة أيضاً ساعد إسرائيل في تشديد قبضتها على الضفة الغربية التي تعتبرها الصهيونية جزءاً من أرضها الموعودة, وتسميها "يهودا والسامرة".

بعد فوز حركة حماس في الانتخابات مطلع عام 2006, رفضت إسرائيل نتيجتها, مدعومة بالإدارة الأميركية, ونتج عن ذلك محاصرة الحكومة الفلسطينية المنبثقة عن هذه الانتخابات, ولم يفلح اتفاق مكة وتشكيل وحدة وطنية جديدة في فك هذا الحصار. ولما سيطرت حكومة الوحدة برئاسة إسماعيل هنية على زمام الأمور في قطاع غزة, استغلت إسرائيل الفرصة لتشديد حصارها الجوي والبري والبحري للقطاع, ولتحذير العالم من شبح "الإرهاب" الذي يطل منه ويهدد وجودها وأمنها.
في الأشهر الأخيرة أصبح القطاع بالفعل سجناً كبيراً لأكثر من مليون وثلاثمائة ألف فلسطيني, يعيش أكثر من ثمانين في المائة منهم تحت خط الفقر. وأصبح إدخال المواد الغذائية والتموينية, بما فيها حليب الأطفال, مشروطاً بموافقة وزير "الدفاع" إيهود باراك.
الناطق باسم وكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين الفلسطينيين وتشغيلهم "الأونروا" كريستوفر غانيس حذر من أن الوضع في القطاع ينذر بـ"كارثة" مؤكداًً أن الفلسطينيين لا يجدون "الاسمنت لبناء القبور", وأن المستشفيات توزع أغطيتها من أجل استخدامها لتكفين الموتى, مضيفاً أن "الإغلاق يؤثر على الفلسطينيين حتى في الموت".
يتكرر القتل في القطاع حتى أصبح مشهداً يومياً, و"المطلوبون" فيه كثير, إنهم كل فلسطيني يرفض المساومة على أرضه وهويته, ويقاوم الهيمنة والعدوان. القتل تتسارع فصوله على أرض القطاع, مجدداً معاناة أهله ومضاعفاً شعورهم بالقهر والظلم.
سقط في أربعة أيام قرابة أربعين شهيداً, وعشرات الجرحى, كثير منهم في حال حرجة. وفي يوم الأحد الماضي توجت إسرائيل عدوانها بقطع التيار الكهربائي, لتعيد أهل غزة إلى عصر ما قبل الحداثة.

هل ما يجري "تأديب" لغزة المتمردة العنيدة ولحركة حماس التي تسيطر عليها, بغية جرها عنوة إلى بيت الطاعة الإسرائيلي, وما هو دور الدول العربية في هذا المشهد؟
السلطة الفلسطينية التي أدانت الممارسات الإسرائيلية رفضت إيقاف التفاوض أو تعليقه, وشكك نبيل أبو ردينة مستشار الرئاسة الفلسطينية في جدوى موقف من هذا القبيل. وبينما تطبق إسرائيل حصارها على غزة, يطبق صمت القبور على الدول العربية. هناك قتلة في تل أبيب لا يواجهون حتى بالاستنكار والإدانة. حتى منظمات المجتمع المدني وهيئات حقوق الإنسان العربية لم ترتفع إلى مستوى الوضع الكارثي الذي يتردى فيه القطاع, وضراوة الحصار المضروب حوله.
ما يحدث في غزة هو رد سريع وشديد الوضوح على من استبشروا بمؤتمر أنابوليس وهللوا له وركضوا إليه, كما أنه رد لا يقل وضوحاً على من علق آمالاً على زيارة بوش الأخيرة للمنطقة ووصفها "بالتاريخية". إسرائيل لا تكف عن إرسال رسائل مؤداها أنها ليست بصدد تفاوض ولا سلام, لكنها لا تمانع أن تنخرط في ملهاة عبثية اسمها "المفاوضات" لتكسب مزيداً من الأرض, وتبني مزيداً من المستوطنات, وتجني مزيداً من التطبيع.

وفي الوقت الذي يردد فيه بعض الفلسطينيين أهمية استمرار التفاوض, ويؤكد العرب التزامهم بالسلام بوصفه خيارً استراتيجياً, يتواصل حصار غزة والتنكيل بأهلها وتقطيع أوصال الضفة الغربية بجدار يهلك الزرع والضرع .
وحدها الأجندة الإسرائيلية والأميركية يراد لها أن تتسيد المشهد, بغض النظر عن مصالح العرب وحقوقهم ومطالبهم المشروعة.
المطلوب من الفلسطينيين والعرب الانحناء للعاصفة والاستجابة للإملاءات, وعدم عرقلة المشروع الصهيوني الإحلالي العنصري في المنطقة. العرب يقولون إنهم يريدون السلام ولا يحبذون العنف, ورئيس الوزراء الإسرائيلي أولمرت يعلن أنه يشن حرباً مفتوحة على غزة "بلا رحمة, بلا تسوية, بلا تنازلات". ليترك العرب غزة وأهلها إذن لرحمة أولمرت, لكن العاصفة لن تستثني أحدا.


المصدر : الإسلام اليوم


 

فلسطين والحل
  • مقالات ورسائل
  • حوارات ولقاءات
  • رثاء الشيخ
  • الصفحة الرئيسية
  • فلسطين والحل